درر الفوائد - ج ١ و ٢

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي

درر الفوائد - ج ١ و ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٥

بالظن المفروض ، بحيث كان المظنون ان العمل به محرم في هذا الحال ، فلا اشكال في تقديم الظن المانع ، فان ترك الاحتياط حينئذ يظن انه من المحرمات ، فاللازم طرح هذا الظن المتعلق بنفى التكليف الاولى وجعل المورد كالموارد التى لا ظن فيه اصلا.

هذا مقتضى القول الاول اعنى التبعيض في الاحتياط.

واما على الثاني : فالظنون النافية للتكليف باسرها لا يتفاوت حالها بين ان يظن عدم حجيتها اولا ، لان العمل بمقتضى تلك الظنون ليس من باب انها ظنون ، بل لاجراء الاصل في مواردها ، واما الظنون المثبتة له فان كان عنده من الظنون الاطمينانية ما يفى بمقدار التكليف المعلوم ، وما ظن عدم حجيته كان من الظنون الضعيفة ، فلا اشكال ايضا ، فان ما يجب اخذه لا مانع فيه ، وما فيه المانع لا يجب اخذه ، وان كان ما يظن عدم حجيته من الظنون الاطمينانية او من غيرها بناء على عدم كفاية تلك الظنون فنقول : ان كان مرجع عدم الحجية الى مجرد أن الشارع لم يجعله حجة فلا مانع من العمل بالظنون المفروضة ، فان العامل بها في حال الانسداد لا يخرج من انه وافق المقدار المعلوم من التكاليف بالظن الاطميناني او بمطلق الظن ، على اختلاف حال الاشخاص ، والعقل لا يلزم ازيد من ذلك ، على المبنى الذي ذكرناه سابقا ، وان كان المرجع الى أن الشارع جعل العمل به محرما فلا اشكال في أن الاتيان بمؤدى الظن الممنوع لا يعد من الموافقة الظنية ، فان مقتضى حرمة العمل بالظن المفروض في هذه الحال عدم فعلية الواقع المتعلق للظن الممنوع ، فان الظن بحرمة العمل بظن فعلا يلازم الظن بان التكاليف الواقعية التى فرض كونها معلومة فعلا في غير مؤدى الظن المفروض ، فلا يعد العمل بالظن المفروض من الاطاعة الظنية للتكليف الفعلى حتى يحكم بوجوبه.

هذا ما يقتضيه النظر.

واما لو قيل بحجية الظن في حال الانسداد اثباتا ونفيا ، بمعنى وجوب الاخذ

٤٢١

بمؤداه على كل حال في الواقعيات وفي الطرق ، بحيث كان ملاك الحجية في الظنون المتعلقة بالواقع موجودا مطلقا وكذا في الظنون المتعلقة بالطرق ، وبعبارة اخرى كان حال الظن حال الانسداد حال العلم حال الانفتاح فيشكل الامر في المقام من حيث ان ملاك الاعتبار موجود في كليهما ، والاخذ باحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح.

وقد يقال في المقام بتقديم الظن المانع ، فانه بمؤداه يمنع عن الظن الممنوع ، بخلاف الممنوع ، فانه لا ينفى المانع بمؤداه ، بل ينفيه بواسطة المنافاة وعدم امكان الاجتماع في الحجية ، فخروج الظن الممنوع من باب التخصص ، لانه من الظنون التي اقيم الدليل على عدم اعتبارها وقلنا بان موضوع الحجية عند العقل الظن الذي لم يقم دليل على عدم اعتباره ، بخلاف الظن المانع ، فانه ان خرج فانما هو من باب التخصيص ، ثم قاس هذا القائل المقام بمسألة الشك السببى والمسبّبى ، فان الوجه في تقديم الشك السببي ان دخوله تحت الدليل يوجب خروج الشك المسببى موضوعا ، بخلاف الشك المسببى ، فانه لا يوجب خروج الشك السببى موضوعا ، بل يوجب خروجه حكما من باب المنافاة ، فيقدم الاول لتقدم التخصص على التخصيص ، هذا.

وفيه ، ان قياس المقام بمسألة وجود الشك السببى والمسببى فاسد من وجوه :

احدها : ان الامر في ذلك المقام دائر بين التخصيص والتخصص ، بخلاف مقامنا فان اجراء الحكم على كل من الظنين يوجب خروج الآخر عن الموضوع ، لان المفروض أن الموضوع مقيد بعدم قيام الدليل على عدم حجيته ، والدليل على حجية شيء تلازم عدم حجية شيء آخر دليل على عدم حجية ذلك الشيء الآخر.

وثانيها : لو سلمنا أن الامر في ذلك المقام ايضا لم يكن دائرا بين التخصيص والتخصص ، بل يكون كالمقام دائرا بين التخصصين ، كما اذا قلنا بحجية الاستصحاب من باب الطريقية فيلزم منه القول بانه اذا اجرى في الشك المسببى يزول الشك في السبب ، كالعكس ، من باب لزوم الاخذ بلوازم

٤٢٢

الطريق ، ولكن يمكن القول بتقديم الشك السببى من جهة تقدم وجوده على الشك المسببى رتبة ، فيرتب عليه حكمه من دون مزاحم في مرتبته ، حيث إن الشك المسببى الذي هو معلوله ليس موجودا في مرتبة العلة ، بخلاف مقامنا هذا ، لعدم الترتب بين الظنين في مرتبة الوجود.

وثالثها : لو فرضنا كون الامر دائرا بين التخصيص والتخصص في المقام فلا وجه ايضا لتقديم الظن المانع.

