درر الفوائد - ج ١ و ٢

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي

درر الفوائد - ج ١ و ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٥

قلنا : يكفى في الحكم بالفعلية ظهور ادلة الاحكام ، لانها ظاهرة بنفسها في الحكم الفعلى ، والحمل على الشأنى انما كان من جهة الجمع بينها وبين الادلة المثبتة للاحكام الظاهرية ، وحيث لم يكن حكم ظاهرى لا وجه لرفع اليد عن ظهورها.

وينبغي التنبيه على امور :

الأوّل : لو كان اطراف المعلوم بالاجمال مما لم يوجد الا تدريجا ، كما اذا كان زوجة الرجل مضطربة في حيضها ، بان تنسى وقتها وان حفظت عددها ، فعلم اجمالا أنها حائض في الشهر ثلاثة ايام ، مثلا ، فهل يجب على الزوج الاجتناب عنها في تمام الشهر ، ويجب على الزوجة ايضا الامساك عن قراءة العزيمة واللبث في المسجد ، مثلا ، ام لا؟

قد يقال : بعدم تنجز التكليف ، لا على الزوج ، ولا على الزوجة ، لان المعلوم عندهما خطاب مردد بين المطلق والمشروط ، لان الزوج يعلم بحرمة الوطى في هذه القطعة من الزمان او في القطعة الآتية ، ولو كانت الحرمة في القطعة الآتية فالخطاب مشروط بتحقق تلك القطعة ، فلم يعلم بتوجه الخطاب المطلق اليه ، ومقتضى الاصل البراءة ، وهكذا الكلام في الزوجة.

وفيه : انه ليس حال الزوجة كالزوج ، لانها في كل يوم تعلم بتوجه خطاب مطلق اليها ، إمّا متعلق بافعال المستحاضة ، وإمّا متعلق بتروك الحائض ، فلا وجه للعمل بالبراءة بالنسبة اليها ، وأما الزوج فالذي ينبغى ان يقال ، أن من يرى بثبوت الوجوب التعليقى وانه قسم من الواجب المطلق يجب ان يلاحظ الدليل الدال على وجوب ترك وطى الحائض في وقت حيضها ، فان استظهر منه ان هذا الوجوب مشروط بالزمان يحكم بالبراءة في كل قطعة من الزمان ، في الصورة المفروضة ، لعدم تحقق العلم بالتكليف المطلق في وقت من الاوقات ، وان استظهر أنه مطلق وأن زمان الواجب قد انفك عن زمان الوجوب يحكم

٤٦١

بوجوب الاحتياط.

وعلى هذا المبنى يمكن الفرق بين الصورة المفروضة وبين ما اذا نذر او حلف على ترك وطى امرأته في ليلة خاصة ثم اشتبهت بين ليلتين او ازيد ، بان يقال : ان في الاول خطاب الزوج مشروط بتحقق الحيض ولم يعلم بتحققه ، بخلاف الثاني ، لان الخطاب ليس له شرط اصلا ، بل الزمان ظرف لتحقق الفعل.

وأما بناء على ما قلنا في مبحث مقدمة الواجب اخذا عن سيدنا الاستاذ «طاب ثراه» من انقسام الواجب الى المطلق والمشروط ، وعدم ثالث لهما ، وأن المقدمات الوجودية للواجب المشروط بعد العلم بتحقق ما هو شرط الواجب في محله وان لم يتحقق بعد ، محكومة بالوجوب كما اشبعنا الكلام فيه ، فاللازم الحكم بالاحتياط في المثال مطلقا ، فان حكم الواجب المشروط بعد العلم بتحقق شرط الوجوب في محله وان لم يتحقق بعد ، حكم الواجب المطلق على هذا المبنى.

الثاني : يشترط في تنجز المعلوم بالاجمال ان يكون الخطاب المعلوم بحيث يصح تعلقه فعلا بالمكلف على اي حال ، بمعنى أن كل طرف فرض كونه فيه من الاطراف كان الخطاب بالنسبة اليه صحيحا ، فانه لو لم يكن على بعض التقادير صحيحا لم يعلم بتوجه الخطاب فعلا ، وهذا واضح ، ويتفرع على ما ذكر مسائل :

احداها : انه لو اضطر الى ارتكاب احد الاطراف التى علم بوجود النجاسة او الخمر فيها معينا فلو كان هذا الاضطرار سابقا على العلم لم يؤثر ذلك العلم شيئا (١) وكذا لو كان مقارنا له ، ووجهه واضح ، اما لو كان الاضطرار لا حقا

__________________

(١) ظاهر العبارة جريان البراءة فيما علم في يوم السبت مثلا بنجاسة احد الإناءين في يوم الخميس ، وقد حصل الاضطرار في يوم الجمعة ، وهذا مبنى على ان معيار الاشتغال هو العلم ـ

٤٦٢

ومسبوقا بتحقق العلم الاجمالي فلا يرفع الاثر الحاصل للعلم ، لان الذمة قد اشتغلت بامتثال التكليف الواقعي في حال العلم ، فيجب بحكم العقل تحصيل اليقين بالبراءة.

الثانية : لو اضطر الى ارتكاب البعض الغير المعين فلا يكون مانعا من تنجز الخطاب في كل من الاطراف فعلا ، لعدم الاضطرار الى ارتكاب طرف معين ، وبعبارة اخرى : شرائط الخطاب بالنسبة الى الواقع موجودة ، ولذا لو علم به تعين عليه دفع اضطراره بالطرف الآخر ، غاية الامر أنّ جهل المكلف هنا اوجب سقوط الامتثال القطعي عنه ، وهذا نظير حال الانسداد حيث إن عدم القدرة على امتثال الاحكام الواقعية على سبيل القطع او كونه حرجا عليه لا يوجب سقوط الاحكام الواقعية ، بل يوجب سقوط الامتثال القطعى عنه.

نعم من ذهب الى عدم امكان اجتماع الحكم الواقعي الفعلى والترخيص

__________________

بتوجه التكليف الجامع لشرائط العقلية في جزء من الزمان الى المكلف ، وفي المثال لا يعلم بتوجه التكليف على النحو المذكور في شيء من الزمانين السابق واللاحق ، واما بناء على كون المعيار هو العلم بالجعل الشرعي ولو لم يعلم اقترانه بالشرط العقلي ـ كما هو الحق ـ فلا محيص عن القول بالاشتغال في المثال ، كما في الشك في القدرة ، فعلى المبنى المذكور يكون المثال من افراد الاضطرار الطارئ لا السابق ، فينحصر مورد الاضطرار السابق فيما حصل الاضطرار سابقا على الملاقاة المعلومة بالاجمال.

