درر الفوائد - ج ١ و ٢

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي

درر الفوائد - ج ١ و ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٥

اما الاول ، فلا سبيل اليه قطعا ، لشهادة كل احد ان المعلومات في الفقه بالنسبة الى غيرها لندرتها تكاد ان تلحق بالمعدوم.

اما الثاني ، فيبتنى على المراجعة فيما ذكرنا من الادلة على حجية الخبر ، فان قطع منها بحجية قسم خاص منه يفى بالفقه كالخبر الموثوق صدوره فقد استراح من الرجوع الى الظن المطلق ، وإلّا فمرجعه الظن المطلق ان تم باقى المقدمات ، وستطلع عليه ، واما الرجوع الى الاصول المثبتة فلا يكفى لعدم وفائها في الفقه بحيث توجب انحلال العلم الاجمالى ، مضافا الى ان الامارات الموجودة في مواردها قد توجب العلم الاجمالى بخلاف مفادها ، والعلم الاجمالى بخلاف مؤدى الاصول مضر لنا فيما نحن بصدده ، سواء كان العلم الاجمالي بنفي التكليف في بعض مواردها ام باثبات تكليف آخر مضاد لمؤدى الاصول ، وان قلنا بان مجرد العلم الاجمالي بعدم التكليف بين الاصول المثبتة له لا ينافي اجراء الاصل ، اما الثاني فواضح ، واما الاول فلان تلك الاصول التى فرضناها كافية في الفقه لو لا هذا العلم تصير غير كافية بملاحظة العلم المذكور ، فانه بعد العلم بعدم ثبوت التكاليف في بعض مواردها يعلم ان المعلوم بالاجمال في غير موردها ، اللهم إلّا ان يفرض الاحكام الظاهرية المستفادة من الاصول زائدة على المقدار المعلوم من التكاليف المعلوم اجمالا ، بحيث لم يعلم بتكاليف أخر في غير مؤدى الاصول ، حتى بعد العلم الاجمالى بعدم التكليف في بعض مواردها ، وهو كما ترى.

والحاصل ان اكتفاء المجتهد بالعمل بالاصول المثبتة للتكليف والاحتياط في الموارد الجزئية ورفع اليد عن ساير الامارات لا يجوز لامرين : احدهما قلة مواردها ، بحيث لا تفى بالمقدار المعلوم اجمالا ، الثاني ان العلم الاجمالى بمخالفة مواردها للواقع يوجب سقوطها عن الاعتبار فيما كان العلم بتكليف آخر مضاد لمؤدى الاصول ، ويوجب عدم الاكتفاء بمؤدى الاصول فيما كان العلم بعدم ثبوت لتكليف في بعض مواردها ، نعم يلزم الاخذ بمؤدى الاصول المذكورة فيما لم يسقط بواسطة العلم الاجمالى بالمخالفة عن الاعتبار واعمال الظن في

٤٠١

غيرها ، لا انه يقتصر في الفقه على العمل بتلك الاصول ويطرح ساير الامارات المثبتة للاحكام

لا يقال : ان من الطرق الى التكاليف الواقعية الاخذ بفتوى الفقيه ، حيث دلت الادلة الخاصة على اعتبارها للجاهل.

لانا نقول : الرجوع الى فتوى الفقيه انما يجب على غير البصير لا على الفاضل المتدرب الذي يقطع بفساد مبنى الفقيه الآخر من دعوى انفتاح باب العلم والعلمى ، وهذا واضح.

واما الطريق الثالث من الطرق للامتثال القطعى اعنى اتيان محتملات الوجوب وترك محتملات الحرمة فقد يقال : بعدم وجوبه بل بعدم جوازه لاختلال النظام بذلك ، لكثرة ما يحتمل وجوبه ، خصوصا في ابواب الطهارة والصلاة ، قال شيخنا المرتضى «قدس‌سره» في تقريب ذلك : لو بنى العالم الخبير بموارد الاحتياط فيما لم ينعقد عليه اجماع قطعى او خبر متواتر على الالتزام بالاحتياط في جميع اموره يوما وليلة لوجد صدق ما ادعينا ، هذا كله بالنسبة الى نفس العمل بالاحتياط ، واما تعليم المجتهد موارد الاحتياط لمقلديه ، وتعلم المقلد موارد الاحتياطات الشخصية ، وعلاج تعارض الاحتياطات ، وترجيح الاحتياط الناشى عن الاحتمال القوى على الاحتياط الناشي عن الاحتمال الضعيف ، فهو مستغرق لاوقات المجتهد والمقلد ، فيقع الناس من جهة تعليم هذه الموارد وتعلمها في حرج يخل بنظام معاشهم ومعادهم «انتهى» (١).

اقول : لا يخفى ان العلم الاجمالى انما يكون بين موارد الامارات المثبتة للتكليف ، لا بينها وبين ما لا يكون عليه امارة اصلا ، فحينئذ نقول : لا يلزم من الاحتياط في تمام مواردها حرج بحيث يوجب اختلال النظام ، بل لا يكون حرجا لا يتحمل عادة بالنسبة الى كثير من المكلفين الذين ليس محل ابتلائهم الا

__________________

(١) الفرائد : ذيل المقدمة الثالثة ، ص ١١٨. طبع رحمة الله.

٤٠٢

القليل من التكاليف ، واتفاق الحرج في بعض الموارد لبعض الاشخاص يوجب دفع الاحتياط عنه لا عن عامة المكلفين ، فمقتضى القاعدة الاحتياط في الدين الا في موارد خاصة ، مثل ان يوجب اختلال النظام ، او كان مما لا يتحمل عادة ، او لم يكن الاحتياط ممكنا ، كما اذا دار الامر بين المحذورين ، او وقع التعارض بين احتياطين ، او يوجب الاحتياط المخالفة القطعية لواجب قطعى آخر ، فيجب العمل بالظن ، لانه لا طريق للمكلف اقوى منه ، والحاصل ان دعوى الحرج لا سيما الموجب لاختلال النظام بالنسبة الى آحاد المكلفين الموجب لسقوط الامتثال القطعى عن الكل في غاية الاشكال.

