درر الفوائد - ج ١ و ٢

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي

درر الفوائد - ج ١ و ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٥

زواله لا يجوز التمسك بها.

فائدة تناسب المقام

حكى عن بعض المتأخرين انه فرق بين استحالة نجس العين والمتنجس ، فحكم بطهارة الاول لزوال الموضوع ، دون الثاني لان موضوع النجاسة فيه ليس عنوان المستحيل ، اعنى الخشب مثلا ، وانما هو الجسم ، ولم يزل بالاستحالة.

قال شيخنا المرتضى «قدس‌سره» بعد نقل هذا الكلام : وهو حسن في بادئ النظر إلّا ان دقيق النظر يقتضى خلافه ، اذ لم يعلم ان النجاسة في المتنجسات محمولة على الصورة الجنسية ، وهي الجسم ، وان اشتهر في الفتاوى ومعاقد الاجماعات أن : كل جسم لاقى نجسا مع رطوبة احدهما فهو نجس ، إلّا انه لا يخفى على المتأمّل ان التعبير بالجسم لأداء عموم الحكم لجميع الاجسام الملاقية من حيث سببية الملاقاة للتنجس ، لا لبيان اناطة الحكم بالجسمية ، وبتقرير آخر : الحكم ثابت لاشخاص الجسم ، فلا ينافي ثبوته لكل واحد منها من حيث نوعه او صنفه المتقوم به عند الملاقاة ، فقولهم : كل جسم لاقى نجسا فهو نجس ، لبيان حدوث النجاسة في الجسم بسبب الملاقاة من غير تعرض للمحل الذي يتقوم به ، كما اذا قال القائل : ان كل جسم له خاصية وتأثير ، مع كون الخواص والتأثيرات من عوارض الانواع ، وان ابيت الا عن ظهور معقد الاجماع في تقوم النجاسة بالجسم فنقول : لا شك ان مستند هذا العموم هي الادلة الخاصة الواردة في الاشخاص الخاصة ، مثل الثوب والبدن والماء وغير ذلك ، فاستنباط القضية الكلية المذكورة منها ليس إلّا من حيث عنوان حدوث النجاسة ، لا ما يتقوم به ، وإلّا فاللازم اناطة النجاسة في كل مورد بالعنوان المذكور في دليله ، ودعوى ان ثبوت الحكم لكل عنوان خاص من حيث كونه جسما ، ليست باولى من دعوى كون التعبير بالجسم في القضية العامة من حيث عموم ما يحدث فيه النجاسة بالملاقاة لا من حيث تقوم النجاسة بالجسم «انتهى

٥٨١

كلامه ، رفع في الخلد مقامه» (١).

اقول : الظاهر من الادلة في الموارد الخاصة ان الخصوصيات النوعية والصنفية لا دخل لها في التنجس بالملاقاة كيف ولو لم يكن كذلك لما صح الحكم بنجاسة ما لاقى نجسا ولم يذكر في الادلة لاحتمال اختصاص الحكم بالمذكورات في الادلة فاستكشاف قضية عامة وهي قولهم كل جسم لاقى نجسا فهو نجس مبنى على العلم بالغاء الخصوصيات في الموارد المخصوصة.

فالاولى في الجواب ان يقال : انه ان اراد القائل ببقاء النجاسة في المتنجسات بعد الاستحالة الحكم ببقائها من دون حاجة الى التمسك بالاستصحاب فهو فاسد لان الدليل الدال على نجاسة شيء بالملاقاة لا يدل على عدم تطهره بعد ذلك فاذا احتملنا ان عروض صورة اخرى على ذلك الشيء اوجب تطهره فلا يرفع هذا الاحتمال بالدليل الاول الدال على حدوث النجاسة فيه بالملاقاة (٢) وان اراد الحكم ببقاء النجاسة فيها بضميمة الاستصحاب فهو تابع لبقاء الموضوع عند العرف اعنى موضوع المستصحب ولا ينافي كون موضوع النجاسة هو الجسم عدم بقائه عند العرف لان حكم الجسم لتشخصه في نوع خاص قبل الاستحالة سرى في ذلك النوع وبعد استحالته وصيرورته عند العرف موضوعا آخر لا يصح الاستصحاب لانه لو كان نجسا لم تكن تلك النجاسة بقاء النجاسة السابقة.

__________________

(١) الفرائد ، ذيل الامر الاوّل من الخاتمة ، ص ٤٠٢ (طبع رحمة الله).

(٢) فيه ان من المسلم فيما بينهم ان الاستحالة ليست من المطهرات مع بقاء الموضوع ، بل الحكم بالطهارة عندها بسبب ارتفاع موضوع النجس ، وأن الحادث موضوع جديد ، فالاولى ان يقال : ان الموضوع وان كان مطلق الجسم وهو محفوظ مع تغير الصورة النوعية ، لكن لا يصدق على الصورة المستحال اليها عرفا انه شيء لاقى نجسا ، بل يقال : انه جسم لم يلاق في ازمنة وجوده شيئا من النجاسات ، فاسراء النجاسة اليها لا يمكن لا بالدليل ، لعدم صدق الملاقاة ، ولا بالاستصحاب لعدم بقاء الموضوع عند العرف. (م. ع. مدّ ظلّه).

٥٨٢

ونظير ذلك لو فرضنا تعلق حكم بالحيوان من دون مدخلية لخصوصية فانه يسرى الى جميع انواعه وكل نوع منه يتعلق به حكم مستقل غير الحكم الذي تعلق بنوع آخر وان كان اصل الحكم من حيث تعلقه بالحيوان واحدا هذا.

[الفرق بين قاعدة اليقين والاستصحاب]

الحادي عشر : المعتبر في الاستصحاب ان يكون شاكا في البقاء بعد الفراغ عن اصل وجوده حين الشك في بقائه ، فلو شك في اصل وجوده وهو الذي يعبرون عنه بالشك السارى لا يكون موردا للاستصحاب ، نعم لو دل دليل على عدم الاعتناء بالشك في اصل الحدوث اخذنا به ، ويصير هذه قاعدة اخرى.

وقد يتخيل امكان شمول الادلة المذكورة في باب الاستصحاب للقاعدتين.