توضيح ذلك : ان تقدم التخصص على التخصيص في مقام الدوران انما يكون في العمومات اللفظية ، من جهة لزوم الاخذ بظاهرها حتى يدل دليل على الخلاف ، فما دام فرد العام موجودا لا يجوز رفع اليد عن الحكم المستفاد من القضية الا بواسطة الدليل المخرج ، وأمّا اذا انتفى الفرد عن الفردية فليس رفع اليد عن حكمه خلافا للقاعدة ، وأمّا فيما نحن فيه فان موضوع حكم العقل مع قطع النظر عن وروده على المانع او الممنوع متحقق في كلا الفردين ، لان كلا منهما ظن لم يقم دليل على عدم اعتباره ، ومن الواضح ان مجرد لزوم التخصيص على تقدير والتخصص على تقدير آخر لا يوجب الترجيح في حكم العقل ، فان مسألة الترجيح بالتخصص انما هي في مقام الاثبات والاستفادة ، دون مقام اللب والثبوت ، فلا بد في اجراء حكم العقل على احدهما دون الآخر من خصوصية واقعية توجب ترجيح احدهما على الآخر عند العقل فتدبر جيدا.

ومما ذكرنا ظهر لك ما في ما افاده شيخنا المرتضى «قدس‌سره» في توجيه هذا الكلام بقوله : ان القطع بحجية المانع عين القطع بعدم حجية الممنوع ، لان معنى حجية كل شيء وجوب الاخذ بمؤداه ، لكن القطع بحجية الممنوع التى هي نقيض مؤدى المانع مستلزم للقطع بعدم حجية المانع ، فدخول المانع لا يستلزم خروج الممنوع ، وانما هو عين خروجه ، فلا ترجيح ولا تخصيص ، بخلاف دخول الممنوع فانه يستلزم خروج المانع فيصير ترجيحا من غير مرجح

٤٢٣

«انتهى» (١).

وانت خبير بما فيه ، لانه مع قطع النظر عن الحكم الذي جاء من قبل دليل الانسداد لم يكن بين الظنين تفاوت ، فما الذي اوجب جريانه في الظن المانع دون الممنوع.

والاولى في الجواب منع المبنى ، بانا لا نسلم وجود ملاك الاعتبار في كل ظن لم يقم على عدم اعتباره دليل ، بل الملاك إمّا الظن بعدم حصول المخالفة بمقدار ما علم اجمالا ، او الظن بحصول الموافقة بالمقدار المذكور ، والظن الذي فرض كونه ممنوعا اذا انسلخ منه ذلك العنوانان لم يؤخذ به ، لعدم وجود الملاك فيه ، وإلّا فلا مانع من اخذه ، ومع كون ملاك الاعتبار ما ذكرنا لا يمكن وقوع التعارض بين فردين من الظن فليتأمل جيدا.

قال شيخنا الاستاذ «دام بقاه» في الكفاية في هذا المقام : ان التحقيق بعد تصور المنع عن بعض الظنون في حال الانسداد انه لا استقلال للعقل بحجية ظن احتمل المنع منه ، فضلا عما اذا ظن ، كما اشرنا اليه في الفصل السابق ، فلا بد من الاقتصار على ظن قطع بعدم المنع عنه بالخصوص ، فان كفى ، وإلّا فبضميمة ما لم يظن المنع عنه ، وان احتمل مع قطع النظر عن مقدمات الانسداد ، وان انسد باب هذا الاحتمال معها ، كما لا يخفى ، وذلك ضرورة عدم الاحتمال مع الاستقلال حسب الفرض ، ومنه انقدح انه لا تتفاوت الحال لو قيل بكون النتيجة هي حجية الظن في الاصول او في الفروع او فيهما «انتهى» (٢).

اقول : احتمال منع الشارع في حال الانسداد عن ظن كاحتمال جعل الشارع ظنا في حال الانفتاح ، فكما ان الاحتمال الثاني لا ينافي استقلال العقل بعدم الحجية كذلك الاحتمال الاول لا ينافي استقلال العقل بالحجية ،

__________________

(١) الفرائد ، ذيل المقام الثاني من التنبيه الثاني في الانسداد ، ص ١٦٣ طبع رحمة الله.

(٢) الكفاية ، ج ٢ ، ص ١٤٧ (طبعة المشكيني).

٤٢٤

والسر في ذلك ان الجعل الواقعي للطريق اثباتا ونفيا لا يترتب عليه اثر الحجية ما لم يثبت بعلم او علمى ، فاذا لا منافاة بين احتمال منع الشارع عن اتباع ظن واستقلال العقل بحجيته لعدم ثبوت ذلك المنع بطريق معتبر من العلم او العلمى ، وكذا لا منافاة بين الظن بذلك واقعا واستقلال العقل بحجية الظن الممنوع ، لتحقق الملاك في الظن الممنوع دون المانع فتدبر جيدا.

٤٢٥

المبحث الثالث ، في مسائل الشك

وفيه مقاصد

المقصد الأوّل : في اصالة البراءة

اعلم ان من وضع عليه قلم التكليف اذا التفت الى الحكم الشرعي في الواقعة فاما ان يكون قاطعا اولا ، وعلى الثاني اما ان يكون له طريق معتبر اولا.

ولا اشكال في ان مرجع القاطع الى قطعه ، كما انه لا اشكال في ان مرجع من جعل له طريق معتبر الى الطريق المجعول له.

واما الاخير فمرجعه الى القواعد المقررة للشاك وهي منحصرة في اربع ، لان الشك اما ان يلاحظ فيه الحالة السابقة اولا ، فالاول مجرى الاستصحاب ، والثاني اما ان يكون الشك فيه في جنس التكليف اولا ، والاول مجرى اصالة البراءة ، والثاني اما ان يمكن فيه الاحتياط أو لا ، فالاول مورد الاحتياط ، والثاني مجرى التخيير ، وانما عدلنا عما ذكره شيخنا المرتضى «قدس‌سره» من التقسيم الى ما ذكرنا لانه لا يخلو عن مناقشة واختلال.