ومما يدل على ما ذكرنا أن بناء سيد مشايخنا الميرزا الشيرازي «قدس الله نفسه الزكية» كان على ارجاع مقلديه الى الاحتياط ، وقلّ ما اتفق منه اظهار الفتوى والمخالفة للاحتياط ، وكان مرجع تمام افراد الشيعة مدة متمادية ، ومع ذلك ما اختل نظام العالم بواسطة الرجوع الى الاحتياط ، وما كان تحمل هذا الاحتياط شاقا على المسلمين بحيث لا يتحمل عادة ، وكيف كان هذه الدعوى محل نظر بل منع.

ثم لو سلمنا تحقق العسر والحرج في العمل بالاحتياط الكلى ، فان كان بحيث يختل به النظام فالعقل حاكم بطرحه ، ولا اشكال فيه ، واما لو لم يكن بهذه المثابة فالتمسك في رفعه بالادلة السمعية الدالة على نفى الحرج في الدين محل تأمل ، اذ يمكن ان يقال : ظاهرها عدم جعل الشارع تكليفا يوجب الحرج بنفسه ولا اشكال في ان التكاليف المجعولة من قبل الشارع ليست بنفسها بحيث يوجب امتثالها الحرج والمشقة ، وانما جاء الحرج من قبل جهل المكلف في تعيينها ، وبعد عروض هذا الجهل يحكم العقل بوجوب الاحتياط ، وليس الاحتياط شرعيا حتى يلزم منه جعل الحرج ، فما جعله الشارع ليس بحرجى ، وما يكون حرجيا ليس بمجعول للشارع ، هذا.

ولكن الاشكال في الكبرى ليس في محله بعد ملاحظة الانصاف وفهم

٤٠٣

العرف ، فان ما يفهم العرف من ادلة الحرج هو عدم تحقق الحرج على المكلف من ناحية الشارع ، سواء كان بجعله ابتداء ، ام كان بجعل الاحكام الواقعية واشتبه على المكلف فوقع في الكلفة بحكم العقل وامضاء الشارع.

نعم يمكن القول بعدم شمولها للموارد التى الزم المكلف على نفسه المشقة ، كما لو آجر نفسه لعمل شاق لوجهين : احدهما ان القضية واردة في مقام المنة ، ولا منة في هذه الموارد ، والثاني ان العمل بعد هذا الالتزام مستند الى نفس الملتزم لا الى الشارع.

وقد يورد على الاخذ بالاحتياط انه مخالف للاحتياط.

وهذا الايراد مبنى على اعتبار قصد الوجه ، وقد اشبعنا الكلام في الجواب عن ذلك في مبحث مقدمة الواجب ، فراجع (١) ، ونزيد هنا انا لو سلمنا ذلك فهو مخصوص بصورة قدرة المكلف على تحصيل العلم التفصيلي ، واما في غيرها فلا ، خصوصا في ما اذا لم يقدر على تحصيل الطريق الشرعي ايضا ، كما هو المفروض في المقام ، لان الظن الذي لم يقم دليل شرعى على حجيته لا يجوز قصد الوجه به ، وان اكتفى المدعي بقصد الوجه بالوجوب العقلى فهو ممكن بالنسبة الى الاحتياط اللازم بمقتضى حكم العقل في المقام ، هذا.

واما المقدمة الثالثة ، وهي عدم جواز ترك التعرض لامتثال التكاليف بنحو من الانحاء ، فيدل عليه اوّلا العلم الاجمالى بوجود الاحكام ، وهو يوجب الموافقة القطعية ، وبعد عدم التمكن او عدم الوجوب يسقط الموافقة القطعية ، ولكن يبقى حرمة المخالفة القطعية بحالها ، فان قبح المخالفة القطعية لا يمكن ان يرفع في حال من الاحوال ، كما قرر ذلك في محله ، وثانيا ، الاجماع القطعي ، فان اهمال معظم الاحكام وكون المكلفين بالنسبة اليها كالبهائم والأنعام مما يقطع بانه مرغوب عنه شرعا ، وهو الذي يعبر عنه في لسان العلماء بالخروج عن الدين ،

__________________

(١) ج ١ ، ذيل البحث عن تأسيس الاصل ، ص ١٠٢.

٤٠٤

فان من اقتصر على ما علم من الاحكام مع قلتها وترك المجهولات مع كثرتها يكاد ان لا يعد من الملتزمين بدين الاسلام.

والحاصل ان بطلان هذه الطريقة اوضح من ان يخفى على العوام فضلا عن الخواص.

واما المقدمة الرابعة وهي ترجيح الظن في مقام الامتثال على غيره بعد التنزل عن العلم ، فان تمسكنا في المقدمة الثالثة بالعلم الاجمالي فوجهه واضح ، فانه موجب للموافقة القطعية بحسب اقتضائه الاولى ، فاذا لم يجب الموافقة فلا يسقط عن تنجيز الواقعيات رأسا ، كيف وحرمة المخالفة القطعية من آثار هذا العلم عقلا ، واذا لم يسقط عن التنجيز فاللازم مراعاته بقدر الامكان ، وهو منحصر بالاخذ بالظن.

وأمّا لو لم نقل بتأثير العلم الاجمالي وتمسكنا لحرمة مخالفة الاحكام المجعولة في المقام بالاجماع فيشكل الحكم بتقديم الظن عقلا ، لان الاجماع إن كان منعقدا على مجرد حرمة المخالفة القطعية لتلك الاحكام فيكفى في عدم مخالفة هذا الاجماع الاتيان بالمشكوكات والموهومات ، وان كان على وجوب الاخذ بالظن فتعين الظن حينئذ شرعى لا عقلى ، إلّا ان يقال بان الاجماع منعقد على امرين : احدهما حرمة المخالفة القطعية ، والثاني عدم جواز الاكتفاء بالشك او الوهم ، فنتيجة هذين الاجماعين ان الشارع إما جعل طريقا خاصا للواقعيات ، او يكون الظن عنده حجة ، ولما كان الطريق الآخر مشكوكا والقابل للسلوك الى الواقع في هذه الحال منحصرا في الظن يتعين بالعقل اعتباره ، هذا.

ولكن لا يخفى ان هذا البيان يرجع الى حجية الظن شرعا من باب الكشف وسيجىء توضيح ذلك ان شاء الله.

