درر الفوائد - ج ١ و ٢

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي

درر الفوائد - ج ١ و ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٥

الحالة الجزمية وتحقق الترديد في النفس ، فعلى هذا نسبة مادة النقض الى اليقين لها مناسبة تامة لا تحتاج الى صرف النسبة الى المتيقن ثم تخصيصه بما اذا كان له مقتض للبقاء ، بل ليس مجرد وجود المقتضى للبقاء في شيء مصححا لنسبة النقض اليه ، لما عرفت من اعتبار كون متعلقه ممّا له اجزاء مبرمة.

فان قلت : نعم ، لكن النهى في القضية لا يصح تعلقه بنقض اليقين ، حيث ان انتقاض اليقين بالشك قهرى.

قلت : كما أنه لا يجوز تعلق النهى بنقض اليقين كذلك لا يجوز تعلقه بنقض المتيقن ايضا ، لانه ايضا في حال الشك اما باق واقعا واما مرتفع ، وعلى اى حال ليس اختياره بيد المكلف ، كما هو واضح ، فالنهى في القضية يجب ان يكون متعلقا بالنقض من حيث العمل ، وعلى هذا كما أنه يصح ان يقال : يجب عليك معاملة بقاء المتيقن من حيث الآثار ، كذلك يصح ان يقال : يجب عليك معاملة بقاء اليقين كذلك.

فان قلت : نعم ، لكن على الثاني تفيد القضية وجوب ترتيب اثر نفس اليقين وهو غير مقصود.

قلت : اليقين في القضية ملحوظ طريقا الى متعلقه (١) ، فيرجع محصل مفاد

__________________

(١) لا يخفى انه بعد طريقية اليقين للمتيقن لا بد من ملاحظة المناسبة بين مادة النقض وبين المتيقّن ، لاحتياج ملاحظتها مع نفس اليقين الى اللحاظ الاستقلالي ، وكيف يجتمع هو مع الطريقي الآلي ، فالصواب في الجواب ان يقال : مفاد قوله عليه‌السلام : «لا تنقض» المعاملة حال الشك معاملة اليقين السابق ، ولا شك انه حال اليقين بحياة زيد مثلا يرتّب في الخارج اثر الحياة بتأثير اليقين من دون مدخلية للمتيقّن ، ولهذا لو كان جهلا مركبا لكان مؤثرا ايضا ، فنحن متعبدون شرعا بترتيب هذا الاثر الطبعى في حال الشك ، لا بترتيب الاثر الشرعي الثابت للمتيقن ، حتى يلزم جعل اليقين في العبارة طريقا الى المتعلق ، ولا بترتيب الاثر الثابت لليقين ، حتى يرد النقض بما اذا رتب الاثر شرعا على نفس صفة اليقين ، بل نقول : ان اليقين في العبارة اخذ جامعا لليقينيات الطريقية ، فالطريقية وصف لأفراده ، لا لنفسه ، فالتعبد انما هو ـ

٥٢١

القضية الى وجوب معاملة بقاء اليقين من حيث كونه طريقا الى متعلقه ، فيندفع المحذور.

هذا مما افاده سيدنا الاستاذ «طاب ثراه» نقلا عن سيد مشايخنا الميرزا الشيرازي «قدس‌سره» ولعمرى ان المتأمل المنصف يشهد بان هذا الالتفات والتنبه انما يصدر ممن ينبغى ان يشد اليه الرحال فجزاه الله عن الاسلام واهله احسن الجزاء.

ومنها : صحيحة اخرى لزرارة ايضا ، قال : قلت له عليه‌السلام : اصاب ثوبى دم رعاف او غيره او شيء من المنى فعلمت اثره الى ان اصيب له الماء ، فحضرت الصلاة ونسيت ان بثوبى شيئا وصليت ، ثم انى ذكرت بعد ذلك ، قال عليه‌السلام : تعيد الصلاة وتغسله ، قال : قلت : فان لم اكن رأيت موضعه وعلمت انه اصابه ، فطلبته ولم اقدر عليه ، فلما صليت وجدته ، قال : تغسله وتعيد ، قلت : فان ظننت انه اصابه ولم اتيقن ذلك ، فنظرت ولم ار شيئا ، فصليت فيه ، فرأيت فيه ، قال عليه‌السلام : تغسله ولا تعيد الصلاة ، قلت : لم ذلك قال : لانك كنت على يقين من طهارتك فشككت ، وليس ينبغى لك ان تنقض اليقين بالشك ابدا ، قلت ، فانى قد علمت انه قد اصابه ، ولم ادر اين هو فاغسله ، قال : تغسل من ثوبك الناحية التى ترى انه قد اصابها حتى تكون على يقين من طهارتك ، قلت : فهل علىّ ان شككت انه اصابه شيء ان انظر فيه؟

قال : لا ، ولكنك انما تريد ان تذهب بالشك الذي وقع من نفسك ، قلت : ان رأيته في ثوبى وانا في الصلاة ، قال : تنقض الصلاة وتعيد اذا شككت في موضع منه ثم رأيته ، وان لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثم بنيت على بالاثر الطبعي ، ولا ريب ان التأثير الطبعي لليقين في تحريك الجوارح انما يكون بالنسبة الى الآثار الشرعية لمتعلقه ، لا بالنسبة الى الاثر الشرعي لنفسه ، وانما هو من خاصية يقين آخر متعلق باليقين الاول. (م. ع. مدّ ظلّه).

٥٢٢

الصلاة ، لانك لا تدرى ، لعلّه شيء اوقع عليك ، فليس ينبغى لك ان تنقض اليقين بالشك «الحديث» (١).

تقريب الاستدلال كما في الصحيحة الاولى.

