درر الفوائد - ج ١ و ٢

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي

درر الفوائد - ج ١ و ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٥

ان هذا الشك ليس شكا عندى وما جعلت له حكم الشك ، والانصاف انه لم يدل دليل الحجية الاعلى جعل مدلول الخبر واقعا وايجاب معاملة الواقع معه (١) ، واما ان حكم الشك لا يترتب على الشك الموجود فليس بمدلول لدليل الحجية ، نعم لازم حجية الخبر المنافي للاستصحاب او ساير الاصول عدم ترتب حكم الشك عليه ، كما ان لازم ترتب حكم الشك عدم حجية الامارة الدالة على الخلاف ، وهذا معنى التعارض.

والاقوى وفاقا لسيدنا الاستاذ «طاب ثراه» ورود الادلة والامارات على الاستصحاب وساير الاصول التعبدية :

وتوضيح ذلك : انك عرفت في مبحث حجية القطع ان العلم اذا اخذ في الموضوع ، فتارة يعتبر على نحو الطريقية ، واخرى على نحو الصفتية ، والمراد من اعتباره على نحو الطريقية ان المعتبر هو الجامع بينه وبين الطرق المعتبرة ، كما ان المراد من اعتباره على نحو الصفتية ملاحظة خصوصيته المختصة به دون ساير الطرق ، وهو الكشف التام المانع عن النقيض ونقول هنا : ان الشك في مقابل

__________________

(١) هذا بحسب مقام الاثبات ، واما بحسب مقام الثبوت فيرد عليه اشكال الجمع بين اللحاظين في دليل الحجية ، اما لحاظ تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، وإمّا تنزيل الشك منزلة العدم.

ويمكن الجواب اما عن الثاني. فبرفع الاستحالة مع طولية احد اللحاظين للآخر ، بان سيق اللفظ الدال على احد المعنيين بالمطابقة لافادة السامع المعنى الآخر بالالتزام ، فمعنى قول الشارع خذ بقول الثقة وان كان ترتيب آثار الواقع مطابقة لكن يدل بالالتزام العرفي على عدم الاعتناء بالشك الموجود معه ، بمعنى عدم ترتيب آثار الشك عليه.

واما عن الاول فبأنه لا يبعد دعوى ان المخبر الحقيقي يكون بحسب الغالب بصدد رفع جهل المخاطب وتبديله بالعلم حقيقة ، وهذا المقصود مدلول التزامي للفظه عرفا ، وحيث ان دليل الحجية يكون بلسان الاخبار عن الواقع تعبدا فيجيء فيه ايضا هذا المدلول الالتزامي بنحو التعبد ، وسيشير المصنف الى ذلك بعيد هذا. (م. ع. مدّ ظلّه).

٦٢١

العلم ، اعنى كما ان العلم المأخوذ في الموضوع تارة يلاحظ على وجه الطريقية ، واخرى على وجه الصفتية ، كذلك الشك قد يلاحظ بمعنى انه عدم الطريق ، وقد يلاحظ بمعنى صفة التردد القائمة بالنفس ، اذ الشك بمعنى عدم العلم ، فان لوحظ العلم طريقا فمعنى الشك الذي في قباله هو عدم الطريق ، وان لوحظ صفة فكذلك.

اذا عرفت هذا فنقول : ان ظاهر الادلة الدالة على الاستصحاب وساير الاصول ان العلم المأخوذ فيها اخذ طريقا ، وعلى هذا مفاد قولهم عليهم‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك» انه في صورة عدم الطريق الى الواقع يجب ابقاء ما كان ثابتا بالطريق ، وهكذا كل ما دل على ثبوت الحكم على الشك فمفاده دوران الحكم المذكور مدار عدم الطريق ، فاذا ورد دليل علم حجيته او امارة كذلك يرتفع موضوع الحكم الذي كان معلقا على عدم الطريق.

والذي يدل على ذلك ـ مضافا الى انه لا يبعد دعوى ظهور العلم المأخوذ في الموضوع في كونه على نحو الطريقية عند العرف ـ ان الاصول العملية والطرق المعتبرة تشتركان في كونهما احكاما ظاهرية للشاك في الواقع ، اذ لا يعقل جعل الطريق الى الواقع للقاطع به ، سواء كان قطعه موافقا لمؤدى الطريق ام مخالفا ، فالاحكام الظاهرية سواء كانت من سنخ الطرق ام من سنخ الاصول مجعولة ما دام المكلف شاكا ، وحينئذ نقول : ان تعليق الشارع الحكم على الشك وجعله ما دام كونه باقيا فيما يسمى بالاصول العملية وعدمه كذلك فيما يسمى بالطرق مع كونها ايضا احكاما متعلقة بالشك ودائمة بدوامه دليل على ان الشك المذكور في الاصول العملية غير الشك اللازم عقلا في الاحكام الظاهرية ، ومغايرتهما بان يراد من الشك المأخوذ في الاصول عدم الطريق ، ويكون الشك اللازم في الطرق الشرعية عقلا ولم يذكر في الدليل هو صفة التردد ، فليتأمل.

فان قلت : هب ذلك لكن ورود الطريق على الاصول موقوف على شمول دليل الحجية لمواردها ، واى ترجيح لشمول دليل الحجية على شمول ادلة

٦٢٢

الاصول ، مع كون المورد قابلا لهما في اول الامر.

قلت : شمول ادلة الطريق لا مانع منه اصلا ، لوجود موضوعها مطلقا وعدم شيء يدل على التخصيص ، بخلاف شمول ادلة الاصول ، فان موضوعها يبتنى على عدم شمول دليل حجية الطرق ، ولا وجه له بعد وجود الموضوع مطلقا وعدم ما يدل على التخصيص ، وبعبارة اخرى : الامر دائر بين التخصيص والتخصص ، والاول خلاف الاصل دون الثاني.