فان قلت : يمكن القول بالبراءة مع الاضطرار الطارئ ايضا ، وذلك لان المعلوم بالاجمال محدود شرعا بالاضطرار فلا علم به من الابتداء الا الى هذه الغاية ، وبعدها يصير شكا بدويا.

قلت لا يخلو اما ان نقول بان خطاب لا تشرب الخمر مثلا ناظر الى اجزاء الزمان بالعموم الفردي ، او نقول بسريان الحكم اليها بمقدمات الحكمة ، فعلى الاول نعلم في مورد العلم الاجمالي بخمرية احد الإناءين مع حصول الاضطرار الى احدهما المعين بعد ساعة بوجود عدة خطابات بمقدار الساعة في الاناء المضطر اليه او ازيد منها في الاناء الآخر ، وعلى الثاني نعلم اما بوجود خطاب واحد مستمر الى ساعة فيه او الى ازيد منها في الآخر ، وعلى التقديرين يجب الاجتناب كما هو واضح. (م. ع. مدّ ظلّه).

٤٦٣

في حال الشك كذلك يجب عليه ان يفصّل هنا بين ان يكون الترخيص في بعض الاطراف شرعيا ، فيرتفع العلم الاجمالي بثبوت التكليف ، او عقليا ، فيبقى العلم بحاله ، كما انه لا بد له من هذا التفصيل في مسألة دليل الانسداد ، بان يقول : ان كان الحرج اللازم على تقدير الاحتياط عقليا ، كما اذا لزم من الاحتياط اختلال النظام ، فلا ينافي بقاء الاحكام الواقعية ، وان كان شرعيا ، فالترخيص الشرعي ينافي بقاء العلم الاجمالي ، فلا يكون اتيان المظنونات واجبا عقلا ، اللهم إلّا ان يدعى العلم الاجمالي في خصوص المظنونات.

الثالثة : لو كان احد الاطراف خارجا عن محل الابتلاء قبل تحقق العلم الاجمالى او خرج عنه مقارنا معه فلا يكون العلم الاجمالى منجزا ، لعدم كونه علما بالتكليف الفعلى (١) والخروج عن محل الابتلاء إمّا بان يكون غير مقدور للمكلف ، وإمّا بان يكون بحيث يرغب عنه الناس عادة ويكون دواعيهم مصروفة عنه نوعا ، والميزان استهجان العقلاء للخطاب المتعلق به ، والخروج من محل الابتلاء بعد تحقق العلم الاجمالي حاله حال الاضطرار الطارى ، وقد سبق ان الأصل فيه لزوم الاحتياط ولا اشكال في شيء مما ذكرنا.

__________________

(١) فان قلت بعد كون معيار الاشتغال ـ على ما قويته سابقا ـ هو العلم بالجعل الشرعي ولو لم يقترن بالعلم بالشرط العقلي لا محيص عن القول بالاشتغال في المقام لكونه من مصاديقه في الشك في القدرة ، وقد اختار «قدس‌سره» الاشتغال في الشبهة المفهومية في الخروج عن محل الابتلاء مستندا الى هذا الوجه ، ولا يعلم بين المقامين فرق.

قلت : يمكن اختيار البراءة في كلا المقامين ، بدعوى عدم صحة اصل الجعل الشرعي مع الخروج عن محل الابتلاء ، ولو مشروطا باتفاق دخوله في محل الابتلاء ، فكما لا يصح الخطاب الى الجماد مشروطا بصيرورته انسانا فكذلك بالنسبة الى الخارج عن محل الابتلاء لا يصح الخطاب ولو مشروطا بصيرورته داخلا ، فما ذكر من تقريب الاشتغال مبنى على جعل معيار الخروج استهجان الخطاب المطلق لا المشروط ، واما بناء على جعل المعيار استهجان الخطاب ولو مشروطا فلا علم باصل الجعل ايضا مع الخروج السابق او المقارن. (م. ع. مدّ ظلّه).

٤٦٤

انما الاشكال في حكم موارد الشك في كون الطرف خارجا عن محل الابتلاء او داخلا فيه ، لا من جهة الامور الخارجية ، بل من جهة اجمال ما هو خارج عن موارد التكليف الفعلى ، فهل يكون المقام مما يتمسك باصالة البراءة ، او الاحتياط ، او اطلاق الادلة ، بملاحظة ان التقييد بالمجمل المردد بين الاقل والاكثر يوجب الاقتصار فيه على المتيقن ، وهنا كذلك ، لان الخارج ليس عنوانا مبينا فيشك في الانطباق حتى يصير المقام من التمسك بالعام او المطلق في الشبهة المصداقية ، كما لا يخفى.

والحق عدم جواز التمسك بالدليل اللفظى في امثال المقام مما يكون الشك فيه راجعا الى حسن الخطاب وعدمه لوجهين : احدهما ان الادلة الشرعية ليست ناظرة الى هذه الجهات ، الثاني انه لا يمكن القطع بحكم ظاهري بواسطة اصالة الاطلاق او العموم ، لان المفروض الشك في ان خطاب الشرع في هذا المورد حسن ام لا ، ولا تفاوت بين الخطاب الواقعي والظاهري.

وعلى هذا فهل القاعدة تقتضى البراءة او الاحتياط؟ التحقيق الثاني ، لان البيان المصحح للعقاب عند العقل ، وهو العلم بوجود مبغوض المولى بين امور ، حاصل ، وان شك في الخطاب الفعلى من جهة الشك في حسن التكليف وعدمه ، وهذا المقدار يكفى حجة عليه ، نظير ما اذا شك في قدرته على اتيان المأمور به وعدمها بعد احراز كون ذلك الفعل موافقا لغرض المولى ومطلوبا له ذاتا ، وهل له ان لا يقدم على الفعل بمجرد الشك في الخطاب الفعلى الناشى من الشك في قدرته ، والحاصل ان العقل بعد احراز المطلوب الواقعي للمولى او مبغوضه لا يرى عذرا للعبد في ترك الامتثال هذا.