لكن فيها اشكال من جهة اخرى : وهو أن الظاهر من السؤال في قوله : «فان ظننت انه قد اصابه الخ» أنه بعد الصلاة تبين ان ثوبه كان نجسا من اول الامر ، وحينئذ عدم اعادة الصلاة لا يمكن ان يكون مستندا الى تلك القاعدة ، اعنى عدم جواز نقض اليقين بالشك ، لان الاعادة على هذا نقض اليقين بيقين مثله ، وبعبارة اخرى : الظاهر من تلك الفقرة أن الاعادة نقض اليقين بالشك ، ولعدم صلاحية ذلك لا يصلح الاعادة ، ولا يمكن حفظ هذا الظهور فيما نحن فيه ، فان الطهارة من الخبث ان كانت من الشروط الواقعية فالاعادة ليست من مصاديق نقض اليقين بالشك ، كما هو واضح ، وان كان الشرط احرازها ولو بالاصل فالاجزاء وعدم الاعادة مستندان الى حكم الاستصحاب حين الصلاة بضميمة الادلة الدالة على كفاية نفس الاحراز حين الصلاة ، وعلى اي حال قوله عليه‌السلام : «وليس ينبغى ان تنقض اليقين بالشك» لا ينتج عدم الاعادة ، كما هو واضح.

اذا عرفت هذا يظهر لك عدم ارتفاع هذا الاشكال بما تخيله بعض من استناد عدم الاعادة الى اقتضاء الامر الظاهرى للاجزاء ، ولا بما افاده شيخنا الاستاذ «دام بقاه» (٢) من جعل الشرط هو نفس الاحراز ولو باصل من الاصول ، اذ كل ذلك اجنبى عن ظاهر الرواية ، كما لا يخفى ، فيلزم التصرف في

__________________

(١) الوسائل ، الباب ٤٢ من ابواب النجاسات ، الحديث ٢ والباب ٤١ ، الحديث ١ والباب ٤٤ ، الحديث ١ ، التهذيب ، باب تطهير البدن والثياب من النجاسات ، الحديث ٨ (ج ١ ، ط الآخوندي ، ص ٢ ـ ٤٢١).

(٢) تعليقة الفرائد ، ص ١٧٢.

٥٢٣

ظاهرها إمّا على نحو تخيله المتخيل ، وإمّا على نحو وجهها شيخنا الاستاذ «دام بقاه» ، والتوجيهان مشتركان في ان الصحة وعدم الاعادة انما يكون مستندا الى كبرى مسلمة عند السائل ، وأن قوله عليه‌السلام «ليس ينبغى لك الخ» اشارة الى تحقق صغرى لتلك الكبرى المسلمة ، غاية الامر أنه على ما تخيله المتخيل الكبرى المفروضة كون الامر الظاهري مفيدا للاجزاء ، وعلى ما افاده «دام ظله» كون الشرط نفس الاحراز فلا تغفل ، والعجب منه «دام بقاه» انه استضعف كلام المتخيل ، ثم وجّه الرواية بما هو مماثل لما استضعفه.

هذا اذا كان المراد من الرواية ما ذكرنا ، واما ان كان المراد رؤية النجاسة بعد الصلاة مع احتمال وقوعها بعدها كما هو احد الاحتمالين فيها فلا اشكال في اقتضاء قولهم عليهم‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك» عدم اعادة الصلاة والاكتفاء بما اتى به ، لانه واجد للشرط تعبدا ولا كاشف للخلاف كما هو المفروض.

فان قلت : عدم الاعادة ليس اثرا شرعيا حتى يترتب على استصحاب الطهارة.

قلنا : ليس المجعول بقضية لا تنقض عدم وجوب الاعادة حتى يقال : انه عقلى ليس قابلا للجعل ، بل المجعول بها التصرف في شرط الواجب والتوسعة في موضوع الوجوب ، ولازم ذلك عدم وجوب الاعادة ، فعدم وجوب الاعادة من اللوازم العقلية المترتبة على نفس الاستصحاب لا على المستصحب.

ومنها : صحيحة ثالثة لزرارة : «واذا لم يدر في ثلاث هو او في اربع ، وقد احرز الثلاث قام فاضاف اليها اخرى ، ولا شيء عليه ، ولا ينقض اليقين بالشك ، ولا يدخل الشك في اليقين ، ولا يخلط احدهما بالآخر ، ولكنه ينقض الشك باليقين ، فيتم على اليقين ، فيبنى عليه ، ولا يعتد بالشك في حال من الحالات (١).

__________________

(١) الوسائل ، الباب ١٠ من ابواب الخلل ، الحديث ٣.

٥٢٤

وقد تمسك بها في الوافية وتبعه جماعة ممن تأخر عنه.

وكيف كان هذه الصحيحة مع قطع النظر عما فيها من الاجمال لا تفيد قاعدة كلية ينتفع بها في ساير الموارد ، لظهور أن قوله عليه‌السلام «ولا ينقض اليقين بالشك» تأكيد لقوله عليه‌السلام «قام فاضاف اليها اخرى» لا علة له حتى يستفاد منه الكلية.

اللهم إلّا ان يستفاد العموم من قوله عليه‌السلام «ولا يعتد بالشك في حال من الحالات».

ثم ان جعل هذا المورد من مصاديق حرمة نقض اليقين بالشك يحتمل امرين :

احدهما كونه من جهة التقية موافقة للعامة الزاعمين لكون مقتضى البناء على اليقين هو البناء على الاقل وضم الركعة المشكوكة.

ويوهن هذا الاحتمال ظهور صدر الرواية في عدم الصدور على جهة التقية ، حيث انه امر في جواب السائل عن الشك بين الاثنين والاربع بان يركع ركعتين واربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ، وهذا الكلام ظاهر في وجوب ركعتين منفصلتين ، من جهة ظهور تعيين الفاتحة ، وهذا مخالف لمذهب العامة.

والثاني ان يقال ان المراد من قوله عليه‌السلام : «قام فاضاف اليها ركعة» القيام للركعة المنفصلة كما هو المذهب الحق ، والوجه لجعل هذا من صغريات القاعدة المزبورة ـ مع اقتضائها بحسب الظاهر اتيان الركعة المتصلة ـ ان الصلاة في نفس الامر يعتبر فيها امران : احدهما تحقق الركعات ، والثاني تقييدها بعدم الزائد ، ومقتضى قولهم عليهم‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك» البناء على عدم تحقق الركعة المشكوكة ، ولا يثبت بهذا تحقق ذلك التقييد المعتبر لو اتى بالركعة المشكوكة موصولة ، فالجمع بين مفاد القاعدة المزبورة ومراعاة ذلك التقييد لا يمكن إلّا باتيان الركعة منفصلة فليتأمل جيدا.