وينبغى التنبيه على امور :

احدها انه بعد صحة مقدمات الانسداد هل النتيجة اعتبار الظن مطلقا ،

٤٠٥

بمعنى جواز الاكتفاء بالمظنونات ورفع اليد عن المشكوكات والموهومات ، او اعتبار الظن الاطمينانى لو كان بين الظنون تفاوت ، وإلّا فمطلق الظن ، او يحكم بوجوب العمل بالظن بمقدار العلم بالتكليف ، فان كان بين الظنون ترجيح من حيث القوة يؤخذ ذلك المقدار من الظن القوى ، وإلّا يتخير او يحكم بالاخذ بالظنون النافية للتكليف بمقدار يرفع به الحرج ، ويقدم القوى منها على الضعيف ، ويحتاط في الباقى ، سواء كان من موارد الظنون المثبتة ام غيرها وجوه :

والذي تقتضيه القاعدة هو الاخير ، وفاقا لشيخنا المرتضى «قدس‌سره» ثم الثالث ، بيان ذلك انه لا اشكال في ان للمعلومات الاجمالية مقدارا متيقنا بحسب العدد ، وهذا لا شبهة فيه ، وانما الاشكال في ان الامتثال في الخارج بمقدار ما علم اجمالا يكفى في خروج المكلف عن عهدة العلم الاجمالى وان لم يعلم به ام لا؟ مثال ذلك لو علم بوجود النجاسة في احد الإناءين واحتمل نجاسة كليهما ايضا ، فترك أحدهما وشرب الآخر وكانا نجسين في نفس الأمر ، فهل يكفى في رفع العقاب عنه اجتناب احدهما الذي كان نجسا في نفس الامر ، نظرا الى ان العلم الاجمالي ليس متعلقا بازيد من تكليف واحد ، وقد امتثل بحكم الفرض وان لم يعلم بذلك ، او يصح العقوبة عليه بمجرد ارتكابه شرب الآخر ، نظرا الى ان العلم الاجمالى بوجود احد النجسين بين الإناءين يصحح العقوبة على ارتكاب شرب ما هو نجس بينهما ، الاقوى الثاني ، لشهادة الوجدان الحاكم في باب الاطاعة والعصيان بعدم معذورية المكلف المفروض في ارتكاب شرب ما هو نجس واقعا.

لا يقال : فعلى هذا يلزم ثبوت العقابين في محل الفرض على من شرب كلا الإناءين ، وهو باطل ، ضرورة ان العلم بتكليف واحد لا يصحح العقابين إذ الآخر مشكوك ، وليس العقاب عليه الا عقابا بلا بيان.

لانا نقول : ان العلم الاجمالي بثبوت احد التكليفين يوجب عقابا واحدا على المخالفة المتحققة بينهما ، فلو شرب الإناءين في محل الفرض يستحق عقوبة واحدة ،

٤٠٦

وكذا لو شرب اناء واحدا ، لاشتراك الفرضين في تحقق المخالفة الواحدة التى كانت محرّمة بحكم العقل.

اذا عرفت هذا فنقول : ان مقتضى العلم الاجمالى في المقام ان يحتاط في تمام الاطراف توصلا الى الموافقة القطعية ، واجتنابا عن المخالفة الواقعية ، فاذا دل الدليل على الترخيص في بعض الاطراف ـ وهو المقدار الذي يرفع الحرج بترك الاحتياط فيه ـ فالمقدار المعلوم بالاجمال لو كان في الباقي يوجب مخالفته العقوبة ، فيجب الاحتياط في غير مورد الترخيص ، تفصيا عن المخالفة الموجبة للعقاب ، هذا.

واما ان قلنا بكفاية الامتثال بالمقدار المعلوم بالاجمال ، في نفس الامر فيقتصر على العمل بالظنون المثبتة للتكليف بالمقدار المعلوم بالاجمال ، لان العلم الاجمالي بمقدار خاص يوجب الاتيان به علما ، وان لم يمكن فالواجب الاتيان به ظنا ، ولا دليل على الاتيان بازيد من ذلك ، وحينئذ فلو تمكن من تحصيل الاطمينان بالمقدار المذكور اقتصر عليه ، وان تساوت الظنون يتخير في اخذ المقدار المذكور من بينها ، هذا مقتضى التأمل في نتيجة دليل الانسداد والله الهادى الى الرشاد.

الامر الثاني : ان قضية المقدمات المذكورة على تقدير سلامتها هل هى حجية الظن بالواقع ، او الطريق ، او بهما معا؟ فقد ذهب الى كل فريق.

واختار شيخنا المرتضى «قدس‌سره» الثالث ، وحاصل ما افاده في وجهه ان المهم للمكلف تحصيل براءة الذمة عن الواقعيات ، فان تمكن من ذلك على سبيل العلم تعين عليه ، وان انسد باب القطع الى ذلك يتنزل الى الظن بذلك ، ولا اشكال في ان العلم بالبراءة كما انه يحصل باحد امرين : إمّا تحصيل العلم بالواقع واتيانه ، وإما تحصيل ما هو طريق قطعى اليه ، وليس بينهما تفاوت عند العقل ، كذلك الظن بالبراءة يحصل باحد الامرين : اما تحصيل الظن بنفس الواقع ، واما تحصيل الظن بما هو طريق مجعول اليه شرعا ، فاذا انسد باب تحصيل

٤٠٧

العلم بالمبرئ وآل امر المكلف الى التنزل الى الظن بذلك فلا يعقل الفرق بين الظنين ، لما قلنا : ان المهم عند العقل في مقام الامتثال ليس ادراك الواقعيات ، بل الخروج عن عهدة ما صار منجزا على المكلف باى نحو كان ، هذا (١).

اقول : لا اشكال في الكبرى التى افادها في المقام وهو ان العقل بعد انسداد باب تحصيل العلم بالمبرئ يعين الظن به باى وجه كان ، انما الاشكال في ان العمل بما ظن كونه طريقا وان لم يفد بنفسه ظنا بالواقع ظن بالابراء ، ومحصل الاشكال أن بدلية مفاد الطرق عن الواقع لو كانت تابعة لحجيتها واقعا وان لم يعلم بها كان الامر كما افاده «قدس‌سره» ، لكن هذا خلاف التحقيق ، فان من علم اجمالا بوجوب الظهر او الجمعة مثلا فترك الجمعة واتى بالظهر وكان ما تركه هو الواجب في نفس الامر واتفق مقارنة تركه الواجب طريقا شرعيا دالا على عدم الوجوب لا يوجب الثبوت الواقعى لذلك الطريق رفع استحقاقه العقوبة بحكم العقل ، فاسقاط عقوبة الواقع في صورة العمل بالطريق انما يكون من لوازم العلم بحجيته ، لا من لوازم ثبوته في الواقع.