ثم انك قد عرفت ان الشاك موضوع للقواعد الاربع ، والمقصود بالبحث في هذه الرسالة التعرض لتلك القواعد تفصيلا.

فههنا اربع مسائل :

المسألة الاولى

في حكم الشاك في جنس التكليف ولم يلاحظ له حالة سابقة ، وان حكمه بعد الفحص عن الدليل واليأس عنه هل هو البراءة او الاحتياط؟ سواء كان الامر دائرا بين الحرمة وغير الوجوب ، او الوجوب وغير الحرمة ، وسواء كان

٤٢٦

الشك من جهة عدم النص او من جهة اجمال النص او من جهة تعارض النصين ، لان المقصود بيان الاصل في الشبهات البدوية ، والصور المذكورة لا تفاوت بينها بحسبه ، وان اختص بعض منها بحكم آخر لدليل خارجي.

اذا عرفت هذا فنقول ـ وبالله التوفيق ـ : الاقوى ان مقتضى القاعدة في الشبهات المذكورة هو البراءة وعدم لزوم الاحتياط ، لنا على ذلك حكم العقل بقبح العقاب من دون حجة وبيان ، وهذه قاعدة مسلمة عند العدلية ، ولا شبهة لاحد فيها ، إلّا ان ما يمكن ان يكون رافعا لموضوعها بزعم الخصم امور (١) نتكلم فيها حتى يتضح الحال ان شاء الله.

[ادلّة القول بالاحتياط]

احدها وجوب دفع الضرر المحتمل عقلا ، وهذه ايضا قاعدة عقلية يجب العمل بها ، فاذا كان الفعل محتمل الحرمة يحتمل في ايجاده الضرر ، وكذا اذا كان محتمل الوجوب يحتمل في تركه الضرر ، والعقل حاكم بوجوب دفع الضرر ، فيجب بحكم العقل ترك الاول وايجاد الثاني ، وبعد ثبوت هذا الحكم من العقل يرتفع موضوع تلك القاعدة.

والجواب : ان الضرر المأخوذ في موضوع القاعدة الثانية ان كان الضرر

__________________

(١) منها : بيانية نفس الاحتمال بتقريب ان العبد كما يحتاط في موارد احتمال الارادة الفاعلية لنفسه ما لم يزاحم بجهة اخرى من حرج ونحوه يجب ان يحتاط في موارد احتمال الارادات الآمرية لمولاه ، وإلّا كان ذلك نقصا في مقام عبوديته حيث لم يجعل نفسه بمنزلة جوارح المولى ، وفيه ان المطلوب في حق الفاعل ليس إلّا نيل اغراضه ، فلهذا يحتاط في مورد الاحتمال ، واما العبد فليس المهم في حقه الا اقامة الحجة في جواب المولى ، ولا شبهة في ان عدم العلم حجة مقبولة من العبد. [م. ع. مد ظله. آية الله العظمى الحاج الشيخ محمّد على العراقي «الاراكي» مد ظلّه].

٤٢٧

الاخروى فلا يكون محتملا حتى يجب دفعه ، لان المفروض عدم البيان غير هذه القاعدة ، وهي لا تكون بيانا الا على وجه دائر ، لان جريانها يتوقف على الموضوع ، والموضوع يتوقف على جريانها ، وان كان الضرر ما يكون لازما لفعل كل حرام وترك كل واجب كما يقول به العدلية فاحتماله وان كان ملازما لاحتمال التكليف ولم يكن محتاجا الى البيان إلّا ان حكم العقل بوجوب دفعه ليس إلّا لاجل الخوف من الوقوع فيه ، ولا يترتب على مخالفته سوى الوقوع في المفسدة الذاتية على تقدير الثبوت ، ولا يكفى هذا الحكم في اثبات العقاب من المولى ، لان عقاب المولى لا يصح إلّا مع المخالفة ، ولا يتصور هنا مخالفة الا على تقدير الالتزام بان القاء النفس في المفسدة المحتملة من الافعال القبيحة عند العقل على اي حال ، سواء كان في الواقع مفسدة ام لا ، حتى يستكشف بقاعدة الملازمة تعلق نهى الشارع بهذا العنوان ويصير اتيانه مخالفة للنهى ، وليس الامر كذلك ، للزوم ان يكون محتمل المفسدة مقطوع المفسدة عند العقل ، وهذا واضح البطلان ، والحاصل انه ليس في المقام الا ارشاد العقل بالتجنب عن المفسدة المحتملة ، ولا يترتب عليه الا نفس تلك المفسدة على تقدير الثبوت.

وقد يجاب ايضا بان الشبهة في المفسدة من الشبهات الموضوعية التى لا يجب فيها الاحتياط اتفاقا ، ولكنه مخدوش بعدم ثبوت الاتفاق على البراءة حتى في مثل هذه الشبهة ، كيف والخصم يستدل على دعواه بوجوب دفع المفسدة المحتملة ، والمتيقن من مورد الاتفاق انما هو الشبهات التي لم يكن كشفها وظيفة الشارع ، مثل كون هذا المائع بولا او خمرا ونحو ذلك ، فالعمدة في الجواب ما ذكرنا فلا تغفل.

الامر الثاني : من الامور التى يمكن ان يكون بيانا وحجة على العقاب بزعم الخصم الآيات والاخبار.

اما الآيات : فهى على صنفين :

٤٢٨

احدهما : ما دل على النهى عن القول بغير العلم.