وتقريب ذلك على نحو أتمّ هو ان يقال : انه في قولهم عليهم‌السلام : «من كان على يقين فشك» جعل الزمان السابق ظرفا لليقين والزمان اللاحق ظرفا للشك واما المتيقّن والمشكوك فلوحظا مجردين عن اعتبار الزمان لا على نحو الظرفية ولا على نحو القيدية ، فحينئذ المراد باليقين بالشيء هو اليقين بذات الشيء مهملة عن اعتبار الزمان ، والمراد بالشك ايضا كذلك ، ولا شك ان الشك في ذات الشيء يصدق على الشك في اصل وجوده وعلى الشك في بقائه ، لان بقاء الشيء ليس امرا آخر وراء ذلك الشيء ، فاذا اشتمل كلا الشكين فوجوب المضى على اليقين يوجب الغاء كليهما ، والغاء كل شك بحسبه ، فالشك في اصل الوجود الغائه بان يحكم باصل الوجود ، والشك في البقاء الغائه بان يحكم بالبقاء ، هذا غاية تقريب كلام المتخيل.

اقول : والذي يخطر بالبال في دفع هذا المقال ان يقال : ان المتيقّن بعدالة زيد في يوم الجمعة مثلا يصح ان يقال في حقه انه متيقن بالعدالة مقيدة بكونها يوم الجمعة ، وان يقال : انه متيقن بالعدالة بملاحظة اعتبار ذلك الزمان ظرفا

٥٨٣

لها ، وان يقال : انه متيقن بعدالة زيد مع اهمال الزمان قيدا وظرفا ، فان المتيقن بالمقيد متيقن بالمهملة.

اذا عرفت هذا فنقول : المتكلم بقضية «اذا تيقنت بشيء ثم شككت فيه الخ» اما لاحظ الشيء المتيقن مقيدا بالزمان واما لاحظ الزمان ظرفا للمتيقن ، واما اهمل ملاحظة الزمان رأسا ، ولا تخلو القضية عن تلك الحالات الثلاث ، اما على الاول فلا بد ان يكون المراد من قوله : «شككت فيه» الشك في نفس ذلك الشيء مقيدا بالزمان السابق ، ولا يكون هذا الا الشك السارى ، وكذا على الثالث ، لان المراد من قوله : «شككت فيه» على هذا هو الشك في تحقق ذات ذلك الشيء مهملة عن الزمان ، ولا يصدق هذا الشك الاعلى الشك في وجوده من رأس ، اذ على تقدير اليقين بوجوده في زمان لا يصدق انه مشكوك تحققه مجردا عن الزمان ، فان الشيء اذا كان له انحاء من الوجود لا يصدق انه مشكوك الوجود إلّا اذا شك في تمام انحاء وجوده ، واما على الثاني فيمكن تطبيقه على الاستصحاب ، بان يلاحظ الشيء الواحد باعتبار الزمان السابق متيقنا ، وباعتبار الزمان اللاحق مشكوكا ، فعلم ان تطبيق القضية على الاستصحاب يتوقف على ملاحظة الزمان السابق ظرفا للمتيقن ، واللاحق ظرفا للمشكوك ، وهذه الملاحظة لا تجتمع مع ملاحظة الزمان الاول قيدا كما في الصورة الاولى ، وعدم ملاحظة الزمان اصلا كما في الصورة الثالثة هذا.

واعلم ان تخيل عموم الاخبار لقاعدتين من جهتين :

إحداهما ما مضى الكلام فيه.

والثانية ان المراد من قوله عليه‌السلام «تيقنت بشيء» الشيء المقيد بالزمان والمراد من قوله عليه‌السلام : «ثم شككت فيه» الشك في حدوث ذلك الشيء من اول الامر إلّا ان المراد من قوله عليه‌السلام : «فليمض على يقينه» او «لا تنقض اليقين الا بيقين مثله» هو البناء على ذلك الشيء حدوثا وبقاء ، وهذا التخيل نظير ما وقع عن بعض في قوله عليه‌السلام «كل شيء طاهر حتى تعلم

٥٨٤

انه قذر» من انه يشمل الاستصحاب وقاعدة طهارة الاشياء ، وقد وافق شيخنا الاستاذ «دام بقاه» هذا المتخيل واصرّ في الاعتراض على من انكر ذلك.

ونحن قد بينا هناك (١) عدم امكان الجمع بين القاعدتين في تلك القضية على نحو لا اظن ان يشتبه على احد بعد المراجعة ومن اراد فليراجع.

وزاد «دام بقاه» في المقام بانه لا يبعد ان يكون الامر هاهنا اوضح فان الشك المتعلق بما كان اليقين متعلقا به على قسمين احدهما ما يتعلق بعدالة زيد يوم الجمعة مثلا وكان اليقين متعلقا بها مع القطع بعدالته بعد اليوم او فسقه ثانيهما ما يتعلق بعدالته فيه وفيما بعده فالنهى عن نقض اليقين بالشك يعم باطلاقه النقض بكل من الشكين وقضية عدم نقضه بالثاني المعاملة مع مشكوكه معاملة المتيقّن بترتيب آثار العدالة عليه وربما ايد ذلك بالاستدراك بقوله عليه‌السلام ولكن تنقضه بيقين آخر «انتهى» (٢).

وفيه ان الشك في الحدوث والشك في البقاء شكان مستقلان ومعاملة اليقين مع احدهما لا تلازم معاملة اليقين مع الآخر والاستدراك بقوله عليه‌السلام ولكن تنقضه بيقين آخر بعد تسليم ان القضية متعرضة للشك في الحدوث لا يدل إلّا على عدم رفع اليد عن اليقين بالحدوث الذي كان في الزمان الاول الا بيقين آخر بعدم الحدوث كذلك ولا يدل على الحكم بالبقاء كما لا يخفى هذا.

قال شيخنا المرتضى «قدس‌سره» في هذا المقام ، ثم لو سلمنا دلالة الروايات على ما يشمل القاعدتين لزم حصول التعارض في مدلول الرواية المسقط له عن الاستدلال به على القاعدة الثانية ، لانه اذا شك فيما تيقن سابقا اعنى عدالة زيد في يوم الجمعة فهذا الشك معارض لفردين من اليقين : احدهما

__________________

(١) ص ٢ ـ ٥٣١.

(٢) تعليقته «قدس‌سره» ص ٢٢٦.

