درر الفوائد - ج ١ و ٢

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي

درر الفوائد - ج ١ و ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٥

الذي لا يوافق الكتاب ، وهذه الاخبار وان حصل فيها التواتر في الجملة لكن لا يثبت بها الا وجوب طرح ما يخالف الكتاب ، ولا تدل على السلب الكلى ، اما بناء على ان المراد من عدم الموافقة خصوص المخالفة كما هو الظاهر من هذا اللفظ عرفا فواضح ، واما على ظهوره في الاعم كما هو مدلوله اللغوى فلعدم ثبوت التواتر في خصوص الطائفة المشتملة على طرح غير الموافق منها ، بل التواتر المدعى هنا هو التواتر الاجمالى بمعنى العلم بصدور البعض في مجموع الطائفتين ، فاللازم الأخذ بالاخص مضمونا ، لانه المتيقن على اى حال ، ثم ان المراد بالمخالفة لا يجوز ان يكون على نحو العموم والخصوص والاطلاق والتقييد لشيوع مثل هذه في الاخبار الصادرة عنهم عليهم‌السلام والتزام التخصيص في تلك الموارد شنيع جدا ، لا لكثرتها ، بل لان الاخبار الدالة على رد الخبر المخالف للكتاب وكونه باطلا وزخرفا مما يأبى عن التخصيص كما لا يخفى ، فلا بد من حمل المخالفة على المخالفة على نحو التباين ، والقول بعدم صدور ما يباين الكتاب من الجاعلين مدفوع بان هذا الاستبعاد انما يصح فيما اذا نقلت تلك الاخبار المباينة للكتاب عن الائمة عليهم‌السلام لا فيما اذا كان على نحو الدس في كتب الاصحاب «رضوان الله عليهم».

واما الاجماع فالمحصل منه غير ثابت ، والمنقول غير مفيد ، مع انه معارض بالمثل وموهون بذهاب المعظم الى الخلاف.

حجة المجوزين الادلة الاربعة

اما الكتاب

فقد استدلوا بآيات :

منها آية النبأ قال الله تبارك وتعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) الآية (١) تقريب الاستدلال من وجوه : احدها التمسك بمفهوم الشرط الدال على

__________________

(١) سورة الحجرات ، الآية ٦.

٣٨١

عدم وجوب التبين عند مجىء غير الفاسق بالخبر ، والثاني التمسك بمفهوم الوصف حيث علق سبحانه الحكم على خبر الفاسق ، والثالث التمسك بالمناسبة العرفية بين الفسق والتبين بحيث يظهر عند العرف ان وجه الاتيان به في الكلام كونه علة ، وبعد فرض كونه علة لا يمكن كون الخبر بذاته علة وإلّا لزم استناد المعلول اليه لكونه اسبق مرتبة ، هذا.

وفي الكل نظر : اما في الاخيرتين فلاحتمال ان يكون ذكر الوصف في الآية لمجرد التنبيه. على فسق الوليد ، ولكن الانصاف بعد هذا الاحتمال لان العرف يفهم من هذه القضية مناسبة بين التبين والفسق والحق ان يقال : ان المناسبة وان كانت محققة لكن لا يفهم من القضية ان وجه وجوب التبين في خبر الفاسق هذا الوصف بنفسه او من جهة كونه ملازما لعدم حصول العلم غالبا (١) ، فحينئذ يتردد العلة بين امرين : احدهما وصف الفسق والثاني عدم

__________________

(١) الانصاف انه كما ان كون الفاسق في الآية اشارة الى فسق وليد بعيد ، كذلك كونه كناية عن عدم حصول العلم ، كما ان موضوعيته في مقابل العدالة ـ بمعنى اجتناب الكبائر عن ملكة ، بملاحظة عدم الحجية الشرعية ـ مناف للتعليل بالجهالة الظاهر في ثبوت هذه العلة مع قطع النظر عن الحكم ، بل الظاهر موضوعيته في مقابل العدالة ، بمعنى اجتناب خصوص الكذب عن ملكة ، بملاحظة عدم الحجية العقلائية ، ولازم ذلك كون خبر العدل الواحد بالمعنى المذكور موضوعا للحجية العقلائية في الجملة ، اذ المفروض عدم الاستناد في فهم ذلك الى مفهوم الشرط او الوصف حتى يثبت الايجاب الكلي ، وانما الاستناد الى التعليل بالعرضي ، وغاية ما يثبت به الايجاب الجزئي.

وحينئذ فنقول : القدر المتيقن من بناء العقلاء هو العمل بخبر العدل الواحد المذكور في صورة كون احتمال جريه على خلاف سجيته وعادته في هذا الاخبار الشخصي موهوما ، فلا يعتنون بهذا الاحتمال ولو فرض رجحانه من طريق غير حجة ، واما صورة كون الاحتمال المذكور غير بعيد عندهم فهل يعملون باصالة جريه على عادته وبقاء عدالته او لا؟ فمحل للشك ، ويمكن حينئذ اثبات عدالته وبقاء جريه على ملكته بالاستصحاب الشرعي ، وعلى هذا يصير حجية خبر العدل الواحد بالمعنى المذكور مطلقا على طبق القاعدة ، لا يخرج عنها الا ـ

٣٨٢

حصول العلم ، ولازم الاول حجية خبر العادل ، ولازم الثاني اشتراك خبر العادل الغير المفيد للعلم مع خبر الفاسق كذلك في عدم الحجية.

واما في الاول فلان الجزاء ليس إلّا التبين في خبر الفاسق ولا يمكن تحققه الا بعد مجيء الفاسق بالنبإ ، فالشرط مسوق لبيان تحقق الموضوع كما في قولك : اذا ركب الامير فخذ ركابه ، واذا رزقت ولدا فاختنه ، والحاصل ان القضايا الشرطية التى تدل على المفهوم يشترط فيها ان تكون مشتملة على موضوع وشرط خارج عنه لتدل أداة الشرط على كون الحكم المستفاد من تلك القضية دائرا مدار ذلك الشرط ، واما فيما لم يعقل تحقق الجزاء عند عدم الشرط لعدم تحقق موضوعه ، فعدمه حينئذ عقلى ليس من مفاد القضية ، ولا ينفع في المقام هذا العدم العقلي ، لان المطلوب عدم وجوب التبين في خبر العادل لا عدم وجوب التبين في خبر الفاسق في صورة عدم تحققه.