والعجب (١) من شيخنا المرتضى «قدس‌سره» حيث انه بعد ما نقل كون العمل بالادلة في مقابل الاستصحاب من التخصص بناء على ان المراد من الشك عدم الدليل والطريق والتحير في العمل ، استشكل بانه لا يرفع التحير في خصوص مورد الاستصحاب الا بعد اثبات كون مؤداه حاكما على مؤدى الاستصحاب ، وإلّا امكن ان يقال : ان مؤدى الاستصحاب وجوب العمل على الحالة السابقة مع عدم اليقين بارتفاعها ، سواء كانت هناك الأمارة الفلانية ام لا ، ومؤدى دليل تلك الأمارة وجوب العمل بمؤداها خالف الحالة السابقة ام لا ، ولا يندفع هذه المغالطة إلّا بما ذكرنا من طريق الحكومة «انتهى» (٢).

__________________

(١) والانصاف ان ما ذكره «رحمه‌الله» حق لا محيص عنه اذ المعتبر في كل من الأمارة والاصل اما الشك الصفتي واما عدم الطريق ، فعلى الاول لا محيص عن الحكومة ، كما هو واضح ، وعلى الثاني وان كان لو قدم كل من الامرين يلزم الورود بالنسبة الى الآخر ، إلّا أنه مع ذلك يتعين تقديم الامارة بواسطة لسان الحكومة ، وهذه حكومة نتيجتها الورود ، واما احتمال كون الموضوع في الأمارة هو الشك الصفتي وفي الاصل عدم الطريق ـ كما هو مبنى اشكال المتن ـ ففي غاية الضعف ، اذ كما لا يحتاج واجد الطريق الى الواقع الى جعل دستور ظاهري لاجل الواقع بلسان الاصل كذلك لا يحتاج الى ذلك بلسان الامارة ، من غير فرق بينهما ، ويظهر الثمرة بين الوجهين الاولين انه على الاول لا مورد للاصل مع وجود الامارة واقعا لو لم يطلع عليه المكلف بعد الفحص ، فيكون حال الامارة اعلى من الواقع الاولي. وعلى الثاني يكون له مورد في الصورة المفروضة. (م. ع. مدّ ظلّه).

(٢) الفرائد ، الامر الثالث من الخاتمة ، ص ٨ ـ ٤٠٧.

٦٢٣

وانت خبير بانه بعد ما فرض ان المراد من الشك المأخوذ في الاستصحاب هو عدم الدليل والتحير لا يمكن ان يقال : ان مؤداه وجوب العمل على الحالة السابقة مع عدم اليقين بارتفاعها ، سواء كانت الامارة الفلانية ام لا ، اذ مع الامارة الفلانية المفروض كونها حجة لا يبقى للاستصحاب موضوع على الفرض المذكور ، مع ان هذا الكلام يجرى على تقدير القول بالحكومة ايضا ، بان يقال : ان مؤدى الاستصحاب وجوب العمل على طبق الحالة السابقة ، سواء كانت الامارة الفلانية ام لا ، وكون الامارة على تقدير وجودها حاكمة ليس اقوى من كونها واردة ، وكيف كان هو «قدس‌سره» اعلم بما افاده.

ومما ذكرنا يظهر انه لا فرق في تقدم الطرق على الاصول العملية بين ما يكون مخالفا لها او موافقا ، وكذلك لا فرق على ما افاده شيخنا المرتضى «قدس‌سره» ، لان وجود الطريق موجب لارتفاع موضوع الاصول بناء على ما قلنا ، وارتفاع حكمه بناء على ما افاده قدس‌سره.

ويمكن ان يقرر الحكومة بان حجية الخبر والطرق وان قلنا بانها حكم تعبدى من الشارع ، إلّا ان ادلة وجوب الاخذ بها تدل عليه بلسان الارشاد الى الواقع ، فكما ان المرشد حقيقة يكون غرضه رفع الشك من المسترشد ، كذلك المتعبد بلسان الارشاد يفهم منه العرف ان غرضه رفع الشك تعبدا ، وهو راجع الى رفع آثاره.

وذهب شيخنا الاستاذ «دام بقائه» في المقام الى القول بورود الطرق على الاستصحاب وساير الاصول العملية بتقريب آخر ، قال في مبحث الاستصحاب : ان مجرد الدليل على خلاف الحالة السابقة وان لم يوجب خروج المورد عن مورد الاستصحاب ، إلّا انه يخرجه حقيقة عما تعلق به النهى في اخبار الباب ، من النقض بالشك ، فانه لا يكون معه نقضا بالشك بل بالدليل ، فلا يعمه النهى فيها ، وليس افراد العام هاهنا هو افراد الشك واليقين كى يقال : ان الدليل العلمى انما يكون مزيلا للشك بوجوده ، بل افراده افراد نقض اليقين

٦٢٤

بالشك ، والدليل المعتبر ـ وان لم يكن علميا ـ يكون موجبا لئلا يكون النقض بالشك ، بل بالدليل ، ـ الى ان قال ـ : لا يقال : قضية قوله عليه‌السلام في بعض الاخبار : «ولكن ينقضه بيقين آخر» هو النهى عن النقض بغير اليقين ، والدليل المعتبر غير موجب لليقين مطلقا ، فكيف يقدم كذلك؟ لانا نقول : لا محالة يكون الدليل موجبا لليقين ، غاية الامر لا بالعناوين الاولية للاشياء ، بل بعناوينها الطارية الثانوية ، مثل كونه قام على وجوبه او حرمته خبر العدل او قامت البينة على ملكيته او نجاسته بالملاقاة ، الى غير ذلك من العناوين المنتزعة «انتهى ما اردنا من نقل كلامه دام بقاه» (١).