٥٨٥

اليقين بعدالته المقيدة بيوم الجمعة ، الثاني اليقين بعدم عدالته المطلقة قبل يوم الجمعة ، فتدل بمقتضى القاعدة الثانية على عدم نقض اليقين بعدالة زيد يوم الجمعة باحتمال انتفائها في ذلك الزمان ، وبمقتضى قاعدة الاستصحاب على عدم نقض اليقين بعدم عدالته قبل الجمعة باحتمال حدوثها في الجمعة ، فكل من طرفى الشك معارض لفرد من اليقين ، ودعوى ان اليقين السابق على الجمعة قد انتقض باليقين في الجمعة والقاعدة الثانية تثبت وجوب اعتبار هذا اليقين الناقض لليقين السابق ، مدفوعة ، بان الشك الطارى في عدالة زيد يوم الجمعة وعدمها عين الشك في انتقاض ذلك اليقين السابق ، واحتمال انتقاضه وعدمه معارضان لليقين بالعدالة وعدمها ، فلا يجوز لنا الحكم بالانتقاض ولا بعدمه «انتهى كلامه رفع مقامه» (١).

اقول : الظاهر من كلامه «قدس‌سره» ان هذه المعارضة دائمية ، وليس كذلك ، لامكان عدم احراز الحالة السابقة قبل يوم الجمعة ، نعم العدم الازلى متيقن ، لكن انما يصح ان يكون مجرى للاستصحاب ان كان له اثر شرعى ، واما ان كان موضوع الاثر عدم العدالة للمحل المفروض وجوده فلا يلزم ان يكون ذلك العدم متيقنا دائما حتى يعارض الاستصحاب مع القاعدة ، كما لا يخفى.

واعترض شيخنا الاستاذ «دام بقاه» بان التعارض انما يلزم لو كان كل واحد من نقض اليقين بعدم العدالة قبل يوم الجمعة بشك ونقض اليقين بالعدالة المقيدة ثبوتها بذلك في مثل المثال في عرض الآخر ، ولم يكن بينهما السببية والمسببية ، وإلّا لا يعم العام الا ما هو السبب منهما ، كما سيأتى الكلام فيه ، ان شاء الله تعالى ، وليس كذلك ، فان كون نقض اليقين بعدم العدالة مع هذا الشك نقضا بالشك يتوقف على عدم شمول النهى لنقض اليقين بالعدالة

__________________

(١) الفرائد ، الامر الثاني من الخاتمة ، ص ٦ ـ ٤٠٥.

٥٨٦

المقيدة ، وهذا بخلاف نقض اليقين بالعدالة المقيدة مع هذا الشك ، فانه نقض بالشك على كل حال ، من غير توقف على عدم شمول النهى لنقض اليقين بعدم العدالة المطلقة ، بل ولو شمله ، غاية الامر معه لا يمكن ان يشمله ايضا ، وكان نقض اليقين بهذا الشك جائزا ، فان النهى عن نقض اليقين بعدم العدالة بهذا الشك يلازم تجويز نقض اليقين بالعدالة المقيدة بالشك ، لا انه موجب لكونه نقضا بغير الشك «انتهى» (١).

اقول : لا يخفى ان في المثال لنا شكا واحدا ، وهو الشك في عدالة زيد يوم الجمعة ، ويقينين : احدهما اليقين بعدم عدالته قبل يوم الجمعة ، والثاني اليقين بعدالته المقيدة بيوم الجمعة ، ومقتضى الاخذ بالاستصحاب تنزيل الشك في العدالة يوم الجمعة بمنزلة العلم بعدمها ، ومقتضى اجراء حكم القاعدة تنزيل هذا الشك بمنزلة العلم بثبوتها ، فاين حكومة القاعدة على الاستصحاب.

ولعل نظره «دام بقاه» في هذا الكلام الى ان اليقين المتحقق في يوم الجمعة صار ناقضا لليقين بعدم العدالة قبل يوم الجمعة ، ومقتضى عدم جواز نقض هذا اليقين بالشك الطارى ان يجعل ذلك الشك بمنزلة اليقين ، حتى في كونه ناقضا لليقين بعدم العدالة السابقة ، فيكون اجراء القاعدة دليلا على ان نقض اليقين بعدم العدالة بهذا الشك بمنزلة نقضه باليقين ، لان هذا الشك بمنزلة اليقين بالعدالة الذي كان ناقضا لليقين بعدمها ، وهذا بخلاف الاستصحاب ، فان اليقين فيه وهو اليقين بعدم العدالة سابقا لم يكن ناقضا لليقين الآخر حتى يترتب على الشك اللاحق هذا الاثر.

وانت خبير بان ناقضية اليقين السابق ليست من اللوازم الشرعية حتى تترتب على الشك اللاحق المنزل منزلته ، وانما هي من آثاره العقلية سواء لوحظ طريقا ام صفة ، لان العقل يحكم بان قيام الطريق الحجة على خلاف الحالة

__________________

(١) تعليقة المحقق الخراساني «قدس‌سره» ، ص ٢٢٦.

٥٨٧

السابقة او خصوص العلم كذلك يوجب رفع اليد عنها ، والشك اللاحق منزل منزلة العلم في الآثار المترتبة على المعلوم ، لا في لوازم العلم بحكم العقل ، سواء في ذلك الاستصحاب والقاعدة ، ومن المعلوم عدم حكومة احدهما على الآخر في هذا المدلول ، كما هو واضح.

ثم بعد ما بينا عدم شمول الادلة المذكورة في الباب للقاعدتين يتعين الاستصحاب ، لورود بعضها في الشك في البقاء وظهور اتحاد مفاد الباقي معه.

بقي الكلام في وجود مدرك آخر لقاعدة الشك الساري وعدمه ، وما يمكن ان يكون مدركا لها في الجملة الاخبار الدالة على عدم الاعتناء بالشك بعد التجاوز عن الشيء فلا بد من ذكر الاخبار الواردة في المقام ثم التكلم فيها.

