درر الفوائد - ج ١ و ٢

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي

درر الفوائد - ج ١ و ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٥

وملخص الكلام في المقام انه لا شبهة في ان المقدم على اتيان جميع اطراف الشبهة التحريمية حاله عند العقل حال من اقدم على المحرم المعلوم تفصيلا (١) واي

__________________

(١) هذا الكلام بناء على مبنى القوم من فعلية الحكم الواقعي والجمع بينه وبين الظاهري بتعدد الرتبة ، واما بناء على ما قدمنا في الحاشية المتقدمة من الجمع بأخذ التجريد في موضوع الواقعي ، وكذا بناء على مذاق من يقول بتعدد المرتبة فقد يشكل الحال بانه يجوز على المبنيين ارتكاب كلا الطرفين ، وذلك لامكان اخذ التجريد عن الشبهة المقرونة في موضوع الواقعي ، كالشبهة البدوية بلا فرق ، وما قلنا في العلم التفصيلي من أن التجريد عنه ينافي وضع التكليف وعليته للمتعلق غير متأت في العلم الاجمالي ، لان المحرك في العلم الاجمالي ليس نفس التكليف كما في التفصيلي ، بل حكم العقل بدفع الضرر ، فليس التجريد عن العلم الاجمالي منافيا مع وضع التكليف ، وبعد امكانه ثبوتا فلا يبقى للعلم الاجمالي أثر في شيء من طرفيه وكذا على المبنى الآخر بعد امكان كون الواقع غير فعلي.

نعم في صورة الانسداد لا محيص عن التزام تعلق العلم بالحكم الغير المأخوذ فيه التجريد او بالحكم الفعلي ، فيترتب عليه آثاره ، من لزوم الموافقة الظنية عقلا على تقدير عسر الاحتياط ، ومن جعل البدل بايجاب الاحتياط في البقية او في خصوص المظنونات على تقدير عسره شرعا ، ويبقى الاشكال مع فرض عدم الانسداد بحاله.

ويمكن دفع الاشكال عن كلا المبنيين : اما على ما قدمناه فهو ان مقتضى ادلة الواقع كون مدلولاتها احكاما غير مأخوذ فيها التجريد ، وكذا على المبنى الآخر كونها احكاما فعلية بالغة حد التمام بواسطة العلم الاجمالي ، وانما يخرج عن مقتضاها بمجىء الحكم المخالف ، إذ به يستكشف كون الواقع على احد الوجهين جمعا بين الحكمين ، وما لم يجيء حكم مخالف فلا ضرورة الى رفع اليد عن مقتضى الادلة واسقاط العلم الاجمالي عن التاثير ، فان حديث «رفع ما لا يعلم» وأضرابه ليس المستفاد منه بازيد من عدم العقوبة على المجهول من حيث هو مجهول ، فلا ينافي مع جعل الشارع الحكم الفعلي في مورد العلم الاجمالي.

نعم لا يتمشى ذلك في الاستصحاب والدليل المرخّصين ، فإن مفادهما ترخيص شرعي فينا في فعلية الواقع على كلا المبنيين ، فيجيء الاشكال بانه مع قيام ذلك في احد الاطراف يجوز ارتكاب الطرف الآخر ايضا ، وكذا يجوز قيام المرخّص في كلا الطرفين من دون معارضة.

ويمكن الجواب بان قيام الدليل المرخص في احد الاطراف لازمه ثبوت الواقع في الطرف ـ

٣٤١

فرق بين من شرب الإناءين عالما بان احدهما خمر ، وبين من شرب اناء واحدا عالما بانه خمر ، وانكار كون الاول معصية يرده وجدان كل عاقل.

واما الاقدام على ارتكاب احد الإناءين مع عدم قصد الآخر او مع قصد عدمه ، فهو وان لم يكن في الوضوح مثل الاول ، لكن مقتضى التأمل عدم جوازه عند العقل ايضا ، لوجود الحجة على التكليف الواقعي المعلوم ، اذ لولاه لجازت المخالفة القطعية ، وبعد ثبوت الحجة اشتغلت ذمة المكلف بامتثاله ، فلا يجدى له الا القطع بالبراءة الذي لا يحصل إلّا بترك الاطراف.

ولكن حكم العقل بوجوب الموافقة القطعية ليس كحكمه بحرمة المخالفة القطعية (١) ، اذ الثاني حكم تنجيزى لا يقبل ان يرتفع ، لان المخالفة القطعية حالها حال الظلم ، بل هي من اوضح مصاديقه ، والحاصل ان الاذن في العصيان مما لا يعقل ، ولو كان معقولا لم يكن وجه لمنعه في العلم التفصيلي ، كما مر ، فلو دل ظاهر دليل على ترخيص المخالفة القطعية يجب صرفه عن ظاهره ، بخلاف

__________________

الآخر ، فيكون كما لو قام من الابتداء على ثبوته في ذاك الطرف ، وسيجيء أنه يوجب الانحلال ، واما الاستصحاب فاثبات هذا اللازم به وان كان غير ممكن لابتنائه على الاصل المثبت ، إلّا انه يمكن منع شمول دليله لمورد العلم الاجمالي ، إما لان الشك ليس في الوجود بل في تعيين الموجود ، وإمّا لان المنع في دليل الاستصحاب تعلق بنقض اليقين بالشك ، من حيث هو شك ، فلا ينافي نقضه باليقين الاجمالي المقرون معه «منه ، قدس‌سره».

(١) التحقيق أنّ اقتضاء العلم الاجمالي للموافقة أيضا يكون على وجه التنجيز ، كعدم المخالفة ، فلا يحسن للشارع الاذن في ترك موافقته ، كما لا يحسن في مخالفته ، وهل يكون الاذن في ترك موافقته إلا رفعا لليد عن الواقع المعلوم في البين على تقدير مصادفته لمورد اختيار المكلّف ، والمفروض أنه طالب له على كلّ تقدير ، وبينهما تهافت واضح. نعم لو عيّن شيئا مصداقا بدليّا لموافقة المعلوم في البين ، حتى يكون ذلك الشيء موافقة بدليّة للواقع عند مصادفته مع مختار المكلّف ، جاز الترخيص حينئذ ، لأن اللازم بحكم العقل في العلم الاجمالي إنّما هو الأعم من الموافقة الأصليّة والبدليّة. «منه ، قدس‌سره»

٣٤٢

الموافقة القطعية التي تتحقق بالاحتياط في جميع الاطراف ، فان اذن الشارع في ارتكاب محتمل الحرمة ليس اذنا في المعصية ، وحكم العقل بلزوم الاحتياط انما هو من جهة احتمال الضرر وعدم الامن من العقاب ، فاذا دل دليل على عدم وجوب الاحتياط يؤمن به من العقاب.

