درر الفوائد - ج ١ و ٢

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي

درر الفوائد - ج ١ و ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٥

هو موضوع ادلة القضاء.

هذا حال التكليف الاضطراري.

[اجزاء الظاهري عن الواقعي]

واما التكاليف المتعلقة على المكلف في حال الشك في التكليف الواقعي فملخص الكلام فيها انه ان قلنا باشتمال متعلقاتها في تلك الحالة على المصالح فحالها حال التكاليف المتعلقة بالافعال في حال الاضطرار (*٢٠) من دون تفاوت ، وان قلنا بانها تكاليف جعلت لرفع تحير المكلف عن الواقعيات في مقام العمل فلازم ذلك عدم الاجزاء ، لعدم حصول الغرض الموجب للتكليف بالواقع على هذا الفرض ، غاية الامر كون الامتثال لتلك التكاليف عذرا عن الواقع المتخلف عنه ، وحد امكان العذر عن الشيء كونه مشكوكا فيه فاذا علم لا يمكن عقلا ان يكون معذورا فيه ، لوجوب امتثال الحكم المعلوم وحرمة مخالفته ، ولا فرق فيما ذكرنا بين ان يكون مورد الاحكام الظاهرية الشبهات الموضوعية او الحكمية.

وحاصل الكلام ان الغرض الموجب للحكم حدوثا موجب له بقاء ما لم يحصل ، وبعد ما فرضنا ان متعلقات الاحكام الظاهرية ليست مشتملة على مصالح حتى يتوهم حصول تلك الاغراض الموجبة للتكليف بالواقعيات باتيانها وانما فائدتها رفع تنجيز الواقعيات في مورد ثبوتها وكونها عذرا عنها في صورة التخلف ، فلا وجه لتوهم الاجزاء ، لانه ان كان المراد سقوط الامر بالواقعيات بمجرد امتثال الامر الظاهري فلا يعقل مع بقاء الغرض الذي اوجب الامر ، وان كان المراد كونها معذورا فيها مع بقاء الامر بها وارتفاع الشك فلا يعقل ايضا ، لاستقلال العقل بعدم معذوريّة من علم بتكليف المولى.

نعم يمكن ان يوجب امتثال الامر الظاهري عدم القابلية لاستدراك المصلحة القائمة بالواقع. فيسقط الامر به من هذه الجهة ، وهذا الاحتمال مع كونه بعيدا في

٨١

حد نفسه لا يصير منشأ للتوقف ، اذ غايته الشك في السقوط وهو بعد العلم بالثبوت مورد للاشتغال (*٢١).

هذا اذا علم ان جعل الاحكام الظاهرية من باب الطريقيّة.

ولو شك في انه كذلك او من باب السببية او علم انه من باب السببية ولكن شك في ان الاتيان بالمشكوك هل هو واف بتمام الغرض الموجب للامر بالواقع او بمقدار يجب استيفائه او لم يكن كذلك؟ فهل الاصل في تمام ما ذكرنا يقتضي الاجزاء او عدمه او التفصيل بين ما اذا كان منشأ الشك في الاجزاء وعدمه الشك في ان جعل الاحكام الظاهرية من باب السببية او الطريقية وما اذا كان منشأ الشك فيه الشك في كيفية المصلحة القائمة بالفعل المشكوك المتعلق للامر بعد احراز ان الجعل من باب السببية؟

والحق ان يقال بان مقتضى الاصل عدم الاجزاء مطلقا ، بيان ذلك ان الاحكام الواردة على الشك سواء قلنا بانها جعلت لمصلحة في متعلقاتها او قلنا بانها جعلت من جهة الطريقية انما جعلت في طول الاحكام الواقعية ، لان موضوعها الشك في الواقعيات بعد الفراغ عن جعلها ، فلا يمكن ان تكون رافعة لها ، غاية الامر ان الاتيان بمتعلقاتها ان قلنا بان الجعل فيها من باب السببية وانها وافية بمصالح الواقعيات مجز عنها ، وهذا غير ارتفاع الاحكام الواقعية وانحصار الحكم الفعلى بمؤدى الطريق.

اذا عرفت ذلك فنقول لو اتى المكلف بما يؤدي اليه الطريق ، فان قطع باشتمال ما اتى به على المصلحة المتحققة في الواقع فهو ، وإلّا فبعد انكشاف الخلاف يجب عليه اتيان الواقع ، سواء كان الشك في السقوط وعدمه مستندا الى الشك في جهة الحكم الظاهري او في وفاء المصلحة المتحققة في متعلق الحكم الظاهري لادراك ما في الواقع بعد احراز ان الجعل انما يكون من جهة المصلحة الموجودة في المتعلق ، اذ يشترك الجميع في ان المكلف يعلم حين انكشاف الخلاف بثبوت تكليف عليه في الجملة ويشك في سقوطه عنه وهذا الشك مورد

٨٢

للاشتغال العقلي.