لا يقال : ان كلمة ان واخواتها وان كانت موضوعة بالوضع اللغوى او العرفى للدلالة على ثبوت الحكم للموضوع عند وجود الشرط وعدمه له عند عدمه ، لكن لما لم يمكن ارادة هذا المعنى في المقام لعدم وجود شرط خارج عن الموضوع يجب حمل القضية على علّية الموضوع لسنخ الحكم المستفاد من المحمول ، حفظا لبعض مراتب ظهور تلك الادوات ، وبعبارة اخرى ان سنخ المفهوم هنا سنخ مفهوم الوصف واللقب ان قلنا به ، غاية الامر ان القول به فيهما خلاف التحقيق ، لعدم ما يدل عليه ، ولكن نقول به هنا لمكان أداة الشرط.

لانا نقول : ليس حمل الكلام على هذا المعنى حفظا لظهور أداة الشرط في الجملة ، لعدم دلالتها الا على العلية المنحصرة للشرط للحكم المتعلق بالموضوع في

__________________

بالدليل ، ولو فرض وجود الدليل على خلافها في مورد فيستكشف منه إما التصرف في أصالة عدم الخطأ في الحس ، أو في اصل عدم تعمد الكذب ، أو يكون في موضوع حكم آخر غير اثر الواقع «منه ، قدس‌سره».

٣٨٣

القضية اللازم منها ارتفاعه عند عدمه عن ذلك الموضوع.

لا يقال : ان الموضوع في القضية ليس نبأ الفاسق حتى يلزم انتفائه بانتفاء الشرط ، بل الموضوع هو النبأ ، ومجىء الفاسق به شرط خارج عنه ، فتدل الآية على وجوب التبين في النبأ على تقدير مجىء الفاسق به وعدمه على تقدير عدمه.

لانا نقول : ان كان المراد كون الموضوع هو طبيعة النبأ المقسم لنبأ العادل والفاسق فاللازم على تقدير تحقق الشرط وجوب التبين في طبيعة النبأ وان كانت متحققة في ضمن خبر العادل ، وان كان المراد كون الموضوع هو النبأ الموجود الخارجي فيجب ان يكون التعبير باداة الشرط باعتبار الترديد لان النبأ الخارجي ليس قابلا لامرين ، فعلى هذا ينبغى ان يعبر بما يدل على المضى لا الاستقبال (١). هذا.

وهاهنا اشكالات أخر

اوردت على دلالة الآية على حجية خبر العادل كلّها قابل للدفع.

__________________

(١) توضيح المقام ان الموضوع في القضية الشرطية التي لها مفهوم وان كان يكتسب من ناحية الشرط تضيّقا قهريا لكنه مع ذلك باق على وحدته ، والشرط ليس بمفرّد له ، فيكون تعينه محفوظا في طرف المفهوم ، وهذا كما اذا كان الموضوع شخصا ، كان جاءك زيد فاكرمه ، او طبيعة مع ترتب حكم الجزاء على غيرها ، كان جاءك الانسان فتصدق بدرهم ، وأما اذا فرضنا ان الشرط مفرّد للموضوع وجاعل له فردين بملاحظة الاتصاف به وعدمه ثم حكم الجزاء مرتب على الفرد المتصف كما في «ان جاءك الانسان فاكرمه» حيث ليس المقصود انه عند تحقق مجيء واحد من افراد الانسان يجب اكرامه ولو فرض تحققه في ضمن الفرد الغير الجائي ، بل المقصود اكرام خصوص الفرد الجائي ، فحينئذ لا يكون الموضوع بعينه محفوظا في جانب الجزاء ، بل يكون الشرط مسوقا لتحققه ، فلم يتحقق شرط اخذ المفهوم ، وحينئذ فنقول ان الموضوع في الآية الشريفة ان جعلناه النبأ الشخصي فالشرط وان كان غير مفرد له ، لكن لا يناسبه التعبير بالاستقبال ، وان جعلناه طبيعة النّبأ ناسبه التعبير بالاستقبال لكن الشرط حينئذ مفرد فلم يتحقق شرط المفهوم. «منه ، قدس‌سره».

٣٨٤

منها ان العبرة في القضية المعللة ملاحظة تلك العلة عموما وخصوصا فقد يعمم العلة وان كان المذكور في اصل القضية خاصا ، وقد تخصص وان كان المذكور عاما ، وقد تكون معممة من وجه ومخصصة من وجه ، كما في قولك «كل الرمان لانه حامض» حيث انه يتعدى منه الى كل حامض ويخصص الرمان بالحامض ، اذا تمهد هذا فنقول : ان صدر الآية وان كان دالا على حجية خبر العادل بالمفهوم إلّا ان التعليل يدل على وجوب التبين في كل خبر غير مفيد للعلم ، فتكون القضية بعد ملاحظة التعليل في قوة ان يقال : ان جاءكم خبر لا يعلم صدقه وكذبه فتبينوا فيه.

لا يقال : ان مقتضى التعليل حكم عام نظير ساير العمومات الدالة على عدم جواز العمل بغير العلم ، فلو فرض للآية مفهوم يجب ان يخصص العموم المستفاد من التعليل به ، كما يخصص به ساير العمومات.

لانا نقول : تقديم الخاص على العام انما يكون فيما لو دار الامر بين طرح الدليل الخاص رأسا وبين طرح عموم العام ، ولا اشكال في ان الثاني متعين لانه جمع بين الدليلين ، وليس ما نحن فيه من هذا القبيل ، لان ما يترتب على اخذ عموم العلة ليس إلا طرح المفهوم وهو بعض مدلول القضية ، كما ان ما يترتب على اخذ المفهوم ليس إلّا طرح العموم ، فالتعارض بين ظهور القضية الشرطية في المفهوم وظهور التعليل في العموم ، ولا شك ان التعليل اظهر في العموم من دلالة القضية على المفهوم ، فيكون التعليل لأظهريته قرينة صارفة عن انعقاد ظهور القضية في المفهوم ، نعم لو وقع التعارض بين مفهوم الآية وعام آخر يكون دلالته على العموم اضعف من دلالة القضية الشرطية في العلية المنحصرة يخصص ذلك العام بها ، كما هو الحال في معارضتها مع ساير العمومات الدالة على عدم جواز العمل بغير العلم.