ومن هنا ظهر انه لو دل دليل بظاهره على جواز المخالفة القطعية فلا بد من طرحه ، لمنافاته حكم العقل ، بخلاف ما لو دل دليل على عدم وجوب الموافقة القطعية والترخيص في بعض الاطراف إما على سبيل التعيين او على سبيل التخيير ، ويأتى في مبحث البراءة التعرض للادلة اللفظية ، وانها هل يستفاد منها الترخيص في ترك الاحتياط او لا؟

الامر الثاني : هل يكتفى في مرحلة السقوط بالامتثال الاجمالي مع التمكن من الامتثال التفصيلي علما او بظن معتبر او لا؟

لا اشكال في سقوط التكليف لو كان من التوصليات ، واما لو كان من العبادات المعتبر فيها قصد القربة فاقصى ما يمكن به الاستدلال على وجوب تحصيل العلم او الظن المعتبر في مقام الامتثال وعدم الاكتفاء بالامتثال الاجمالي وجوه :

احدها الاجماع المستفاد من كلمات بعض الاعاظم ، خصوصا فيما اذا اقتضى الاحتياط التكرار.

والثاني عدم عد العقلاء من تمكن من تحصيل العلم بالواجب شخصا واكتفى باتيانه على نحو الاجمال مطيعا ، ألا ترى ان العبد اذا علم اجمالا بارادة المولى شيئا مرددا بين اشياء متعددة ويقدر على تشخيص ما اراده بالسؤال عنه فلم يسأل وجاء بعدة امور احدها مطلوب للمولى يعد عابثا لاغيا ، فكيف يوجب مثل هذا العمل القرب المعتبر في العبادات.

والثالث ان يقال : يحتمل ان يكون للآمر غرض لا يسقط إلّا باتيان الفعل مع قصد الوجه التفصيلي ، ومع هذا الاحتمال يجب الاحتياط ؛ اما تحقق هذا

٣٤٣

الاحتمال في النفس فلعدم ما يدل على نفيه ، واما وجوب الاحتياط فلان هذا القيد المحتمل ليس مما يمكن دفعه باطلاق الدليل ولا بالاصل ، وان قلنا به في مقام دوران الامر بين المطلق والمقيد ، اما الاول فلكون القيد المذكور مما هو متأخر رتبة عن الحكم ، فلا يمكن دخله في الموضوع ، فالموضوع بالنسبة الى القيد المذكور لا مطلق ولا مقيد ، والتمسك باصالة الاطلاق انما يصح فيما يمكن ان يكون معروضا للقيد ، واما الثاني فلان موضوع التكليف بناء على ذلك متعين معلوم بحدوده ، وانما الشك في مرحلة السقوط ، وليس حكمه إلّا الاشتغال.

وفي الكل نظر :

اما الاجماع فلعدم حجية المنقول منه ، مضافا الى عدم الفائدة في اتفاقهم ايضا في مثل المقام مما يكون المدرك حكم العقل يقينا او احتمالا ، اذ مع احتمال ذلك لا يستكشف رأى المعصوم عليه‌السلام.

واما الدليل الثاني فلان عدم عد العبد الآتي بعدة امور ممتثلا في بعض الاحيان انما هو فيما يكون مقصوده الاستهزاء ، وليس هذا محل الكلام ، فنفرض فيما كان عدم تحصيل العلم التفصيلي منه من جهة غرض عقلائي ، والحاصل ان الكلام في ان الاطاعة الاجمالية يمكن ان تكون عبادة ومقربة ، لا ان الاطاعة الاجمالية مقربة مطلقا ولو كان قاصدا للاستهزاء.

واما الدليل الثالث فقد اشبعنا الكلام فيه في بحث وجوب المقدمة ، وذكرنا هناك عدم الفرق بين مثل هذه القيود المتأخرة رتبة عن الحكم وساير القيود ، فلا نطيل المقام باعادته ، ومن اراد فليراجع.

[في المخالفة الالتزامية]

الامر الثالث : هل المخالفة الالتزامية كالمخالفة العملية عند العقل او لا؟

ينبغى ان نفرض موردا لا يكون فيه المخالفة العملية اصلا ـ ولو على نحو التدريج ـ ونتكلم في جواز المخالفة الالتزامية فيه نفيا واثباتا ، وهذا لا يفرض في

٣٤٤

الشبهة الحكمية ، لعدم وجود فعل يكون واجبا في الشرع في ساعة معينة او حراما كذلك ثم يرتفع حكمه بعد تلك الساعة ، فينحصر المورد في الشبهة الموضوعية ، كالمرأة المرددة بين المنذور وطيها في ساعة كذا او ترك وطيها كذلك.

ومجمل القول فيه ان المخالفة الالتزامية في المثال المفروض تتصور على قسمين : احدهما عدم الالتزام بشيء من الوجوب والحرمة فيه ، والثاني الالتزام بحكم آخر غير ما علم به واقعا.

فنقول : ان اراد القائل بوجوب الالتزام بالحكم وعدم جواز المخالفة وجوب الالتزام بالحكم الواقعي على ما هو عليه سواء كان واجبا او حراما ، فهو مما لا ينبغى انكاره ، لان لازم التدين بالشرع والانقياد به هو ان يتسلم ما علم انه حكم الشارع.

وان اراد لزوم التدين بشخص الحكم المجعول في الواقع ، فهو مما لا يقدر عليه ، لكونه مجهولا ، نعم يقدر ان يبنى على وجوب هذا الفعل سواء كان واجبا في الواقع ام حراما ، وكذلك الكلام في الحرمة.