الثالث : لو تحقق العلم التفصيلي بالمقدار المعلوم بالاجمال ، ولم يكن له عنوان زائد لا يعلم انطباقه على ما علم تفصيلا (١) فلا اشكال في انحلال العلم

__________________

(١) قد يمنع الانحلال في تمام الصور ، بدعوى ان المعلوم بالاجمال واجد لا محالة لخصوصية ـ

٤٦٥

الاجمالي قهرا ، اذا كشف العلم التفصيلي عن كون الخطاب سابقا ، اما لو علم تفصيلا بشيء لا يعلم انطباق المعلوم الاجمالي عليه ، كما اذا علم اجمالا بوجود شاة متصفة بصفة كذا موطوءة فيما بين الشياة ثم علم تفصيلا بكون الشاة المعينة موطوءة ولم يعلم باتصافها بتلك الصفة ، فهل يوجب الانحلال ام يجب الاحتياط حتى يقطع باجتناب الشاة المتصفة بالوصف المعلوم؟

الاقوى الاول لانه بعد احتمال انطباق المعلوم بالاجمال على ما علم تفصيلا لم يبق له علم بتكليف آخر سوى المعلوم بالتفصيل ، نعم يشترط في الانحلال ان يعلم بكون الشاة المخصوصة موطوءة في الزمن الذي علم اجمالا بوجود شاة موطوءة بملاحظة ذلك الزمان ، اذ لو علم تفصيلا بكون شاة موطوءة واحتمل حدوث الوطى لم ينحل العلم الاجمالي السابق ، بل هو باق على اجماله.

فان قلت : ان كان الاعتبار بوجود العلم الاجمالى في زمان فاللازم الاحتياط في كلا المثالين ، لاشتراكهما في تحقق العلم الاجمالي في زمن ، وان كان الاثر دائرا مدار وجوده فيلزم عدم وجوب الاحتياط فيهما ، اذ بعد العلم التفصيلي بكون الطرف المعين محرما لا يبقى التردد والاجمال في ان الحرام هل هو هذا او الآخر ، سواء علم تفصيلا بكونه حراما من قبل ، ام لم يعلم بذلك ، بل احتمل حدوث سبب الحرمة.

قلت : الاعتبار بوجود العلم الاجمالى وبقائه بملاحظة الزمن السابق ، لا بقائه

__________________

واقعية ، والمعلوم بالتفصيل غير معلوم الانطباق على تلك الخصوصية. والجواب ان وجود الخصوصية واقعا غير صيرورتها جزء لمعلومنا ، فالمعلوم الاجمالي ليس إلّا مفهوم الاحد المبهم النجس ، نعم لو فرض وجود الخصوصية في معلومنا كما لو رأينا قطرة معينة من البول مثلا ولم نعلم وقوعها في أيّ الإناءين ثم علمنا تفصيلا بنجاسة احدهما فالاجمال بملاحظة تلك القطرة المعينة باق في النفس ، ولازمه القول بالاشتغال وان اختار في المتن البراءة ، ووجه الاشتغال ان تلك الخصوصية معرّفة لحصة خاصة من التكليف ، والاجتناب عن المعلوم التفصيلي فقط لا يعلم كونه خروجا عن عهدة تلك الحصة. (م. ع. مدّ ظلّه).

٤٦٦

بملاحظة الزمن اللاحق ، وبعبارة اخرى : يعتبر في تنجيز العلم الاجمالى في الازمنة المتأخرة ان يعلم انه في السابق كان عليه تكليف مردد بين اطراف وان لم يعلم بملاحظة الحال ، واما اذا علم الآن بان هذا المورد كان متعلقا لتكليفه في السابق وشك في الطرف الآخر من اول الامر فلا اثر للعلم الاجمالي الموجود سابقا ، كما لو شك في اصل تحقق التكليف من اول الامر بعد ما علم اجمالا بثبوته او لا بل ولو تفصيلا ، ولو كان مجرد تحقق العلم في زمن مؤثرا لوجب الحكم بوجود الاثر وان صار شكا ساريا ، وهذا مما لا يقول به ذو مسكة.

ثم ان هذا الذي ذكرنا من الانحلال فيما اذا لم يعلم بانحصار التكليف ، كما في المقدار الذي علم تفصيلا ، واما اذا علم بالانحصار فالامر فيه اوضح ، هذا حال العلم التفصيلي.

ولو قام طريق معتبر شرعى مثبت للتكليف في بعض الاطراف بحيث لو علم مؤدى ذلك الطريق لانحل العلم الاجمالي فهل يحكم بالانحلال ويجرى الاصل النافي للتكليف في الباقي ، او لا يجرى ، بل الاحتياط في باقى الاطراف ايضا؟

ومحل الكلام ما لم يعين الطريق مورد العلم الاجمالي ، كما اذا علم اجمالا بكون شاة موطوءة من انسان خاص ثم قامت البينة على ان الشاة الموطوءة من ذلك الشخص هي هذه ، فانه في هذه الصورة لا اشكال في جريان الاصل في الطرف الآخر ، وكذا لو علم بحصر المعلوم في واحد ، مثلا ، فان من لوازم صدق البينة عدم كون الباقي موطوءة وتعيين المعلوم بالاجمال فيما قام عليه البينة ، وقد حقق في محله وجوب الاخذ بلوازم الطرق وان لم تكن شرعية ، وبهذا تفارق الاصول العملية.

والحاصل ان محل الكلام فيما اذا علم بوجود حرام او واجب فيما بين امور واحتمل كون التكليف زائدا على المعلوم في نفس الامر ولم يعين الطريق المعلوم بالاجمال في مورده ، كما اذا علم بكون شاة واحدة موطوءة بين الشياة واحتمل

٤٦٧

الزيادة ثم قامت البينة على ان الشاة المخصوصة موطوءة ، وكذا لو علم بوجوب الظهر او الجمعة ثم قام الطريق المعتبر على وجوب الظهر.

ومجمل الكلام في المقام (١) انه لو كان قيام الطريق سابقا على العلم الاجمالى او مقارنا له فلا اشكال في جريان الاصول الشرعية النافية للتكليف ، فان الاصل في مورد الطريق محكوم عليه ، فيبقى الاصول الجارية في الاطراف الخالية عن الطريق سليمة عن المعارض ، ولو كان بعد تحقق العلم الاجمالي فان كان المقام من الشبهات الحكمية وكان عدم وصوله اليه من جهة عدم الفحص فلا اشكال ايضا في خلو الاصول في باقي الاطراف عن المعارض ، لان قيام الطريق يكشف عن عدم كون مورده مجرى للاصل من اول الامر فيبقى الباقي خاليا عن المزاحم ، وان لم يكن من الشبهات الحكمية او كان ولكن تفحص بقدر الوسع فلم يجد الطريق ابتداء ثم التفت الى طريق على خلاف العادة مثلا فيشكل اجراء الاصول الشرعية في باقي الاطراف ، لسقوطها ابتداء بواسطة المعارضة ، وقد عرفت ان سقوط المعارض بعد العلم الاجمالى والتساقط لا يوجب كون الطرف الموجود موردا للاصل.