لا يقال : ثبوته بالحجة كثبوته بالعلم ، والمفروض حجية مطلق الظن في حال الانسداد.

لانا نقول : اعتبار الظن هنا موقوف على تعلقه بالمبرئ ، فان كان الابراء بواسطة اعتبار الظن لزم الدور.

والحاصل ان تعميم الظن للظن بالطريق بمجرد العلم الاجمالي بالواقعيات في غاية الاشكال ، لما مر ، نعم يمكن دعوى اعتبار الظن في الطريق ، بواسطة دعوى العلم الاجمالي الآخر المتعلق به ، كما يأتى تقريبه ان شاء الله.

حجة من ذهب الى الاختصاص بالظن بالطريق امران :

احدهما ما ذكره صاحب الفصول قده قال : انا كما نقطع بانا مكلفون في

__________________

(١) الفرائد : التنبيه الاول ، ص ١٢٨ ...

٤٠٨

زماننا هذا تكليفا فعليا باحكام فرعية كثيرة لا سبيل لنا بحكم العيان وشهادة الوجدان الى تحصيل كثير منها بالقطع ولا بطريق معين يقطع من السمع بحكم الشارع بقيامه او قيام طريقه مقام القطع ولو عند تعذره ، كذلك نقطع بان الشارع قد جعل لنا الى تلك الاحوال طريقا مخصوصا وكلفنا تكليفا فعليا بالعمل بمؤدى طرق مخصوصة ، وحيث انه لا سبيل غالبا الى تعيينها بالقطع ولا بطريق يقطع من السمع بقيامه بالخصوص او قيام طريقه كذلك مقام القطع ولو بعد تعذره ، فلا ريب أنّ الوظيفة في مثل ذلك بحكم العقل انما هو الرجوع في تعيين ذلك الطريق الى الظن الفعلى الذي لا دليل على حجيته ، لانه اقرب الى العلم والى اصابة الواقع مما عداه «انتهى».

وفيه بعد تسليم هذا العلم الاجمالى ان اللازم الاخذ بالقدر المتيقن ان كان ، وإلّا الاحتياط في اخذ مضامين تمام الطرق التى تكون اطرافا للعلم ، لعدم كون الاحتياط في الطرق حرجيا ، وان قلنا بكونه كذلك في اطراف تمام المحتملات ولازم ذلك ان يأتى بمؤدى كل واحد من الطرق المثبتة ان لم يكن له معارض ، وفي غير هذه الصورة ان كان المعارض نافيا للتكليف ، وكان من غير نوعه ، فالعمل على طبق الامارة المثبتة ، وان كان نافيا وكان فردا آخر من نوعه فالعمل على الاصل في غير الخبر مطلقا ، وفي الخبر على التخيير ان لم يكن للمثبت مرجح ، وإلّا يتعين العمل به ، هذا اذا كان المعارض نافيا للتكليف ، واما اذا كان مثبتا لتكليف مضاد للآخر فالعمل على الاصل في غير صورة كونهما فردين من الخبر ، وفيهما التخيير مع عدم المرجح ، وتعيين احدهما مع المرجح ، ويظهر وجه ما ذكرنا كله بالتامل.

ثم انه على فرض كون العمل بالاحتياط فيما بايدينا من الطرق موجبا للعسر والحرج ، فهل المتعين العمل بالظن بالطريق ، اولا يتعين ذلك؟ ومبنى ذلك ان الطرق المجعولة بعد العلم بها هل هي مثل العلم في انحلال التكاليف المعلومة بالاجمال او لا؟ غاية الامر الاتيان بمؤدّاها يجب بدلا عن اتيان الواقع.

وتوضيح ذلك : انه لو علم بوجوب عمل معين بعد كونه من اطراف العلم

٤٠٩

الاجمالى ينحل العلم الاجمالى بالعلم التفصيلى والشك البدوي ، واللازم عليه بحكم العقل الاتيان بما علم تفصيلا ، وباقى الاطراف مورد لاصالة البراءة ، ولو فرض الخطاء في علمه بان لم يكن ما قطع بوجوبه واجبا في نفس الامر ، وكان الواجب ذاك الطرف الآخر الذي صار محكوما بالبراءة ، لم يكن عليه شيء وان لم يأت باحدهما ، فان ما هو واجب صار موردا للبراءة بحكم العقل ، وما قطع بوجوبه ما كان واجبا واقعا ، فلا يضر مخالفته ، نعم ان قلنا بايجاب التجري للعقوبة يستحقها في الفرض من قبل التجرى ، وكذا الحال في ما اذا كان الواجب المعلوم مرددا بين ازيد من طرفين اوّلا ثم علم بوجوده بين الطرفين منها ، فان الواجب بحكم العقل الاحتياط في الطرفين ، وباقى الاطراف التى كانت طرفا للعلم اوّلا مورد للبراءة ، والوجه في ذلك واضح.

هذا فيما تحقق العلم التفصيلى بعد العلم الاجمالي.

واما اذا قام طريق معتبر على احد الاطراف تفصيلا او اجمالا في بعض اطرافه فهل يحكم بالبراءة فيما لم يقم عليه طريق بمجرد قيام الطريق على بعض الاطراف وان لم يعمل به عصيانا ، او ان الحكم بالبراءة في الطرف الخالى عن الطريق موقوف على العمل بمؤدى الطريق؟ مثلا لو فرضنا قيام طريق معتبر على وجوب الظهر بعد العلم الاجمالى بوجوب الظهر او الجمعة ، فهل يحكم بالبراءة عن الجمعة وعدم صحة العقاب عليها وان لم يأت بالظهر عصيانا ، او ان الحكم بالبراءة عن التكليف بالجمعة موقوف على اتيانه بالظهر الذي كان واجبا بمقتضى الطريق؟

وتظهر الثمرة فيما لو لم يات بالظهر واتفق كون الواجب هو الجمعة ولم يات بها ايضا ، فعلى الاول لا يستحق العقاب اصلا ، أما على ترك الجمعة فلكون وجوبها موردا للبراءة ، وأما على الظهر فلعدم كونه واجبا في الواقع ، وقد تحقق في محله ان مخالفته لا توجب العقوبة الا على تقدير مصادفتها لمخالفة الواقع ، والمفروض عدمها في المقام ، وعلى الثاني يستحق العقوبة على ترك الواجب

٤١٠

الواقعي ، لان المفروض ان جريان البراءة في مورده يتوقف على اتيان مؤدى الطريق ولم يأت به.