وان اراد لزوم التدين باحد الحكمين على سبيل التخيير في الخبرين المتعارضين ، فهو امر يقدر عليه ، لكن لزومه يحتاج الى دليل ، اذ لولاه لكان البناء تشريعا محرما ، وليس في المقام دليل سوى ما يتوهم من الادلة الدالة على وجوب الأخذ باحد الخبرين المتعارضين عند عدم ترجيح احدهما على الآخر ، من ان العلة في ايجاب الاخذ باحد الخبرين كون الحكم في الواقعة مرددا بين امرين ، وهو فاسد ، لعدم القطع بالملاك ، واحتمال اختصاص الحكم بخصوص مورد تعارض الخبرين ، مضافا الى انه لو تم ذلك لوجب في دوران الامر بين الاباحة والتحريم الاخذ باحد الحكمين كما لا يخفى ، والحاصل انه لا دليل على وجوب الالتزام بشخص حكم في الواقعة المشكوك فيها ، ولا يجوز الالتزام به لكونه تشريعا.

ومن هنا يظهر عدم المانع عقلا للالتزام بحكم آخر غير الوجوب والتحريم

٣٤٥

في مورد الشك ـ كالاباحة ـ اذا اقتضى ادلة الاصول ذلك ، لان المانع المتصور هنا اما لزوم الالتزام بشخص الوجوب او الحرمة ، وهذا ينافي الالتزام بالاباحة ، واما لزوم الالتزام بالواقع المردد على ما هو عليه ، اما الاول فمفقود لما عرفت ، واما الثاني فليس بمانع ، لعدم المنافاة بين الالتزامين ، كما انه لا منافاة بين نفس الحكمين ، لما حقق من عدم المنافاة بين الاحكام الواقعية والاحكام المجعولة في موضوع الشك ، ومع عدم المنافاة بين نفس الحكمين لا يعقل ان يكون الالتزام باحدهما منافيا للالتزام بالآخر.

هذا في الواقعة الواحدة التي لم تكن لها مخالفة عملية اصلا.

واما الوقائع المتعددة كما لو دار الامر بين وجوب صلاة الجمعة دائما او حرمتها كذلك فالكلام في عدم وجوب الالتزام بشخص حكم من الشرع من الوجوب او الحرمة بل حرمته هو الكلام فيما سبق.

واما الالتزام بالحكم المخالف فمبنى على جريان دليل الاصل الدال على الاباحة ، وهو موقوف على عدم حكم العقل بقبح المخالفة تدريجا ، والحق عدم جريان دليل الاصل ، لان المخالفة التدريجيّة قبيحة عند العقل كغيرها ، اذ غاية ما يقال في عدم قبحها أن الفعل في الزمان الآتي ليس متعلقا لتكليفه الفعلي ، بل التكليف المتعلق به مشروط بوجود الزمان الآتي ، والتكليف الفعلي ليس له مخالفة عملية قطعية ، او يقال بان المخالفة العملية القطعية وان كانت قبيحة مطلقا إلّا ان الامر في المقام دائر بين الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية حتى لا يوجد مخالفة قطعية ، او الموافقة القطعية المستلزمة للمخالفة القطعية ، ولا نسلم ان العقل يعين الاول.

اما الاول فهو باطل لما حققناه في مبحث مقدمة الواجب من ان الواجب المشروط بعد العلم بتحقق شرطه في محله يكون كالمطلق عند العقل ، فراجع ، فالتكليف المتعلق بالفعل في الزمان الآتي في حكم التكليف الموجود الفعلي عند العقل ، فكما انه لو علم بوجوب احد الشيئين فعلا يجب عليه الامتثال بالاتيان

٣٤٦

بكليهما كذلك لو علم بوجوب فعل إما في هذا اليوم وإما في الغد يجب عليه الاحتياط باتيان الفعل في اليومين ، هذا اذا تمكن من الاحتياط والموافقة القطعية ، واما اذا لم يتمكن من الموافقة القطعية كما فيما نحن فيه يجب عليه ترك المخالفة القطعية.

واما الثاني فلان عدم ارتكاب المخالفة القطعية متعين عند العقل ، لما سمعته سابقا ونحققه في مبحث البراءة ان شاء الله ، من ان حكم العقل بقبح المخالفة القطعية تنجيزى لا يمكن ان يرفع بالمانع ، واما حكمه بوجوب الموافقة القطعية فليس كذلك ، فانه انما يكون على تقدير عدم ترخيص الشارع في الموافقة الاحتمالية (١).

فان قلت : الاذن في المخالفة القطعية التدريجية واقع في الشرع ، كما في التخيير بين الخبرين المتعارضين ـ ان قلنا بكونه استمراريا ـ وكتخيير المقلد بين الاخذ بفتوى كل من المجتهدين ، فانه في كل منهما قد ينجر الامر الى المخالفة القطعية التدريجيّة ، كما اذا كان احد الخبرين دالا على الوجوب والآخر على

__________________

(١) قد عرفت في الحاشية المتقدمة ان كلا الحكمين من العقل تنجيزي وغير قابل للترخيص الشرعي على الخلاف ، فالحق في الجواب ان يقال : ان قبح المخالفة القطعية لا يقبل ترخيص العقل ايضا ، بخلاف ايجاب الموافقة القطعية ، فانه قابل لترخيصه اذا دار الامر بين ارتكاب امر يكون مخالفة قطعية للمولى وأمر آخر يكون مخالفة احتمالية وطرفا للشبهة المحصورة ، فان المتعين عند العقل اختيار الثاني.

فان قلت : بين المثال وما نحن فيه فرق وهو أن المخالفة القطعية مقرونة فيما نحن فيه بحصول الموافقة القطعية ، وغير مقرونة به في المثال ، والاقتران المذكور سبب لا خفيّة قبحها.

قلت : محذور عدم الموافقة القطعية ليس من جهة حصول احتمال الموافقة ، بل من جهة وجود احتمال المخالفة ، وإلّا فنفس عدم القطع بالموافقة من حيث هو لا محذور فيه ، فيتمحض موضوع القبح عند العقل في احتمال المخالفة مع طرفه الذي هو القطع بالمخالفة «منه ، قدس‌سره».