[في قاعدة التجاوز والفراغ]

فنقول مستعينا بالله العزيز العلام ومتوسلا باوليائه الكرام :

١ ـ انه روى محمد بن الحسن ، باسناده عن احمد بن محمد ، عن احمد بن محمد بن ابي نصر ، عن حماد بن عيسى ، عن حريز بن عبد الله ، عن زرارة قال : قلت لابى عبد الله عليه‌السلام : رجل شك في الاذان وقد دخل في الاقامة؟ قال : يمضى ، قلت : رجل شك في الاذان والاقامة وقد كبر؟ قال : يمضى ، قلت : رجل شك في التكبير وقد قرأ قال : يمضى ، قلت : شك في القراءة وقد ركع؟ قال : يمضى ، قلت : شك في الركوع وقد سجد؟ قال : يمضى على صلاته ، ثم قال : يا زرارة اذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره فشكك ليس بشيء (١).

٢ ـ وباسناده عن سعد ، عن احمد بن محمد ، عن ابيه ، عن عبد الله بن المغيرة ، عن اسماعيل بن جابر قال قال ابو جعفر عليه‌السلام : ان شك في الركوع بعد ما سجد فليمض ، وان شك في السجود بعد ما قام فليمض ، كل شيء شك

__________________

(١) الوسائل ، الباب ٢٣ من ابواب الخلل في الصلاة ، الحديث ١ و ٣.

٥٨٨

فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه «الخبر» (١).

٣ ـ وعن عبد الله بن ابي يعفور عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال : اذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكك بشيء ، انما الشك اذا كنت في شيء لم تجزه «الخبر» (٢).

٤ ـ وفي موثقة اخرى : كلّ ما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو (٣).

والكلام فيها يقع في مقامات :

احدها : انّ مضمون هذه الاخبار هل هو جعل قاعدة واحدة او تكون مختلفة؟ قال شيخنا الاستاذ «دام بقاه» : ان مقتضى التأمل في الروايات انها مفيدة لقاعدتين ، إحداهما القاعدة المضروبة للشك في وجود الشيء بعد التجاوز عن محله مطلقا او في خصوص اجزاء الصلاة وما بحكمها من الاذان والاقامة ، وثانيهما القاعدة المضروبة للشك في صحة الشيء لاجل الشك في الاخلال ببعض ما اعتبر فيه شطرا او شرطا بعد الفراغ عنه ، ثم جعل «دام بقاه» الصحيحة الاولى والرواية الثانية ظاهرتين في القاعدة الاولى ، والموثقة الاخيرة مضافة الى مؤيدات أخر ظاهرة في الثانية ، ثم قال «دام بقاه» في تقريب هذا المدعى : «لا يخفى ان ارجاع احدى الطائفتين الى الاخرى بحسب المفاد او ارجاعهما الى ما يعمهما او ما يعم القاعدتين من كل منهما لا يخلو من تكلف وتعسف ، بلا وجه موجب له اصلا ، مع ما يرد عليه من الاشكال الآتى في خروج افعال الطهارات الثلاث من القاعدة ، مع التمحل في اندفاعه وعدم وروده على ما استفدناه من القاعدتين» ثم استظهر مما جعله دليلا على القاعدة الثانية العموم لجميع موارد الفقه من ابواب العبادات والمعاملات ، ومما جعله دليلا على القاعدة الاولى اختصاصه

__________________

(١) الوسائل ، الباب ١٣ من ابواب الركوع ، الحديث ٤.

(٢) الوسائل ، الباب ٤٢ من ابواب الوضوء ، الحديث ٢.

(٣) الوسائل ، الباب ٢٣ من ابواب الخلل في الصلاة ، الحديث ١ و ٣.

٥٨٩

باجزاء الصلاة وما يحسب منها كالاذان والاقامة ، وعلل اختصاص ذلك باجزاء الصلاة وما بحكمها بان قوله عليه‌السلام : «اذا خرجت من شيء» في صحيحة زرارة ، وقوله عليه‌السلام. في رواية ابن جابر : «كل شيء شك فيه» لو لم يكن ظاهرا في خصوص شيء من افعال الصلاة بقرينة السؤال عن الشك فيها في صدر كل واحد منهما فلا اقل من عدم الظهور في العموم لغيرها ، فان تكرار السؤال من خصوص افعال الصلاة يمنع من اطلاق الشيء لغيرها ، ثم اعترض على نفسه بانه لو سلم ذلك فانما هو في الصحيحة لان العموم فيها بالاطلاق ، دون الرواية فان العموم فيها بالوضع ، فاجاب بما حاصله ان لفظ الشيء الذي وقع عقيب الكل لو لم يكن مطلقا بمقدمات الحكمة فلا يدل الكل على استيعاب تمام افراده ، لانه انما يدل على استيعاب تمام افراد ما يراد من مدخوله ، وقد عرفت ان المتيقن من مدخوله في المقام خصوص افعال الصلاة فاذا اريد بقوله عليه‌السلام : «كل شيء شك فيه الخ» كل فعل من افعال الصلاة لا يلزم خلاف اصل في اللفظ الدال على العموم «انتهى كلامه دام بقاه» (١).

اقول : وفي كلامه مواقع للنظر :

منها ، استظهار قاعدتين من الاخبار مع وحدة مضامينها بحسب الصورة ، فان المضمون الوارد في الصحيحة اعنى قوله عليه‌السلام اذا خرجت من شيء «الى آخره» وكذا الوارد في الرواية «كل شيء شك فيه وقد جاوز «الخ» مما استظهر منه قاعدة الشك بعد المحل متحد مع ما ورد في الموثقتين ، ومن البعيد جدا ان يراد من هذا المضمون في مقام غير ما اريد به في الآخر ، كما مرّ نظير ذلك في قولهم عليهم‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك».

ومنها ، ما افاده من انه بناء على ما ذكر لا يرد عليه خروج افعال

__________________

(١) تعليقة المحقق الخراساني ، ص ٣٠ ـ ٢٢٩.

٥٩٠

الطهارات ، ولا يحتاج الى ما تكلف به شيخنا المرتضى «قدس‌سره» في دفع الاشكال ، فان هذا التكلف محتاج اليه على كل حال ، سواء جعلنا مفاد الكل واحدا ام لا ، فان من شك في غسل المرفق بعد الفراغ عن غسل اليد يصدق انه شك في صحة شيء بعد الفراغ عنه ، وتشمله الكلية المذكورة في ذيل الموثقة ، وهي قوله عليه‌السلام : «انما الشك اذا كنت في شيء لم تجزه» مع وجوب الاعتناء بهذا الشك بالاجماع والاخبار ، فلا بد من القول بان الوضوء امر واحد في نظر الشارع حتى يدفع الاشكال ، كما افاده شيخنا المرتضى «قدس‌سره».