والجواب عن الاشكال ان التعليل لا يدل على عدم جواز الاقدام بغير العلم مطلقا بل يدل على عدم الجواز فيما اذا كان الاقدام في معرض حصول الندامة ،

٣٨٥

واحتماله منحصر فيما لم يكن الاقدام عن حجة ، فلو دلت الآية بمفهومها على حجية خبر العادل فلا يحتمل ان يكون الاقدام على العمل به مؤديا الى الندم ، فلا منافاة بين التعليل ومفهوم الآية اصلا.

ومنها ان الآية لو دلت على حجية خبر العادل لدلت على حجيّة خبر السيد في نقله الاجماع على عدم حجية الخبر الواحد ، ولازم ذلك عدم حجية الخبر اصلا ، توضيح ذلك ان حجية خبر العادل مما يلزم من وجوده عدمه وكلّ ما كان كذلك فهو محال ، فحجية خبر العادل محال ، اما الكبرى فواضحة ، واما الصغرى فلانه لو كان حجة لكان خبر السيد بعدم حجية الخبر الواحد ايضا حجة ، لكونه خبرا صادرا من العادل ، ولو كان هذا حجة لزم عدم حجية اخبار الآحاد مطلقا.

واما ما اجيب عنه بان خبر السيد غير قابل للحجية ، لان حجيته مستلزمة لعدمها ، فغير سديد ، لان عدم قابليته للحجية انما يكون باعتبار شموله لنفسه ، واما بالنسبة الى ساير مداليله فقابل للحجية فحينئذ نقول يمكن ان يلتزم بالتفكيك ويقال : ان خبر السيد بالنسبة الى نفسه ليس بحجة ، وبالنسبة الى ساير مداليله موضوع لدليل الحجية ، فيقع التعارض بينه وبين ساير الافراد في حكم العام.

فالاولى في الجواب ان يقال : ان اخبار السيد لكونه نقلا للاجماع لا يشمله ادلة حجية الخبر ، كما عرفت سابقا ، وعلى فرض شمول الادلة الامر هاهنا دائر بين خروج هذا الفرد من العام وخروج باقي الافراد ، ولا شك في ان الاول متعين ، لان الثاني مستلزم لحمل الكلام على اللغز والمعمى ، اذ في مقام ارادة عدم حجية خبر العادل القاء الكلام الدال على حجيته ممّا لا ينبغى صدوره من المتكلم الحكيم.

قال شيخنا المحقق الخراساني «دام بقاه» في تعليقاته على ما يظهر من عبارته : انه من الجائز ان يكون خبر العادل حجة من زمن صدور الآية الى زمن صدور هذا الخبر من السيد «قدس‌سره» وبعده يكون هذا الخبر حجة فقط ، فيكون

٣٨٦

شمول العام لخبر السيد مفيدا لانتهاء الحكم في هذا الزمان ، وليس هذا بمستهجن. ثم قال «دام بقاه» ما محصله : ان حجية خبر العادل في زمان صدور الآية دون زماننا وان كانت خلاف الاجماع ، فانا نعلم بالاجماع انّ الخبر لو كان حجة للاولين لكان حجة للآخرين ، إلّا انه لا بأس في مقام الاخذ بظاهر العموم ان يأخذ الاولون بمقتضاه من حجية الخبر ونأخذ نحن ايضا بمقتضاه من عدم حجيته ، هذا ملخص ما افاده «دام بقاه» (١).

وفيه او لا ما عرفت ان بشاعة الكلام على تقدير شموله لخبر السيد ليست من جهة خروج تمام الافراد سوى فرد واحد ، حتى يدفع بما افاده ، بل من جهة التعبير بالحجية في مقام ارادة عدمها ، وهذا لا يدفع بما افاده.

وثانيا انه بعد تسليم الاجماع المذكور امر القضية دائر بين امور كلها باطلة إلّا ارادة باقى الافراد وعدم ارادة خبر السيد ، لان المتكلم بهذه القضية إما لم يرد حجية خبر العادل اصلا ، وهو خلاف الفرض ، وإما اراد حجية كل الاخبار حتى خبر السيد ، وهو باطل ايضا ، للزوم التناقض ، وإما اراد حجية كل الاخبار الى زمان صدور الخبر من السيد وعدمها بعده ، وهو باطل ايضا ، لانه خلاف الاجماع ، وإما اراد حجية خصوص خير السيد من بين الاخبار الآحاد ، وهو باطل ايضا ، لانه مستهجن ، وإما اراد حجية باقي الاخبار غير خبر السيد ، وهو المطلوب.

ومنها ان الآية لا تشمل الاخبار مع الواسطة ، ومحصل هذا الاشكال من وجهين : احدهما انه اذا قال الشيخ «قدس‌سره» : حدثنى المفيد ، قال : حدثنى الصدوق مثلا ، فخبر المفيد لا يثبت لنا إلّا بدليل حجية قول الشيخ ، وكيف يصح ان يجعل خبر المفيد الذي تحقق تعبدا بواسطة قول الشارع : «صدّق خبر العادل» موضوعا لهذا الحكم ، فهذا من قبيل شمول قول القائل : «كل خبرى

__________________

(١) تعليقة المحقق الخراساني على الفرائد ، ص ٥٨ ـ ٥٩.

٣٨٧

صادق» لهذا الخبر الذي اخبر به فعلا ، غاية الامر قضية «كل خبرى صادق» توجد فردا حقيقيا للخبر ، بخلاف «صدّق العادل» فانه يوجد فردا تعبديا له. وثانيهما ان قول الشارع «صدّق العادل» ليس إلّا بملاحظة ترتيب الاثر ، ولا اثر لخبر المفيد المخبر بقول الشيخ الا وجوب التصديق ، فيلزم ان يكون قضية «صدّق العادل» ناظرة الى نفسها ، وهو محال.