والذي ينبغى ان يقال ان قيام الطريق يوجب عدم تأثير العلم الاجمالى السابق في الاحتياط عقلا ، وقد قررنا وجهه سابقا في الجواب عن الاخباريين

__________________

(١) هذا الكلام بناء على القول بالترتب في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ، وعدم الحاجة الى جعل البدل في جريان الاصل في بعض اطراف العلم الاجمالي ، ووجود المعارضة بين الاصول في اطراف العلم ، فتفصيل المتن بتمامه تام على هذه المباني الثلاثة. واما لو اخترنا القول بالترتب والحاجة الى جعل البدل فلا بد من التفصيل بين صورة كون الانحصار مأخوذا في المعلوم الاجمالي او في مؤدى الطريق او تعيين الطريق للمعلوم الاجمالي في مورده فيقال بالبراءة ، وبين غير هذه الصور فيختار الاشتغال الا مع ملاحظة تقريب الانحلال باحد الوجوه السابقة ، ولو اخترنا التجريد في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي فلا محيص عن تقريب الانحلال في جميع الصور من غير فرق بينها. (م. ع. مدّ ظلّه).

٤٦٨

المتمسكين بالعلم الاجمالي لرفع البراءة (١) فلا نطيل المقام باعادته.

الامر الرابع : سقوط الاصول في اطراف العلم انما يكون اذا كانت نافية للتكليف ، واما اذا كانت مثبتة فلو احتمل مطابقة الكل للواقع كما في صورة عدم العلم بالانحصار فلا اشكال في وجوب الاخذ بها ، لعدم المانع لا عقلا ولا شرعا ، اما اذا لم يحتمل ذلك كما اذا علم بنجاسة احد الإناءين وطهارة الآخر وكان كل منهما مسبوقا بالنجاسة فهل يحكم بجريان الاستصحاب في كليهما اولا؟ وجهان ، مبنيان على ان العلم المجعول في الاخبار غاية هل هو اعم من العلم التفصيلي والاجمالي؟ او هو مخصوص بالعلم التفصيلي؟ ان قلنا بالاول فلا يجرى الاصل ، وان قلنا بالثاني فلا مانع لجريان الاصلين كليهما ، أما بحسب الدليل الشرعي فلان المفروض ثبوت الدليل العام ووجود الموضوع لذلك الدليل ، واما بحسب حكم العقل فلان اجراء الاصل في كليهما لا يوجب المخالفة العملية ، وقد عرفت ما هو الاقوى ، ويظهر الثمرة في ملاقى احد الإناءين بالخصوص (٢) فانه على تقدير جريان الاستصحاب في الملاقى بالفتح محكوم

__________________

(١) ص ٤٣٩ ، الوجه الثالث.

فائدة

(٢) لا اشكال في جريان البراءة في ملاقي احد المشتبهين بالنجس اذا حدث الملاقاة بعد العلم الاجمالي ، واما لو حصل العلم الاجمالي بعد العلم بالملاقاة فقد يقال بلزوم الاجتناب عن الملاقي ايضا ، نظرا الى العلم الاجمالي بين الثلاثة ، ويمكن ان يقال بالبراءة في هذه الصورة ايضا ، نظرا الى محفوظية العلم الاجمالي بين الملاقى ـ بالفتح ـ والطرف وعدم زواله عن النفس لتعلقه بالنجاسة الثابتة في الرتبة الاولى ، فالمعلوم الاجمالي بين الاثنين معنون بعنوان زائد يشار اليه بالثبوت في الرتبة الاولى ، وهذا العنوان غير محرز في المعلوم الاجمالي بين الثلاثة ، لتعلقه بالاعم من الرتبة الاولى والثانية ، ومع محفوظية العلم الاجمالي الصغير واحتمال انطباقه على المعلوم الاجمالي الكبير لا ينعقد في النفس الاجمال في الدائرة الكبيرة ، بل المتحقق هو العلم الاجمالي في الدائرة الصغيرة والشك البدوي فيما زاد عنها. ـ

٤٦٩

بالنجاسة ، وعلى التقدير الآخر محكوم بالطهارة.

الامر الخامس : قد عرفت في طي المسائل ان الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي انما يجب فيها الاحتياط بشروط :

منها كون الاطراف كلها موردا للابتلاء ، بحيث لا يكون التكليف بالنسبة الى بعضها مستهجنا.

ومنها عدم الاضطرار الى بعض الاطراف اما معينا واما غير معين ، فانهما مشتركان في عدم وجوب الاحتياط كما لا يخفى.

ومنها عدم كون الاحتياط في جميع الاطراف حرجيا ، ولو كان كذلك لم يجب الاحتياط.

اذا عرفت ذلك فنقول : قد اشتهر ان الشبهة الغير المحصورة لا يجب فيها الاحتياط ، بل ادعى عليه الاجماع ، بل الضرورة ، فلا بد ان يفرض الشبهة على نحو لو فرض كونها محصورة لوجب فيها الاحتياط ، لكونها جامعة للشرائط المعتبرة في تنجزها ، اذ لو فقد بعض ما ذكر فعدم وجوب الاحتياط انما يكون من جهة عدم الشرط ، لا من جهة كونها غير محصورة ، فلنفرض الكلام فيما اذا علمنا بحرمة شيء مردد بين امور كثيرة ، ولم يكن الاجتناب عن الجميع حرجيا ، وكذا لم يكن بعضها خارجا عن محل الابتلاء ، ولم يكن المكلف مضطرا الى ارتكاب البعض ، فما قيل في وجه عدم وجوب الاحتياط فيها ، من عدم ابتلاء المكلف بالنسبة الى جميع الاطراف ، او كون الاحتياط فيها حرجيا ، وامثال ذلك اجنبى عن المقام.