وهذا التوجيه اوجه من حمل الرواية على ايجاب تحصيل اليقين بالاحتياط

٥٢٥

كما فعله شيخنا المرتضى «قدس‌سره» (١) ، لظهور اتحاد مفاد هذه القضية في جميع الموارد ، وقد عرفت كونها ناصة في الاستصحاب في الصحيحة الاولى.

وما قد يتوهم من امكان الجمع بين الاستصحاب وايجاب تحصيل اليقين فلا ينافى تطبيق القضية تارة على الاستصحاب ، كما في الصحيحة الاولى ـ واخرى على ايجاب الاحتياط ـ كما في الصحيحة الثالثة ـ مدفوع بانه على تقدير ارادة الاستصحاب يجب ان يراد من اليقين المفروض في القضية الموجود الثابت ، وعلى تقدير ارادة ايجاب الاحتياط يجب ان يفرض عدمه حتى يصح الامر بتحصيله ، وهما ملاحظتان غير قابلتين للجمع كما هو واضح.

ومنها موثقة عمار عن ابى الحسن عليه‌السلام قال : اذا شككت فابن على اليقين ، قلت : هذا اصل؟ قال عليه‌السلام : نعم (٢).

اقول : ان جعلنا مورد الرواية خصوص ركعات الصلاة كما أن الاصحاب يذكرونها في طى ادلة تلك المسألة فالمراد من قوله عليه‌السلام : «فابن على اليقين» اما تحصيل اليقين بالبناء على الاكثر واتيان ما يحتمل نقصه منفصلا ، ولا دخل لها بما نحن بصدده ، واما محمول على التقية ، واما على الاستصحاب ، بالتوجيه الذي ذكرناه في الصحيحة السابقة ، وان لم نقل باختصاصها بشكوك الصلاة فلا يبعد دعوى ظهورها في الاستصحاب ، حيث ان الظاهر من لفظ اليقين هو اليقين الموجود حين البناء عليه ، لا الماضي ، حتى ينطبق على قاعدة الشك السارى ، ولا المستقبل ، حتى يكون المراد وجوب تحصيله وينطبق على الاحتياط.

فما ذكره شيخنا المرتضى «قدس‌سره» (٣) ، من ان الموثقة على تقدير عدم

__________________

(١) الفرائد ، ذيل الصحيحة ، ص ٣٣٢.

(٢) الوسائل ، الباب ٨ من ابواب الخلل ، الحديث ٢.

(٣) الفرائد : ص ٣٣٣.

٥٢٦

اختصاص موردها بشكوك الصلاة اضعف دلالة من الروايات الآتية ، حيث انه لم يبين فيها ان المراد اليقين السابق على الشك ، ولا انه المتيقن السابق على المشكوك ، بخلاف الروايات الآتية ، حيث انها ليست خارجة عن هذين الاحتمالين ، مبنى على عدم كون ظهور الموثقة في الاستصحاب اقوى من بين الاحتمالات ، وقد عرفت خلافه.

ومنها : ما عن الخصال بسنده عن محمد بن مسلم عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال قال امير المؤمنين عليه‌السلام : من كان على يقين فشك فليمض على يقينه ، فان الشك لا ينقض اليقين (١) وفي رواية اخرى عنه عليه‌السلام من كان على يقين فاصابه شك فليمض على يقينه ، فان اليقين لا يدفع بالشك (٢).

اقول : ظهور الروايتين في اتحاد متعلق اليقين والشك مما لا يقبل الانكار ، وحينئذ إما ان يلاحظ المتيقن مقيدا بالزمان فالشك فيه معناه الشك السارى ، وإمّا ان يجرد عنه ، وعلى الثاني إمّا ان يكون القضية مهملة من حيث الزمان ، وإمّا ان يكون ملحوظا فيها على نحو الظرفية ، والاخير منطبق على المدعى ، وسيجىء ان الجمع بين القاعدة والاستصحاب غير ممكن في هذه القضية ان شاء الله.

اذا عرفت هذا فنقول : ان القضية وان كانت في حد نفسها غير ظاهرة في المدعى ، لكن بملاحظة تكرارها في موارد يعلم ارادة الاستصحاب منها تصير ظاهرة في المدعى ، لظهور اتحاد المراد في تمام الموارد.

لا يقال : إن ذكرهما في عداد ادلة الباب غير صحيح ، لان العمدة الادلة المتقدمة ، اذ لولاها لكانت هذه مجملة او ظاهرة في غير المدعى.

__________________

(١) الوسائل ، الباب ١ من نواقص الوضوء ، الحديث ٦.

(٢) المستدرك ، الباب ١ من نواقض الوضوء ، الحديث ٤. والحديث منقول عن امير المؤمنين عليه‌السلام مرسلا.

٥٢٧

لانا نقول : فائدة هاتين الروايتين استفادة الكلية ، بعد ما حملناهما على الاستصحاب ، اذ ليس فيهما ما يمنع ذلك ، كما كان في الأدلة السابقة ، هذا.

ولكن الاشكال في سند الرواية من حيث ان فيها قاسم بن يحيى ، وقد ضعفه العلامة «قدس‌سره» في الخلاصة ، وتضعيفه وان كان مستندا الى تضعيف ابن الغضائري وقد قيل : انه لا يعبأ به ، إلّا انه ما وجد في علم الرجال توثيقه ، فلو اغمضنا عن هذا التضعيف لكان من المجاهيل ، وعلى اي حال لا يجوز جعل الرواية مدركا لشيء ، اللهم إلّا ان يوثق برواية الأجلة عنه ، مثل احمد بن ابي عبد الله واحمد بن محمد بن عيسى فليتأمل جيدا.

ومنها : مكاتبة على بن محمد القاساني ، قال : كتبت اليه وانا بالمدينة اسأله عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان ، هل يصام ام لا؟ فكتب عليه‌السلام : اليقين لا يدخله [لا يدخل فيه. الوسائل] الشك صم للرؤية وافطر للرؤية (١).

ودلالتها على المدعى بملاحظة تفريع الامام عليه‌السلام ظاهرة.

هذه اخبار عامة واردة في المقام.

وقد يؤيد بالاخبار الواردة في الموارد المخصوصة ،

مثل رواية عبد الله بن سنان فيمن يعير ثوبه الذمي وهو يعلم انه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير ، قال : فهل علىّ ان اغسله؟ فقال : لا ، لانك اعرته اياه وهو طاهر ولم تستيقن انه نجسه (٢).