وعند التحقيق الاشكال الاول راجع الى الثاني ، لان ايجاد قضية «صدّق العادل» الفرد التعبدى ليس معناه إلّا ايجاب ترتيب الاثر ، ولو اجبنا عنه فرغنا من الاشكالين.

والجواب ان وجوب تصديق العادل فيما اخبره ليس من قبيل الحكم المجعول للشك تعبدا ، بل مفاد الحكم هنا جعل الخبر من حيث انه مفيد للظن النوعى طريقا الى الواقع ، فعلى هذا لو اخبر العادل بشيء يكون ملازما لشيء له اثر شرعا إما عادة او عقلا او بحسب العلم نأخذ به ونرتب على لازم المخبر به الاثر الشرعى المرتب عليه ، والسر في ذلك ان الطريق الى احد المتلازمين طريق الى الآخر ، وان لم يكن المخبر ملتفتا بالملازمة ، فحينئذ نقول : يكفى في حجية خبر العادل انتهائه الى اثر شرعي.

لا يقال : ان ما ذكرت انما يصح فيما اذا كان بين المخبر به وشيء آخر ملازمة عادية او عقلية ، وليس بين المخبر به فيما نحن فيه اعنى حديث المفيد وصدقه ملازمة لا عادية ولا عقلية ، فالانتقال من خبر المفيد المخبر بقول الشيخ الى تحقق مضمونه لا يجوز إلّا ببركة قول الشارع «صدّق العادل» فيجب ان يكون هذا الحكم باعتبار تعلقه بخبر الشيخ ناظرا الى نفسه.

لانا نقول : ان الملازمة وان لم تكن عقلية ولا عادية ولكن يكفى ثبوت الملازمة الجعلية ، بمعنى انّ الشارع جعل الملازمة النوعية الواقعية بين اخبار العادل وتحقق المخبر به بمنزلة الملازمة القطعية ، ولا تكون قضية «صدّق العادل» ناظرة الى هذه الملازمة كما لا تكون ناظرة الى الملازمة العقلية والعادية ، بل يكفى في

٣٨٨

ثبوت هذا الحكم ثبوت الملازمة في نفس الامر حتى تكون منتجة للحكم الشرعى العملي ، وان شئت قلت : كما ان الطريق الى الحكم الشرعي العملى ابتداء طريق اليه ويشمله ادلة الحجية كذلك الطريق الى طريق الحكم الشرعي ايضا طريق اليه ، فيشمله دليل الحجية فافهم وتدبر. هذا.

مضافا الى ان قضية «صدّق العادل» بعد القطع بعدم كون المراد منها التصديق القلبي يجب ان تحمل على ايجاب العمل في الخارج ، وليس لقول المفيد المخبر بقول الشيخ اثر عملى اصلا ولو بعد ملاحظة كونه موضوعا لوجوب التصديق ، لان التصديق ليس اثرا عمليا في نفسه بعد ما لم يكن المراد التصديق القلبى ، والاثر العملى منحصر فيما ينتهى اليه هذه الاخبار ، وهو قول الامام عليه‌السلام «يجب الصلاة» مثلا فيجب ان يكون قضية «صدّق العادل» عند تعلقها بقول الشيخ ناظرة الى ذلك الاثر ، وهو لا يصح إلّا بملاحظة ما ذكرنا ، وبعبارة اخرى اوضح : احتمال عدم وجوب الصلاة في المثال المذكور مستند الى احتمال كذب احد العدول المذكورة في السلسلة ، فمعنى الغاء احتمال كذب العادل يرجع الى ايجاب العمل بما انتهى اليه قول الرواة العدول.

ومن الآيات التى استدل بها على حجية الخبر آية النفر ، قال الله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (١) تقريب الاستدلال بوجوه اربعة :

احدها : استظهار رجحان الحذر من لفظة لعل ، إما بانسلاخها عن معناها. الحقيقى ، وهو الترجى الواقعى ، وحملها على مطلق الطلب ، او مع ابقائها على حقيقتها ، على ما هو التحقيق ، بكون معناها هو الترجى الايقاعى ، ولا ينافى ذلك صدورها ممن هو عالم بحقيقة الامر ، ثم القول بالوجوب من باب الملازمة العقلية بين رجحان الحذر ووجوبه ، لما افاده صاحب المعالم ، من ان المقتضي

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية ١٢٢.

٣٨٩

للحذر إما ان يكون موجودا ، فيجب ، واما لا يكون موجودا ، فلا يحسن.

الثاني : استظهار رجحان الحذر مما ذكر ، مع القول بوجوبه من جهة الاجماع على عدم كون العمل بالخبر الواحد مستحبا ، لان العلماء بين من يقول بالحرمة ومن يقول بالوجوب ، فلا قائل بالاستحباب ، فاذا ثبت الرجحان ثبت الوجوب بالاجماع.

الثالث : استكشاف وجوب الحذر من جهة وقوعه غاية للانذار الواجب ، من جهة وقوعه غاية للتفقه الواجب ، من جهة وقوعه غاية للنفر الواجب بمقتضى كلمة لو لا التحضيضية.

الرابع : استظهار وجوب الانذار مما ذكر ، واستكشاف وجوب الحذر بالملازمة العقلية لانه لو لم يجب الحذر عقيب الانذار لزم لغوية وجوب الانذار.

ولا يخفى عدم تمامية شيء من الوجوه :

اما الاول ، فلا مكان كون الحذر بالنسبة الى فوت المصالح الواقعية وارتكاب المفاسد الكامنة في الاشياء.

واما الثاني ، والثالث ، فلابتنائهما على اطلاق رجحان الحذر حتى في صورة عدم العلم بمطابقة قول المنذر للواقع ، وليس الكلام مسوقا له ، كما لا يخفى.

واما الرابع ، فلانه يكفى في عدم اللغوية حصول العلم من جهة انذار المنذرين في بعض الاحيان ، ووقوع الحذر بعد العلم.