٣٤٧

الحرمة ، وكما اذا افتى احد المجتهدين بالوجوب والآخر بالحرمة.

قلت : موافقة الحكم الظاهرى في المثالين في كل واقعة بدل للواقع على تقدير المخالفة ، ومثل هذه المخالفة التدريجيّة التى لها بدل ليس ممنوعا عقلا ، بخلاف ما اذا لم يكن لترك الواقع بدل اصلا ، كما اذا رخص الشارع في ترك الواقع في هذا الزمان والزمان الآتى ، فان هذا ترخيص في مخالفة الواقع بلا بدل.

٣٤٨

المبحث الثاني ، في الظن

والكلام فيه يقع في طى امور :

الأوّل : هل يمكن التعبد بالامارات الغير العلمية عقلا او لا؟

والنزاع في هذا الامر بين المشهور وابن قبة «قدس‌سرهم» ومورد كلامهم وان كان الخبر الواحد ، إلّا ان ادلة الطرفين تشهد بعموم محل النزاع.

اذا عرفت هذا فنقول : ان الامكان يطلق على معان : احدها الامكان الذاتي والمراد به ما لا ينافي الوجود والعدم بحسب الذات ، ويقابله الامتناع بهذا المعنى كاجتماع النقيضين والضدين ، والثاني الامكان الوقوعى ، والمراد به ما لا يلزم من فرض وجوده محذور عقلى ، ويقابله الامتناع بهذا المعنى ، والثالث الاحتمال ، كما هو احد الوجوه في قاعدة الامكان في باب الحيض.

لا اشكال في عدم كونه بالمعنى الاول موردا للنزاع ، اذ لا يتوهم احد من العقلاء ان التعبد بالظن يأبى عن الوجود بالذات ، كاجتماع النقيضين ، كما ان النزاع ليس فيه بالمعنى الثالث ، اذ الترديد والشك في تحقق شيء حاصل لبعض وغير حاصل للآخر ، وهذا ليس امرا قابلا للنزاع ، فانحصر الامر في الثاني.

ثم لا يخفى ان المراد من المحذور العقلى الذي فرض عدم لزومه في الامكان الوقوعى انما هو الموانع العقلية لا عدم المقتضي ، وان كان يلزم من فرض وجود الشيء مع عدم المقتضى محذور عقلى ايضا ، لامتناع تحقق الشيء من دون علة ، لانه لو كان المراد اعم من المقتضى وعدم المانع لكان العلم بالامكان في شيء

٣٤٩

مساوقا للعلم بوجوده كما لا يخفى.

وعلى هذا فمن يدعى العلم بالامكان بالمعنى المذكور فدعواه راجعة الى العلم بانه على فرض وجوده لا يترتب عليه محذور عقلى ، ولو شك في تحققه من جهة الشك في تحقق مقتضيه ، ولا يصح هذه الدعوى الا ممن يطلع على جميع الجهات المحسنة والمقبحة في المقام ، مثلا من يعتقد بامتناع اجتماع الحكمين الفعليين في مورد واحد لا يصح منه دعوى الامكان بالمعنى المذكور الا بعد القطع بعدم فعلية الاحكام الواقعية ، وكذا الالقاء في المفسدة قبيح بحكم العقل ، فمن يدعى امكان التعبد بالظن لا بد وان يعلم بان في العمل به مصلحة اعظم من المفسدة التى قد يتفق وقوع المكلف فيها بسبب التعبد به ، ومتى يحصل العلم لاحد من طريق العقل؟! نعم لو ثبت بالادلة التعبد بالظن نستكشف ما ذكرناه ، وهذا غير دعوى الوجدان والقطع بعدم المحذور.

فالاولى ان يقال ـ بعد رد الوجوه التي تذكر في المقام للمنع ـ : بانا لا نقطع بالاستحالة ، فلا مانع من الاخذ بالادلة التى اقيمت على حجية بعض الظنون ، كما ستطلع عليها في الامر الثالث ان شاء الله.

[في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي]

وكيف كان قد استدل المانع بوجهين :

الأوّل : انه لو جاز التعبد بالخبر الواحد في الاخبار عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لجاز التعبد به في الاخبار عن الله تعالى ، والتالى باطل اجماعا ، فالمقدم مثله ، بيان الملازمة ان حكم الامثال فيما يجوز وما لا يجوز سواء ، ولا يختلف الاخبار بواسطة اختلاف المخبر عنه وكونه هو الله سبحانه او النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واذا لم يجز التعبد به في الاخبار عن الله تعالى لم يجز في الاخبار عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والجواب منع بطلان التالى عقلا ، لجواز ايجاب الشارع التعبد باخبار

٣٥٠

سلمان وامثاله عن الله تعالى ، غاية الامر عدم الوقوع ، وليس هذا محلا للنزاع.

الثاني : ان العمل بالخبر الواحد موجب لتحليل الحرام وتحريم الحلال ، اذ لا يؤمن ان يكون ما اخبر بحليته حراما في الواقع ، وبالعكس ، توضيح الكلام انه لا إشكال في ان الاحكام الخمسة متضادة باسرها ، فلا يمكن اجتماع اثنين منها في مورد واحد ، ومن يدعى التعبد بالخبر الواحد يقول بوجوب العمل به وان اذى الى مخالفة الواقع ، وحينئذ لو فرضنا ان الامارة أدت الى وجوب صلاة الجمعة وتكون محرمة في الواقع ونفس الامر ، فقد اجتمع في موضوع واحد اعنى صلاة الجمعة حكمان ، الوجوب والحرمة ، وايضا يلزم اجتماع الحب والبغض ، والمصلحة والمفسدة ، في شيء واحد ، من دون وقوع الكسر والانكسار ، بل يلزم المحال ايضا على تقدير المطابقة للواقع ، من جهة لزوم اجتماع المثلين وكون الموضوع الواحد موردا لوجوبين مستقلين ، وايضا يلزم الالقاء في المفسدة ، فيما اذا أدت الامارة الى إباحة ما هو محرم في الواقع ، وتفويت المصلحة ، فيما اذا أدت الى جواز ترك ما هو واجب ، هذا كله على تقدير القول بان لكل واقعة حكما مجعولا في نفس الامر ، سواء كان المكلف عالما به او جاهلا ، وسواء ادى اليه الطريق او تخلف عنه ، كما هو مذهب اهل الصواب واما على التصويب فلا يرد ما ذكرنا من الاشكال إلّا انه خارج عن الصواب هذا.