وفي تعليل الحكم بانه طاهر حين الاعارة دلالة واضحة على ان المستند هو استصحاب الطهارة لا قاعدتها.

ومثل موثقة عمار : كل شيء طاهر حتى تعلم انه قذر (٣).

__________________

(١) الوسائل ، الباب ٣ من ابواب احكام شهر رمضان ، الحديث ١٣.

(٢) الوسائل ، الباب ٧٤ من ابواب النجاسات ، الحديث ١ ، واللفظ كالمنقول بالمعنى.

(٣) الوسائل ، الباب ٣٧ من ابواب النجاسات ، الحديث ٤. ولفظه : «كلّ شيء نظيف حتى تعلم انّه قذر».

٥٢٨

بناء على كونها في مقام بيان استمرار الطهارة المفروغ عنها ، لا في مقام جعل الطهارة في موضوع لم يعلم نجاسته.

ولكن الظّاهر من القضية المعنى الثاني ، كما هو واضح ، فلا دخل لها بالمدعى ، ولا يمكن الجمع بين المعنيين اعنى قاعدة الطهارة واستصحابها ، فان الثاني مبنى على كونها مفروضة الوجود ، والاول مبنى على عدم كونها كذلك ، وملاحظة شيء واحد مفروض الوجود وغيره جمع بين المتنافيين ، كما لا يخفى.

والعجب من شيخنا الاستاذ «دام بقاه» حيث زعم امكان الجمع بينهما في القضية المذكورة ، والنظر في كلامه يتوقف على نقل ما افاده :

قال «دام بقاه» في حاشيته على رسالة الاستصحاب ، عند قول المصنف «قدس‌سره» : نعم ارادة القاعدة والاستصحاب معا توجب استعمال اللفظ في معنيين «الخ» ما لفظه : ارادتهما انما توجب ذلك لو كان كما افاده «قدس‌سره» بان يراد من المحمول فيها تارة اصل ثبوته ، واخرى استمراره ، بحيث كان اصل ثبوته مفروغا عنه ، وكذلك الحال في الغاية ، فجعلت غاية للحكم بثبوته مرة ، وللحكم باستمراره اخرى ، وأما اذا اريد احدهما من المغيى والآخر من الغاية فلا ، توضيح ذلك ان قوله عليه‌السلام : «كل شيء طاهر» مع قطع النظر عن الغاية بعمومه يدل على طهارة الاشياء بعناوينها الواقعية ، كالماء والتراب وغيرهما ، فيكون دليلا اجتهاديا على طهارة الاشياء ، وباطلاقه بحسب حالات الشيء التى منها حالة كونه بحيث يشتبه طهارته ونجاسته بالشبهة الحكمية او الموضوعية تدل على قاعدة الطهارة فيما اشتبه طهارته كذلك وان أبيت الا عن عدم شمول اطلاقه لمثل هذه الحالة التي في الحقيقة ليست من حالاته بل من حالات المكلف وان كانت لها اضافة اليه ، فهو بعمومه لما اشتبهت طهارته بشبهة لازمة له لا ينفك عنه ابدا ـ كما في بعض الشبهات الحكمية والموضوعية ـ يدل بضميمة عدم الفصل بينه وبين ساير المشتبهات على طهارتها كلها ، وإلّا يلزم تخصيصه بلا مخصص ، ضرورة صدق عنوان الشيء على هذا

٥٢٩

المشتبه كسائر الاشياء بلا تفاوت اصلا ، كما لا يخفى ، وليس التمسك به فيما اشتبه طهارته موضوعا تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية ، لان التمسك به انما هو لأجل دلالته على القاعدة وحكم المشكوك ـ على ما عرفت ـ لا لاجل دلالته على حكم الشيء بعنوانه الواقعي ، كي يلزم تخصيصه من هذه الحيثية بنجاسة بعض العناوين او بعض الحالات ، ولا منافاة بين جواز التمسك به للحكم بطهارة المشتبه من جهة وعدم جوازه من جهة اخرى ، كما لا يخفى.

ولا ضير في اختلاف الحكم بالنسبة الى افراد العام وصيرورته ظاهريا بالنسبة الى بعضها ، وواقعيا بالاضافة الى بعضها الآخر ، لان الاختلاف بذلك انما هو من اختلاف افراد الموضوع ، لا من جهة الاختلاف في معنى المحكوم به ، بل هو بالمعنى الواحد والمفهوم الفارد يحمل على ما هو واحد يعم تلك الافراد على اختلافها ، كما هو اوضح من ان يخفى ، فلا مجال لتوهم لزوم استعمال اللفظ في المعنيين من ذلك اصلا.

فعلى ذلك يكون دليلا بعمومه على طهارة الاشياء بما هي بعناوينها ، وبما هي مشتبه حكمها مطلقا بضميمة عدم الفصل في المشتبهات بين ما يلزمه الاشتباه وبين ما لا يلزمه الاشتباه.

فلا حاجة في دلالته على قاعدة الطهارة الى ملاحظة غاية.

نعم بملاحظتها يدل على الاستصحاب ، بيانه ، ان قضية جعل العلم بالقذارة التي ينافي الطهارة غاية لها في الرواية هي بقائها واستمرارها ما لم يعلم بالقذارة ، كما هو الشأن في كل غاية ، غاية الامران قضيتها لو كانت من الامور الواقعية هو استمرار المغيى وبقائه واقعا الى زمان تحققها ، ويكون الدليل عليها دليلا اجتهاديا على البقاء ، ولو كانت هى العلم بانتفاء المغيى هو بقاؤه واستمراره تعبدا الى زمان حصولها ، كما هو الحال في الغاية هاهنا ، فيكون بملاحظتها دليلا على استمرار الطهارة تعبدا ما لم يعلم بانتفائها ، ولا نعنى بالاستصحاب الا ذلك ، كما لا يخفى.