فان قلت : كيف يمكن القول بوجوب الانذار على الاطلاق وعدم القول بوجوب الحذر كذلك ، مع ان وجوب المقدمة تابع لوجوب ذيها اطلاقا وتقيدا.

قلت : قد يجب غير المقدمة معها ، لعدم كون ما هو المقدمة ممتازا عند المكلف ، فيجوز ان يجب مطلق الانذار ، لعدم تمييز الانذار المفيد للعلم من بين الانذارات ، للوصول الى ما هو المقصود الاصلى هذا.

مضافا الى احتمال ان يقال : ان الآية ليست إلّا في مقام افادة وجوب تعلم احكام الله واقعا والانذار بها والحذر عن مخالفتها ، ولا يثبت بها وجوب التعبد بما

٣٩٠

لم يعلم انه حكم الله تعالى ، كما هو محل البحث.

ثم ان شيخنا المرتضى «قدس‌سره» اورد على الاستدلال بالآية بانها اجنبية عن المقام ، فان الكلام في انه هل يجب الحكم بصدور الالفاظ المنقولة عن الحجة عليه‌السلام بالخبر الواحد او لا؟ ولا شك في ان مجرد هذا لا يوجب صدق الانذار على فعل الناقل ، ولا صدق الحذر على تصديق المنقول اليه ، فالانسب الاستدلال بها على حجية فتوى الفقيه للعامى.

وفيه انه ليس حال الناقلين للاخبار الى غيرهم في الصدر الاول الا كحال الناقلين للاحكام من المجتهدين الى مقلديهم ، فلو قال احد حاكيا من قول المجتهد : «اتقوا الله في شرب الخمر فانه يوجب العقاب» مثلا ، يصدق انه منذر ، مع ان نظره ليس بحجة ، وكذلك حال الرواة بالنسبة الى من تنقل اليهم الاخبار من دون تفاوت اصلا ، نعم يبقى الكلام في نقل الاخبار التى ليست مشتملة على الانذار ، كالاخبار الدالة على الاباحة والاستحباب والكراهة ، لكن الامر فيها سهل بعد الاجماع على عدم الفرق بين افراد الاخبار.

ومما ذكرنا في هذه الآية من عدم دلالتها على وجوب أخذ قول المنذر تعبدا تعرف بطلان الاستدلال بآية الكتمان ، لان حرمة الكتمان ووجوب اظهار الحق لا تلازم وجوب قبول السامع عند الشك تعبدا ، كما لا يخفى.

ومن الآيات التى استدل بها للمقام آية السؤال عن اهل الذكر ، قال جل وعلا : «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» (١) تقريب الاستدلال ما مر فى السابق من الملازمة ، لان ايجاب السؤال مع عدم وجوب القبول لغو.

وفيه ، مضافا الى ما مر من الجواب ، انها لو دلت على حجية الخبر لدلت على حجية الاخبار التى وردت في ان المراد باهل الذكر هم الائمة عليهم‌السلام ، وعلى هذا لا دخل لها بحجية الخبر الواحد ، فصحّة الاستدلال بها توجب عدم صحة

__________________

(١) النحل ، الآية ٤٣. الانبياء ، الآية ٧.

٣٩١

الاستدلال بها ، هذا.

ومن جملة الآيات التى استدلوا بها آية الاذن قال الله تعالى : (وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) (١) فانه تعالى قرن تصديق نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمؤمنين بتصديقه جل وعلا ومدحه بذلك.

وفيه ان الظاهر من الآية بقرينة تعدية الايمان في الفقرة الثانية باللام أن الله تعالى مدح نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحسن المعاشرة مع المؤمن بقبول قوله فيما ينفعه ولا يضر غيره ، لا بتصديق قول المؤمن مطلقا ، بمعنى ترتيب جميع الآثار كما هو المقصود ، وهذا هو المراد من التصديق في قول الامام عليه‌السلام : «فان شهد عندك خمسون قسامة انه قال قولا وقال لم اقله فصدقه وكذبهم» (٢).

واما السنّة فاخبار كثيرة ، إلّا ان صحة التمسك بها تبتنى على تواترها ، إما لفظا ، وإما معنى ، وإما اجمالا ، بمعنى العلم بصدور بعضها من الامام عليه‌السلام ، وإلّا لما امكن التمسك بها على حجية أخبار الآحاد ، والاولان وان كانا مفقودين إلّا ان الاخير ليس قابلا للانكار ، كما لا يخفى على من لاحظ الاخبار الواردة في هذا الباب ، وعلى هذا يجب الاخذ باخصها مضمونا لكونه القدر المتيقن من بينها ، وحينئذ لو نهض ما هو القدر المتيقن على حجية ما عداه لوجب الاخذ به ، كما ان الامر كذلك ، فان في الاخبار ما هو جامع لشرائط الحجية ، ويدل على حجية خبر الثقة ، وعليك بالمراجعة فيها حتى تجد صدق ما ادعينا.

ولكن المتيقن من مدلول ما هو القدر المتيقن حجية الخبر الموثوق الصدور من جهة الوثوق بصدق الراوى دون الجهات الخارجية.

نعم لو تم بناء العقلاء الذي يتكلم فيه بعد ذلك ان شاء الله لدل على حجية كل خبر يطمئن النفس بصدوره من اي جهة كان.

__________________

(١) التوبة ، الآية ٦١.

(٢) الوسائل ، الباب ١٥٧ من احكام العشرة ، الحديث ٤.

٣٩٢

واما الاجماع ، فتقريره من وجوه : احدها دعواه على حجية الخبر الواحد في قبال السيد واتباعه ، والثاني دعواه على حجيته في حال الانسداد مطلقا حتى من السيد واتباعه ، والثالث دعوى السيرة واستمرار طريقة المسلمين طرا على استفادة الاحكام الشرعية من الثقات ، والرابع استقرار طريقة العقلاء.

وتحصيل الاجماع على الوجه الاول باحد وجهين : احدهما تتبع كلمات العلماء واقوالهم رضوان الله عليهم ، والثاني تتبع الاجماعات المنقولة والعلم بتحقق الاجماع المحصل اما بنفس الاجماعات المنقولة واما بضميمة شواهد أخر.