والجواب عنه بوجوه :

الأوّل : ما افاده سيدنا الاستاذ «طاب ثراه» من عدم المنافاة بين الحكمين اذا كان الملحوظ في موضوع الآخر الشك في الاول ، وتوضيحه انه لا اشكال في ان الاحكام لا تتعلق ابتداء بالموضوعات الخارجية ، بل انما تتعلق بالمفاهيم المتصورة في الذهن ، لكن لا من حيث كونها موجودة في الذهن ، بل من حيث إنها حاكية عن الخارج ، فالشيء ما لم يتصور في الذهن لا يتصف بالمحبوبية والمبغوضية ، وهذا واضح ، ثم ان المفهوم المتصور تارة يكون مطلوبا على نحو الاطلاق ، واخرى على نحو التقييد ، وعلى الثاني فقد يكون لعدم المقتضى في

٣٥١

ذلك المقيد ، وقد يكون لوجود المانع ؛ مثلا قد يكون عتق الرقبة مطلوبا على سبيل الاطلاق ، وقد يكون الغرض في عتق الرقبة المؤمنة خاصة ، وقد يكون في المطلق ، إلّا ان عتق الرقبة الكافرة مناف لغرضه الآخر ، ولكونه منافيا لذلك الغرض لا بد ان يقيد العتق المطلوب بما اذا تحقق في الرقبة المؤمنة ، فتقييد المطلوب في القسم الأخير انما هو من جهة الكسر والانكسار ، لا لتضييق دائرة المقتضى ، وذلك موقوف على تصور العنوان المطلوب اوّلا مع العنوان الآخر المتحد معه في الوجود المخرج له عن المطلوبية الفعلية ، فلو فرضنا عنوانين غير مجتمعين في الذهن بحيث يكون المتعقل احدهما لا مع الآخر فلا يعقل تحقق الكسر والانكسار بين جهتيهما ، فاللازم من ذلك انه متى تصور العنوان الذي فيه جهة المطلوبية يكون مطلوبا صرفا من دون تقييد ، لعدم تعقل منافيه ، ومتى تصور العنوان الذي فيه جهة المبغوضية يكون مبغوضا كذلك ، لعدم تعقل منافيه ، كما هو المفروض.

والعنوان المتعلق للاحكام الواقعية مع العنوان المتعلق للاحكام الظاهرية مما لا يجتمعان في الوجود الذهني ابدا ، مثلا اذا تصور الآمر صلاة الجمعة فلا يمكن ان يتصور معها الا الحالات التى يمكن ان تتصف بها في هذه الرتبة ، مثل كونها في المسجد او الدار وامثال ذلك ، واما اتصافها بكون حكمها الواقعي مشكوكا فليس مما يتصور في هذه الرتبة ، لان هذا الوصف مما يعرض الموضوع بعد تحقق الحكم ، والاوصاف المتأخرة عن الحكم لا يمكن ادراجها في موضوعه ، فلو فرضنا ان صلاة الجمعة في كل حال او وصف يتصور معها في هذه الرتبة مطلوبة بلا مناف ومزاحم ، فارادة المريد تتعلق بها فعلا ، وبعد تعلق الارادة بها تتصف باوصاف أخر لم تتصف بها قبل الحكم ، مثل ان تصير معلوم الحكم تارة ومشكوك الحكم اخرى ، فلو فرضنا بعد ملاحظة اتصاف الموضوع بكونه مشكوك الحكم تحقق جهة المبغوضية فيه يصير مبغوضا بهذه الملاحظة لا محالة ، ولا يزاحمها جهة المطلوبية الملحوظة في ذاته ، لان الموضوع بتلك الملاحظة لا

٣٥٢

يكون متعقلا فعلا ، لان تلك الملاحظة ملاحظة ذات الموضوع مع قطع النظر عن الحكم ، وهذه ملاحظته مع الحكم.

فان قلت : العنوان المتأخر وان لم يكن متعقلا في مرتبة تعقل الذات ، ولكن الذات ملحوظة في مرتبة تعقل العنوان المتأخر ، فعند ملاحظة العنوان المتأخر يجتمع العنوانان في اللحاظ ، فلا يعقل المبغوضية في الرتبة الثانية مع محبوبية الذات.

قلت : تصور ما يكون موضوعا للحكم الواقعي الاولى مبنى على قطع النظر عن الحكم ، لان المفروض كون الموضوع موضوعا للحكم ، فتصوره يلزم ان يكون مجردا عن الحكم ، وتصوره بعنوان كونه مشكوك الحكم لا بد وان يكون بلحاظ الحكم.

ولا يمكن الجمع بين لحاظ التجرد عن الحكم ولحاظ ثبوته ، وبعبارة اخرى صلاة الجمعة التى كانت متصورة في مرتبة كونها موضوعة للوجوب الواقعي لم تكن مقسما لمشكوك الحكم ومعلومه ، والتي تتصور في ضمن مشكوك الحكم تكون مقسما لهما ، فتصور ما كان موضوعا للحكم الواقعي والظاهري معا يتوقف على تصور العنوان على نحو لا ينقسم الى القسمين وعلى نحو ينقسم اليهما ، وهذا مستحيل في لحاظ واحد (١) فحينئذ نقول : متى تصور الآمر صلاة

__________________

(١) يرد على ظاهر ما افاده «طاب ثراه» ان استحالة الجمع وان كانت مسلمة لكنها غير مجدية بعد عدم دخالة هذه الكيفية اعني عدم الانقسام في الحكم ، إلّا ان يكون مراده «قدس‌سره» انه بعد وجود الحكم المخالف في مورده يستكشف هذه الدخالة جمعا ، فيتحد مع ما اشرنا اليه في بعض الحواشي المتقدمة ، من دخالة وصف التجريد عن الحكم المخالف في موضوع الواقعي ، فراجع.