٥٣٠

فدل بما فيه من الغاية والمغيى على ثبوت الطهارة واقعا وظاهرا ـ على ما عرفت ـ على اختلاف افراد العام ، وعلى بقائها تعبدا عند الشك في البقاء ، من دون لزوم محذور استعمال اللفظ في المعنيين ، اذ منشأ توهم لزومه ليس إلّا توهم أن ارادة ذلك من قوله : «كل شيء طاهر» لا يكاد ان يكون إلا بإرادة الحكم على كل شيء بثبوت اصل الطهارة ما لم يعلم قذارته ، والحكم باستمرار طهارته المفروغ عنها ايضا ما لم يعلم قذارته ، باستعمال لفظ طاهر وارادة كلا الحكمين منه ، وقد عرفت ان استفادة مفاد القاعدة من اطلاقه او عمومه بضميمة عدم الفصل من غير حاجة الى ملاحظة الغاية ، واستفادة مفاد الاستصحاب من الغاية من جهة دلالتها على استمرار المغيى ، كما هو شأن كل غاية ، إلا انها لما كانت هو العلم بانتفاء المغيّا كان مفاده استمراره تعبدا ، كما هو الشأن في كل مقام جعل ذلك غاية للحكم ، من غير حاجة في استفادته الى ارادته من اللفظ الدال على المغيّى ، وإلّا يلزم ذلك في كل غاية ومغيّا ، كما لا يخفى ، مثلا ، الماء طاهر حتى يلاقي النجس لا بد ان يراد منها على هذا طاهر بمعنى ثبوت الطهارة ، ومعنى استمرارها كليهما ، مع انه ليس بلازم ، لاستفادة الاستمرار من نفس الغاية ، كما لا يخفى ، فلم لا يكون الحال في هذه الغاية على هذا المنوال «انتهى موضع الحاجة من كلامه دام بقاه» (١).

اقول : وفيه اولا : ان الجمع بين الحكم بطهارة الاشياء بعناوينها الاوّلية وعنوان كونها مشكوكة الطهارة لا يمكن في انشاء واحد ، ضرورة تأخر رتبة الثاني عن الاول ، ولا يمكن ملاحظة موضوع الحكم الثاني في عرض موضوع الحكم الاول ، وهذا واضح.

وايضا على فرض تسليم الجمع يصير الحكم المجعول بملاحظة الشك لغوا ، لان هذه القضية الجامعة لكلا الحكمين متى وصلت الى المكلف يرتفع شكه ،

__________________

(١) تعليقة المحقق الخراساني على الفرائد ـ عند الكلام على موثقة عمار ـ ص ٨ ـ ١٧٦.

٥٣١

من جهة اشتمالها على الحكم بطهارة جميع الاشياء بعناوينها الاولية ، فلا يبقى له الشك حتى يحتاج الى العمل بالحكم الوارد على الشك.

اللهم إلّا ان تحمل القضيّة على الاخبار والحكاية عن الواقع دون الانشاء ، وعلى هذا يرتفع الاشكالان ، لانه اذا فرض ان الشارع حكم على بعض الاشياء بعناوينها الاولية بالطهارة ، وعلى بعض آخر بعنوان انه مشكوك بها ايضا ، يصح ان يقول واحد في مقام الحكاية : «كل شيء طاهر عند الشرع اما بالطهارة الواقعية واما بالطهارة الظاهرية» هذا.

ولكنه لا يدل على ان المحكوم بالطهارة ما هو حتى يكون دليلا اجتهاديا على طهارة الاشياء بعناوينها الاولية ، كما نص عليه كلامه المحكى ، فيظهر ان ما قلناه في مقام التوجيه لا ينطبق على المستفاد من كلامه «دام بقاؤه».

وثانيا بأن مقتضى الغاية المذكورة في القضية أن الحكم فيها انما هو ثابت في ما قبل الغاية ، وهو زمان عدم العلم بالقذارة ، وهذا الحكم الثابت للاشياء في زمان عدم العلم بالقذارة عبارة عن قاعدة الطهارة ، فاين حكم الاستصحاب الذي هو عبارة عن ابقاء الشيء الموجود سابقا في حال طرو الشك ، والشيء الذي فرضناه موجودا بهذه الرواية هو طهارة الاشياء في حال عدم العلم ، وهو حال الشك ، وبقائها ببقاء الشك ليس استصحابا قطعا ، لان مقتضى الحكم المعلق على موضوع بقاؤه ببقائه ، ومن الموضوعات الشك ، واذا اريد افادة الاستصحاب فاللازم فرض شك آخر طار على هذا الحكم المتعلق بموضوع الشك والحكم ببقائه في حال ذلك الشك الطارى ، كما اذا شك في ان هذا الحكم المتعلق بالشك هل نسخ ام لا؟ مثلا.

والحاصل انه لا ينبغي الشك في عدم امكان الجمع بين القاعدة والاستصحاب في قضية واحدة بعد ملاحظة ما ذكرنا ، وعليك بالتأمل والتدبر لئلا يشتبه عليك الحال.

٥٣٢

[في استصحاب الكلي]

الامر الثالث : ان المتيقن السابق قد يكون جزئيا ، وقد يكون كليا ، والشك في بقاء الكلى : تارة من جهة الشك في بقاء الفرد الذي علم تحققه فيه ، وأخرى من جهة الشك في تعيين الفرد المتحقق فيه ذلك الكلى وتردده بين ما هو باق جزما وبين ما هو مرتفع ، وثالثة من جهة الشك في وجود فرد آخر مع الفرد المتيقن اوّلا او مقارنا لارتفاعه ، بحيث يحتمل عدم ارتفاع الكلى.

فان كان الشك في بقاء الكلى من جهة الشك في بقاء الفرد المعين كالمثال الاول فلا اشكال في جواز استصحاب الكلى ان كان ذا اثر شرعى ، ولا يغنى عن استصحاب الفرد ، وان كان بقاؤه مستلزما لبقاء ذلك الفرد ، فلو كان الفرد ذا اثر شرعى يجرى فيه الاستصحاب مستقلا وهل يغنى استصحابه عن استصحاب الكلى بحيث يترتب على الاستصحاب الجارى في الفرد اثر الفرد والكلى ام لا؟ وجهان ، من حيث ان الفرد عين الكلى في الخارج (١) والاثر المترتب على الكلى سار في الفرد ، من جهة الاتحاد والعينية ، فالفرد مجمع لاثرين : احدهما من جهة الكلى ، والثاني من جهة نفسه ، ومن حيث تغايره مع الكلى عند التعقل ، ولكل منهما أثر يمكن سلبه عن الآخر ، وان كانا متحدين في الخارج ، مثلا ، لو فرض ان وجود الانسان في الدار يكون موضوعا لوجوب الصلاة ركعتين ، ووجود زيد يكون موضوعا لوجوب التصدق بدرهم ، يصح ان

__________________

(١) الحق ان يقال بالفرق بين ما اذا كان الكلي الموضوع للاثر مأخوذا باعتبار صرف الوجود المقابل للعدم المطلق ، وما اذا كان مأخوذا باعتبار الوجود الساري ، فيقال في الاول بعدم الكفاية ، نظرا الى صحة سلب الاثر عن الفرد في هذا القسم ، لما بين الكلي بهذا الاعتبار وفرده من البينونة ، كما حقق في مبحث اجتماع الامر والنهي ، وهذا بخلاف الحال فيما لو اعتبر بالنحو الثاني ، اذ يسرى الاثر حينئذ منه الى فرده ، فيكون الفرد ايضا موضوعا لذلك الاثر. (م. ع. مدّ ظلّه).