الاقوى هو الثاني ، لان قيام الطريق لا يوجب انحلال العلم الاجمالي حقيقة ، بداهة ان الاجمال باق في النفس بعد ، فلا يرتفع اثره عند العقل ، غاية الامر انه لما نزّل الشارع مؤدى الطريق منزلة الواقع يجب بحكم العقل قيامه في مقام الامتثال مقام الواقع ، فلو ادى الى وجوب الظهر بعد العلم الاجمالى بوجوب الظهر او الجمعة فاتيانه بمنزلة اتيان الواجب الواقعي ، فلو كان واجبا واقعا فهو ، وإلّا يكون بدلا عنه في مرحلة الامتثال ، فيكفي في مقام لزوم امتثال الواجب الاتيان بمؤدى الطريق ، وأما لو لم يأت بمؤدى الطريق ولا بالواقع فيستحق العقاب ، لانه لم يأت بالواقع المنجز عليه بسبب العلم الاجمالي لا اصلا ولا بد لا ، ومن هنا اتضح ان اثر العلم الاجمالي لا يرتفع بمحض قيام الطريق على بعض اطرافه بل يكون الاتيان بمؤداه بدلا عن الواقع في مرحلة الامتثال فيتخير المكلف بين اتيان الاصل واتيان البدل.

اذا عرفت ذلك ظهر لك ان لازم ما ذكرنا كون العمل بالطرق مساويا للعمل بالواقع في مقام الامتثال عقلا ، فاذا تمكن من العلم يتخير بين تحصيل العلم بالواقع والعلم بالطريق ، وعند عدم التمكن من العلم يقوم الظن في كل منهما مقام العلم.

الوجه الثاني ما افاده بعض المحققين (١) ومحصل كلامه «قدس‌سره» يتضح في ضمن مقدمات : الاولى العلم بكوننا مكلفين بالاحكام الشرعية اجمالا وانه لم يسقط عنا التكليف بواسطة الجهل بخصوصياته ، الثانية ان كل ما يجب العلم به في زمان الانفتاح يجب الظن به عند الانسداد ، الثالثة انه في حال الانفتاح يجب العلم ببراءة الذمة في حكم الشارع دون العلم باتيان الواقع ، الرابعة بعد

__________________

(١) وهو المحقق الشيخ محمد تقى «قدس‌سره» في حاشيته «هداية المسترشدين» ص ٣٩١.

٤١١

لزوم تحصيل الظن بالبراءة في حكم الشارع في حال الانسداد ان الظن بالواقع لا يلازم الظن بالبراءة في نظر الشارع بخلاف الظن بالطريق فينحصر الحجة في زمان الانسداد بالظن بالطريق.

والاوليان بمكان من الوضوح والدليل على الثالثة على ما افاده «قدس‌سره» في مقدمات هذا المطلب هو ان المناط في وجوب الاخذ بالعلم وتحصيل اليقين من الدليل هل هو تحصيل اليقين بمصادفة الاحكام الواقعية الاولية إلّا ان يقوم الدليل على الاكتفاء بغيره ، او ان الواجب اولا هو تحصيل اليقين بتحصيل الاحكام واداء الاعمال على وجه اراد الشارع منّا في الظاهر وحكم معه قطعا بتفريغ الذمة بملاحظة الطرق المقررة لمعرفتها مما جعلها وسيلة للوصول اليها ، سواء علم بمطابقة الواقع او ظن ذلك ، او لم يحصل به شيء منهما؟ وجهان ، الذي يقتضيه التحقيق هو الثاني ، فانه القدر الذي يحكم العقل بوجوبه ودلت الادلة المتقدمة على اعتباره ، ولو حصل العلم بها على الوجه المذكور لم يحكم العقل قطعا بوجوب تحصيل العلم بما في الواقع ، ولم يرد شيء من الادلة الشرعية بوجوب تحصيل شيء آخر وراء ذلك ، بل الادلة الشرعية قائمة على خلاف ذلك ، اذ لم يبن الشريعة من اول الامر على وجوب تحصيل كل من الاحكام الواقعية على سبيل القطع واليقين ، ولم يقع التكليف به حين انفتاح سبيل العلم بالواقع ، وفي ملاحظة طريق السلف من زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والائمة عليهم‌السلام كفاية في ذلك ، اذ لم يوجب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على جميع من في بلده من الرجال والنسوان السماع منه في تبليغ الاحكام ، او حصول التواتر لآحادهم بالنسبة الى آحاد الاحكام ، او قيام القرينة القاطعة على عدم تعمد الكذب او الغلط في الفهم او في سماع اللفظ ، بل لو سمعوه من الثقة اكتفوا به «انتهى كلامه رفع مقامه» (١).

__________________

(١) هداية المسترشدين ، ص ٣٨٤.

٤١٢

وحاصل ما افاده قدس‌سره ان الواجب بحكم العقل تحصيل العلم بالبراءة في حكم الشارع في حال الانفتاح ولما كان الواجب في حال الانسداد تحصيل الظن بما كان يجب تحصيل العلم به حال الانفتاح يلزم تحصيل الظن بالبراءة في حكم الشارع.

واما الدليل على ان العمل بالظن بالطريق يوجب الظن بالبراءة في حكم الشارع دون العمل بالظن بالواقع فهو ما اشار اليه في طى كلماته من ان الظن بالعمل بالواقع قد يجامع مع القطع بعدم البراءة عند الشارع كالظن القياسى ، فتعين العمل بالظن بالطريق فانه ملازم للظن بالمبرئ.

والجواب او لا بالنقض بما قام الظن القياسى ، على حجية طريق ، فانه ليس بمعتبر قطعا ، فان كان عدم اعتبار ظن من الظنون موجبا لعدم الاعتماد بالباقي فاللازم عدم الاخذ بالظن بالطريق ايضا.