ومنها ؛ ما افاده من ان وجود القدر المتيقن في المطلقات مانع من الاخذ باطلاقها ، لان المتكلم ان احرز كونه في مقام بيان ما هو مراده في اللب واظهر في مقام الاظهار لفظا مطلقا ولم يكن منصرفا الى شيء من الخصوصيات يحكم العرف بان مراده في اللب هو المطلق ، وإلّا لم يعلمنا ارادته الواقعية ، وهو خلاف كونه في مقام اظهار ذلك ، نعم يمكن ان يقال في بعض الموارد : ان المتيقن من كونه في مقام البيان هذا المقدار ، اعنى المقدار المتيقن في مقام التخاطب ، لكن ليس هذا في مثل المقام الذي صار بصدد اعطاء القاعدة الكلية كما لا يخفى.

ومنها ، ما افاده من ان افادة الكل استيعاب تمام افراد الشيء تابعة لوجود مقدمات الحكمة فيه ، فان الكل عند العرف يدل على استيعاب افراد ما يتلوه في القضية اللفظية ، لا افراد ما يكون مرادا في اللب ، وبعبارة اخرى : الاطلاق والعموم يردان على الشيء في عرض واحد ، لا ان العموم يرد عليه بعد احراز الاطلاق ، ولعمرى هذا واضح عند العرف والعقلاء ، وقد سمعنا ذلك مرارا من سيدنا الاستاذ طاب ثراه.

والذي يظهر لي اتحاد مفاد الاخبار ، وان المستفاد منها الاعم من الشك في وجود الشيء بعد انقضاء المحل والشك في صحته كذلك ، فهنا دعويان :

لنا للاولى ما سبق من اتحاد القضايا الواردة في هذا الباب بحسب الصورة ، والعرف يفهم منها اتحاد المفاد كما مر نظيره في النهى عن نقض اليقين بالشك.

٥٩١

وللثانية عموم الادلة او اطلاقها ، مضافا الى ان المستفاد ان ملاك عدم الاعتناء هو التجاوز عن المحل وان الفاعل حين العمل اذكر.

فان قلت : لا يمكن ان يراد من القضية كلا الشكين من وجهين : احدهما ان ارادة الشك في الصحة مبنية على ملاحظة وجود نفس الشيء ، لان هذا الشك انما يكون بعد الفراغ عن اصل وجود الشيء ، وارادة الشك في الوجود انما تتصور فيما لم يكن وجود الشيء مفروغا عنه ، والشيء الذي فرض متعلقا للشك لا يمكن ان يفرض محقق الوجود ولا يفرض كذلك ، لانه من الجمع بين اللحاظين المتنافيين ، والثاني انه ان اريد من الشك الشك في الوجود فلا بد من الالتزام بان المراد من الخروج عن الشيء في الاخبار الخروج عن محله ، وان اريد منه الشك في الصحة لا يلزم منه ذلك ، فان التجاوز حينئذ يلاحظ بالنسبة الى نفس ذلك الشيء ، فيلزم تقدير المحل وعدم تقديره في قضية واحدة.

قلت : اما الجواب عن الاول فبان الشك في وجود الشيء له تعلق به ، وكذا الشك في صحته ، فيمكن ان يلاحظ جامع هذين التعلقين معنى حرفيا ويعبر عنه بلفظ الشك في الشيء ، كما استعمل في بعض الاخبار في معنى جامع بين الظرفية وغيرها ، كما في موثقة ابن بكير «فالصلاة في وبره وشعره وجلده وروثه وألبانه «الخبر» (١) واما الجواب عن الثاني فبالالتزام بتقدير المحل ، فان من فرغ عن نفس الشيء فرغ عن محل وجوده الخارجي ، نعم المحل بالنسبة الى الشك في الوجود ليس محلا للوجود الخارجي المحقق ، لانه غير محرز بالفرض ، بل هو عبارة عن المكان الذي ينبغى ان يوجد فيه اما شرعا واما الاعم منه ومن غيره ، ولا مانع من تقدير مفهوم جامع يعم المعنيين ، هذا. بل يمكن ان يقدر المحل بالمعنى الذي يقدر في الشك في الوجود ، اعنى المحل الذي اعتبر لشيء شرعا ، فان محل الحمد مثلا شرعا قبل السورة ، سواء أتى به ام لا ، فكما انه لو شك في وجوده بعد

__________________

(١) الوسائل ، الباب ٢ من ابواب لباس المصلى ، الحديث ١.

٥٩٢

الدخول في السورة يكون من الشك فيه بعد المحل كذلك لو شك في صحته. بعد الدخول في السورة يكون من الشك فيه بعد المحل ، لان ما اعتبر مشكوكا هو الحمد مثلا ومحله قبل السورة ، سواء كان الشك في وجوده او في صحته فليتدبر ، هذا.

ولكن الانصاف عدم ظهور الاخبار في المعنى الاعم ، وان لم يكن ارادته محالة ، فالاولى حمل الاخبار على الشك في التحقق ، لتشمل الشك في وجود شيء والشك في صحته ، لانه راجع الى الشك في تحقق امر وجودي او عدمي اعتبر في الشيء شطرا او شرطا.

وقد يقال : ان الشك في الصحة راجع الى الشك في وجود الشيء الصحيح فيشمله الاخبار من هذه الجهة ، والمراد منه ليس هو عنوان الصحيح حتى يدفع بان الظاهر ان الشيء كناية عن العناوين الاولية لا ما يعرضها بملاحظة بعض الامور الخارجية مثل الصحة ، بل المراد ما يصدق عليه الصحيح بالحمل الشائع ، كالصلاة مع الطهارة والحمد عن جهر مثلا ، ويظهر الثمرة بينه وبين ما ذكرنا انه لو شك في الكيفية المعتبرة في الفعل بعد تحقق ذلك الفعل وقبل الدخول في غيره المترتب عليه فعلى ما ذكرنا لا اعتبار به لانقضاء محلها ، فان محلها نفس ذلك الفعل المأتى به ، وعلى ما ذكر هاهنا يجب الاعادة ، لعدم انقضاء محل المفيد.