ولا يخفى ان جعل اليقين الذي جعل غاية للاستصحاب عبارة عن اليقين بالحكم بوجه من الوجوه ـ وان كان من الوجوه الظاهرية يلازم جعل الشك الموضوع فيه عبارة عن عدم العلم بالحكم بوجه من الوجوه كذلك ، وعلى هذا فبعد قيام الدليل المعتبر ليس الشك بهذا المعنى موجودا ، وحينئذ فلا حاجة الى تسليم ان الدليل المعتبر لا يوجب خروج المورد عن مورد الاستصحاب ، ولكن يخرجه عما تعلق به النهى من النقض بالشك ، وكيف كان ففي ما افاده «دام بقاه» مواقع للنظر :

احدها : ان وجود الدليل المعتبر على خلاف الحالة السابقة بعد ما لم يكن موجبا للعلم لا يخرج المورد عن صدق نقض اليقين بالشك ، لان المفروض بقاء الشك بحاله ، ولا نعنى بنقض اليقين بالشك الا رفع اليد عن الحالة السابقة في حال الشك ، نعم هو نقض اليقين بالشك بواسطة الدليل.

وثانيها : ان جعل اليقين الذي هو غاية للاستصحاب عبارة عن اليقين بالحكم بوجه من الوجوه حتى يكون العلم بالحكم بعنوان انه قام عليه خبر العدل مصداقا له حقيقة لا ينفع في البينة القائمة على الموضوع الخارجي على خلاف الاستصحاب في ذلك الموضوع ، ضرورة ان البينة لا توجب العلم بمؤدّاها بوجه ،

__________________

(١) تعليقه المحقق الخراساني «قدس‌سره» على الفرائد [في الامر الثالث] ، ص ٧ ـ ٢٢٦.

٦٢٥

لان الموضوع غير قابل للجعل ، وبعبارة اخرى : لو قام الدليل على حرمة شرب التتن في قبال استصحاب اباحته ، مثلا ، يمكن ان يقال : ان شرب التتن حرام يقينا بعنوان انه قام على حرمته الدليل المعتبر ، وأمّا اذا قامت البينة على موت زيد في قبال استصحاب حياته فلا يمكن ان يقال : انه ميت يقينا بعنوان قيام البينة على موته ، فحياة زيد في المثال مما علم سابقا ، ولم يعلم عدمه لا حقا بوجه من الوجوه ، فالعمل على طبق البينة نقض لحياته سابقا بغير اليقين بالخلاف.

ومنها : أن الوجوه المذكورة ليست عناوين للاحكام بمعنى تعلق الاحكام بها بعناوينها ، بل انما لوحظت طريقا الى الواقع ، ومقتضى تلك الملاحظة ان يجعل الحكم الثانوي للعنوان الذي يكون موضوعا للحكم الاولى ، مثلا لو قام الدليل على حرمة شرب التتن فمقتضى طريقية ذلك الدليل أن يصير شرب التتن بهذا العنوان محرما ، اذ لو لوحظ عنوان قيام خبر العدل في موضوع هذا الحكم كالغصب وساير العناوين الموضوعة للاحكام لخرج الدليل عن كونه طريقا معتبرا ، من جهة حكايته عن الواقع ، واذا فرض ان مقتضى الدليل كون شرب التتن محرما بالحرمة الثانوية فنقول : ان مقتضى الاستصحاب كونه مباحا بالاباحة الثانوية ، فاى مزية له عليه ، إلّا ان يلتزم بان غاية الاستصحاب هو العلم بالحكم الفعلى وان لم يكن متعلقا بوجه من الوجوه سوى الوجوه الواقعية ، ونحن علمنا حرمة شرب التتن بواسطة الدليل القائم عليها مثلا ، فتحقق العلم الذي هو غاية للاستصحاب.

فان قلت : لم لا نأخذ بمفاد الاستصحاب ، ونعلم انه غير حرام فعلا ، حتى لا يحتاج الى الاخذ بالدليل الدال على الحرمة؟

قلت : لان ذلك موجب لرفع اليد عن الدليل من دون موجب ، بخلاف العكس ، فانه يوجب التخصيص في دليل الاستصحاب ، والوجه في ذلك ان ايجاب الاخذ بالطرق الشرعية ليس مغيا بالعلم بالحكم الفعلى حتى يمكن الاخذ بمفاد الاستصحاب وجعله غاية له ، كما في العكس ، بل الدليل على وجوبه

٦٢٦

مطلق.

نعم لما علم انه حكم ظاهرى للتوصل الى الواقع علم انه ليس مجعولا للعالم باصل الواقع ، لا انه مقيد بعدم العلم بالحكم الفعلى ، وان كان مدلولا لدليل او اصل آخر.

وبعبارة اخرى : دليل الاستصحاب جعل الحكم معلقا على الشك الظاهر في الشك في الحكم الفعلى ، واوجب النقض بيقين آخر ، وهو ظاهر ايضا في اليقين بالحكم الفعلى وان كان مستفادا من الادلة المعتبرة ، بخلاف دليل اعتبار الطرق ، فانه اعتبرها مطلقا ، غاية الامر هو مقيد عقلا بما اذا لم يعلم اصل الواقع ، وحينئذ فالاخذ بالطرق رافع لموضوع الاستصحاب حقيقة بخلاف العكس.

وكيف كان فلا ارى بدّا مما سبق من ان الشك المأخوذ في الاستصحاب وساير الاصول بمعنى عدم الطريق ، فيرتفع هذا الموضوع بوجود كلّ ما اعتبر طريقا على نحو الاطلاق ، هذا.

تنبيه : لا ندعى أن لفظ اليقين في الخبر استعمل في معنى الطريق المعتبر مطلقا ، ولا ان الشك استعمل في عدم الطريق كذلك ، حتى يلزم المجاز في الكلمة ، بل نقول : ان الظاهر أن الخصوصية المذكورة ملغاة في موضوع الحكم ، وهو غير عزيز في القضايا ، كما لا يخفى.

السادسة : تعارضه مع ساير الاصول العملية مثل البراءة والاحتياط والتخيير.