٥٣٣

يقال : ان وجوب الصلاة ليس اثرا لزيد ، بل هو اثر لوجود الانسان ، وكذلك يصح ان يقال ان وجوب التصدق ليس اثرا للانسان ، بل هو اثر لوجود زيد ، وحينئذ نقول : ان اجراء الاستصحاب بالنسبة الى زيد لو شك في بقائه لا يوجب إلّا ترتب الاثر المختص بزيد لا ما هو مترتب على حقيقة الانسان ، كما في العكس.

وان كان الشك من جهة الشك في تعيين الفرد فهو على قسمين : لان الشك فيه إمّا راجع الى الشك في المقتضى ، كما لو كان الموجود اولا حيوانا مرددا بين ما يعيش ثلاثة ايام او سنة ، فاذا مضى ثلاثة ايام يشك في بقاء ذلك الحيوان ، وإمّا راجع الى الشك في الرافع ، كما لو خرج منه رطوبة مرددة بين البول والمنى ، ثم توضأ فيشك في بقاء حدثه او ارتفاعه بواسطة الوضوء ، هذا ان قلنا بان الحدث الجامع بين الاكبر والاصغر موضوع لاثر شرعى وهو عدم جواز الدخول في الصلاة ، وأمّا ان قلنا ان الموضوع للاثر خصوص الحالتين اللتين توجدان مع البول والمنى ؛ احداهما توجب المنع من الدخول في الصلاة إلّا بالوضوء ، والاخرى توجب المنع إلّا بالغسل ، فالمثال الذي ذكرنا اخيرا ليس من موارد استصحاب الكلى.

وكيف كان فالحق جواز استصحاب الكلى في كلا القسمين ان كان له اثر شرعا ، لعدم المانع إلا على مذاق من يذهب باختصاص مورده بالشك في الرافع فمنع جريانه في القسم الاول ، وقد عرفت ان التحقيق خلافه.

نعم منع بعض علماء العصر «دام ظله» (١) جريان هذا النحو من الاستصحاب مطلقا في حاشيته التى علقها على مكاسب شيخنا المرتضى «قدس‌سره» وحاصل ما افاده هناك ان الشك في بقاء الكلى مسبب عن

__________________

(١) هو العلامة السيد محمد كاظم اليزدي «قدس‌سره» ، في تعليقته على المكاسب بحث المعاطاة ، وان الاصل فيها اللزوم.

٥٣٤

الشك في وجود الفرد الطويل ، وحيث ان مقتضى الاصل عدمه فلا يبقى شك في بقاء الكلى ، ثم اورد على نفسه بان اصالة عدم وجود الفرد الطويل معارض باصالة عدم وجود الفرد القصير ، واجاب بانه ليس في طرف القصير اصل حتى يعارض ذلك الاصل ، لعدم الاثر الشرعي للاصل الجاري في طرف القصير ، هذا.

وفيه اولا : ان تقدم الاصل الجاري في السبب على المسبب انما يكون فيما اذا كان الترتب شرعيا ، كالاصل الجاري في الماء بالنسبة الى الثوب المغسول به ، فان غسل الثوب بالماء الطاهر شرعا يوجب طهارة الثوب شرعا ، بخلاف ترتب عدم الكلى على عدم الفرد في المثال (١) فانه من جهة العلم بانحصار الموجود في فرد واحد وانه على تقدير عدم وجود الطويل وجد القصير وارتفع.

وثانيا : ان عدم جريان الاصل في القصير مطلقا لا وجه له ، لانه ان كان المراد انه مقطوع العدم في زمان الشك في بقاء الكلى فلا يقدح هذا القطع ، لان

__________________

(١) يمكن ان يقال بالفرق بين الكلي الذي بيان محققاته خارج عن وظيفة الشرع. وبين ما كان بيان ذلك من وظيفته ، كالحدث والخبث والملكية والزوجية وامثال ذلك ، ففي القسم الاول الحكم بعدم الكلي بعدم افراده عقلي محض ، بل يمكن منع الترتب عقلا ايضا ، لمكان العينية بين الكلي والفرد ، واما في القسم الثاني فالمفروض ان الشارع حكم بترتب الكلي عقيب المحقق الكذائي ، كترتب الحدث والخبث عقيب خروج البول ، فكما ان ترتيب وجود الكلي على الاصل المنقح لما جعله الشارع محققا ليس من الاصل المثبت ، كذلك ترتيب عدمه على الاصل المنقح لعدم ذلك المحقق ، فلو فرض ان الشارع جعل اسباب الحدث محصورة في عدة امور ونحن نقطع بعدم بعضها ، وعدم الباقي مورد للاستصحاب ، فالحكم بعدم جامع الحدث بسبب هذا الاستصحاب ليس من الاصل المثبت ، فلو توضّأ المحدث بالاصغر المحتمل لخروج المني فاستصحاب عدم الجنابة حاكم في حقه بعدم الحدث ، اذ كما ان بيان ما به يتحقق الحدث وجودا من وظيفة الشرع لا العقل كذلك بيان انه بم ينتفي ، فلو لا بيان الشارع انتفاء جامع الحدث بانتفاء موجبات الحدث الاصغر والاكبر لما كان للعقل حكم بالانتفاء ، ويحتمل انه يحصل بالمذي ايضا. (م. ع. مدّ ظلّه).