والجواب عنه واضح ، لانا لا نقول بان الواقعة المشكوكة محكومة بالحلية في نفس الامر حتى يكون قولا بغير علم ، بل نقول بان اتيان محتمل الحرمة بعد الفحص عن الدليل لا يوجب عقابا وكذا ترك محتمل الوجوب ، وهذا ليس قولا بغير علم ، بل هو مقتضى حكم العقل القطعى بقبح العقاب من دون بيان.

الثاني : ما دل بظاهره على لزوم الاحتياط والتورع والاتقاء مثل قوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) (١) ، (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) (٢) وقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (٣) وكذا (لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (٤).

والجواب عما عدا الاخير ان الاتقاء يشمل فعل المندوبات وترك المكروهات ، ولا اشكال في عدم وجوبهما ، فيدور الامر بين تقييد المادة بغيرهما وبين التصرف في هيئة الطلب بحملها على ارادة مطلق الرجحان حتى لا ينافي فعل المندوب وترك المكروه ، ولا اشكال في عدم اولوية الاول ان لم نقل باولوية الثاني من جهة كثرة استعمالها في غير الوجوب حتى قيل انه صار من المجازات الراجحة المساوى احتمالها مع الحقيقة.

واما عن آية التهلكة فبان الهلاك بمعنى العقاب معلوم العدم ، لعدم البيان عليه ، وبدونه قبيح ، ولا يمكن ان يكون هذا النهى بيانا ، اذ موضوعه التهلكة ، ولا يمكن ان يتحقق الموضوع بواسطة حكمه ، واما الهلاك بمعنى المفاسد المترتبة على فعل الحرام وترك الواجب فالحق ان الآية لا تشملها ، لانها مما لم يقل به الا الاوحدى من الناس بالبرهان العقلى ، حتى ان بغضا من العدلية لا يلتزمون

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ١٠٢.

(٢) سورة الحج ، الآية ٧٨.

(٣) سورة التغابن ، الآية ١٦.

(٤) سورة البقرة ، الآية ١٩٥.

٤٢٩

بتبعية الاحكام للمصالح والمفاسد في المتعلق ، بل يكتفون بوجود المصلحة في التكليف ، فكيف يحمل الخطابات المنزلة على فهم العرف على هذا المعنى الدقيق الذي لا يعرفه إلّا البعض بمقتضى البرهان العقلي.

ويمكن ان يقال على فرض شمولها للمفاسد الذاتية لا تدل على دعوى الخصم ، لانها تدل على حرمة القاء النفس في الهلكة الواقعية ، ولا دلالة لها على حكم حال الشك.

وفيه ان الظاهر ان القاء النفس في التهلكة اعم من الاقدام على الهلكة اليقينية والمحتملة عرفا ، ولا اقل من شمولها لموارد الظن بالتهلكة ، وان كان غير معتبر ، فيلحق به الشك لعدم القول بالفصل ، فالاولى في الجواب ما ذكرنا.

واما الاخبار فهي على اصناف :

احدها : ما دل على حرمة القول بغير علم ؛ وقد مر الجواب عنه.

الثاني : ما دل على وجوب التوقف عند الشبهة ، وهذا الصنف مختص بالشبهة التحريمية بقرينة التوقف الذي يكون عبارة عن عدم المضى والحركة الى جانب الفعل.

والثالث : الاخبار الدالة على وجوب الاحتياط ، وهى اعم موردا من السابق ، لانها تشمل الشبهة التحريمية والوجوبية.

اما ما دل منها على التوقف فهو اكثر من ان يحصى ، وتقريب الاستدلال به ان الظاهر من هذه الاخبار الكثيرة ان عدم التوقف والحركة الى ناحية الفعل المحتمل حرمته موجب للاقتحام في الهلكة ، والظاهر من الهلكة العقاب الاخروى ، فمحصل هذه الاخبار ان الاقدام على فعل ما احتمل حرمته موجب لثبوت العقاب على تقدير كون الفعل المأتى به محرما في الواقع.

لا يقال : ان الاوامر المتعلقة بالتوقف لا يمكن ان تكون بيانا لثبوت العقاب ، لانها انما جاءت من جهة الهلكة كما هو مقتضى التعليل في الاخبار ، والحكم الذي جاء من جهة الهلكة لا يعقل ان يكون منشأ لثبوتها ، للزوم الدور ،

٤٣٠

فمورد هذه الاخبار مختص بالشبهة التى قامت الحجة في موردها على الواقع على تقدير ثبوته ، كالشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي ونحو ذلك ، واما الشبهات البدوية بعد الفحص عن الدليل فليس مرتكبها مقتحما في الهلكة حتى يجب عليه التوقف ، للقطع بعدم الهلكة فيها من جهة قبح العقاب من دون بيان.

لانا نقول : اذا تعلق حكم بطبيعة وعلل بعلة وكان المتكلم في مقام البيان فالظاهر ان تلك الطبيعة في اي فرد وجدت محكومة بذلك الحكم وان العلة سارية في جميع افراد تلك الطبيعة ، ولا فرق فيما قلنا بين ان يكون الحكم المذكور في القضية مولويا وبين ان يكون ارشاديا ، ألا ترى ان الطبيب لو قال للمريض كل الرمان لانه مزيل للصفراء يفهم منه ان ازالة الصفراء سارية في تمام افراده وان هذه الطبيعة من دون تقييدها بشيء تصلح لذلك المريض.

والحاصل انه لا اشكال في ظهور ما قلنا ، وان الاخبار تدل على ان مطلق الشبهة يجب فيها التوقف ، لان عدم التوقف فيها موجب للاقتحام في الهلكة ، فيجب الجمع بين هذا الاطلاق والقاعدة العقلية التي مرت سابقا من قبح العقاب من دون بيان ، بان يستكشف من هذه الادلة ان الشارع قد كان اوجب الاحتياط على المخاطبين بالخطاب المدلول عليه بهذه الاخبار ، وإلّا لم يصح التعليل المذكور في الاخبار ، فاذا ثبت وجوب الاحتياط على المخاطبين بهذه الخطابات ثبت وجوبه علينا ايضا ، للقطع بالاشتراك في التكليف.