__________________

ومنه يظهر الحال فيما لو حصل العلم الاجمالي بين ذات الملاقي وشيء ثم حصل العلم بالملاقاة وكذا فيما لو حصل العلم بالملاقاة اوّلا ثم حصل العلم الاجمالي ولكن كان الملاقى ـ بالفتح ـ خارجا عن محل الابتلاء ثم عاد ، فانّ ما ذكرنا جار في هاتين الصورتين ايضا ، فينقلب العلم الاجمالي بين الملاقي ـ بالكسر ـ والطرف الى العلم الاجمالي بين الملاقى ـ بالفتح ـ وذلك الطرف ويصير الملاقي ـ بالكسر ـ شبهة بدوية في جميع الصور. (م. ع. مدّ ظلّه).

٤٧٠

اذا عرفت موضع البحث ، فنقول : غاية ما يمكن ان يقال في وجه عدم وجوب الاحتياط هو ان كثرة الاطراف توجب ضعف احتمال كون الحرام مثلا في طرف خاص ، بحيث لا يعتنى به العقلاء ويجعلونه كالشك البدوي ، فيكون في كل طرف يقدم الفاعل على الارتكاب طريق عقلائى على عدم كون الحرام فيه.

وهذا التقريب احسن مما افاده شيخنا المرتضى «قدس‌سره» (١) من ان وجه عدم وجوب الاحتياط كون الضرر موهوما ، فان جواز الاقدام على الضرر الاخروى الموهوم لو سلم لا يوجب القطع بكونه غير معاقب كما لا يخفى ، هذا.

ولكن فيما ذكرنا ايضا تأمل ، فان الاطمينان بعدم الحرام في كل واحد واحد بالخصوص كيف يجتمع مع العلم بوجود الحرام بينها وعدم خروجه عنها ، وهل يمكن اجتماع العلم بالموجبة الجزئية مع الظن بالسلب الكلى (٢) فحينئذ ،

__________________

(١) الفرائد ، ذيل الوجه الخامس ، ص ٢٥٩.

(٢) فيه انه انما يحصل الظن بالسلب الكلي اذا كان هناك ظنون بعدد الآحاد وتعلق كل واحد من تلك الظنون بواحد من تلك الآحاد تعيينا ، واما اذا كانت الظنون دائرة بين الآحاد كدوران النكرة بين الآحاد وصادقا على كل واحد واحد على وجه التبادل فلا يلزم منها الظن بالسلب الكلي ، فان مرجع الظن بالعدم في واحد من الآحاد بهذا الوجه الى الظن بالاثبات فيما عداه ، وهكذا في كل واحد واحد ، ولو كان مثل هذا راجعا الى الظن بالنفي الكلي لزم ان يكون احتمال العدم في كل واحد من طرفي الشبهة المحصورة ايضا راجعا الى احتمال النفي الكلي ، وهو ايضا لا يجتمع مع العلم بالايجاب الجزئي ، لكن لازم هذا التقريب عدم جواز التعدي في مقام الارتكاب عن العدد الذي حصل فيه الاطمينان بالعدم ، بحيث لو زاد عليه ارتفع الاطمينان.

وظهر ممّا ذكرنا ان يعامل مع العلم الاجمالي معاملة العلم بالعدم لا معاملة الشك البدوي ، فلو فرض العلم الاجمالي باضافة الماء في افراد غير محصورة جاز التوضّي بواحد منها كسائر استعمالاته ، ولو كان كالشك البدوي جاز الشرب ولم يجز استعماله في رفع الحدث والخبث. (م. ع. مدّ ظلّه).

٤٧١

فان تم الاجماع في المسألة ، وإلّا فالقول بعدم وجوب الاحتياط مشكل ، لعين ما ذكر في الشبهة المحصورة من دون تفاوت.

ولا يبعد ان يكون حكمهم بعدم وجوب الاحتياط في الشبهة الغير المحصورة من جهة مقارنتها غالبا مع فقد بعض شروط التنجيز ، وعلى هذا لا خصوصية لها في الحكم المذكور.

هذا حكم الشبهة في متعلق الحكم بعد احراز أصله ، وقد ذكرنا ان الشبهة ان كانت في اصل التكليف فالقاعدة تقتضى البراءة وان كانت في متعلقه بعد احراز أصله فالقاعدة تقتضى الاحتياط.

وقد وقع الاختلاف بين اصحابنا في بعض من الشبهات ، فذهب جماعة الى كونه موردا للبراءة ، والاخرى الى كونه موردا للاشتغال ، ومبنى الخلاف انه هل هي من افراد الشبهة في اصل التكليف او في متعلقه.

[في الاقل والاكثر]

ومن تلك الموارد الشك في جزئية شيء للمامور به وان التكليف هل هو متعلق بالمركب الاقل او الاكثر.

والتكلم فيه يقع في مقامين : احدهما في اقتضاء الاصل العقلى ، والثاني في اقتضاء الاصل الشرعي ، والمركب الواجب تارة يفرض توصليا لا يشترط فيه قصد القربة ، واخرى تعبديا.

ولنقدم الكلام في الواجب التوصلى بحسب اقتضاء الاصل العقلى ، فنقول : احتج على لزوم الاحتياط بثبوت العلم الاجمالي بالتكليف المتعلق بالاقل او الاكثر ، ومقتضى اشتغال الذمة بالتكليف وجوب الفراغ منه يقينا ، وهو لا يحصل إلّا باتيان الاكثر.

لا يقال : ان الاقل معلوم الوجوب على كل حال ، لانه اما واجب نفسا واما مقدمة لحصول الاكثر ، وبعد العلم بوجوب الاقل تفصيلا ينحل العلم

٤٧٢

الاجمالي الى علم تفصيلي وشك بدوي.

لانا نقول : التكليف المعلوم تفصيلا لو كان غيريّا في الواقع لا يترتب عليه اثر عقلا ، لما حقق في محله ، والتكليف النفسي غير معلوم تفصيلا في طرف خاص ، فيبقى العلم الاجمالي بالتكليف النفسي موجبا للاحتياط.

فان قلت : نفى الاثر عن التكليف الغيري مطلقا لا وجه له ، فان المنفى بحكم العقل استحقاق العقوبة على مخالفته كالتكليف النفسى ، وأمّا كون مخالفته منشأ للعقاب على ذي المقدمة فلا ينفيه العقل ، بل هو لازم له عند العلم به ، فحينئذ يقال : ان التكليف بالاقل معلوم ، ومخالفته توجب استحقاق العبد للعقوبة ، إمّا على ترك نفسه ، وإمّا على ترك ما هو مسبب عن تركه ، ولا علم له بتكليف آخر غير هذا المعلوم.