٥٣٥

ملاك المعارضة وجود الاصلين المتعارضين في زمان وان انتفى مورد احدهما فيما بعد ذلك ، كما لو خرج احد اطراف الشبهة المحصورة بعد تعارض الاصلين عن محل الابتلاء ، وان كان المراد عدم جريان الاصل في القصير اصلا فهو لا يصح على الاطلاق ، وانما يصح فيما اذا كان اثر الفرد القصير اقل من اثر الفرد الطويل ، كما اذا لم يعلم ان الثوب تنجس بالدم او بالبول وقلنا انه في الاول يكفى الغسل مرة وفي الثاني يجب مرتين ، فان وجوب الغسل مرة مما يقطع به ، فلا يجوز استصحاب عدم تنجسه بالدم لنفى اثره ، وأما اذا لم يكن كذلك كما لو كانا متباينين في الاثر فلا وجه للقول بعدم جريان الاستصحاب في الفرد القصير ، فليتدبر جيدا.

ثم انك قد عرفت ان اجراء الاصل في الكلى لا يثبت الفرد وان كان ملازما له ، لان هذه الملازمة ليست بشرعية ، وحينئذ فلو كان للفرد اثر خاص ينفى بالاصل إلّا اذا كان للفرد الآخر ايضا اثر خاص ، فيتعارض الاصلان ، وكذا لو علم ان الحكم ببقاء الكلى في الاثر والحكم بعدم الفرد كذلك مما لا يجتمعان في مرحلة الظاهر ايضا.

وان كان الشك من جهة وجود الفرد الآخر مع المتيقن او مقارنا لارتفاعه ففي جريان الاستصحاب في الجامع بين الفردين المحتمل بقاؤه بقيام الفرد الآخر مقام المتيقن وجوه : ثالثها التفصيل بين القسمين المذكورين ، فيجرى في الاول منهما ، نظرا الى احتمال بقاء الكلى بعين ما وجد اولا ، دون الثاني ، للقطع بعدم بقائه كذلك ، كما ذهب اليه شيخنا المرتضى «قدس‌سره» (١).

واختار شيخنا الاستاذ «دام بقاه» عدم الجريان مطلقا ، قال في تقريب ذلك : ان وجود الطبيعي وان كان بوجود فرده ، إلّا ان وجوده في ضمن افراد متعددة ليس نحو وجود واحد له ، بل وجود كل فرد منه نحو وجود له عقلا

__________________

(١) الفرائد ، التنبيه الاوّل من تنبيهات الاستصحاب ، ص ٣٧٢.

٥٣٦

وعرفا ، فاذا شك انه في الزمان الاول كان موجودا بوجود واحد او اثنين وفي ضمن فرد او فردين لم يكن الشك في نحو وجوده ، بل الشك في وجوده بنحو آخر غير ما علم من نحو وجوده ، فما علم من وجوده فقد علم ارتفاعه ، وما شك فيه فقد شك في اصل حدوثه ، فاختل احد ركنى الاستصحاب فيه على كل حال ، ومنه يظهر الحال في القسم الثاني بل الامر فيه اظهر «انتهى كلامه دام بقاه» (١).

اقول : لو جعلت الطبيعة باعتبار صرف الوجود مع قطع النظر عن خصوصياته الشخصية موضوعا للحكم ، كما اوضحنا ذلك في مسألة اجتماع الامر والنهى ، فلا اشكال في ان هذا المعنى لا يرتفع إلّا بانعدام تمام الوجودات الخاصة في زمن من الازمنة اللاحقة ، لانه في مقابل العدم المطلق ، ولا يصدق هذا العدم الا بعد انعدام تمام الوجودات ، وحينئذ لو شك في وجود الفرد الآخر مع ذلك الموجود المتيقن واحتمل بقاؤه بعد ارتفاع الفرد المعلوم فمورد استصحاب الجامع بملاحظة صرف الوجود متحقق ، من دون اختلال احد ركنيه ، فان اليقين بصرف وجود الطبيعة غير قابل للانكار ، وكذلك الشك في بقاء هذا المعنى ، لان لازم الشك في كون فرد في الآن اللاحق الشك في تحقق صرف الوجود فيه ، وهو على تقدير تحققه في نفس الامر بقاء لا حدوث ، لان هذا المعنى من الوجود في مقابل العدم المطلق ، فحدوثه فيما اذا كان مسبوقا بالعدم المطلق ، والمفروض انه ليس كذلك ، فعلى تقدير تحققه بقاء ، فالشك فيه شك في البقاء (٢) نعم لو اريد استصحاب وجود الخاص فهو غير جائز ، لان المتيقن سابقا

__________________

(١) تعليقة المحقق الخراساني «قدس‌سره» هنا ، ص ١٩٤.

(٢) هذا بناء على لزوم تعلق الشك بعنوان البقاء في الاستصحاب ، واما على ما هو الحق من عدم لزوم ذلك وكفاية وحدة القضيتين المتيقنة والمشكوكة ـ ولهذا نقول بجريان الاستصحاب في التدريجيات ـ فالظاهر جريان الاستصحاب في هذا القسم ، حتى فيما لو كان الكلي مأخوذا باعتبار الوجود السارى ، اذ المفروض ان الموضوع للاثر نفس وجود الطبيعة ، من ـ

٥٣٧

مقطوع الارتفاع ، والمشكوك لا حقا غير متيقن سابقا ، فاختل احد ركنى الاستصحاب.

ومما ذكرنا يظهر حال القسم الآخر ، وهو ما لو شك في وجود فرد آخر مقارنا لارتفاع الموجود من دون تفاوت اصلا.