وثانيا ان ما أسّسه من لزوم تحصيل العلم بالبراءة في حكم المكلف لا وجه له لانه ليس من وظيفة الآمر الحكم بالبراءة ، وانما يحكم بها العقل سواء أتى بنفس الواقع على وجه الجزم ام أتى بمؤدى الطريق المجعول اما في الاول فواضح ، لانه ليست براءة الذمة مستندة الى حكم الشارع عند العمل بالقطع ، بل القاطع يقطع ببراءة ذمته عن الواقع من دون ملاحظة حكم من الشرع ، واما في الثاني فلان العقل يحكم ايضا بان الاتيان بمؤدى الطريق الذي هو واقع ثانوى منزّل في لسان الادلة بمنزلة الواقع الاولى ، مبرئ للذمة عن الواقع الاولى ، بمعنى عدم صحة العقاب عليه لو كان غير مؤدى الطريق.

وكيف كان فالحكم بالبراءة عما كلفنا الشارع من العقل ، وهو يلزمنا تحصيل العلم بها في نفس الامر ، ولا شك في ان البراءة اليقينية عند الانفتاح يحصل باحد امرين : إما إتيان نفس الواقع ، وإما إتيان ما هو مؤدى الطريق المعتبر ، فاللازم عند الانسداد الظن بالبراءة في نفس الامر ، وهو ايضا لا يختص باتيان ما هو مؤدى الطرق المظنونة ، فالقول بان العمل بالظن بالواقع لا يوجب

٤١٣

الظن بالبراءة بخلاف العمل بالظن بالطريق تحكّم ، هذا فيما اذا علم بنصب الطريق اجمالا ، واما مع قطع النظر عن ذلك كما هو مبنى كلام المستدل فلنا ان نمنع جواز العمل بالظن بالطريق اصلا ، كما عرفت مما ذكرنا سابقا (١) ، فراجع.

الامر الثالث : هل المقدمات المذكورة على تقدير تماميتها تنتج اعتبار الظن على نحو حكومة العقل ، او موجبة لكشف العقل عن اعتبار الظن شرعا؟ الحق هو الاول ، فان العلم الاجمالي بوجود واجبات ومحرمات يوجب وجوب الامتثال بحكم العقل ، فان تمكن من ذلك ولم يكن له مانع تعين عليه الامتثال القطعى ، وان لم يتمكن او اسقط عنه الشارع الامتثال القطعي يجب التنزل الى الظن ، لانه اقرب الى الواقع المنجز عليه بمقتضى العلم من الشك والوهم ، ولا يجوّز العقل بعد وجود مراتب متفاوتة للامتثال المصير الى المرتبة النازلة ، الا بعد عدم التمكن من ما فوقها او سقوطه بالاذن الشرعي ، وبعد وجود هذا الحكم القطعي من العقل لا يجب على الشارع جعل الطريق.

فان قلت : الامر كما تقول فيما اذا كان رفع اليد عن المرتبة العليا بواسطة عدم التمكن عقلا ، واما اذا كان بواسطة اذن الشارع فيكشف عن عدم فعلية الاحكام على تقدير تحققها في البعض المرخص فيه ، لامتناع اجتماع الحكمين الفعليين في مورد واحد ، ووجودها في البعض الآخر غير معلوم ، فاذن ينتفى اثر العلم الاجمالي بالمرة ، فللقائل باعتبار الظن من باب الكشف ان يقول : لم يبق لنا الا الاجماع على عدم جواز ترك التعرض للاحكام الواقعية بوجه من الوجوه ، واجماع آخر على عدم جواز الاقتصار على مجرد اتيان المشكوكات او الموهومات ، فيثبت بذينك الاجماعين جعل طريق من الشارع ، اذ لو لا ذلك لما صح عقلا العقاب على ترك التعرض للاحكام ، فان ما كان منجزا وهو العلم الاجمالي قد ارتفع اثره ، ولما كان الطريق القابل للسلوك في نظر المكلف في الحال التي هو

__________________

(١) ص ٤٠٨.

٤١٤

عليها منحصرا بالظن يكشف عن اعتباره.

قلت : رفع اثر العلم الاجمالي مطلقا بواسطة الاذن في بعض الاطراف ممنوع ، اما بناء على عدم المنافاة بين فعلية الاحكام الواقعية والترخيص الوارد من الشرع في مورد الشك فواضح ، لان العلم بوجود الاحكام الفعلية باق على حاله مع هذا الترخيص ، فيجب على المكلف امتثال تلك الاحكام المعلومة ، إما قطعا اذا لم يكن له مانع ، وإلّا ينزل الى الظن بحكم العقل ، وأما بناء على منافاة الاذن في بعض الاطراف مع فعلية الواقع فلعدم الملازمة بين الترخيص ورفع الفعلية على الاطلاق ، بل غاية ما يلزم الترخيص رفع الفعلية بمقدار يقتضى الموافقة القطعية.

هذا اذا قلنا بوجوب امتثال الاحكام الواقعية من جهة ثبوت العلم الاجمالي كما هو الحق.

واما بناء على عدم تنجيز العلم الاجمالي والتمسك لعدم جواز ترك التعرض للاحكام الواقعية المجهولة بالاجماع ، فيمكن ان يقال : ان لازم هذا المبنى التزام جعل الظن من قبل الشارع ، توضيح المقام : أن صاحب هذا المبنى يحكم بالبراءة في تمام اطراف العلم الاجمالي ، لانه كالشك البدوي عنده بحسب الفرض ، غاية الامر تحقق الاجماع في المقام على عدم البراءة في تمام الاطراف ، فان اقتصر على دعوى هذا الاجماع لا يجب عليه عقلا إلّا الاتيان ببعض الاطراف وان كان من موارد المشكوكات او الموهومات ، وهذا ايضا لم يقل به احد ، فيتحقق اجماع آخر على عدم جواز الاقتصار باتيان المشكوكات او الموهومات ، فينتج الاجماعان اعتبار طريق من الشارع ، ولما لم يكن ما يقبل السلوك بحسب حال المكلف إلّا الظن يكشف عن اعتباره من بين الطرق ، هذا.