هذه غاية ما يمكن ان يقال في تقريب الاستدلال بهذه الاخبار.

والجواب اولا بانا نمنع ظهور المشتبه في كل محتمل ، بل قد يطلق على فعل يحتمل فيه الخطر ، وبعد احتمال ذلك في اللفظ لا يتعين المعنى الاول ، بل يتعين الثاني بقرينة التعليل ، فلا ربط حينئذ لتلك الاخبار بمذهب المدعى.

وثانيا : على فرض ظهور هذه الاخبار في العموم لا مناص من حملها على ارادة مطلق الرجحان وحمل الهلكة فيها على الاعم من العقاب وغيره من المفاسد ، لانه من الموارد التى اديت بهذه العبارة في الاخبار على سبيل التعليل

٤٣١

النكاح في الشبهة وقد فسره الصادق عليه‌السلام بقوله : «اذا بلغك انك رضعت من لبنها او انها لك محرمة وما اشبه ذلك» (١) ولا اشكال في ان مثل هذا النكاح لا يجب الاجتناب عنه ولا يوجب عقابا وان صادف المحرم الواقعي ، فان مثل هذه الشبهة من الشبهات الموضوعية التي يتمسك فيها بالاصل اتفاقا ، مضافا الى قيام الاجماع ايضا فيها ، والحاصل ان قولهم عليهم‌السلام : «فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» اجرى في موارد وجوب التوقف وفي موارد عدم وجوب التوقف ، فاللازم ان نحمله على ارادة مطلق الرجحان حتى يلائم كليهما.

وثالثا مع قطع النظر عن بعض موارد تلك الاخبار نعلم من الخارج عدم وجوب التوقف في بعض من الشبهات التحريمية ، كالشبهات الموضوعية باعتراف الخصم ، فيدور الامر بين تخصيص الموضوع بغيرها او حمل الهيئة على مطلق الرجحان ، ولا ريب في عدم رجحان الاول ان لم نقل بالعكس ، فيسقط عن الدلالة على ما ادعاه الخصم.

واما الصنف الثالث : من الاوامر التى دلت بظاهرها على وجوب الاحتياط فهي كثيرة :

منها صحيحة عبد الرحمن ابن الحجاج قال سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجلين اصابا صيدا وهما محرمان ، الجزاء بينهما او على كل واحد منهما جزاء فقال عليه‌السلام : لا ، بل عليهما ان يجزى كل واحد منهما الصيد ، قلت : ان بعض اصحابنا سألنى عن ذلك فلم ادر ما عليه ، فقال : اذا اصبتم بمثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه فتعلموا (٢).

ومنها موثقة عبد الله بن وضاح قال كتبت الى العبد الصالح عليه‌السلام

__________________

(١) الوسائل ، الباب ٥٧ من ابواب مقدمات النكاح ، الحديث ٢.

(٢) الوسائل ، الباب ١٨ من ابواب كفارات الصيد ، الحديث ٦.

٤٣٢

يتوارى القرص ويقبل الليل ثمّ يزيد الليل ارتفاعا وتستتر عنا الشمس ، وترتفع فوق الجبل حمرة ، ويؤذن عندنا المؤذنون ، أفاصلى حينئذ وافطر إن كنت صائما؟ او انتظر حتى يذهب الحمرة التى فوق الجبل؟ فكتب الى : أرى لك ان تنتظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك ، الخبر (١).

ومنها خبر التثليث المروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والوصى وعن بعض الائمة عليهم‌السلام ، ففي مقبولة ابن حنظلة الواردة في الخبرين المتعارضين بعد الأمر باخذ المشهور منهما وترك الشاذ النادر معللا بقوله عليه‌السلام فان المجمع عليه لا ريب فيه قوله عليه‌السلام : «انما الامور ثلاثة» امر بين رشده فيتبع ، وامر بين غيّه فيجتنب ، وامر مشكل يرد حكمه الى الله ورسوله ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حلال بين ، وحرام بين ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجى من المحرمات ، ومن اخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم (٢).

ومنها ساير الاخبار الآمرة بالاحتياط في الدين ، مثل ما ورد من قول امير المؤمنين عليه‌السلام لكميل ابن زياد «رضى الله عنه» : اخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت (٣) وامثال ذلك.

والجواب اما عن الصحيحة فبان قوله عليه‌السلام : «اذا اصبتم بمثل هذا» يحتمل ان يكون اشارة الى السؤال ، يعنى اذا سألتم عن مثل هذه الواقعة من الوقائع المشكوك فيها ولم تدروا حكمها فعليكم بالاحتياط ، ويحتمل ان يكون اشارة الى نفس الواقعة يعنى اذا ابتليتم بالوقائع المشكوك فيها فعليكم بالاحتياط ، وعلى الاول يحتمل ان يكون المراد من قوله عليه‌السلام : «فعليكم

__________________

(١) الوسائل ، الباب ١٦ من ابواب المواقيت ، الحديث ١٤.

(٢) الوسائل ، الباب ١٢ من ابواب صفات القاضي ، الحديث ٩.

(٣) الوسائل ، الباب ١٢ من ابواب صفات القاضي ، الحديث ٤١.