وفيه ان الظاهر من الشيء الذي نسب الشك اليه في الاخبار هو المشكوك الابتدائى ، والمشكوك الابتدائى في الصلاة مع الطهارة هو الطهارة مثلا ، وان صح من جهته نسبة الشك الى الصلاة المقيدة ، لكن لا ينصرف لفظ الشك في الشيء الا الى ما شك فيه ابتداء (١).

__________________

(١) فيه انه يلزم على هذا انصراف ادلة الاصول عن الشكوك المسببة باسرها ، مع ان بنائهم على عمومها لها وللشكوك السببية ، غاية الامر حكومة الاصل الجاري في السبب على الجاري في المسبب ، فالحق في المقام ان الشك في المقيد ايضا مشمول للقاعدة ، لكن حيث انه مسبب عن الشك في القيد كان الاصل الجاري في الثاني حاكما على الاول. (م. ع. مدّ ظلّه).

٥٩٣

المقام الثاني : هل المحل الذي اعتبر التجاوز عنه في الاخبار هو خصوص المحل الذي جعل للشيء شرعا او يكون اعم من ذلك وما صار محلا للشيء بمقتضى العادة الشخصية او النوعية؟ والذي يظهر في بادئ النظر هو الاخير ، دون الاول والثاني ، اما الاول فلعدم التقييد في دليل من الادلة ، واما الثاني فلان اضافة المحل الى الشيء بقول مطلق لا تصحّ بمجرد تحقق العادة لشخص خاص ، بخلاف ما لو كانت العادة بملاحظة النوع ، مثلا يصح ان يقال : «ان محل غسل الطرف الايسر قبل تخلل فصل معتد به بينه وبين غسل الايمن» لبناء النوع في الغسل الترتيبى على الموالاة بين الغسلات ، بخلاف العادة الشخصية ، نعم يصح ان يضاف المحل في هذه الصورة الى فعل خصوص ذلك الشخص ، لكن ظاهر الاخبار اعتبار مضى محل الشيء من دون اضافة الى شخص خاص ، فتدبر جيدا.

لكن قال شيخنا المرتضى «قدس‌سره» : ان فتح هذا الباب بالنسبة الى العادة يوجب مخالفة اطلاقات كثيرة ، فمن اعتاد الصلاة في اول وقته او مع الجماعة فشك في فعلها بعد ذلك فلا يجب عليه الفعل ، وكذا من اعتاد فعل شيء بعد الفراغ عن الصلاة فرأى نفسه فيه وشك في فعل الصلاة ، وكذا من اعتاد الوضوء بعد الحدث بلا فصل يعتد به او قبل دخول الوقت للتهيؤ فشك بعد ذلك في الوضوء ، الى غير ذلك من الفروع التي يبعد التزام الفقيه بها ، نعم ذكر جماعة من الاصحاب مسألة معتاد الموالاة في غسل الجنابة اذا شك في الجزء الاخير ، انتهى ما اردنا من نقل كلامه «قدس‌سره» (١).

وانت خبير بان ما ذكره «قدس‌سره» من الامثلة كلها من قبيل العادة الشخصية الا الاخير ، وقد قال جماعة بعدم اعتبار الشك فيه مستدلا بالاخبار ، وهو موافق لما قوّينا ، نعم لازم ما ذكرنا ان من صلى صلاة الظهر او المغرب ثم

__________________

(١) فرائد الاصول ، قسم الاستصحاب ، بحث اصالة الصحة ، الموضع الثاني ، ص ٤١١.

٥٩٤

شك بعد قيامه عن المصلى أنه هل صلى صلاة العصر او العشاء ام لا مع بقاء الوقت لا يعتنى بشكه ، لتحقق العادة نوعا باتيان الصلاتين في مجلس واحد ، والالتزام به مشكل جدا ، واما ما افاده من المخالفة للاطلاقات ففيه ان الاطلاقات لا تدل الا على وجوب اتيان الفعل واما لو شك في انه هل وجد ام لا فلا تدل على عدم الايجاد كما لا تدل على الايجاد ، نعم قاعدة الاشتغال تقتضى وجوب الاتيان حتى يقطع بالامتثال ، وكذا استصحاب عدم الاتيان ، وعلى فرض تمامية ادلة الباب لا تعارض بينها وبين قاعدة الاشتغال لورودها عليها ، كما لا تعارض بينها وبين الاستصحاب ، اما من جهة حكومتها عليه واما من جهة خلوها عن المورد لو اخذ بالاستصحاب ورفع اليد عنها كما يأتى ان شاء الله.

المقام الثالث : الدخول في الغير ان كان محققا للتجاوز فلا اشكال في اعتباره ، وإلّا ففى اعتباره وعدمه وجهان منشؤهما اختلاف اخبار الباب ، ويظهر من الصحيحة ورواية ابن جابر اعتباره ، ومن بعض الاخبار الأخر عدم اعتباره ، فهل اللازم تقييد ذلك البعض بما دل على اعتباره ، كما ذهب اليه شيخنا المرتضى «قدس‌سره» ، او الاخذ بالاطلاق كما ذهب اليه بعض ، ثم على التقدير الاول هل الغير الذي اعتبر دخوله فيه يعم كل شيء ، او يكون مختصا بالاشياء الخاصة؟.

والذي يظهر لي هو عدم اعتبار الدخول في الغير مطلقا لاطلاق الموثقة «كل ما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو» وكذا ذيل موثقة ابن ابي يعفور «انما الشك اذا كنت في شيء لم تجزه».

فان قلت : لا وجه للاخذ بالاطلاق مع وجود الاخبار الدالة على القيد ، وايضا الموثقة وان كان ذيلها مطلقا ولكن ظاهر صدرها اعتبار الدخول في الغير ، فكيف يمكن الاخذ باطلاق الذيل مع ما ذكر من القيد في الصدر؟

قلت : ما ذكر فيه الدخول في الغير ليس ظاهرا في القيدية ، لامكان وروده

٥٩٥

مورد الغالب ، والقيد الذي يصح وروده مورد الغالب لا يوجب التصرف في ظاهر المطلق الذي استقر ظهوره ، نعم لو قلنا بان وجود القدر المتيقن في الخطاب مانع من الاخذ بالاطلاق ، كما ذهب اليه شيخنا الاستاذ «دام بقاه» لا يمكن التمسك بموثقة ابن ابي يعفور ، لان المتيقن من موردها هو الدخول في الغير لما ذكر في الصدر ، ولكن هذا خلاف التحقيق عندى ما لم يصل الى حد الانصراف ، وعلى فرض القول بذلك يكفينا اطلاق الموثقة السابقة.