[في استصحاب التدريجيات]

الامر الرابع : المستفاد من اخبار الباب أنّ مجرى الاستصحاب ما شك في تحققه لاحقا مع القطع بتحققه سابقا ، فحينئذ لا فرق بين ما يكون قارا بالذات وما يكون تدريجيا ، كالزمان والزمانيات كالتكلم والحركة وامثالهما ، ضرورة انها ما لم تنقطع وجود واحد حقيقى ، وان كان نحو وجودها ان يتصرم شيئا فشيئا ، وحينئذ فلو شك في تحقق الحركة مثلا او نفس الزمان بعد ما علم بتحققه سابقا فقد شك في تحقق عين ما كان محققا سابقا ، فلا يحتاج في التمسك بالاخبار الى المسامحة العرفية ، نعم لو كان محل الاستصحاب الشك في البقاء امكن ان يقال : ان مثل الزمان والزمانيات خارج عن العنوان المذكور ، لعدم تصور البقاء لها إلّا بالمسامحة العرفية ، لكن ليس هذا العنوان في الادلة وبعبارة اخرى : المعتبر في الادلة صدق نقض اليقين بالشك ، ولا تفاوت في ذلك بين التدريجيات وغيرها. غير ملاحظة خصوصية من الخصوصيات ، ومن غير ملاحظة الحدوث والبقاء في ذلك ، والحق ايضا وجود الطبيعي في الخارج بوجود افراده ، والذي لا يوجد انما هو وصف الكلية ، كما ان الحق ايضا ان الوجود مشترك معنوي ، وليس وجود فرد مع وجود فرد آخر متباينين بالكنه ، وعلى هذا فلو قطعنا بوجود فرد وزواله واحتملنا وجود فرد آخر مقارنا لوجود الفرد الاول او لزواله فالقطع والشك وان لم يتعلقا باعتبار الفرد بشيء واحد ولكن باعتبار اضافة جامع الوجود الى جامع الطبيعة قد تعلقا بامر واحد ، بلا اختلاف فيه اصلا ، وان لم يتعلق الشك بعنوان البقاء. (م. ع. مدّ ظلّه).

٥٣٨

قال شيخنا المرتضى «قدس‌سره» في الامر الثاني من الامور التي نبه عليها في باب الاستصحاب ما هذا لفظه : قد علم من تعريف الاستصحاب وادلته ان مورده الشك في البقاء ، وهو وجود ما كان موجودا في الزمان السابق ، ويترتب عليه عدم جريان الاستصحاب في نفس الزمان ولا في الزماني الذي لا استقرار لوجوده بل يتجدد شيئا فشيئا على التدريج ، وكذا في المستقر الذي يؤخذ قيدا له ، إلّا انه يظهر من كلمات جماعة جريان الاستصحاب في الزمان ، فيجرى في القسمين الاخيرين بالطريق الاولى. انتهى كلامه رفع مقامه (١).

وقد عرفت صحة استصحاب نفس الزمان والزمانيات من دون الاحتياج الى مسامحة ، نعم لو انقطع الزماني بما لا يعتد به عرفا ثم وجد فعدّه شيئا واحدا يحتاج الى المسامحة وإلّا فبحسب العقل قد انصرم وحدته.

ويمكن ان يقال : ان الزمان ان لوحظ امرا محدودا. كما يقال : إنّ الليل وكذا النهار عبارتان عن القطعة الخاصة المحدودة بالحدين المفروضين فلا معنى للعلم به الا بعد احراز مجموع تلك القطعة ، وبعد احراز وجود تمام تلك القطعة لا يبقى الشك فيه ، فلا يتحقق فيه ما هو ملاك جريان الاستصحاب ، نعم لو قلنا بان الليل والنهار عبارتان عن الآن السيال بين الحدين المفروضين يمكن تحقق اليقين والشك فيه ، وهكذا حال الحركة ، ان كان المقصود الحركة المحدودة المسماة بالحركة القطعية فلا يجتمع فيها اليقين والشك ، وان كان المقصود الحركة التوسطية وهي كون الجسم بين الحدين فيمكن كونها متعلقة لليقين والشك ، كما هو ظاهر.

فالاولى في المقام ان يقال : ان كان موضوع الاثر الذي اريد استصحابه هو الزمان المحدود او الزماني كذلك فاستصحابه يحتاج الى المسامحة التى افادها شيخنا المرتضى «قدس‌سره» من جعل المجموع موجودا فعليا لوجود جزئه ، وان

__________________

(١) الفرائد ، ص ٣٧٤.

٥٣٩

كان القسم الآخر فلا يحتاج في الاستصحاب الى تلك المسامحة.

وأمّا المستقر الذي اخذ الزمان قيدا له ، فان اريد استصحابه في حال الشك في انقضاء الزمان الماخوذ قيدا ـ كما هو ظاهر كلامه «قدس‌سره» هنا ـ فحاله حال استصحاب نفس الزمان ، كمن وجب عليه الجلوس في النهار مثلا فجلس الى ان شك في انقضاء النهار او بقائه ، اذ يصح ان يقال : ان جلوسه كان سابقا جلوسا في النهار والآن كما كان (١) فيترتب حكمه اعنى الوجوب.

لا يقال : ان الجلوس في هذه القطعة من الزمان ليس له حالة سابقة ، ضرورة كونه مرددا من اول الامر بين وقوعه في الليل او النهار.

لانا نقول : المفروض عدم ملاحظة الجلوس في القطعات من النهار موضوعا مستقلا ، بل اعتبر حقيقة الجلوس المتحقق في النهار موضوعا واحدا للوجوب ، وهذا واضح.

وان اريد استصحاب الموضوع المقيد بالزمان او حكمه بعد انقضاء الزمان المأخوذ قيدا ـ كما هو ظاهر كلامه «قدس‌سره» بعد ذلك عند التعرض للقسم الثالث ، وهو ما كان مقيدا بالنهار ـ فلا شك في عدم جريان الاستصحاب ضرورة ان الجلوس المقيد بالنهار وكذا حكمه لا يبقى بعد انقضائه.

__________________

(١) لا يقال : هذا داخل في الاستصحاب التعليقي في الموضوع ، وهو محل الاشكال ، كما قرر في محله ، اذ تقريبه ان هذا الجلوس لو كان متحققا سابقا لكان جلوسا في النهار ، والآن كما كان.

لانا نقول : اولا يمكن تقرير الاستصحاب على نحو القضية الحقيقية ، وهي من القضايا الحملية لا الشرطية ، فيقال طبيعة جلوس هذا الشخص كان سابقا في النهار ، والآن كما كان. وثانيا سلمنا كونه من القضية الشخصية لكن نقول التعليق فيها غير مضرّ اذا كان الحكم مرتبا على الموضوع بوجه التعليق ، كما هو الحال في مقامنا ، فان الوجوب حكم للجلوس الذي لو تحقق كان في النهار ، لا للجلوس المقيد بذلك فعلا ، لعدم دخول القيد تحت قدرة المكلف. (م. ع. مدّ ظلّه).

٥٤٠