٤٣٣

بالاحتياط» ايجاب التوقف وترك القول بما لا يعلم ، وان يكون المراد ايجاب الافتاء بالاحتياط ، والاخير بعيد جدا ، وعلى الثاني يمكن ان يكون المراد من قوله عليه‌السلام : «بمثل هذا» جميع الوقائع المشكوك فيها ، وان يكون المراد ما كان مماثلا لواقعة جزاء الصيد في كونه مرددا بين الاقل والاكثر ، واستدلال الاخباريين مبنى على حمل الرواية على المعنى الاول ، بالوجه الثاني الذي قلنا بانه بعيد جدا ، او على المعنى الثاني ، بالوجه الاول ، اما الاول منهما ففي غاية البعد ، واما الثاني فيلزم عليهم الحكم بالاحتياط في الشبهات الوجوبية البدوية ، ولم يلتزم اكثرهم بذلك ، مضافا الى عدم ترجيح هذا الاحتمال ، فيسقط الخبر عن صحة الاستدلال.

واما عن الموثق فبأنه مع اضطرا به لا يدل على المطلوب لانه ان حمل على كفاية استتار القرص ووجوب الانتظار حتى يحصل القطع بتحققه ، فمع بعده عن ظاهر الخبر ـ كما لا يخفى ـ لا يدل إلّا على انه في امثال المقام ـ مما اشتغلت ذمة المكلف بتكليف ـ يجب عليه ان يحتاط حتى يحصل له اليقين بالبراءة ، وان حمل على عدم كفاية استتار القرص فيشكل حكم الامام عليه‌السلام بالاحتياط ، مع ان المورد من الشبهات الحكمية التى تكون وظيفة الامام عليه‌السلام رفع الشبهة فيها ، فلا بد ان يحمل هذا البيان منه على التقية ، بمعنى انه أرى عليه‌السلام ان قوله بالانتظار ليس من اجل عدم كفاية الاستتار ، بل من جهة حصول القطع بتحققه لمكان الاحتياط اللازم في المورد ، بل يمكن أن يقال إن الظاهر من قوله عليه‌السلام «ارى لك» استحباب الانتظار احتياطا فيكون هذا ايضا شاهدا على التقية ، ويمكن قريبا ان يكون قوله عليه‌السلام : «وتأخذ بالحائطة لدينك» متمما للفقرة الاولى لا تعليلا لها ، فالمراد على هذا انه يجب عليك الانتظار على نحو الاحتياط من دون ان يلتفت الى مذهبك احد.

واما عن خبر التثليث فينبغى اولا ذكر موارد الاستدلال به ثم الجواب عنه وهي ثلاثة :

٤٣٤

احدها : ايجابه الاخذ بالمشهور وطرح الشاذ النادر معللا بان المجمع عليه لا ريب فيه فيستفاد من التعليل ان الوجه في وجوب طرح الشاذ كونه مما فيه ريب ، وبمقتضى عموم هذه العلة يجب رفع اليد عن كل ما فيه الريب وطرحه والاخذ بما لا ريب فيه ، وهذا مفاد قولهم عليهم‌السلام في بعض الاخبار : «دع ما يريبك الى ما لا يريبك» (١) فشرب التتن مثلا مما فيه ريب ، وتركه مما لا ريب فيه ، ومقتضى قوله عليه‌السلام وجوب طرح الاول والاخذ بالثاني.

الثاني تقسيم الامام عليه‌السلام الامور على ثلاثة اقسام ، والحكم بوجوب رد الشبهات الى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الثالث : النبوي الذي استشهد به الامام عليه‌السلام وهو قوله : «حلال بين ، وحرام بين ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجى من المحرمات ومن اخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم».

والجواب اما عن الاول فبان السؤال انما يكون عن الخبرين المتعارضين وانه بايهما يجب الاخذ على انه طريق وحجة ، فيستفاد من الجواب بملاحظة عموم التعليل ان الاخذ بكل ما فيه الريب بعنوان انه حجة بينه وبين الله غير جائز ، ولا شك في ذلك ولا دخل له بما نحن بصدده من لزوم الاحتياط في مقام العمل وعدمه.

واما عن الثاني فبان حكم الامام عليه‌السلام برد الشبهات الى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ظاهره عدم القول بما لا يعلم ، ولا اشكال ايضا في ذلك ، ولا يدفع ما ندعيه ، كما لا يخفى.

واما النبوى فان كان المراد من الهلكة فيه العقاب كما هو الظاهر فاللازم حمله على الارشاد وتخصيصه بموارد ثبوت الحجة على الواقع ، وان كان ما يعم المفاسد الذاتية فاللازم حمل الطلب فيه على مطلق الرجحان ، ويمكن ان يقال :

__________________

(١) الوسائل ، الباب ١٢ من ابواب صفات القاضي ، الحديث ٣٨.

٤٣٥

ان المحرمات الواقعية التى لا دليل على ثبوتها ليست داخلة في هذا التقسيم ، بل هو ناظر الى المحرمات المنجزة والمحللات والشبهات بين الحرام المنجز والحلال ، كالشبهات في اطراف العلم الاجمالي ، ولا اشكال في وجوب الاحتياط فيها (١).

واما عن ساير الاخبار الآمرة بالاحتياط فبأن الامر فيها دائر بين التصرف في المأمور به ، بحمله على غير الشبهات الموضوعية التى ليس الاحتياط فيها واجبا اتفاقا ، وبين التصرف في الهيئة بحملها على ارادة مطلق الرجحان ، ولا اقل من عدم ترجيح الاول ان لم يكن الثاني اولى ، كما هو واضح ، مضافا الى ان الظاهر من كلها او جلها الاستحباب كما لا يخفى على من راجعها.