ومحصل الكلام في المقام : ان كل ما كان مما ذكر مدركه العقل فلا اشكال في ورود الاستصحاب عليه ، لارتفاع موضوعه بسببه ، لان حكم العقل بالبراءة معلق على عدم بيان من جانب الشرع ، وحكمه بالاحتياط معلق على عدم وجود المؤمّن ، وحكمه بالتخيير معلق على عدم ما يرفع به التحير من قبل الشارع ، ولا فرق فيما ذكر بين الاحكام الواقعية والظاهرية ، وهذا واضح.

٦٢٧

وامّا ما كان منها ماخوذا من الادلة الشرعية ، كاصالة البراءة المأخوذة من قوله : «رفع ما لا يعلمون» وقوله «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» وكذا اصالة الطهارة ففي تقديم الاستصحاب عليها اشكال ، من جهة ان كلا من قاعدة الاستصحاب والقاعدتين المذكورتين حكم مجعول من الشارع في موضوع الشك ، ولا وجه لتقديم احدى القاعدتين على الاخرى ، سواء جعلنا الشك الموضوع فيها بمعنى التردد في النفس ، ام جعلناه بمعنى عدم الطريق ، اذ على الثاني كل ما قدم من القاعدتين يكون رافعا لموضوع صاحبه.

واستراح شيخنا الاستاذ «دام بقاه» في هذا المقام بما افاده سابقا من وجه تقدم الامارات على الاستصحاب ، وحاصله ان الشك المأخوذ في الاصول هو الشك من جميع الجهات ، فاذا علم الحكم بوجه من الوجوه ارتفع ذلك الموضوع ، وقد علمنا الحكم بعنوان نقض اليقين بالشك ، فلا مجال للاخذ بالحكم المعلق على عدم العلم بوجه من الوجوه (١).

اقول : ليت شعرى ما الفرق بين البناء على الحالة السابقة الذي هو حكم الشك في باب الاستصحاب ، والبناء على الاباحة الذي هو ايضا حكم الشك في باب البراءة؟ ، وهكذا البناء على الطهارة الذي هو مفاد قاعدة الطهارة ، وما الّذى رجح الاستصحاب حتى صار منشأ للحكم بهذا الوجه وارتفع به موضوع الاصل المخالف له؟

وقال شيخنا المرتضى «قدس‌سره» في وجه تقدم الاستصحاب على اصالة البراءة ما لفظه : ان دليل الاستصحاب بمنزلة معمم للنهى السابق بالنسبة الى الزمان اللاحق ، فقوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك» يدل على ان النهى الوارد لا بد من ابقائه وفرض عمومه ، وفرض الشيء في الزمان اللاحق مما ورد فيه النهى ايضا ، فمجموع الرواية المذكورة ـ والمراد بها كل شيء مطلق ـ

__________________

(١) تعليقة الفرائد ، ص ٢٢٧.

٦٢٨

ودليل الاستصحاب بمنزلة ان يقول : «كل شيء مطلق حتى يرد فيه النهى ، وكل نهى ورد في شيء فلا بد من تعميمه لجميع ازمنة احتماله» فيكون الرخصة في الشيء واطلاقه مغيا بورود النهى المحكوم عليه بالدوام وعموم الازمان ، فكان مفاد الاستصحاب نفي ما يقتضيه الاصل الآخر في مورد الشك لو لا النهى ، وهذا معنى الحكومة كما سيجىء في باب التعارض «انتهى كلامه رفع مقامه» (١).

اقول : لا اشكال في ان التعميم المستفاد من قضية لا تنقض انما هو الحكم المرتب على الشك ، وليست حاكية عن عموم التحريم بحسب الواقع ، وحينئذ فما الفرق بين ما يدل على ان الحكم الشرعي في حال الشك من سنخ ما كان موجودا في السابق ، وهو التحريم مثلا ، او هو الترخيص ، واى وجه لتقديم الاول على الثاني.

وكيف كان فالذي يمكن ان يقال : ان مدلول ادلة الاستصحاب هو الحكم بابقاء اليقين والغاء الشك ، لا جعل الحكم المطابق للسابق ، وان كانت بدلالة الاقتضاء يرجع الى ذلك ، حيث ان اليقين لا يقبل لان يحكم عليه بالابقاء ، وحينئذ نقول : ان جعلنا المراد من الشك الذي هو موضوع الاصول المعنى الظاهر منه ، اعنى حالة الترديد في النفس ، فقوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك» يكون حاكما عليها ، لانه يدل على وجوب معاملة اليقين مع هذا الشك ، فموضوع اصالة البراءة وسائر الاصول التى في حكمها منتف شرعا ، وان كان باقيا عقلا ، وان جعلنا المراد منه عدم الطريق ـ كما اسلفنا سابقا ـ والمراد من اليقين الذي هو غاية للاصول ومعتبر في الاستصحاب ابتداء وغاية الطريق المعتبر فوجه تقديم الاستصحاب على اصالة البراءة وما شابهها وروده عليها ، لان مفاد ادلته كون المكلف واجدا للطريق في حال الشك ، فلا يبقى لسائر الاصول

__________________

(١) فرائد الاصول ، ذيل الامر الثالث من الخاتمة ، [المقام الثالث] ، ص ٤٢٣.

٦٢٩

التى مفادها الحكم لفاقد الطريق موضوع.

فان قلت : ان اردت من الطريق الذي يرتفع به موضوع الاصول ما يحكى عن الواقع الاولى فلا اشكال في عدم كون الاستصحاب كذلك ، وان اردت منه مطلق الاحكام الظاهرية التى جعلت بملاحظة الاحكام الواقعية من دون ملاحظة انفسها فلا اشكال في اشتراك الاحكام المجعولة في ساير الاصول معه في ذلك ، وحينئذ فاى واحد من الاستصحاب والاصل الآخر يقدم يرفع موضوع صاحبه ، اذ كما يصدق بعد مجىء الحكم بالاستصحاب أنه واجد للطريق الى الحرمة مثلا ، بالمعنى الذي ذكرنا ، يصدق بعد مجىء الترخيص بادلة البراءة أنه واجد للطريق الى الترخيص كذلك.