فان قلت : فيلزم ان لا يكون من قامت عنده الامارة على خلاف الواقع محكوما ، لا واقعا ولا ظاهرا ، الا بمؤدّى الامارة. وهذا تصويب باطل عند اهل الصواب ، وايضا كيف يحسن الاحتياط عند قيام الامارة المخالفة للاحتياط؟ اذ المفروض عدم حكم آخر بحسن الاحتياط لاجله. ـ

٣٥٣

الجمعة بملاحظة ذاتها تكون مطلوبة ، ومتى تصورها بملاحظة كونها مشكوك الحكم تكون متعلقة لحكم آخر فافهم وتدبر فانه لا يخلو من دقة.

الوجه الثاني : ما افاده «طاب ثراه» ايضا ، وهو ان الاوامر الظاهرية ليست باوامر حقيقية ، بل هي ارشاد الى ما هو اقرب الى الواقعيات ، وتوضيح ذلك ـ على نحو يصح في صورة انفتاح باب العلم ولا يستلزم تفويت الواقع من دون جهة ـ ان نقول : ان انسداد باب العلم كما انه قد يكون عقليا كذلك قد يكون شرعيا ، بمعنى انه وان امكن للمكلف تحصيل الواقعيات على وجه التفصيل ، لكن يرى الشارع العالم بالواقعيات ان في التزامه بتحصيل اليقين مفسدة ، فيجب بمقتضى الحكمة دفع هذا الالتزام عنه ، ثم بعد دفعه عنه لو احاله الى نفسه يعمل بكل ظن فعلى من اى سبب حصل ، فلو رأى الشارع بعد ان صار مآل امر المكلف الى العمل بالظن أن سلوك بعض الطرق اقرب الى الواقع من بعض آخر فلا محذور في ارشاده اليه ، فحينئذ نقول : اما اجتماع الضدين فغير

__________________

قلت : ليس قيام الامارة المخالفة كطروّ عنوان الموطوئية على الغنم مغيّرا لمصلحة الواقع حتى يتوجّه الاشكالان ، بل حصل اسباب خارجية لجعل الامر باتباعها مع بقاء مصلحة الواقع بحالها ، من وجود المانع في امر الشارع بتحصيل العلم بالحكم الواقعي ليكون محركا بلا واسطة للعبد ، وكذا في أمره بالاحتياط للزوم العسر ، ومن وقوع المكلّف في خلاف الواقع كثيرا بالرجوع الى ظنون نفسه ، ومن عدم الجدوى في ارشاد الشارع طريقا يكون غالب المطابقة بنظره ، بعد قيام ظنون المكلف بخلاف ذلك الطريق ، فينحصر الأمر حينئذ في جعل الأمر المولوي باتباع ذلك الطريق ، فهذا الامر حيث انه يكون بعنوان سلوك الطريق ، لا لمصلحة في المؤدى من حيث هو ، ولهذا لا يترتب على مخالفته العقوبة الا في صورة الاصابة ، لا يستلزم التصويب وعدم حسن الاحتياط ، وحيث ان الطريقية تكون بنظر الشارع لا بنظر العبد يكون العقوبة في صورة الاصابة مترتبة على مخالفة نفسه ، دون الامر الواقعي الموجود معه ، اذ لا منافاة بينهما مع الاصابة ، لعينيتهما لبّا ، وان اختلفا انشاء ، ويكون الحجة فيما بين المولى والعبد هو الثاني.

وقد تبين مما ذكرنا عدم تمامية الوجه الثاني الذي نقلناه عن سيدنا الاستاذ «طاب ثراه» لعدم كفاية الارشاد وانحصار الطريق في الامر المولوي «منه ، قدس‌سره».

٣٥٤

لازم ، لانه مبنى على كون الاوامر الطرقية حكما مولويا ، واما الالقاء في المفسدة وتفويت المصلحة فليس بمحذور بعد ما دار امر المكلف بينه وبين الوقوع في مفسدة اعظم.

الوجه الثالث : ان يقال : ان بطلان ذلك مبنى على عدم جواز اجتماع الامر والنهى ، لان المورد من مصاديق ذلك العنوان ، فان الامر تعلق بعنوان العمل بقول العادل مثلا ، والنهى تعلق بعنوان آخر مثل شرب الخمر ، وحيث جوزنا الاجتماع وبيناه في محله فلا اشكال هنا ايضا.

لا يقال : جواز اجتماع الامر والنهى على تقديره انما يكون فيما تكون هناك مندوحة للمكلف ، كالامر بالصلاة والنهى عن الغصب ، لا فيما ليس له مندوحة ، وما نحن فيه من قبيل الثاني ، لان العمل بمضمون خبر العادل مثلا يجب عليه معينا حتى في مورد يكون مؤدى الخبر وجوب شيء مع كونه حراما في الواقع ، بخلاف الصلاة ، لعدم وجوب تمام افرادها معينا ، بل الواجب صرف الوجود الذي يصدق على الفرد المحرم وعلى غيره.

لانا نقول : اعتبار المندوحة في تلك المسألة انما كان من جهة عدم لزوم التكليف بما لا يطاق ، وفيما نحن فيه لا يلزم التكليف بما لا يطاق ، من جهة عدم تنجز الواقع ، فلم يبق في البين إلّا قضية اجتماع الضدين والمثلين ، وهو مدفوع بكفاية تعدد الجهة.

وفيه ان جعل الخبر طريقا الى الواقع معناه ان يكون الملحوظ في عمل المكلف نفس العناوين الاولية ، مثلا لو قام الخبر على وجوب صلاة الجمعة في الواقع ، فمعنى العمل على طبقه ان يأتى بها على انها واجبة واقعا ، فيرجع ايجاب العمل به الى ايجاب الصلاة على انها واجبة واقعا ، فلو فرضنا كونها محرمة في الواقع يلزم كون الشيء الواحد من جهة واحدة محرما وواجبا ، فليس من جزئيات مسألة اجتماع الامر والنهى التى قلنا بكفاية تعدد الجهة فيها فافهم.