الامر الرابع : (٢) من الامور التى تمسك بها الخصم العلم الاجمالي بوجود احكام كثيرة ، وهذا العلم حاصل لكل من علم ببعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا طريق الى انكاره الا المكابرة ، ومقتضى هذا العلم الاحتياط في

__________________

(١) فان قلت : بعد حمل الفقرة الاولى على مقام التعبد ، والثانية على الفتوى ، والثالثة على العمل الخارجي ، فكيف يمكن تطبيقها على المورد ، وهو الاخذ بالرواية الشاذة ، مع ان التعبد بالمشكوك فضلا عن الفتوى به داخل في البين الغي والحرام البين ، وظاهر الرواية جعل المقام من مصاديق المشكل والشبهة.

قلت : اما كون المقام من مصاديق المشكل والشبهة فبملاحظة نفس الرواية الشاذة ، والعمل بها بقرينة المقام محمول على التعبد والفتوى لا العمل الخارجي ، ووجه كونها مشتبهة انه بعد القطع بصدور الرواية المشهورة ـ كما هو مقتضى مادّة الشهرة لغة ـ يصير ذلك سببا للقطع بعدم جواز الاخذ بالمضمون الظاهري للرواية الشاذة ؛ اما للخلل في صدورها او في جهتها او في دلالتها ، بان كانت هناك قرينة متصلة فسقطت من البين ، فالرواية الشاذة امر مشكل لا يسوغ لنا التعرض لتعيين حالها من بين تلك الجهات ، بل يرد حكمه الى الله تعالى. (م. ع. مد ظلّه).

(٢) كذا في نسخة الاصل ، ولعلّه مبنى على عد كلّ من الآيات والاخبار امرا مستقلا ، وإلّا فمقتضى السياق ان يقال : الامر الثالث (المصحح).

٤٣٦

كل شبهة وجوبية او تحريمية ، لان الاشتغال اليقيني بالتكاليف يقتضى البراءة اليقينية منها بحكم العقل ، غاية الامر انّه ان ثبت عدم وجوب الاحتياط في الشبهات الوجوبية بالدليل نقول بمقتضاه في خصوص تلك الشبهة وتبقى الشبهات التحريمية باقية على مقتضى العلم الاجمالي.

لا يقال : ان هذا العلم انما يكون قبل مراجعة الادلة ، واما بعدها فالمعلوم اشتغال الذمة بمقتضى مداليل الادلة ، والزائد مشكوك فيه ، وبعبارة اخرى : بعد مراجعة الادلة ينحل العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي والشك البدوى.

لانا نقول : ان كان المراد ان الادلة توجب القطع بالاحكام الواقعية فكل منصف يقطع بخلاف ذلك ، وان كان المراد انه مع كون الادلة لا تفيد القطع يجرى الاصل في الموارد الخالية عنها فالجواب بانه لا وجه لذلك ، فان مقتضى دليل حجية الامارات وجوب الاخذ بمؤداها لا حصر التكاليف الواقعية بمواردها : وحينئذ لا منافاة بين وجوب الاخذ بمؤدى الامارات بمقتضى دليل اعتبارها ووجوب الاخذ بمقتضى العلم الاجمالي الموجود فعلا بالاحتياط في الاطراف الخالية عن الامارة ، هذا.

والجواب عنه بوجوه : احدها : ان العلم الاجمالى بالتكاليف لا يقتضى إلّا الاتيان بالمقدار المعلوم اما حقيقة كما لو علم بالمقدار المعلوم تفصيلا واتى به ، وإما حكما ، كما لو اتى بمؤديات الطرق التى نزلها الشارع منزلة الواقع فالآتي بها كالآتي بنفس الواقعيات ولا شيء عليه سوى ذلك.

ويمكن الخدشة في هذا الجواب بان العلم الاجمالي يقتضى عدم المخالفة بالمقدار المعلوم اجمالا (١) لا المطابقة بذلك المقدار ، كما سبق في مبحث دليل

__________________

(١) لا ينافي هذا مع ما قويناه اخيرا من جواز قناعة الآمر في مقام الامتثال بالمصداق البدلي ، فان ما قلناه هناك في ما جعل بدلا للمعلوم بالاجمال بالخصوص ، ومعناه انه لو فرض وجوده في الطرف الذي ارتكبه كان هذا الطرف الآخر بدلا عنه ، لا في مثل المقام مما جعل شيئا بدلا عن الواقع بلا نظر الى خصوص المعلوم الاجمالي. (م. ع. مد ظلّه).

٤٣٧

الانسداد وجعلناه مبنى القول بالتجزي في الاحتياط.

الوجه الثاني : انه بعد قيام الادلة على الواجبات والمحرمات بالمقدار المعلوم بالاجمال ينحل العلم الاجمالي الى العلم التفصيلي والشك البدوي (١) ، لان الاتيان بما دلت الادلة على وجوبه واجب وكذا ترك ما دلت على تحريمه ، ولا يكون لنا علم بالتكليف سوى ما علم تفصيلا لاحتمال انطباق المعلوم بالاجمال على المعلوم بالتفصيل.

فان قلت : هذا لو اطلع على الادلة قبل العلم الاجمالي او مقارنا له صحيح ، لما ذكر من عدم العلم بازيد مما علم تفصيلا بمجرد احتمال التطبيق ، واما لو اطلع على الادلة بعد العلم الاجمالي فلا يكفى مجرد احتمال انطباق المعلوم بالاجمال على مداليل الادلة ، لتنجز الواقعيات بواسطة العلم ، ويجب بحكم العقل الامتثال القطعي.