فان قلت : ان الظاهر من رواية ابن جابر : «ان شك في الركوع بعد ما سجد ، وان شك في السجود بعد ما قام فليمض» أن ذكر الدخول في الغير ليس لمجرد كونه محققا للتجاوز غالبا ، اذ لو كان من هذه الجهة لما صح تعيين ذلك الغير في السجود والقيام ، لوجود امر آخر يتحقق به التجاوز سابقا عليهما ، كالهوى والنهوض للقيام ، فالتحديد في الرواية مضافا الى دلالته على عدم كفاية مجرد التجاوز يدل على عدم كفاية الدخول في كل امر هو غير المشكوك ، بل يعتبر كون ذلك الامر مما اعتبر في المركب بعنوانه الخاص ، فلا يكفى مثل الهوى الذي هو مقدمة للسجود ، والنهوض الذي هو مقدمة للقيام.

قلت : ان الهوى والنهوض وان كانا يتحقق بهما التجاوز لكن لا يتحقق الشك في الركوع في حال الهوى غالبا ، وكذا في السجود في حال النهوض ، لقربهما بالمشكوك ، فيمكن ان يكون ذكر السجود والقيام في الرواية من جهة كونهما اوّل حال يتحقق فيه الشك للغالب في الجزء السابق ، لا ان الحكم منوط بالدخول في مثلهما ، فتدبر جيدا.

المقام الرابع : قد خرج من الكلية المذكورة الشك في بعض افعال الوضوء قبل الفراغ عن اصل العمل كما لو شك في غسل الوجه وهو مشغول بغسل اليد اليمنى او شك في غسل اليد اليمنى وهو مشغول باليسرى وهكذا وهذا من جهة الاخبار والاجماع بل والحق بعضهم بالوضوء الغسل والتيمم وكيف كان حكم الوضوء مما لا اشكال فيه انما الاشكال في ان موثقة ابن ابي يعفور وهي قوله

٥٩٦

عليه‌السلام : «اذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فشكك ليس بشيء انما الشك اذا كنت في شيء لم تجزه» (١) تدل على ان الوضوء باق تحت القاعدة المذكورة ، بناء على عود ضمير غيره الى الوضوء ، لئلا يخالف الاجماع ، وحينئذ يستشكل بان اجراء حكم القاعدة على الوضوء ودخوله تحتها ليس منوطا بالدخول في غير الوضوء ، لتحقق بعض جزئيات تلك القاعدة قبل الدخول في غير الوضوء ايضا ، فمقتضى القاعدة المذكورة في ذيل الموثقة عدم الاعتناء ببعض الشكوك ، وان كان قيل الانتقال عن الوضوء الى غيره ، كما لو شك في غسل جزء من الوجه بعد الدخول في غسل اليد مثلا ، او شك في اصل غسل الوجه بعد الدخول في غسل اليد ، لانه شك في الشيء بعد التجاوز.

وقد تفصى شيخنا المرتضى «قدس‌سره» عما ذكر بان الوضوء بتمامه في نظر الشارع امر واحد ، بملاحظة وحدة اثره ، وهي الطهارة ، فلا يلاحظ كل فعل بحياله فعلى هذا لا يصدق التجاوز الا بالانتقال عن اصل العمل الى غيره (٢).

وناقش في ذلك شيخنا الاستاذ «دام بقاه» بان وحدة الاثر لو كانت موجبة لذلك يلزم ان يكون الشك في جزء كل عمل قبل الفراغ عن العمل شكا فيه قبل التجاوز عن ذلك الجزء ، بيان الملازمة أن ساير الاعمال يشارك الطهارات في وحدة الاثر وبساطته ، مثل ان اثر الصلاة هو الانتهاء عن الفحشاء ، فلو كانت الوحدة في الاثر توجب كون السبب فعلا واحدا في نظر الشرع فلم لا توجب في ساير الافعال ، هذا (٣).

اقول : الظاهر انه «قدس‌سره» لم يرد بان كل فعل له اثر واحد هو واحد في نظر الشارع حتى يرد عليه ما افاده «دام بقاه» بل المرادان المكلف به في الوضوء

__________________

(١) الوسائل ، الباب ٤٢ من ابواب الوضوء ، الحديث ٢. فيه : «فليس شكك بشيء».

(٢) الفرائد ، الموضع الرابع من مباحث اصالة الصحة ، ص ١٣ ـ ٤١٢.

(٣) تعليقة المحقق الخراساني «قدس‌سره» ، ص ٢٣٢.

٥٩٧

لكونه هي الطهارة في الحقيقة والافعال الخارجية محصلة لها صح ان يلاحظ الشارع تلك الافعال امرا واحدا ، من جهة وحدة ما يراد منها ، وبهذه الملاحظة ليس لها اجزاء حتى يكون الشك في السابق منها بعد الدخول في اللاحق من افراد الشك بعد التجاوز ، والدليل على هذه الملاحظة تطبيق هذه الكلية في الموثقة على الشك في جزء من اجزاء الوضوء بعد الفراغ من الوضوء.

والحاصل انه بعد الاستفادة من الاخبار ان الشك في جزء من الوضوء ان كان بعد الوضوء فلا يعتنى به لكونه من الشك في الشيء بعد التجاوز وان كان قبل الفراغ منه يعتنى به لكونه من افراد الشك في الشيء قبل التجاوز نستكشف ان افعال الوضوء كلها في نظر الشارع بمنزلة فعل واحد ، والمصحح لهذه الملاحظة مع كونها متعددة في الخارج هو وحدة المسبب ، وهي الطهارة التي هي المكلف به في الحقيقة هذا.