٣٥٥

[في تأسيس الاصل]

الامر الثاني : في تأسيس الاصل المعول عليه في المقام.

اعلم ان الحجية عبارة عن كون الشيء بحيث يصح به المؤاخذة والاحتجاج ، ولا ملازمة بين هذا المعنى وجواز التعبد ، اذ من الممكن تحقق هذا المعنى وعدم جواز التعبد به ، كالظن في حال الانسداد بناء على الحكومة ، وهذا المعنى ان ثبت بالدليل فلا اشكال فيه ، وان شك فيه فهل لواقعه اثر على تقدير ثبوته او لا؟ بل يكون ما شك في حجيّته مع ما علم بعدم حجيّته سواء ، وان كانت حجة في الواقع.

والحق فيه التفصيل ، وبيان ذلك ان للحجة اثرين : احدهما اثبات الواقع وتنجيزه على تقدير الثبوت ، والثاني اسقاطه كذلك ، الاول ما يكون قائما على حكم الزامى من الوجوب او الحرمة وكان مطابقا للواقع ، فانه يصحح العقوبة على ذلك الحكم الواقعي ، والثاني ما يكون قائما على رفع الالزام في مورد لولاه لكان مقتضى العقل الاحتياط كاطراف العلم الاجمالي.

اما القسم الثاني فلا ينفع الواقع المشكوك فيه قطعا مطلقا ضرورة ان من علم اجمالا بوجوب الظهر او الجمعة عليه فلم يأت بالظهر مثلا وكان هو الواجب واقعا يصح ان يعاقب عليه وان كان بحسب الواقع دليل على عدم وجوبه بحيث لو اطلع عليه لكان حجّة له على المولى.

واما القسم الاول فتارة يفرض بعد الفحص وعدم الظفر ، واخرى قبل ذلك ، اما في الاول فالوجود الواقعي للدليل ليس له اثر في حقه قطعا اذ ليس الوجود الواقعى للحكم الطريقي اقوى من الوجود الواقعى للحكم الاولى ، فبعد الفحص وعدم الظفر بالحكم ولا بدليله يحكم العقل بالبراءة قطعا.

واما في الثاني فهو على قسمين : تارة يكون بحيث لو تفحص عن الدليل لظفر به ، واخرى لا يكون كذلك ، فان قلنا بان الشك قبل الفحص بنفسه يصحح

٣٥٦

العقوبة على الواقع على تقدير الثبوت في كلا القسمين فوجود الدليل بحسب الواقع ايضا لا اثر له ، لان المنجز فيما يكون الدليل موجودا في الواقع ايضا نفس الشك ، وان قلنا بان المصحح للمؤاخذة ليس نفس الشك ، بل وجود الدليل إن كان بحيث لو تفحص عنه لظفر به هو المصحح (١)

__________________

(١) وهذا هو الحق ، لان منجزية نفس الشك مبنية إما على ان الشك في التكليف ملازم على المشهور بين العدلية مع احتمال المفسدة ، وهو لا يقصر عن احتمال الضرر الدنيوي الذي يحكم العقل بوجوب دفعه ، وإما على أن المولى لا شبهة في انه يحتاط في محتملات مقصده ، إلّا ان يزاحم الاحتياط جهة اخرى كالعسر ونحوه ، فقد يرجح جانب المزاحم ، لكن كلامنا في صورة الخلوّ عن ذلك ، ولا شك أن وظيفة العبدان يعامل مع اغراض المولى كانه من جوارح نفس المولى.

وكلا هذين الوجهين يأتي في محله بطلانهما ، فلا يبقى الا ما قلنا من منجزية الدليل الواقعي لو كان معرضا لعثور المكلف.

فان قلت : يكفي في تنجيز العقاب حكم العقل بوجوب الاحتياط او الفحص.

قلت : حكمه بذلك مبنى على حكمه بصحة العقاب في صورة واحدة ، مع جزمه بالعدم في غيرها فلا جرم عند اشتباه الحل يحكم بالاحتياط او الفحص ، ولا يمكن ان يكون مثل هذا مصححا للعقاب على كل تقدير ، هذا كله في مرحلة اثبات العقاب.

واما الكلام في مقام الاسقاط فقد عرفت ان قيام الطريق المرخص في اطراف العلم موجب للانحلال ، بملاحظة كشفه بالملازمة عن جعل الطرف الآخر بدلا ، والانحلال انما يحصل بعد تفصيلية ذلك عند العالم الاجمالي.

«فائدة»

هل البناء القلبي على احد طرفي المشكوك بمجرده بدون ترتب عصيان او تجرّ خارجي عليه ، كما لو بنى على حلية مشكوك الحرمة بعد الفحص وأتى او قبل الفحص ولم يأت ، محرم شرعا ، ويسمى بالحرمة التشريعية او لا؟ الظاهر الثاني ، لعدم ما يدل على الحرمة عدا امور غير ناهضة : ـ

٣٥٧

فالشاك مردّد أمره بين أن يكون له دليل يصل اليه بعد الفحص فيصح عقوبته ، او لا يكون فيقبح عقابه ، ولما لم يكن جازما بقبح العقاب يجب عليه عقلا الاحتياط او الفحص ، فالوجود الواقعي للدليل لو كان بحيث لو تفحص عنه لظفر به يثمر في حقه ، لانه به يؤاخذ ويعاقب على المخالفة.

__________________

منها قوله تعالى : (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) بناء على استفادة الاستناد من الصدر ، فمقابله ما وقع لا عن استناد الى الإذن سواء جامع الاذن واقعا ام لا ، وقد عبر في الآية عن كلا فرديه بالافتراء ، فلا يتم إلّا بان يقال بانه في صورة الشك في حكم الافتراء شرعا.

وفيه ان سوق الآية ظاهر في ان مقابل الصدر مصداق للافتراء بشهادة وجدانهم لا بتعبد من الشارع ، وهذا قرينة على ان صورة الشك خارجة عن محل تعرض الآية.

ومنها قوله عليه‌السلام ـ في بعض الاخبار في عداد من في النار من القضاة ـ : «ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم» *.