قلت : يشترط في بقاء اثر العلم الاجمالي كونه باقيا ، بمعنى ان يكون عالما في الزمان الثاني اجمالا بوجود التكليف في الزمن الاول ، وان لم يكن عالما به بملاحظة الزمن الثاني من جهة انعدام بعض الاطراف او خروجه عن محل الابتلاء او غير ذلك ، ولهذا لو شك في الزمان الثاني في ثبوت التكليف في الزمن الاول لم يكن اثر للعلم الاول بلا اشكال ، فحينئذ نقول : العلم الاجمالي وان

__________________

(١) فيه انه لو كان للمعلوم الاجمالي عنوان ولم يحرز ذلك العنوان في المعلوم التفصيلي فلا يحصل الانحلال ، وفي مقامنا الامر بهذا المنوال ، فان المعلوم بالاجمال هو التكاليف المتعلقة بالعناوين الاولية للاشياء ، والتكاليف الطرقية التي هي المعلوم التفصيلي وان كانت منطبقة لبا في صورة المصادفة مع تلك التكاليف وليست تكاليف آخر بقبالها إلّا ان المؤاخذة والمسئولية لا اشكال في كونها مترتبة على مخالفة نفسها ، والمسئول عنه مثلا نفس تصديق العادل لا صلاة الجمعة التي اخبر بها ، فالمعلوم الاجمالي شيء والتفصيلي شيء آخر ، غاية الامر احتمال انطباقهما على مصداق واحد ، ومثل هذا لا يؤثر في الانحلال ، وعلى هذا فيتعيّن طريق الانحلال في الوجه الاخير. (م. ع. مد ظلّه).

٤٣٨

كان موجودا في الزمن الاول لكن الامارات الدالة على الاحكام لما دلت على ثبوتها من اول الامر وكان الواجب عليه البناء على مضمونها ففي زمان الاطلاع على هذه الامارات لم يكن اجمال في البين بملاحظة الحالة السابقة لانه يعلم في الحال بثبوت التكليف في موارد الامارات من اول الامر ويشك في الزائد كذلك ، وبعبارة اخرى الظفر بالامارات بعد العلم الاجمالي من قبيل العلم بالتكاليف الواقعية من اول الامر ، فكما انه يوجب انحلال العلم الاجمالي كذلك الظفر بالامارات الشرعية ، لانها تكشف عن وجود تكاليف قطعية على طبق مقتضاها من اول الامر ، هذا.

ولا يخفى ان الجواب المذكور وان كان نافعا في المقام ، فان كلامنا في الشبهات الحكمية ، والادلة القائمة على التكاليف ثابتة في الواقع مقدمة على العلم الاجمالى ، غاية الامر عدم اطلاع المكلف عليها ، وبعد اطلاعه عليها يكشف عن ثبوت تكاليف قطعية من اول الامر كما عرفت ، ولكنه غير نافع في الشبهة الموضوعية كما لو قامت البينة على بعض اطراف العلم الاجمالى متأخرة عن العلم ، لانها لا تكشف عن التكليف القطعي ، ضرورة ان التكليف القطعي الذي يكون عبارة عن وجوب متابعة البينة لا يمكن ان يكون سابقا على نفس البينة ، فلا يبقى في البين إلّا لسان البينة بكون هذا موضوعا للحكم سابقا ، ومجرد هذا اللسان لا يجدى في الانحلال الوجداني ، نعم الجواب الاول ان تم فهو نافع مطلقا حتى في موارد قيام البينة.

الوجه الثالث ان العلم يعتبر في موضوع حكم العقل من حيث انه طريق قاطع للعذر لا من حيث انه صفة خاصة ، ولذا تقوم الامارات مقامه ، وقد بينا الفرق بينهما في مبحث حجية القطع ، وعلى هذا لو قامت امارة معتبرة او طريق معتبر على بعض الاطراف مفصلا فالمعلوم بصفة انه معلوم وان كان بعد مرددا ، ولكن ما قام عليه الطريق القاطع للعذر ليس مرددا ، فما يكون ملاك حكم العقل بوجوب الامتثال مفصل ، وما بقى على اجماله ليس ملاكا لحكم العقل ،

٤٣٩

ولا تفاوت في الانحلال على هذا الوجه بين ان يكون الطريق مقارنا للعلم او سابقا عليه اولا حقا له ، وكذا لا تفاوت بين الشبهة في الحكم وبين الشبهة في الموضوع ، هذا.

وتلخص مما ذكرنا عدم نهوض الادلة التى استدل بها اصحابنا الاخباريون على ايجاب الاحتياط ، فيكفى لنا حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان.

[ادلة القول بالبراءة]

وها انا اشرع في ذكر الادلة الشرعية الدالة على عدم البأس في ارتكاب الشبهات الحكمية البدوية بعون الله تعالى وحسن توفيقه :

منها الخبر المروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسند صحيح في الخصال كما عن التوحيد : «رفع عن امتى تسعة اشياء : الخطاء ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطروا اليه «الخبر» (١) تقريب الاستدلال به واضح.

واستشكل شيخنا المرتضى «قدس‌سره» (٢) في شموله للشبهات الحكمية التى هي محل النزاع بوجهين : احدهما ان السياق يقتضى ان يكون المراد من الموصول في قوله «ما لا يعلمون» هو الموضوع ، اذ المراد في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما لا يطيقون وما اضطروا اليه وما استكرهوا عليه» ليس إلّا الافعال ، اذ لا معنى للاضطرار الى الحكم او الاكراه عليه ، فيكون المراد من الموصول في قوله ما لا يعلمون ايضا الافعال المجهولة العنوان لظهور اتحاد السياق ، والثاني ان الظاهر ان المراد من الرفع هو رفع المؤاخذة ، فلا بد من التقدير في قوله : «ما لا يطيقون وما اضطروا اليه وما استكرهوا عليه» والمقدر هو المؤاخذة

__________________

(١) الوسائل ، الباب ٥٦ من ابواب جهاد النفس ، الحديث ١.

(٢) الفرائد ، ذيل الخبر ، ص ١٩٥ (طبع رحمة الله).

٤٤٠