قلت : المفروض على هذا القول عدم تنجز الاكثر ، فكيف يصير ترك الاقل المعلوم موجبا للعقوبة عليه ، والحاصل أن احتمال كون الوجوب المعلوم غيريّا هل يوجب تنجز الاكثر أو لا؟ فعلى الاول لا معنى للقول بالبراءة فيه ، وعلى الثاني لا معنى للقول بان مخالفته توجب العقوبة عليه.

فان قلت : ترك الاكثر قد يكون مستندا الى ترك الاجزاء المعلومة ، وقد يكون مستندا الى ترك الجزء المشكوك ، والمراد من ان مخالفة التكليف الغيري توجب العقوبة على ذي المقدمة انه لو ترك مستندا الى ترك الاجزاء المعلوم وجوبها لاستحق عليه العقاب ، دون ما اذا ترك مستندا الى غيرها.

قلت : لازم ما ذكرت عدم صحة العقوبة على الاكثر لو ترك مجموع الاجزاء من المعلومة وغيرها ، فان الترك حينئذ ليس مستندا الى خصوص ترك الاجزاء المعلومة ، كما هو واضح فيرجع الامر الى ان مخالفة هذا الامر المعلوم ليس له اثر على كل تقدير.

هذا غاية ما يمكن ان يقال في تقريب الاستدلال للقائل بالاشتغال.

٤٧٣

وفيه ان الضابط في انحلال العلم الاجمالي (١) ليس العلم التفصيلي بالتكليف الذي يوجب مخالفته العقوبة على كل حال ، كيف ولو كان كذلك ما صح القول بالانحلال فيما اذا قام طريق معتبر شرعي مثبت في بعض الاطراف ، فانه لا يصح العقوبة على مخالفة التكليف الطريقى على كل تقدير ، بل هو موجب لصحة العقوبة لو كان مصادفا للواقع ، انما الضّابط هو العلم التفصيلي بالتكليف الذي يجب امتثاله عقلا وان كان من جهة صحة العقوبة على بعض التقادير.

فنقول فيما نحن فيه : ان العلم بالتكليف المتعلق بالاقل لما لم يعلم كونه مقدميا او نفسيا يجب عند العقل موافقته ، لانه لو كان نفسيا لم يكن له عذر في تركه ، كما في التكاليف الطريقية ، حيث ان وجوب امتثالها عند العقل من جهة احتمال مصادفتها للواقع وان المكلف على هذا التقدير لم يكن معذورا ، فعلى هذا نقول : نعلم تفصيلا بتكليف من الشرع يجب بحكم العقل متابعته ، ونشك في تكليف آخر وراء ذلك ، لاحتمال وحدة مورد العلم الاجمالي مع التفصيلي ، والعجب ممن جزم في التكاليف الطريقية بانها موجبة للانحلال مع جزمه هنا بالاشتغال محتجا بان التكليف المعلوم ليس له اثر على كل تقدير ، وكيف كان فالاقوى في النظر البراءة ، وفاقا لسيدنا الاستاذ «طاب ثراه» لما ذكر من الوجه.

فان قلت : ان مقتضى قواعد العدلية كون الاوامر مسببة عن مصالح في المأمور به وان غرض الشارع وصول العبد اليها ، فاذا اتى بالاقل لم يعلم بحصول

__________________

(١) ولا يخفى ان ما قلنا في مسألة الملاقي من كون المعلوم واقعا في الرتبة الاولى مع عدم احراز ذلك في المعلوم التفصيلي غير متأت هنا ، من جهة ان الخصوصية هناك كانت لمتعلق التكليف وهنا لنفسه ، بمعنى ان التكليف في الرتبة الاولى ـ اعنى رتبة الوجوب النفسي ـ مردد بين الاقل والاكثر ، ولكن لا يحصل من ناحيته خصوصية في المتعلق ، وليس حال الرتبة كالزمان حتى يقال بعدم سريان العلم التفصيلي الى تلك الرتبة ، وذلك لان الرتبة غير قابلة للتنجز والعهدة بمجردها مع وحدة الزمان. (م. ع. مدّ ظلّه).

٤٧٤

الغرض اصلا ، لاحتمال حصوله باتيان الاكثر ، والعقل يحكم بوجوب اتيان المأمور به على نحو يسقط به الغرض ، بل ليس هذا الكلام مبنيا على قواعد العدلية القائلين بوجود المصلحة والمفسدة ، لوضوح ان لكل آمر غرضا في اتيان المأمور به ، وان كان جزافا ، ويلزم على العبد اتيان المأمور به على نحو يحصل به غرض المولى.

قلت : لزوم اتيان الفعل على نحو يسقط به الغرض عقلا ، تارة من جهة ان الثابت عليه بحكم العقل اسقاط الامر وهو لا يسقط إلّا باسقاط الغرض ، واخرى من جهة ان اللازم بحكم العقل تحصيل غرض المولى مستقلا من دون ملاحظة كونه سببا لسقوط الامر ، وعلى الثاني ، تارة يقال : ان اصل الواجب في باب الاطاعة ينحصر في تحصيل الغرض والامر انما يكون حجة على الغرض من دون ان يكون موضوعا لحكم العقل بوجوب الامتثال ، واخرى يقال : بان الواجب كل منهما بحكم العقل فلو انفرد الغرض عن الامر يجب تحصيله وكذا لو انفرد الامر عن الغرض كما لو كان المصلحة في نفس التكليف.

فان كان نظر القائل الى الاول نقول : لا يعقل بقاء الامر مع اتيان متعلقه ، لانه يرجع الى طلب الحاصل (١).

وان كان نظره الى اول الوجهين من الثاني فنقول : هذا خلاف ما نجده من انفسنا ، لوضوح انه لو فرضنا امر المولى جديا ولم يكن له غرض في الفعل بل انما امر جدا لغرض ومصلحة في الطلب الجدي يجب بحكم العقل اطاعته ، ويصح عند العقلاء ان يؤاخذ العبد على المخالفة (٢) ولا يسمع عذر العبد بان هذا

__________________

(١) في العبارة قصور ، والصواب ان يقال ان بقاء الامر لبقاء الغرض في مقامنا عند تعلقه بالاكثر واتيان الاقل وان كان لا يستلزم طلب الحاصل إلّا انه ليس اللازم في مقام الامتثال اسقاط الامر ، بل الحركة بمقدار الحجية بعد قبح العقاب بلا بيان وحسنه معه. (م. ع. مدّ ظلّه).