ولكن يمكن ان يقال : ان المستكشف من الاجماع اهتمام الشارع بالواقعيات ، وهذا يكفى في حكم العقل بالاطاعة بمقدار الممكن ولا يلزم جعل الطريق ، فانا لو احرزنا من الشارع الاهتمام بامر يحكم بلزوم مراعاته وان كان

٤١٥

من موارد الشكوك البدوية ، ومن هذا الباب حكمهم بلزوم الاحتياط في باب الاعراض والدماء والاموال ، ومن هنا ظهر عدم الاحتياج الى دعوى الاجماع الثاني ، فانه بعد انعقاد الاجماع على عدم جواز الرجوع الى البراءة في التكاليف المجهولة يستكشف اهتمام الشارع بالواقعيات ، وبعد هذا الاستكشاف يحكم العقل بلزوم مراعاته بقدر الامكان.

والحاصل ان القطع بجعل الطريق من قبل الشارع بواسطة مقدمات الانسداد مما لا وجه له بعد وجود الطريق العقلائى للامتثال الذي يحكم العقل بوجوب الاخذ به في مقام الاطاعة ، وليس هذا من الاحكام العقلية التي يستكشف منها الحكم الشرعي من باب الملازمة ، لان الحكم في باب الاطاعة والعصيان ليس من وظيفة المولى ، ولو صدر من قبله حكم في هذا الباب يحمل على الارشاد ، هذا.

الامر الرابع : هل المقدمات تنتج اعتبار الظن على نحو الاطلاق ، او على نحو التقييد بظن خاص ، او تنتج اعتباره على نحو الاهمال؟ ثم الاطلاق والتقييد قد يعتبران بالنسبة الى الاسباب ، وقد يعتبر ان بالنسبة الى مراتب الظن ، وقد يعتبران بالنسبة الى الموارد.

وتحقيق المقام ان يقال : انه لا وجه للالتزام باهمال النتيجة بحيث تبقى الحجة مرددة بين ابعاض الظنون ، او بينها وساير الطرق الأخر ، بيان ذلك انا لو بنينا على حكومة العقل ، فلا يخلو إمّا ان نقول بحرمة المخالفة في المقدار المعلوم بالاجمال إلّا بمقدار العسر والحرج ، وإمّا ان نقول ان الحرج اوجب سقوط الموافقة القطعية وقام الموافقة الظنية في المقدار المعلوم بالاجمال مقام الموافقة العلمية ، فعلى الاول لا يجوز ترك الاحتياط الا في مقدار يكون حرجا على المكلف ، فان ارتفع الحرج بترك الاحتياط في موارد الاطمينان على عدم التكليف يجب الاقتصار عليه ، وإلّا يتعدى في ترك الاحتياط الى باقي الظنون النافية للتكليف وهكذا وعلى الثاني يجب الرجوع الى الظنون الاطمينانية المثبتة

٤١٦

للتكليف لو كانت وافية بالمقدار المعلوم بالاجمال ، وإلّا يتممها من باقى الظنون ، ويعمل في الزائد بالاصل.

ولا فرق فيما ذكرنا على القولين بين اسباب الظن ، كما انه في حال الانفتاح لا فرق بين اسباب حصول العلم في لزوم اتباعه عقلا ، وكذا لا فرق بين الموارد ، لان المعيار عند العقل هنا العلم بالتكليف ، نعم يمكن ان يقال : بناء على الاول الظن الاطميناني بعدم التكليف لا يؤخذ به في الموارد التى عرف اهتمام الشارع بها ، كالدماء والفروج والاموال وامثال ذلك ، بل يحتاط فيها ، كما انه بناء على الثاني لا تكون هذه الموارد مجرى للبراءة وان كانت خارجة عن مورد الظن الاطميناني. هذا بناء على حكومة العقل.

واما بناء على الكشف فالذي ذهب اليه صاحب هذا القول ان العقل يكشف عن حجية طريق واصل الينا دون الطريق الواقعي الذي يبقى مجهولا عندنا ، فان وجه اعتبار الطريق في هذه الحال رفع تحير المكلف من الواقعيات المشكوك فيها ، فلا معنى لجعل طريق واقعي يكون المكلف متحيرا فيه ، ومقتضى هذا القول ان يؤخذ بالقدر المتيقن ولو في حال الانسداد ، ان كان في البين وكان وافيا في الفقه ، وإلّا فان كان لبعض الظنون ترجيح في نظرنا ويمكن الاكتفاء به في الفقه نقتصر عليه ، وإلّا نأخذ بمطلق الظن ، هذا.

ثم انه على تقدير القول بحجيّة الطرق الواقعية فاللازم الاحتياط باخذ الجميع لو لم يكن له محذور ، وإلّا فاللازم ترتيب مقدمات الانسداد في الطريق الى ان ينتهى الى مقدار من الظن لا يكون زائدا على قدر الكفاية في الفقه ، او لم يكن في الاحتياط فيه محذور ، والدليل على ذلك ان الطرق احكام ثانوية شرعية ، فكما ان انسداد باب العلم بالنسبة الى الاحكام الواقعية مع ساير المقدمات يقتضى جعل الشارع طريقا اليها كذلك حال انسداد باب العلم بالنسبة الى الاحكام الثانوية ، من غير تفاوت اصلا.

ومما ذكرنا يظهر لك انه لا وجه لتوهم انه على تقدير اشتباه الطرق الواقعية

٤١٧

المجهولة وعدم لزوم الاحتياط لا بد من الانتهاء الى حكومة العقل ، فان القائل بهذا المبنى ليس قائلا بحكومة العقل ، وإلّا لم يقل بالطرق الشرعية المجعولة حال الانسداد ، هذا.

الامر الخامس : بناء على حجية الظن من باب الحكومة ، قد استشكل في الظن القياسى ، وملخص الاشكال فيه : انه ان قلنا بحجية الظن القياسى في حال الانسداد كباقى الظنون فهو مخالف للاخبار المتواترة ، بل اجماع الشيعة على الخلاف ، وان قلنا بعدم حجيته فلا يخلو إمّا ان يقال بعدم ملاك الحجية فيه ، وإمّا ان يقال بوجود الملاك فيه ، والاول باطل لان ملاك الحجية عقلا في حال الانسداد ليس إلّا الظن ، والثاني موجب للتخصيص في حكم العقل وهو محال.