ولا يخفى ما في كلا الوجهين ، فانّ تتبع كلماتهم مع احتمال كون مدركهم مثل آية النبأ او غير ذلك من الادلة التى ذكرت سابقا لا يوجب الحدس القطعى برأى الحجة عليه‌السلام ، ومن هنا تعرف حال الوجه الثاني.

واما دعوى الاجماع مطلقا حتى من السيد واتباعه على حجية الخبر الواحد في زمان الانسداد فلا تنفع بعد احتمال ان المستند للمطلق منهم هو الادلة التى ذكرنا ، وللمقيد منهم بحال الانسداد هو حكم العقل بحجية كل ظن ، سواء حصل من الخبر ام من غيره.

واما دعوى سيرة المسلمين فلم يحرز ان عملهم بخبر الثقات من حيث كونهم مسلمين ، لاحتمال ان يكون ذلك منهم من جهة كونهم عقلاء ، فيرجع الى الوجه الرابع.

نعم هذا الوجه اعنى بناء العقلاء لو تم عدم ردع الشارع اياهم لا ثبت المدعى فينبغى التكلم فيه.

فنقول : الذي يمكن ان يكون رادعا لهم الآيات المتكاثرة والاخبار المتواترة على حرمة العمل بما عدا العلم ، وشيء منها لا يصلح لان يكون رادعا ، بيان ذلك انه بعد فرض كون حجية خبر الثقة مركوزة في اذهان العقلاء لو تكلم احدهم مع الآخر وقال : لا يجوز او لا يحسن العمل بغير العلم ، او لا ينبغى نقض اليقين بغير اليقين ، مثلا ، يفهم السامع من كلام هذا المتكلم ان المراد من العلم

٣٩٣

اعم من الجزم وما هو بمنزلته عندهم ، والمفروض ان حجية قول الثقة مفروغ عنها عند المتكلم والسامع ، لكونهما من العقلاء ، والقضايا الصادرة عن احدهما الملقاة الى الآخر التى حكم فيها على موضوع العلم محمولة على ما هو العلم بنظرهم وفي حكمهم ، وعلى هذا نقول : ان تكلمات الشارع مع العرف والعقلاء حالها حال تكلمات بعضهم مع الآخر ، لانه بهذه الملاحظة بمنزلة احد من العرف ، ومن هذه الجهة يحمل الاحكام الشرعية الواردة في القضايا اللفظية على المصاديق العرفية ، وحينئذ نقول نهى الشارع عن العمل بغير العلم بنظر العرف والعقلاء محمول على غير صورة الاطمينان والوثوق الذي فرض كونه عنده بمنزلة العلم ، نعم لو اراد الشارع العمل بغير العلم بنظر العرف والعقلاء فالواجب ان يعلمهم بلفظ دال عليه صريحا ، كأن يقول يحرم عليكم العمل بالاطمينان ، او مثل ذلك. هذا محصل الكلام في المقام وعليك بالتأمل التام.

واستدل شيخنا المحقق الخراساني «دام بقاه» على عدم صلاحية الادلة المذكورة للردع بلزوم الدور لو كانت رادعة ، وبيانه ان رادعية تلك الادلة تتوقف على وجوب اتباعها مطلقا حتى في موارد خبر الثقة ، وهو يتوقف على عدم حجيته ، كيف ولو كان حجة لكان واردا او حاكما عليها ، فلو كان خبر الثقة غير حجة بواسطة كونها رادعة للزم الدور ، لتوقف رادعيّتها على عدم حجية خبر الثقة المتوقف على رادعيتها ، فلا تكون تلك الادلة رادعة الا على وجه دائر (١).

وفيه اولا انه يمكن تقرير نظير هذا الدور في طرف حجية خبر الثقة ، بان يقال : ان حجية خبر الثقة تتوقف على عدم رادعية تلك الادلة ، اذ على تقدير رادعيتها لا يكون خبر الثقة حجة ، كما هو المفروض ، وعدم رادعيتها يتوقف على حجية خبر الثقة ، اذ على تقدير عدم حجيته يكون عموم الادلة متبعا في موارد وجود خبر الثقة ، فلا يمكن ان يكون خبر الثقة حجة الا على وجه دائر.

__________________

(١) تعليقة المحقق الخراساني «قدس‌سره» هنا ، ص ٦٧.

٣٩٤

وثانيا ان ما افاده من توقف رادعية الادلة على عدم حجية خبر الثقة فمسلم ، لما عرفت من انه على تقدير حجيته لا يبقى مجال للعمل بالعمومات ، واما توقف عدم حجيته على رادعية تلك الادلة فممنوع ، اذ يكفى في عدم الحجية عدم العلم بامضاء الشارع ، وهو حاصل قبل الفراغ عن عدم كون تلك الادلة رادعة فتدبر جيّدا.

واما العقل : فهو من وجوه ، بعضها مختص بحجية الخبر ، وبعضها يثبت حجية مطلق الظن :

اما الاول فمن وجوه :

احدها انا نعلم اجمالا بصدور كثير من الاخبار التى بايدينا بحيث لو علم تفصيلا لا نحل العلم الاجمالي الى العلم التفصيلي والشك البدوي ، وحينئذ يجب بحكم العقل العمل بكل خبر مثبت للتكليف ، ويجوز العمل بكل خبر ناف له لخروج مورده عن اطراف العلم.

ولا يخفى ان مقتضى هذا الدليل على تقدير تماميته هو وجوب العمل بكل خبر مثبت للتكليف لو لم يكن في مورده اصل مجعول شرعي ينافي مقتضى الخبر ، وإلّا لم يكن العمل بمضمون الخبر متعينا ، بل المتعين هو العمل بالاصل ان كان مثبتا للتكليف ايضا ، وإلّا يوجب الترخيص في مخالفة الاحتياط بالعمل بالخبر.

هذا اذا كانت الاصول الواردة في موارد الاخبار حجة ، بمعنى عدم العلم بخلافها اجمالا.