(٢) واما عدم العقاب في الاوامر الطرقية عند عدم الاصابة مع كونها جديّة مطلقا ـ كما هو الحق ـ فلاجل عدم فوت غرض بواسطة عدم الاتيان لا بالعنوان الاولى ولا بالعنوان ـ

٤٧٥

الامر لم يكن لتحصيل غرض في المأمور به.

وان كان نظره الى الوجه الاخير فنقول : لو علم بان غرض المولى لا يحصل باتيان متعلق الامر المعلوم يحكم العقل باتيان ما هو موجب لحصول غرضه (١) واما اذا لم يعلم ذلك واحتمل انطباق غرضه على ما علم وجوبه كما فيما نحن فيه فلا يحكم العقل بوجوب شيء زائد على ما علم وجوبه ، فان امتثال هذا الامر المعلوم واجب ، ولا يعلم ببقاء غرض للمولى بعد اتيان الفعل المفروض.

ويمكن ان يستدل على البراءة بوجه آخر : وهو ان يقال : ان الاقل معلوم الوجوب بالوجوب النفسى ، لان المركب باللحاظ الاول الذي يجعله الحاكم موضوعا للحكم ملحوظ بلحاظ واحد وموجود في الذهن بوجود واحد ولا جزء له بهذه الملاحظة ، انما يعتبر الجزئية بملاحظة ثانوية ، وهي ملاحظة كل جزء منه مستقلا ، فالجزء إن لوحظ مستقلا فهى مقدمة للكل ، وان لوحظ طريقا الى

__________________

الثانوي ، فالمدعى كون الامر الجدي مصححا للعقوبة في مورد وجود الداعي اليها ولو كان هو فوت الغرض في الفعل ولو بالعنوان الثانوي الناشئ من الامر كعنوان الاطاعة ، فاذا كان هذا الامر مصححا دلّ على كونه تمام الموضوع ، اذ لا يعقل دخل ما هو مترتب على عنوان الاطاعة في حصولها. (م. ع. مدّ ظلّه).

(١) في العبارة قصور ، والاولى ان يقال : الغرض الذي ليس المولى في مقام استيفائه من العبد فالعلم به غير مؤثر في الامتثال قطعا ، واما الذي صار بصدد استيفائه فتارة يجعل محصّله على عهدة العبد ، كما لو علم بانه تعلق غرضه باسهال الصفراء كذلك فلا محيص حينئذ عن الامتثال ولزوم الاحتياط عند الشك في المحصل ، لكن ليس هذا من موضوعية الغرض للامتثال ، بل لكشفه عن الطلب الباطني ، فالموضوع في الحقيقة هو ذلك الطلب ، لا الغرض الصرف ، واخرى يتكفل نفس المولى لشخص المحصل ، ويجعل على عهدة العبد الحركة على طبق امره بذلك المحصل الذي شخصه نفسه ، وحينئذ فليس على العبد الا الحركة على طبق الامر بمقدار حجيته العقلية ، فلو شك في بقاء غرضه مع ذلك فليس من جهة تقصير منه ، بل جهته قصور حجية الامر ، فلو أمره في المثال بشرب السكنجبين وعلم ان غرضه اسهال الصفراء وشك في حصوله بجرعة واحدة او جرعتين فليس عليه ازيد من جرعة واحدة. (م. ع. مدّ ظلّه).

٤٧٦

الملاحظة الاولية للحاكم على نحو الطبيعة المهملة فهو عين الكل ، اذ ليس للاجزاء بهذا الاعتبار وجود على حدة.

اذا عرفت هذا فنقول : بعد العلم بتعلق الوجوب اما بالاقل او بالاكثر نعلم بتعلقه بذات الاقل مع قطع النظر عن كونه محدودا باحد الحدين ، ونشك في تعلقه بشيء آخر ، فمقتضى الاصل البراءة.

فان قلت : ان الطبيعة المهملة من احد الحدين لا تكون موضوعة لحكم الحاكم قطعا ، ضرورة انه إمّا تعلق غرضه بالمركب الاقل او الاكثر ، فالقدر المشترك بينهما المجرد عن اعتبار الوصفين شيء انتزع عن تكليف الآمر باحد العنوانين على جهة الخصوصية ، ولا اثر لهذا الامر الانتزاعى ، وما هو واقع لا يعلم به الا اجمالا.

قلت : ليس حكم العقل بوجوب الامتثال مخصوصا بما اذا علم عنوان المكلف به مفصلا ، بل متى علم بشيء ولو كان ذلك الشيء وجها من وجوه المكلف به لزم عليه الامتثال بحكم العقل ، ولذا قلنا في مبحث العلم الاجمالي : انه باقسامه موجب للاحتياط ، ولو لم يكن العنوان الواقعي للمكلف به معلوما ، كما اذا علم بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال او بحرمة شرب التتن.

فان قلت : نعم ، لكن ليس العلم بوجوب المهملة مقتضيا لاتيانها في ضمن اى فرد كان ، ألا ترى انه لو كان الواجب عتق الرقبة المؤمنة لا يصح امتثاله بعتق الرقبة الكافرة ، وان كانت نسبة الوجوب الى عتق الرقبة بنحو الاهمال صحيحة ، من جهة وجود المهملة في المقيد ايضا ، فمقتضى العلم بتعلق الوجوب بالطبيعة المهملة امتثاله على نحو يقتضيه في الواقع ، ولا يقطع بالبراءة من مقتضى هذا المعلوم إلّا بالاتيان بالاكثر.

قلت : إن علم تعلق التكليف بالمقيد فلا يصح امتثاله في الفرد الفاقد للقيد ، لان التكليف بالمقيد تكليف واحد ، وان صح نسبته الى المهملة من جهة اتحادها مع المقيد ، فذمته مشغولة باتيان ذلك المقيد ، بخلاف ما نحن فيه ، فان

٤٧٧

ذمته لم تشتغل بازيد من هذه الطبيعة الجامعة.

فان قلت : فعلى هذا لزم عليك ان تقول في صورة العلم بوجوب احد المتباينين بعدم وجوب الاحتياط ، لانه لا يعلم إلّا بوجوب احدهما ، فلا يجب عليه إلّا اتيان احدهما ، لانه المقدار المعلوم له.