فان قيل : انا نلتزم بعدم حجيته ونختار الشق الاول ونقول : بان الملاك عند العقل هو الظن الذي لم يمنع عنه الشارع ، فاذا منع الشارع عن ظن يخرج عن موضوع حكم العقل ، فخروج الظن تخصص لا تخصيص.

قلت : هذا موقوف على صحة منع الشارع عن العمل بالظن في حال الانسداد ، ولا يمكن ذلك ، اذ لو صح لما قطع العقل بحجية ساير الظنون ايضا ، لاحتمال منع الشارع عن العمل بها ، ولا دافع للاحتمال المذكور الا حكم العقل بقبح المنع من الشارع.

ولا يخفى ان هذا الاشكال لا يبتنى على القول بحجية الظن ، بل يأتى على القول بالتبعيض في الاحتياط ايضا ، نعم مورد الاشكال على الاول هو الظن القياسى المثبت للتكليف ، وعلى الثاني هو الظن القياسى النافى له كما يظهر وجهه بادنى تأمل.

والجواب عن الاشكال انا نلتزم بان المعتبر بحكم العقل في حال الانسداد هو الظن الذي لم يعلم منعه من قبل الشارع ، فاذا علم المنع يخرج عن موضوع حكم العقل وهذه الدعوى مشتملة على دعا وثلاث :

احداها ان المعتبر عند العقل ليس مطلق الظن.

٤١٨

والثانية ان الخصوصية المعتبرة في الموضوع هو عدم العلم بمنع الشارع ، لا عدم منع الشارع واقعا.

والثالثة جواز منع الشارع عن العمل بظن في حال الانسداد.

اما الدليل على الاولى : فهو ان وجه الزام العقل العمل بالظن انما هو تنجز الواقعيات بواسطة قيام الحجة عليها من العلم الاجمالى ، وانه مع هذا الوصف لا يأمن المكلف عن العقاب لو ترك العمل بما يظن كونه حكما واقعيا ، وبعد منع الشارع عن العمل بظن يقطع بعدم العقاب على مؤدى ذلك الظن ، وان كان حكما واقعيا.

واما الدليل على الثانية : فهو ان احتمال منع الشارع عن العمل بظن في حال الانسداد راجع الى احتمال براءة ذمة المكلف عن مؤداه ، لو كان حكما واقعيا ، وبعد قيام الحجة اعنى العلم الاجمالي لا يعتنى بهذا الاحتمال ، وهل هذا الا كاحتمال حجية ظن في حال الانفتاح ، فكما انه هنالك لا يجوز الاكتفاء بالاحتمال المذكور في قبال الامتثال العلمى ، كذلك لا يجوز هنا الاعتماد عليه في قبال الامتثال الظنى ، وهذا واضح جدا.

واما الدليل على الثالثة : فهو ان وجه عدم الجواز منحصر في امرين : احدهما اجتماع الحكمين المتضادين في موضوع واحد ، والثاني تفويت المصلحة. والجواب عن الاول ان اختلاف مرتبة الحكم الظاهري والواقعي يصحح وجودهما بدون تناف وتضاد اصلا ، وعن الثاني ان تفويت المصلحة قبيح لو لم تكن تلك المصلحة مزاحمة مع مصلحة اخرى ، إمّا في الجعل وإمّا في متعلقه ، وقد ذكرنا نظير ما ذكر هنا في رد اشكال جعل الطريق في حال الانفتاح مستقصى (١) ، فراجع فان المقامين من واد واحد اشكالا وجوابا.

الامر السادس : لو قام فرد من افراد مطلق الظن على حرمة العمل ببعضها

__________________

(١) ص ٣٥٤ ـ ٣٥١ ، الوجه الاول والثاني.

٤١٩

فهل يجب الاخذ بالظن المانع ، او الممنوع ، او يحكم بالتخيير ، او يسقط كلاهما عن الاعتبار؟

اقول : قد عرفت مما ذكرنا سابقا في تعيين نتيجة دليل الانسداد ان مقتضى القاعدة احد امرين : اما التبعيض في الاحتياط ، وهو تركه في الموارد التى يطمئن بعدم ثبوت التكليف واتيان الباقي ، اذا ارتفع الحرج بذلك ، وإلّا يتعدى الى مطلق الظن النافى ، واما الظنون المثبتة فحالها عند هذا القائل حال الشك ، يحتاط فيها ، لانها من اطراف العلم ، لا من جهة انها ظنون ، واما وجوب العمل على طبق الظنون الاطمينانية المثبتة للتكليف بمقدار المعلوم بالاجمال ، وأما الظنون النافية حالها عند هذا القائل حال الشك ، في الاخذ بمقتضى الاصل ، فعدم الاحتياط فيها ليس من جهة الظن بعدم التكليف ، بل لان مواردها مجرى الاصل.

وعلى كلا الحالين لا اشكال في المقام حتى يحتاج الى الدفع.

اما على الاول : فالظن الممنوع ان كان مثبتا للتكليف فيجب عليه ان يحتاط في مورده ، لا لانه ظن ، بل لانه من موارد الاحتمال ، فلا يضر هذا المدعى الظن بعدم حجية الظن المفروض ، بل لو قطع بعدم حجيته ايضا يحتاط في مورده ، لانه من اطراف العلم. والحاصل ان المدعي لهذا القول لا يأخذ الظن المذكور حجة حتى يمنعه الظن المانع ، وان كان نافيا له وكان من الظنون الاطمينانية او بنينا على التعدى منها الى غيرها من الظنون لعدم ارتفاع الحرج بترك الاحتياط في خصوص الظنون الاطمينانية ، فلو كان المرجع في عدم حجيته الى مجرد أن الشارع لم يجعله حجة فلا اشكال في ان الظن بعدم الحجية بهذا المعنى لا يضر بترك الاحتياط ، بمقدار رفع الحرج ، بمقتضى الظنون النافية للتكليف ، بداهة ان تارك الاحتياط في المقدار المذكور في موارد الظنون النافية وان كان بعضها مما ظن عدم اعتباره لا يخرج من انه ظان ببراءة ذمته مما كان عليه ، والعقل لا يحكم عليه ازيد مما ذكر ، ولو كان المرجع الى حرمة العمل

٤٢٠