واما لو علم ذلك :

فان كان هذا العلم الاجمالى في الاصول المثبتة للتكليف الواردة في موارد الاخبار المثبتة لتكليف آخر فمقتضى القاعدة التخيير ، لان المقام من دوران الامر بين محذورين ، للعلم بصدور اخبار مثبتة للتكليف اجمالا ، وشمول دليل الاصل بعض موارد وجود الاخبار على نحو الاجمال ايضا ، نعم لو قلنا بان دليل الاصل يقصر عن ثبوت الحكم في موارد العلم الاجمالى

٣٩٥

بالخلاف يجب العمل بمقتضى الاحتياط في مضمون الاخبار ، وان كان العلم الاجمالى بخلاف الاصول المثبتة في موارد الاخبار النافية فلزوم العمل بمقتضى تلك الاصول وعدمه مبنى على ما اشير به آنفا ، من قصور ادلتها في مورد العلم الاجمالى ، وعدمه ، فان قلنا بالاول فتسقط عن الحجية ، وان قلنا بالثاني ـ كما هو التحقيق ـ يجب العمل بمقتضاها ، هذا حال الاصول المثبتة في موارد الاخبار المثبتة والنافية.

واما الاصول النافية في موارد الاخبار المثبتة ، فلو علم اجمالا بخلافها يجب طرحها رأسا ، سواء قلنا بعدم شمول ادلتها لها ، ام لا ، اما على الاول فواضح ، واما على الثاني فلان العمل بالكل موجب للمخالفة القطعية ، وهي قبيحة عقلا ، والعمل بالبعض معينا ترجيح من غير مرجح ، وغير معين لا دليل عليه ، فظهر مما ذكرنا كله ان وجوب العمل بالاخبار بمقتضى هذا الدليل لا يفى بما هو المراد والمقصود من حجية الخبر هذا.

ويظهر من جواب شيخنا المرتضى «قدس‌سره» عن هذا الدليل دعوى العلم بالاحكام زائدة على المقدار المعلوم في الاخبار الصادرة ، والذي ينادي بذلك دعواه بانا لو فرضنا عزل طائفة من الاخبار وضممنا الى الباقى مجموع الأمارات التي بايدينا كان العلم الاجمالي بحاله (١) ، ومن المعلوم عدم صحة هذه الدعوى الا بعد العلم بالتكاليف زائدة على المقدار المعلوم في الاخبار الصادرة ، اذ لو لا ذلك لما حصل العلم بعد عزل طائفة من الاخبار ، لامكان كون المعلوم بتمامه في تلك الطائفة التى عزلناها.

وحينئذ لا يرد عليه اشكال ، اذ مع صحة الدعوى المذكورة لا اشكال في لزوم الاخذ بباقى الامارات ، لكونها من اطراف العلم الاجمالى ، نعم يمكن منع العلم زائدا على ما حصل لنا في الاخبار الصادرة.

الوجه الثاني : ما ذكره في الوافية ، مستدلا على حجية الخبر الموجود في

__________________

(١) الفرائد ؛ عند البحث عن الدليل الاول العقلى ، ص ٥ ـ ١٠٤ ، طبع رحمة الله.

٣٩٦

الكتب المعتمدة للشيعة ، كالكتب الاربعة ، مع عمل جمع به من غير رد ظاهر ، قال : لانا نقطع ببقاء التكليف الى يوم القيامة ، سيما بالاصول الضروريّة كالصلاة والزكاة والحج والمتاجر والانكحة ونحوها ، مع ان جل اجزائها وشرائطها وموانعها انما يثبت بالخبر الواحد الغير القطعي ، بحيث يقطع بخروج حقايق هذه الامور عن كونها هذه الامور عند ترك العمل بالخبر الواحد ، ومن انكر فانما ينكر باللسان وقلبه مطمئن بالايمان «انتهى».

اقول : هذا الدليل كالدليل الاول ، إلّا ان المدعى فيه العلم الاجمالى بصدور خصوص الاخبار الدالة على الشرائط والاجزاء والموانع ، ويرد عليه ، مضافا الى ما يرد على الاول ، انه لا يثبت وجوب العمل بالخبر المثبت لاصل التكليف.

الوجه الثالث : ما ذكره بعض الاساطين في حاشيته على المعالم ، وملخصه ان وجوب العمل بالكتاب والسنة ثابت بالاجماع ، بل بالضرورة والاخبار المتواترة ، وبقاء هذا التكليف ايضا بالنسبة الينا ثابت بالادلة المذكورة ، وحينئذ فان امكن الرجوع اليهما على وجه يحصل العلم بهما بحكم ، او الظن الخاص به ، فهو ، وإلّا فالمتبع هو الرجوع اليهما على وجه يحصل الظن منهما» (١).

اقول : لا يخفى ان المراد من السنة التى ادعى الاجماع والضرورة على وجوب العمل بها ، ان كانت السنة الواقعية فهذا يرجع الى دليل الانسداد الآتي المثبت لحجية كل ظن ، لا خصوص الاخبار ، وان كان المراد هو الاخبار الآحاد الحاكية عن السنة ، فمع انه لا ينبغى دعوى الضرورة على وجوب العمل بها ، يوجب العمل بما هو متيقن الاعتبار ، لو كان ، وإلّا فالعمل بالكل تحصيلا للامتثال اليقينى ، ولا يجوز الاكتفاء بالخبر المظنون الصدور او الاعتبار.

* * *

__________________

(١) هداية المسترشدين ، ص ٣٩١.

٣٩٧

[ادلة حجية مطلق الظن]

واما الوجوه التي استدل بها على حجية مطلق الظن من غير خصوصية للخبر فهى اربعة :

الأوّل : ان مخالفة المجتهد لما ظنه من الحكم الوجوبى او التحريمى مظنة للضرر ، ودفع الضرر المظنون لازم ، اما الصغرى ، فلان الظن بالوجوب او الحرمة مستلزم للظن بالعقوبة على المخالفة ، او بالمفسدة اللازمة لترك الواجب او فعل الحرام ، بناء على تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها ، واما الكبرى ، فلاستقلال العقل بها ، بل قيل : ان وجوب دفع الضرر المظنون متفق عليه بين العقلاء وان لم نقل بالتحسين والتقبيح.