قلت : نعم كون المكلف ذا طريق الى الترخيص (١) بالمعنى الذي ذكرنا انما هو بعد جعل الترخيص الظاهرى الذي هو مفاد ادلة البراءة ، واما كونه ذا طريق الى الحرمة المحققة في الزمن السابق : فبالمدلول الاولى من ادلة الاستصحاب ، لانها حاكمة ببقاء الطريق في حال الشك ايضا ، فواجدية المكلف الطريق الى الحرمة السابقة بمقتضى ادلة الاستصحاب مقدمة على واجديته الطريق الى الترخيص بمقتضى دليل البراءة ، اذ هي في مرتبة الترخيص الملزوم لانجعال الطريق ، وبعبارة اخرى : بعد تحقق موضوع الاستصحاب واصالة البراءة مع قطع النظر عن دليلهما دليل الاستصحاب متصد لرفع موضوع اصالة البراءة اولا ، واما دليل البراءة لا يتصدى لذلك اولا ، بل هو لازم للحكم المستفاد منه ، فموضوع الاستصحاب باق في رتبة الحكم المستفاد من دليل

__________________

(١) لا يخفى ان لسان «لا تعتن بشكك» كما هو مفاد دليل الاستصحاب حاكم على لسان «حكم شكك كذا» من غير فرق بين اخذ الشك فيهما صفة او بمعنى عدم الطريق ، كما ان لسان «لا ينبغي لك ان تشك» كما هو مفاد دليل حجية الامارة حاكم على الاولين ، من غير فرق بين الصورتين ، غاية الامر انه لو جعل الشك بمعنى عدم الطريق يصير نتيجة هذه الحكومة هو الورود. (م. ع. مدّ ظلّه).

٦٣٠

البراءة ، بخلاف موضوع البراءة ، فانه ينتفى بورود الحكم المستفاد من دليل الاستصحاب.

هذا كله في الاستصحابات الجارية في الاحكام ، واما الشبهات الموضوعية فتقدم الاستصحابات الجارية فيها على اصالة البراءة اوضح ، لان الشك فيها في الحكم مسبب عن الشك في الموضوع ، وياتى تقدم الاصل في السبب على الاصل الجاري في المسبب مطلقا ان شاء الله.

السابعة : في تعارض الاستصحابين :

ومحصل الكلام في المقام أن الشك في احدهما إمّا ان يكون مسببا عن الشك في الآخر ، وامّا ان يكون الشك فيهما مسببا عن ثالث ، وأمّا كون الشك في كل منهما مسببا عن الشك في الآخر فغير معقول ، فالاستصحابان المتعارضان على قسمين :

الاول ما اذا كان الشك في أحدهما مسببا عن الشك في الآخر ، وحكمه تقديم الاستصحاب الجارى في الشك السببى ورفع اليد عن الحالة السابقة للمستصحب الآخر ، مثاله لو غسل ثوب نجس بماء كان طاهرا قبل وشك في بقاء طهارته حين غسل الثوب به ، فالثوب بعد الغسل بالماء يشك في طهارته ونجاسته ، ولكن هذا الشك انما نشأ من الشك في طهارة الماء حين غسل الثوب به ، اذ لو علم طهارة الماء حين الغسل لكان طهارة الثوب قطعية.

والوجه في تقدم الاستصحاب الجارى في الشك السببى امران :

احدهما ما اسلفنا سابقا في وجه تقدم الطرق المعتبرة على الاصول ، وحاصله : ان الشك المأخوذ في موضوعها بمعنى عدم الطريق ، فاذا ورد طريق معتبر يرتفع موضوعها ، وفي المقام نقول ايضا : ان دليل اعتبار الاستصحاب بملاحظة شموله للشك السببى لم يبق للاستصحاب في المسبب موضوعا ، لانه بعد حكم الشارع بطهارة الماء الذي غسل به الثوب يحصل لنا طريق الى طهارة الثوب ايضا ، ولا عكس ، بمعنى انه لو فرض شموله للشك في الثوب لا يترتب

٦٣١

عليه نجاسة الماء ، لان نجاسة الماء ليست من آثار نجاسة الثوب ، لان المفروض العلم بان الماء لم يتنجس بالثوب ، نعم لو علم ببقاء نجاسة الثوب يكشف عن نجاسة الماء ، وحينئذ فالامر دائر بين التخصيص والتخصص والاول مخالف للقاعدة بخلاف الثاني.

الثاني تقدم الشك السببى على المسببى طبعا (١) ، لان الثاني معلول للاول ، ففي رتبة وجود الاول لم يكن الثاني موجودا ، وانما هو في رتبة الحكم المرتب على الاول ، فالاول في مرتبة وجوده ليس له معارض اصلا ، فيحرز الحكم من دون معارض ، واذا ثبت الحكم في الاول لم يبق للثاني موضوع ، وبهذا البيان الثاني تعرف وجه تقدم الاستصحاب الجاري في السبب وان قلنا بالاصول المثبتة.

توضيح المقال : أنه بناء على ذلك وان كان يترتب على الاستصحاب الجارى في الثوب نجاسة الماء ، ويرتفع به موضوع الاستصحاب في الماء ، وليس على هذا من قبيل دوران الامر بين التخصيص والتخصص ، إلّا ان التقدم الطبعى للشك السببى اوجب احراز الحكم وارتفع موضوع الآخر ، من دون عكس ، ومن هنا يعلم ان الاستصحاب ان قلنا باعتباره من باب الظن ايضا لكان المقدم الاستصحاب في السبب.