وفيه ان غاية ما يستفاد منه اشتراط علم القاضي بموازين القضاء ليكون قضائه بمقتضى تلك الموازين او بمقتضى علم نفسه ، لا كما هو المرسوم بين بعض الناس من القضاء بمقتضى الاستحسانات ، واين هذا من حرمة اسناد ما لا يعلم الى الله تعالى؟

ومنها الادلة الناهية عن القول بغير العلم.

وفيه ان غاية ما تدل عليه حرمة الفتوى بغير العلم ، والكلام في البناء القلبى المجرد.

ومنها بعض الاخبار المتضمنة لترتب الهلاكة على الديانة بما لا يعلم.

وفيه انه لا اشكال في قبح التدين بما لا يعلم عقلا لانه تعرض من العبد فيما هو شأن المولى من تشريع الاحكام ، وفيه من الهتك ما لا يخفى ، ومثل هذا القبيح الراجع الى ساحة المولى لا يدل ترتب الهلاك عليه على وجود النهي المولوي ، لان عقاب المولى من حيث إنه مولى صحيح قبل وجود النهي ، والغرض من جعل النهي ايجاد المصحح للعقاب المولوي ، فجعله في المقام بهذا الغرض تحصيل للحاصل «منه ، قدس‌سره».

* سورة يونس ، الآية ٥٩.

* الوسائل ، الباب ٤ من ابواب صفات القاضي ، الحديث ٦.

٣٥٨

فتحصل مما ذكرنا ان الطريق المشكوك بعد الفحص ليس بحجة قطعا ، لا اثباتا ولا اسقاطا ، وقبل الفحص ليس بحجة ، اسقاطا مطلقا ، واثباتا ان قلنا بان الحجة نفس الشك قبل الفحص ، وان لم نقل بذلك ، بل قلنا بان الحجة هو الدليل الذي لو تفحص لظفر به فما لم يكن الدليل الواقعي كذلك فهو غير حجة ايضا ، واما فيما كان الدليل الواقعي بحيث لو تفحص لظفر به فوجوده الواقعي حجة على المكلف وان كان مشكوكا فيه فعلا فليتدبر.

[في حجية الظاهر]

الامر الثالث : في التكلم في الامارات التى ثبت حجيتها بالدليل ، او قيل انها كذلك.

فمنها : ما يعمل في تشخيص مراد المتكلم بعد الفراغ عن المدلول العرفي للفظ.

اعلم ان الارادة على قسمين : احدهما ارادة الشيء في اللب ونفس الامر ، والثاني ارادة المعنى من اللفظ في مقام الاستعمال ، وهما قد تتفقان ، كما اذا قال المتكلم : اكرم العلماء ، واراد من اللفظ انشاء وجوب اكرام كل منهم ، وكان في الواقع ايضا مريدا له ، وقد تختلفان ، كما انه في المثال لم يرد اكرام واحد منهم بالخصوص ، فحكمه في مقام الارادة الاستعمالية على ذلك الفرد حكم صورى ، ولم يظهر الواقع لمصلحة في اخفائه ، والمقصود الاصلى في هذا المقام تشخيص الارادة الاستعمالية وما اراد من اللفظ في مقام الاستعمال ، وبعد هذا التشخيص تطبيق هذه الارادة على الارادة الواقعية عند الشك باصل آخر غير ما يتكلم فيه في المقام.

اذا عرفت هذا فنقول : اذا علمنا بان المتكلم يكون فى مقام تفهيم المراد ونعلم انه لم ينصب قرينة مع الالتفات تصرف اللفظ عن ظاهره نقطع بان مراده هو ما يستفاد من ظاهر اللفظ ، اذ لو لا ذلك لزم الالتزام بانه تصدى

٣٥٩

لنقض غرضه عمدا ، وهذا مستحيل ، ولا يختص ذلك بمورد يكون المتكلم حكيما ، بل العاقل لا يعمل عملا يكون فيه نقض غرضه ، سواء كان حكيما ام لا ، وهذا واضح ،

فمتى شككنا في ان المتكلم اراد من اللفظ معناه الظاهر او غيره ، فإما ان يكون الشك من جهة الشك في كونه في مقام التفهيم ، واما من جهة الشك في وجود القرينة ، واما من جهة كليهما.

فان كان منشؤه الشك في كونه في مقام تفهيم المراد ، فلا اشكال في ان الاصل المعول عليه عند تمام العقلاء كونه في مقام تفهيم مراده ، وهذا اصل لا شبهة لاحد منهم فيه ، ولا ينافي ما ذكرنا ما سبق في باب الاطلاق من ان كون المتكلم في مقام البيان لا بد وان يحرز من الخارج ، وبدونه يعامل مع اللفظ معاملة الاهمال ، لان الاطلاق امر زائد على مدلول اللفظ ، وما ذكرنا هنا من الاصل المتفق عليه انما هو بالنسبة الى مدلول اللفظ فلا تغفل.

وان كان منشؤه الشك في نصب القرينة فهل لنا اصل يعتمد عليه او لا؟ وعلى الاول فهل الاصل المعول عليه هو اصالة عدم القرينة او اصالة الحقيقة؟ والثمرة بينهما تظهر فيما لو اقترن بالكلام ما يصلح لكونه قرينة ، فعلى الاول يوجب اجمال اللفظ لعدم جريان اصالة عدم القرينة مع وجوده ، وعلى الثاني يؤخذ بمقتضى المعنى المستفاد من الوضع حتى يعلم خلافه.

ومبنى الاشكال في المقام هو انه هل الطريق الى ارادة المتكلم عند العقلاء صدور ذات اللفظ الموضوع؟ او هو مع قيد خلوه عن القرينة الصارفة؟ فعلى الاول وجود القرينة من قبيل المعارض ، وعلى الثاني لعدمها دخل في انعقاد الطريق على ارادة المعنى الظاهر ، كما انه لوجودها دخل في انعقاد الطريق على ارادة المعنى الغير الظاهر.

اذا حفظت ذلك فاعلم ان اعتبار الظهور الثابت للكلام ، وان شك في احتفافه بالقرينة مما لا اشكال فيه في الجملة ، كما يأتى الاشارة اليه ، واما كون

٣٦٠