قلت : وجه الاحتياط في المتباينين أنه يعلم بوجوب عنوان خاص في نفس الامر ، وذلك العنوان خصوصية زائدة على عنوان احدهما ، لان هذا العنوان الاجمالي صادق على كل منهما ، وذلك لا ينطبق إلّا على واحد بعينه ، والمنجز عقلا هو ذلك العنوان الخاص ، لا العنوان الاعم الاجمالي ، واما في مقامنا مما يكون الامر دائرا بين الزائد والناقص او المطلق والمقيد فلا علم للمكلف بلزوم خصوصية زائدة على المقدار المعلوم ، فان مرجع كون الناقص او المطلق مطلوبا الى عدم مدخلية خصوصية زائدة على تلك الطبيعة ، لا الى مدخلية خصوصية زائدة ، وهي النقص او الاطلاق ، فتدبر في المقام.

ومما ذكرنا عرفت وجه اصالة البراءة في الشك في القيد فلا نطيل بذكره الكلام.

هذا حال الاصل العقلى في الاجزاء والقيود المشكوكة في الواجبات التوصلية.

واما الواجبات التعبدية ، فيستظهر القائل بالاحتياط بجهة اخرى سوى ما ذكره في وجه الاحتياط في التوصليات ، وهي أن الواجب فيها قصد التقرب ، ولا يحصل إلّا بقصد اتيان ما هو تكليف نفسي للمولى ، اذ في الواجبات الغيرية على ما حقق في محله ـ لا يتأتى قصد القربة ، فيجب من جهة حصول هذا المعنى المبين اتيان الاكثر وقصد التقرب باتيان ما هو واجب في الواقع.

وفيه ان قصد القربة ان جعلناه من الاغراض المترتبة على الامر بان قلنا لا يمكن ادراجه في المأمور به فمعلوم ان تنجزه تابع لتنجز الامر ، اذ لا يعقل عدم تنجز الامر الذي هو سبب لتنجز الغرض وتنجزه ، فكما أن العقل يحكم في

٤٧٨

الشبهات البدوية بعدم تنجز الغرض المترتب على الامر على المكلف كذلك هنا على القول بالبراءة ، نعم ، لو كان التكليف متعلقا بالاقل يجب على المكلف امتثاله على نحو يسقط به الغرض ، اذ الحجة قد قامت عليه ، والمفروض انه يأتى بالاقل المعلوم ، بقصد الاطاعة ، لا باغراض أخر.

فان قلت : كيف يتمشى قصد القربة فيما دار امره بين ان يكون واجبا نفسيا او مقدميا ، والمفروض عدم حصول القرب في امتثال التكليف المقدمي.

قلت : المقدار المسلم اعتباره في العبادات ان توجد على نحو يعد فاعله من المنقادين للمولى ، ومن المعلوم حصوله هنا ، كيف ولو كان المعتبر ازيد من ذلك لانسد باب الاحتياط في العبادات في موارد الشبهة في اصل التكليف ، اذ لا يعلم العبد أن ما يأتى به لغو او مطلوب للمولى ، فكيف يقصد القربة.

ومن هنا ظهر الجواب عن هذا الاشكال على تقدير القول بكون قصد القربة داخلا في المأمور به ، فانه يصير حينئذ كالاجزاء المعلومة في لزوم المراعاة باتيانها متقربا على نحو ما ذكرناه.

هذا تمام الكلام في الاصل العقلي.

واما الاصل الشرعي فنقول : ان الدليل العمدة في المقام هو حديث الحجب وحديث الرفع ، ومفادهما بالنسبة الى مورد الشك واحد ، وتقريب الاستدلال على مبنى القائل بالبراءة عقلا واضح ، فان مقتضاهما رفع الحكم المتعلق بالاكثر ، لانه مما حجب الله علمه عن العباد ، ومما لا يعلمون ، ولا يعارضه كون تعلق الحكم بالنسبة الى الاقل مشكوكا ايضا ، فان التكليف النفسي وان كان كذلك إلّا انه بعد العلم باصل الوجوب وكون هذا الحكم المعلوم لازم الامتثال بحكم العقل ـ كما هو مبنى القائل بالبراءة ـ لا يكون موردا للرفع ، لان ما هو ملاك للاثر عند العقل معلوم غير قابل للرفع ، والخصوصية المشكوكة ليس كلفة زائدة على العبد ، كما هو واضح. ومن هنا يظهر وجه الاستدلال بهما على نفى القيد المشكوك.

٤٧٩

واما على مبنى القائل بالاحتياط فيشكل التمسك بهما على المطلوب ، من جهة انه على المبنى المذكور العلم بالوجوب الاعم من النفسي والغيري ليس له اثر عقلا ، وانما المؤثر هو العلم بالتكليف النفسي امّا اجمالا او تفصيلا ، فعلى هذا كما ان تعلق التكليف بالاكثر مشكوك فيشمله الحديث كذلك تعلقه بالاقل ايضا فيتعارضان.

اللهم إلّا ان يقال بعد تعارضهما يبقى الاصل الجاري في الوجوب الغيري للجزء المشكوك فيه سليما عن المعارض ، لان الشك فيه انما يكون مسببا عن الشك في تعلق التكليف بالاكثر ، وليس في مرتبة المتعارضين حتى يسقط بالتعارض.

ولكن يمكن المناقشة فيه ايضا بان مجرد نفي الوجوب الغيري عن الجزء المشكوك لا يثبت كون الواجب هو الاقل إلّا بالاصل المثبت الذي لا تقول به.

اللهم إلّا ان يدعى ان رفع الوجوب عن جزء المركب بعد فرض وجوب الباقي يفهم منه عرفا ان الباقي واجب نفسي ، ويؤيد ذلك قول الامام عليه‌السلام في خبر عبد الاعلى : «يعرف هذا واشباهه من كتاب الله ، ما جعل عليكم في الدين من حرج ، امسح على المرارة» (١) حيث إن الامام عليه‌السلام دلّنا على ان المدلول العرفي للقضية رفع ما يكون حرجا ، وهو مباشرة اليد الماسحة للبشرة الممسوحة واثبات الباقي وهو اصل المسح ، وهنا نقول ايضا بان المجهول مرفوع والتكليف ثابت في الباقي بمدلول قضية رفع ما لا يعلمون وحديث الحجب.

ومن هنا يظهر وجه التمسك بهما لنفى القيد المشكوك ، فان التكليف بالمقيد وان كان تكليفا واحدا لكن يصح تحليله عند العقل ، ويقال ان تعلق التكليف باصل الطبيعة معلوم ، والخصوصية الزائدة غير معلومة ، فتنفى بمقتضى الخبرين

__________________

(١) الوسائل ، الباب ٣٩ من ابواب الوضوء ، الحديث ٥. وفيه : امسح عليه.

٤٨٠