ويظهر ايضا من جميع ما ذكرنا ان هذا الحكم ليس مختصا بالاستصحاب ، بل كل اصل جار في الشك السببى مقدم على كل اصل جار في الشك المسببى ، حتى انه في المثال المذكور لو احرز طهارة الماء باصالة الطهارة نحكم بطهارة

__________________

(١) إلّا ان يقال بالفرق بين باب المؤثرات الطبيعية ، فالتقدم الطبعي مرجّح فيما اذا توارد فردان منها على محل واحد ، وبين باب الالفاظ حيث نرى اهل العرف يتوقفون فيما اذا سمعوا كلامين متنافيين بينهما ترتب طبعي ، بل وكذا الحال في سائر الأمارات العرفية ، ألا ترى انه لو أخبر ثقة بان هذا الرجل ابن زيد ، وثقة آخر بأن زيدا لا يقتل ابنه ، فرأينا زيدا قتل هذا الرجل لا يحكمون بتعين الكذب في الاخبار الثاني ، مع ما بينه وبين الاول من الطولية. (م. ع. مد ظلّه).

٦٣٢

الثوب ونرفع اليد عن الحالة السابقة فيه ، مع ان الاستصحاب مقدم على قاعدة الطهارة اذا كانا في مورد واحد.

القسم الثاني : ما اذا كان الشك في كليهما ناشيا عن امر ثالث ، ومثاله لو علم اجمالا بنقض الحالة السابقة في احد المستصحبين.

ومحصل القول في ذلك أن العمل بالاستصحابين ، تارة يوجب مخالفة عملية قطعية لذلك العلم الاجمالي ، واخرى لا يوجب ذلك ، الاول كما لو علم بنجاسة احد الإناءين الطاهرين في السابق ، والثاني كما لو توضأ غافلا بمائع مردد بين الماء والبول ، فان بقاء طهارة البدن والحدث وان كان مخالفا للقطع ولكن لا يلزم من البناء عليهما بمقتضى الاستصحابين مخالفة عملية.

اما القسم الاول فالتحقيق فيه ان عموم ادلة الاستصحاب يشمل كلا من طرفى العلم الاجمالى (١) لان الموضوع فيها اليقين بامر في السابق والشك في بقاء ذلك الامر في اللاحق ، وهذا المعنى محقق في كل واحد منهما ، لكن لما كان العمل بعموم الدليل المذكور في المقام موجبا لمخالفة قطعية عملية ولا يجوز عند العقل تجويز ذلك فلا بد من رفع اليد عنه في مجموع الطرفين ، نعم الترخيص في البعض لا باس به ، لكن اخراج بعض معين وابقاء الآخر كذلك ترجيح بلا مرجح ، اذ نسبة الدليل الى كل من الطرفين على حد سواء ، وابقاء واحد منهما على نحو التخيير غير مدلول الدليل ، لان موضوعه الآحاد المعينة ، ومقتضى ذلك التساقط والرجوع الى مقتضى العلم الاجمالى بالتكليف ، وهو موجب للامتثال

__________________

(١) إلّا ان يقال باختصاص ادلته بالشك في الوجود وانصرافها عن الشك في تعيين الموجود ، كما هو المتحقق في المقام ، او يقال بان متعلق النهي انما هو نقض اليقين بالشك من حيث هو ، فلا ينافي جوار نقضه بالعلم الاجمالي المقرون معه ، وقد مر ذلك مشروحا في مبحث حجية القطع ، كما انه مر الاشكال في تصوير مجيء الترخيص في احد اطراف العلم ، والتفكيك بينه وبين ترخيص الطرفين ، باستحالة الثاني وامكان الاول ، فراجع. (م. ع. مدّ ظلّه).

٦٣٣

القطعى.

فان قلت : ترخيص احد الطرفين وان لم يكن مدلول الدليل ، إلّا انه يجب الحكم بالترخيص من جهة العقل ، لان مقتضى الترخيص في كل منهما موجود بمقتضى عموم الادلة ، والمانع انما منع عن الجمع ، فالمقتضى في احدهما يكون بلا مانع ، فيجب تأثيره بحكم العقل ، ونظير هذا يقال فيما اذا تزاحم الغريقان ، ولم يقدر المكلف على انقاذهما ، ولم يكن لاحدهما مرجح.

قلت : هذا في مثال تزاحم الغريقين صحيح ، والوجه فيه ان مقتضى الانقاذ في احدهما موجود ، ولا يكون له مانع يقينا ، بخلاف ما نحن فيه ، لانا لا نقطع بعدم المانع ، اذ لعل العلم الاجمالى الذي يقتضى الاحتياط يمنع عن تأثير مقتضى الترخيص مطلقا في نظر الشارع ، اللهم إلّا ان يقال بالترخيص في احدهما لا من جهة ما ذكر ، بل من جهة الاخذ باطلاق دليل الترخيص في كل من الطرفين ، وتقييد كل منهما بمقدار الضرورة ، بيان ذلك ان مقتضى عموم الدليل الترخيص في كل من الإناءين المشتبهين مطلقا ، اعنى مع ارتكاب الآخر وعدمه ، والمانع العقلى انما يمنع هذا الاطلاق ، ولا ينافي بقاء الترخيص في كل واحد منهما بشرط عدم ارتكاب الآخر.

فان قلت : لازم ذلك أن من لم يرتكب شيئا منهما يكون مرخصا في ارتكاب كليهما ، وهذا اذن في المخالفة القطعية.

قلت : الاحكام لا تشمل حال وجود متعلقاتها ولا حال عدمها ، لان الشيء المفروض الوجود ليس قابلا لان يتعلق به حكم من الاحكام ، وكذا الشىء المفروض العدم.

مثلا بعد فرض الوجود الخارجي لشرب التتن لا يصح الامر به ولا النهى عنه ولا الترخيص ، لانه بعد هذا الفرض خارج عن تحت قدرة المكلف ، وكذا بعد فرض عدمه الخارجي ، فالدليل المذكور لا يمكن شموله للترخيص حتى في صورة فرض عدم ارتكاب متعلقه ، حتى يكون ترخيصا في

٦٣٤

المخالفة القطعية ، هذا وقد اشرنا الى ذلك في الشبهة المحصورة (١) ، فراجع وتامل.