والجواب : ان الضرر الاخروى غير مظنون ، بل ولا محتمل ، من جهة عدم البيان ، واما الغير الاخروى ان سلمنا الظن به فلا يوجب صحة العقوبة ، بداهة أنّ مجرّد هذا الظنّ ليس منشأ للعقوبة ، وليس هنا حكم عقلى يوجب العقوبة بل المحقق في موارد الظن بالضرر تحرز النفوس بمقتضى الجبلة ، ولا يختص ذلك بالعقلاء ، بل هو امر مرتكز في نفوس تمام الحيوانات ، ومعلوم ان مثل هذا الارتكاز الجبلى الذي ليس منشؤه التحسين والتقبيح ليس موجبا لصحة العقوبة.

والحاصل ان تحرزهم عن الضرر انما هو من جهة حبهم للنفس والمال ، وليس من اقدم عليه لغرض من الاغراض ممن يعد عند العقلاء مقدما على القبيح ، كمن يقدم على الظلم ، فلم يبق إلّا ان المقدم على الضرر المظنون او المحتمل يقع فيه على فرض وجوده ، وهذا لا ينكره احد ، سواء كان بناء العقلاء على الاحتراز عن الضرر ام لا ، انما الكلام في انه هل للمولى حجة على مؤاخذته مطلقا او على تقدير الوقوع في الضرر الواقعي او لا؟ وقد عرفت عدمها ، هذا.

مضافا الى انه لا يلزم ان يكون المفاسد الكامنة في فعل المحرم او ترك الواجب من الضرر الراجع الى المكلف حتى يحصل في الاقدام على المظنون

٣٩٨

الحرمة وترك المظنون الوجوب مخالفة للكبرى المدعاة ، كما هو واضح.

الوجه الثاني : انه لو لم يأخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح ، وهو قبيح.

وفيه انه ان اراد من الراجح ما هو راجح بملاحظة اغراض الفاعل ويقابله المرجوح كذلك فترجيح المرجوح بهذا المعنى غير ممكن ، لانه راجع الى نقض الغرض ، وليس مجرد الاخذ بالطرف الموهوم ترجيحا للمرجوح بهذا المعنى ، اذ ما لم يترجح بملاحظة اغراضه لم يمل اليه ، وان اراد من الراجح هو الظن فعدم الاخذ به واختيار الطرف الموهوم وان كان ترجيحا للمرجوح ، بمعنى اختيار الطرف الموهوم ، ولكن قبح ذلك موقوف على تنجز الاحكام الواقعية ولزوم امتثالها ، وانحصار طرق الامتثال بالظن او الوهم او الشك ، لكن هذا راجع الى دليل الانسداد الآتى ، وليس وجها مستقلا.

الوجه الثالث : ما عن السيد الطباطبائي «قدس‌سره» من انه لا ريب في وجود واجبات ومحرمات كثيرة بين المشتبهات ، ومقتضى ذلك وجوب الاحتياط بالاتيان بكل ما يحتمل الوجوب وترك كل ما يحتمل الحرمة ، ولكن مقتضى قاعدة نفي الحرج عدم وجوب ذلك كله ، لانه عسر اكيد وحرج شديد ، فمقتضى الجمع بين قاعدتى الاحتياط ونفى الحرج العمل بالاحتياط في المظنونات دون المشكوكات والموهومات ، لان الجمع على غير هذا الوجه باخراج بعض المظنونات وادخال بعض المشكوكات والموهومات باطل اجماعا.

ولا يخفى رجوع هذا الى دليل الانسداد المعروف ، مع اسقاط بعض المقدمات التى لا ينتج بدونها.

[في دليل الانسداد]

الوجه الرابع : هو الدليل المعروف بدليل الانسداد ، وهو مركب من مقدمات :

٣٩٩

احداها العلم الاجمالي بثبوت تكاليف كثيرة في الشريعة.

الثانية عدم لزوم الامتثال على نحو يقطع باتيانها او اتيان ما يكون بدلا عنها ، لا على وجه التفصيل ، ولا على وجه الاجمال ، سواء كان عدم لزوم ذلك بواسطة عدم التمكن ام بواسطة الاذن الصادر من الشارع.

الثالثة عدم جواز الاهمال وترك التعرض لامتثالها اصلا.

الرابعة انه في مقام دوران الامر بين الامتثال على وجه الظن وبينه على نحو الشك والوهم يكون اختيار الشك والوهم في قبال الظن قبيحا عند العقل.

ولو تمت هذه المقدمات التى ذكرناها يجب الاخذ بالظن قطعا ، اذ العلم الاجمالي بوجود التكاليف ثابت بحكم المقدمة الاولى ، وليس على المكلف امتثالها على نحو يوجب القطع بالسقوط ، لا على نحو الامتثال العلمى التفصيلى ، ولا على نحو الامتثال بالطرق المعتبرة تفصيلا ، او الاصول المعتبرة كذلك ، ولا على نحو الامتثال الاجمالي ، بحكم المقدمة الثانية ، ولا يجوز له اهمالها وعدم التعرض لامتثالها اصلا ، بحكم المقدمة الثالثة ، ولا يجوّز العقل رفع اليد عن الظن واخذ المشكوك والموهوم في قباله ، بحكم المقدمة الرابعة ، فلا سبيل له الا الاخذ بالظن.

اما المقدمة الاولى فلا سبيل الى انكارها.

اما المقدمة الثانية فتوضيحها ان الامتثال على نحو يوجب العلم ببراءة الذمة باحد امور :

منها احراز التكاليف تفصيلا بمقدار ينحل العلم الاجمالى الى العلم التفصيلى والشك البدوى والاتيان بما علم تفصيلا.

ومنها احرازها بالمقدار المذكور بالطرق الشرعية المعتبرة والاصول المثبتة للتكاليف ، والاحتياط في الموارد الجزئية التى تقتضى القاعدة الاحتياط فيها ، ولو مع قطع النظر عن العلم الاجمالي المذكور.

ومنها اتيان كل ما يحتمل كونه واجبا وترك كل ما يحتمل كونه حراما.

٤٠٠