ثم تفصى «دام بقاه» عن اصل الاشكال بما مر سابقا في المقام الاول ، وحاصله ان المستفاد من الاخبار قاعدتان : الاولى قاعدة الشك بعد المحل ، والثانية قاعدة الشك بعد التجاوز والفراغ ، والاولى مختصة باجزاء الصلاة وما بحكمها ، والثانية اعم منها ومن ساير الابواب ، والمذكور في ذيل الموثقة هي القاعدة الثانية ، فلا اشكال ، واما شمول ذيل الموثقة للشك في صحة بعض الاجزاء بعد الفراغ عنه والانتقال الى جزء آخر كما اذا شك في غسل جزء من الوجه بعد الشروع بغسل اليد مثلا فيلزم التهافت ، اذ كما يصح اعتبار انه شك في الشيء قبل المضى ، لانه شك في شيء من الوضوء قبل الانتقال عنه الى حال اخرى فيجب الالتفات اليه ، صح اعتبار انه شك في الشيء بعد المضى عنه ، لانه شك في شيء من عسل الوجه مع التجاوز عنه فيجب عدم الالتفات اليه ، فيجاب عنه او لا بانه لا اختصاص لهذا الاشكال بالطهارات ، بل يعم ساير المركبات مما كان له اجزاء مركبة او مقيدة ، من العبادات والمعاملات ، مثل ما اذا شك في جزء من الفاتحة بعد الفراغ عنها ، وقبل الفراغ من الصلاة ،

٥٩٨

والتفصى عن الكل بان المراد من الشيء في ذيل الموثقة وغيرها هو مثل الوضوء والغسل والصلاة مما له عنوان شرعا وعرفا بالاستقلال يقينا وبلا اشكال ، كما يشهد به صحيحة زرارة في الوضوء ومثل خبر «كلّ ما مضى من صلاتك وطهورك» وغيرهما من الاخبار ، ومعه لا يمكن ان يراد من العموم والاطلاق في الموثقتين الاجزاء المركبة كي يلزم التهافت «انتهى ما اردنا من كلامه ملخصا دام بقاه» (١).

اقول : وانت خبير بان وحدة مضمون الاخبار الواردة في المقام تابى عن الحمل على القاعدتين ، فانها بين ما رتب عدم الاعتناء فيها على الشك في الشيء بعد الخروج عنه ، وما رتب عليه بعد المضى عنه ، وما رتب عليه بعد التجاوز ، ولا شك في وحدة هذه الالفاظ الثلاثة بحسب المعنى ، فحمل بعضها على الشك في الوجود بعد المحل والآخر على الشك في الصحة بعد التجاوز عن العمل مما لا يساعد عليه فهم العرف ، وحيث إن المراد في بعض الاخبار هو الشك في الوجود ـ كما في صحيحة زرارة ورواية ابن جابر ، من جهة الامثلة المذكورة فيهما ـ تعين حمل الباقي عليه ، هذا مضافا الى ان المشكوك في موثقة ابن ابي يعفور انما هو شيء من الوضوء ، لا نفسه باعتبار جزء منه او قيد ، فالشك المذكور في الكبرى لا بد وان يحمل على الشك في الجزء او القيد حتى تصير كبرى لما ذكر في الصدر ، وحينئذ فيرجع ضمير قوله عليه‌السلام : «لم تجزه» الى ذلك الشيء المفروض ولا ينطبق هذا الا على الشك في الشيء بعد المحل ، فتدبر.

نعم يمكن ان يقال ان قاعدة الشك بعد الفراغ قاعدة اخرى تستفاد من بعض الاخبار في خصوص الوضوء والصلاة مثل صحيحة زرارة في باب الوضوء (٢) ومثل ما روى محمد بن مسلم عن ابي جعفر عليه‌السلام كلّ ما

__________________

(١) تعليقة المحقق الخراساني «قدس‌سره» ص ٢ ـ ٢٣١.

(٢) الوسائل ، الباب ٤٢ من ابواب الوضوء ، الحديث ١.

٥٩٩

شككت فيه بعد ما تفرغ من صلاتك فامض (١) وامثال ذلك من الروايات (٢).

فحينئذ فكل شك ينطبق عليه القاعدتان يلغى من جهتهما ، وكل ما ينطبق عليه احداهما يلغى ايضا من جهتها ولا يعارضها مفهوم الاخرى ، لان المفهوم في كل من القاعدتين بيان عدم المقتضى لالغاء الشك وان الرجوع الى المشكوك من باب القاعدة ، مع امكان ان يقال بعدم المفهوم للدليل المفيد لقاعدة الشك بعد الفراغ في باب الصلاة ، لانه لم يجعل الموضوع فيه الشك والفراغ شرطا خارجا عنه ، كما هو شأن كل قضية شرطية سيقت لبيان المفهوم ، بل جعل الشك بعد الفراغ موضوعا للحكم ، وأداة الشرط الموجودة في بعضها انما جىء بها لبيان تحقق الموضوع ، كما لا يخفى على المتامل ، ولو سلمنا ثبوت المفهوم لكل منهما فلا يقبل المعارضة مع المنطوق ، كما لو قال الشارع اذا بلت فتوضأ مثلا ، ثم قال اذا نمت فتوضأ ، فانه لا ينبغى توهم ان منطوق احدهما معارض مع مفهوم الآخر فتدبر.

فان قلت : الشك في المركب بعد الفراغ مسبب عن الشك في الجزء او القيد ، والشك في السبب يشمله الاخبار الدالة على عدم الاعتناء بالشك بعد المحل ، وقد تحقق ان القاعدة الجارية في الشك السببى مقدمة على القاعدة الجارية في الشك المسببى ، وحينئذ لا يبقى للشك بعد الفراغ مورد الا نادرا ، كما لو شك في الجزء الاخير وقد فرغ عن العمل بواسطة الاشتغال بامر آخر مغاير له ، ولا يحسن اعطاء قاعدة كلية لاجل مورد نادر.

قلت : هذا انما يصح اذا اعتبر المشكوك في القاعدة بعد الفراغ عن مجموع العمل بلحاظ الخلل في بعض ما اعتبر فيه ، واما اذا اعتبر نفس ما اعتبر فيه من القيد او الجزء كما في قوله عليه‌السلام : «كلّ ما شككت فيه بعد ما تفرغ من

__________________

(١) الوسائل ، الباب ٢٧ من ابواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٢.

(٢) الوسائل ، الباب ٢٧ و ٢٣ من ابواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٣ و...

٦٠٠