واما القسم الثاني فهو على قسمين : احدهما ان يكون مقتضى الاستصحاب في احد الطرفين ثبوت التكليف وفي الآخر عدمه ، ونحن نعلم بعدم التفكيك بينهما ، والثاني ان يكون مقتضاه في الطرفين ثبوت التكليف ونحن نعلم بعدمه في احدهما :

اما الاول : فلا مانع فيه من الاخذ بمقتضى كلا الاصلين ، لعدم المخالفة القطعية العملية التى كانت مانعة في المثال السابق ، ومجرد العلم بان مقتضى احد الاستصحابين مخالف للواقع لا يؤثر شيئا ، نعم لو علمنا بعدم التفكيك حتى في مرحلة الظاهر يقع التعارض بينهما ، كما انه قد يقال في الماء النجس المتمم كرا بماء طاهر بقيام الاجماع على اتحاد الماءين في الحكم حتى بملاحظة الظاهر ، فحينئذ مقتضى استصحاب نجاسة المتمم ـ بالفتح ـ بضميمة الاجماع المدعى على الملازمة نجاسة الكل ، ومقتضى استصحاب طهارة المتمم ـ بالكسر ـ بضميمة الاجماع المذكور طهارة الكل ، فيقع التعارض بينهما ، ويحصل التساقط ، فاللازم في المثال الرجوع الى قاعدة الطهارة.

واما الثاني : فالاخذ بالاستصحاب فيه وان لم يكن مخالفا لتكليف واقعي معلوم ، كما هو المفروض ، لكن لما كان الاستصحاب حكما ظاهريا وليس له فائدة الا تنجيز الواقع على تقدير الوجود فيما اذا كان مثبتا للتكليف ، واسقاطه كذلك فيما اذا كان نافيا له ، لا يمكن جعل الاستصحابين في المثال ، للقطع بعدم ثبوت الواقعين ، فيكون احدهما لغوا ، نعم لو فرض لهما اثر آخر غير تنجيز الواقع يمكن الاخذ بكل منهما لترتب ذلك الاثر ، كما في استصحاب نجاسة كل من الطرفين لاثبات نجاسة ملاقي كل واحد من المشتبهين ، اذ لو لا ذلك لكان الملاقي محكوما بالطهارة ، إلّا اذا حصل العلم الاجمالي في الملاقي ، كما اذا لاقي

__________________

(١) راجع ص ٦٠ ـ ٤٥٩ من هذا الكتاب.

٦٣٥

شيء احد الطرفين وآخر الطرف الآخر.

هذا ما عندنا في هذا المقام وعليك بالتأمل التام وقد تمّ الكلام في احكام الشك باسرها مع مراعاة الاختصار والاجتناب عن الزوائد والتكرار ونسأل الله ان يصلح نياتنا وتجاوز عن زلاتنا ، انه عزيز غفار.

ويتلوها الكلام في التعادل والتراجيح ان شاء الله تعالى.

٦٣٦

بسم الله الرحمن الرحيم

وعليه توكلى

البحث في تعارض الدليلين

وهو عبارة عن تنافي مدلوليهما بحيث لا يمكن صدق كليهما بحسب الواقع.

ومن هنا يعلم انه لا تعارض بين مفاد الدليل الحاكى عن الواقع والدليل الدال على حكم الشك وان كان على خلاف الواقع ، لا مكان صدق كليهما ، مثلا يمكن ان يكون شرب التتن حراما ، ومع الشك في حرمته حلالا ، لاختلاف رتبتيهما ، وقد اوضحنا ذلك في مبحث حجية الظن عند تعرض كلام ابن قبة ، فلا نطيل الكلام بتكراره ، فراجع (١).

ثم انه لو كان الدليل الدال على الواقع مفيدا للقطع فلا اشكال ، وإلّا يقع التعارض بحسب الصورة بين دليل حجية ذلك الدليل وبين ما يدل على حكم الشك ، لان مقتضى دليل حجية الخبر الحاكى عن الواقع وجوب الاخذ بمؤداه في الحال التى عليها المكلف ، وهى حال الشك في الواقع ، ومفاد ذلك الخبر حرمة شرب التتن مثلا ، ومقتضى الدليل الدال على حكم الشك في هذه الحال حليته ، وليس بينهما اختلاف الرتبة ، كما كان بين الحكم الواقعي والحكم المتعلق بالشك ، لان كلا منهما حكم ثانوى مجعول للمكلف في حال الشك في الواقع الاولى ، هذا.

وقد فرغنا فيما تقدم ايضا عن ورود ادلة حجية الطريق على الاصول العملية ، فلا نعيد ومن اراد فليراجع (٢).

__________________

(١) ص ٥٤ ـ ٣٥١.

(٢) ص ٢٢ ـ ٦٢١.

٦٣٧

واما العام والخاص المطلق فالتعارض بين مدلوليهما واضح ، لعدم امكان صدق كليهما.

ومجمل الكلام فيهما انهما على اقسام : لانهما إمّا ان يكونا قطعي السند ، او يكونا ظنيّين ، او يكون العام قطعى السند دون الخاص ، او بالعكس ، وعلى اي حال : إمّا ان يكون الخاص قطعيا من حيث الدلالة ومن حيث جهة الصدور ، او يكون ظنيا من هاتين الجهتين ، او من احداهما ، فهنا اقسام لا بد من تعرضها :

القسم الاول : اذا كان العام مقطوع الصدور والخاص ايضا مقطوع الصدور والجهة والدلالة فلا اشكال في تقديم الخاص المذكور على هذا العام ، لان حجية ظهور العام موقوفة على عدم العلم بالخلاف ، والخاص المفروض يوجب العلم بالخلاف ، كما هو واضح.

القسم الثاني : اذا كان العام مقطوع الصدور والخاص ظنى الصدور فقد اختلف العلماء في ذلك ، ومن جملة مصاديق هذا القسم تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد ، وهم بين قائل بتخصيص العام به ، وقائل بالعكس ، ومتوقف ، لان لكل منهما جهة رجحان.

وقال شيخنا المرتضى «قدس‌سره» في وجه التخصيص المذكور ما محصله : ان دليل اعتبار السند حاكم على اصالة العموم ان بنينا على ان اعتبار الظهور انما هو من حيث اصالة عدم القرينة ، فان مقتضى دليل اعتبار السند جعل هذا الخاص المفروض كونه نصا بمنزلة النص الصادر القطعى ، فالشك في تحقق القرينة الذي كان موضوعا للاصل المذكور بمنزلة العدم ، بحكم دليل اعتبار السند ، وأمّا إن قلنا بان اعتباره من جهة الظن النوعى بارادة الحقيقة الحاصل من الغلبة او غيرها فالظاهر ان النص وارد عليه مطلقا وان كان ظنيا ، لان الظاهر ان دليل حجية الظن الحاصل من ارادة الحقيقة الذي هو مستند اصالة الظهور مقيد بصورة عدم وجود ظن معتبر على خلافه ، ويكشف عن ذلك انا لم نجد ولا نجد من انفسنا موردا يقدم فيه العام من حيث هو على الخاص ، وان فرض كونه

٦٣٨

اضعف الظنون المعتبرة «انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه» (١).

اقول : وفيما ذكره «قدس‌سره» نظر أمّا او لا فلانه بناء على اعتبار العموم من باب اصالة عدم القرينة ايضا لو قدمنا الخاص فلا يكون وجه تقدمه الا الورود ، لعدم تعقل الحكومة في اللبيات ، كما لا يمكن القول بالتخصيص فيها ، فلا بد ان يلتزم القائل بتقدم الخاص الظنى السند على العام في هذا الفرض بان اصالة عدم القرينة معتبرة ما لم يكن في البين دليل معتبر على القرينة وان كان غير علمي.

وثانيا انه «قدس‌سره» وان اصاب فيما افاد من انه لا نجد من انفسنا موردا بقدم فيه العام من حيث هو على الخاص وان كان اضعف الظنون المعتبرة ، ولكنا ايضا لا نجد من انفسنا كون حجية الظواهر بحسب الشأن والاقتضاء مقيدة بعدم وجود ظن معتبر على خلافها ، نعم ترفع اليد عنها في بعض الموارد وان لم يعلم بالقرينة ، لكن ليس ذلك من جهة قصورها في الحجية ، بل من جهة تقديم ما هو اقوى منها.

والحاصل ان تقديم الخاص الظنى على العام وان كان نجده من انفسنا كما افاده «قدس‌سره» ، ولكن وجهه ليس ما افاده «قدس‌سره» ، كما انه مما نجده من انفسنا ايضا.

والذي يخطر بالبال في المقام في وجه التقديم : ان دليل اعتبار السند يجعل ظهور العموم في الخاص بمنزلة معلوم الخلاف ، فان الاخذ بسند الخاص الذي لا احتمال فيه بعد الاخذ بالسند سوى المعنى الخاص الذي هو في مقابل العام يكون معناه جعل هذا المضمون بمنزلة المعلوم ، فيحصل غاية حجية الظواهر بنفس دليل اعتبار السند ، بخلاف دليل حجية الظاهر ، فانه ليس معناه ابتداء جعل الغاية لحجية الخبر الواحد ، بل مقتضاه ابتداء هو العمل بالظاهر وانه مراد

__________________

(١) الفرائد ، اوائل بحث التعادل والترجيح ، ص ٣٣ ـ ٤٣٢.

٦٣٩

من العام ، نعم لازم كونه مرادا من العام عدم كون الخبر الدال على خلافه صادرا من الامام عليه‌السلام ، اذ المفروض كونه نصا من جميع الجهات ، فدليل حجية السند موضوعه محقق في رتبة تعلقها به ، بخلاف دليل حجية الظاهر ، فانه يرد معه ما يرفع موضوع الحجية ، ومعلوم انه اذا كان مع الحكم ما يرتفع به موضوعه لا يصح تحقق ذلك الحكم.

وبعبارة اخرى : يرفع دليل حجية السند موضوع حجية الظاهر بنفس وجوده ، بخلاف العكس ، فان دليل حجية الظاهر لا يرفع موضوع حجية السند بنفس وجوده ، اذ من الواضح انه ليس معنى جعل الظاهر مرادا واقعيا هو عدم صدور ذلك الخاص من الامام عليه‌السلام ، نعم يرفع موضوع حجية السند في الرتبة المتأخرة عن مجىء الحكم ، ففي المرتبة الاولى لا مانع من مجىء دليل اعتبار السند (١) لتحقق موضوعه في هذه الرتبة ، فاذا جاء هذا الدليل لتحقق موضوعه يرتفع به موضوع ذلك الدليل ، فليتدبر جيدا.

ومما ذكرنا يظهر وجه تقدم الخاص الذي يكون نصا في المدلول الاستعمالى ولم يكن مقطوعا به من حيث وجه الصدور ، فان ما ذكرنا في تقدم الخاص الظنى السند جار فيه ايضا ، نعم لو كان الخاص ظنيا من جهة المدلول الاستعمالي لم يجر فيه ما قلناه ، ضرورة كون اصالة الظهور في كل من العام والخاص في عرض واحد.

فتحصل مما ذكرنا أن الخاص اذا كان نصا في مدلوله الاستعمالي فهو مقدم

__________________

(١) قد تقدم الاشكال في مرجّحية صرف التقدم الرتبي بين مفادي الدليلين المتعارضين ، فالصواب هنا ايضا ما يشير اليه المصنف في الفرض اللاحق ، اعني ما اذا كان الخاص اظهر من العام من كون نسبة الخاص الى العام في حق من جرى عادته على تفريق كلماته في مجالس عديدة كنسبة يرمي الى الاسد ، فلا يعدّ منه ذلك على خلاف قانون المحاورة ، بخلاف تقديم ظهور العام على سند الخاص ، فانه لا يعدّ من هذا القبيل ، فيكون خارجا عن قانون المحاورة ، لعدم دلالته لا مطابقة ولا التزاما على تخصيص دليل السند. (م. ع. مدّ ظلّه).

٦٤٠