ومما ذكرنا يظهر لك الفرق بين المقام والمقام السابق الذي قلنا فيه بالبراءة من الاعادة والقضاء بعد اتيان ما اقتضاه التكليف في حال الاضطرار ، توضيح الفرق ان المكلف في حال الاضطرار ليس عليه الا الفعل الناقص الذي اقتضاه تكليفه في تلك الحال ، فلو كلف بعد ارتفاع العذر بالفعل التام فهو تكليف ابتدائي جديد فالشك فيه مورد للبراءة ، بخلاف حال الشك ، فان ما وراء هذا التكليف الذي اقتضاه الدليل في حال الشك واقع محفوظ ، فاذا ارتفع الشك يتبين له ذلك الواقع الثابت ، ويشك في سقوطه عنه ، هذا ما ادى اليه نظرى القاصر في المقام وعليك بالتامل التام.

٨٣

المقصد الثاني

في مقدمة الواجب

اعلم ان الواجب في الاصطلاح عبارة عن الفعل المتعلق للارادة الحتمية المانعة عن النقيض ، فلا يشمل ترك الحرام ، وان كان ينتزع من مبغوضية الفعل وعدم الرضا به كون تركه متعلقا للارادة الحتمية المانعة عن النقيض ، إلّا انه لا يسمى واجبا في الاصطلاح ، فلو اقتصر في العنوان المبحوث عنه هنا بمقدمة الواجب كما فعله الاصوليون فاللازم جعل الحرام عنوانا مستقلا يتكلم فيه ، فالاولى جعل عنوان البحث هكذا «هل الارادات الحتمية للمريد سواء كانت متعلقة بالفعل ابتداء او بالترك من جهة مبغوضية الفعل (*٢٢) تقتضى ارادة ما يحتاج ذلك المراد اليه ام لا» حتى يشمل مقدمة الفعل الواجب والترك الواجب.

ثم على القول بالاقتضاء يحكم بوجوب جميع مقدمات الفعل الواجب من المعد والمقتضى والشرط وعدم المانع ومقدمات المقدمات واما الترك الواجب فلا يجب بوجوبه الا ترك احدى مقدمات وجود الفعل ، والسر في ذلك ان الفعل في طرف الوجود يحتاج الى جميع المقدمات ولا يوجد إلّا بايجاد تمامها ، ولكن الترك يتحقق بتحقق ترك إحداها فلا يحتاج الى تروك متعددة حتى يجب تلك التروك بوجوب ذلك الترك.

ومن هنا ظهر انه ان لم يبق الا مقدمة مقدورة واحدة اما بوجود الباقي واما بخروجه عن حيز القدرة فحرمة ذلك الفعل تقتضى حرمة تلك المقدمة المقدور عليها عينا ، كما هو الشأن في كل تكليف تخييرى امتنع اطرافه الا واحدا ، فانه

٨٤

يقتضى ارادة الطرف الباقي تحت القدرة معينا ، وهذا واضح.

فلو فرض ان صب الماء على الوجه مثلا يترتب عليه التصرف في المحل المغصوب قطعا بحيث لا يقدر بعد الصب على ايجاد المانع او رفع المحل عن تحت الماء فحرمة الغصب ووجوب تركه تقتضى حرمة صب الماء على الوجه عينا.

وعلى هذا بنى سيد اساتيذنا الميرزا الشيرازي «قدس‌سره» في حكمه ببطلان الوضوء (*٢٣) وان لم يكن المصب منحصرا في المغصوب اذا كانت الطهارة بحيث يترتب عليها التصرف ، فلا يرد عليه «قدس‌سره» ان صب الماء ليس علة تامة للغصب حتى يحرم بحرمته ، بل هو من المقدمات وما هو كذلك لا يجب تركه شخصا حتى ينافى الوجوب ، وحاصل الجواب ان صب الماء وان لم يكن علة ، إلّا انه بعد انحصار المقدمات المقدورة فيه كما هو المفروض يجب تركه عينا.

فإن قلت : ليس المقدور منحصرا في الصب بل الكون في المكان المخصوص ايضا من المقدمات وهو باق تحت قدرة المكلف فلم يثبت حرمة صب الماء عينا.

قلت : ليس الكون المذكور من مقدمات تحقق الغصب في عرض صب الماء ، بل هو مقدمة لتحقق الصب الخاص الذي هو مقدمة لتحقق الغصب ، والنهى عن الشيء يقتضى النهى عن احد الافعال التي هي بمجموعها علة لذلك الشيء ، فاذا انحصر المقدور من هذه الافعال في واحد يقتضى حرمته عينا. هذا

واذ قد عرفت ان حرمة مقدمات الحرام انما تكون على سبيل التخيير بمعنى ان الواجب ترك احدى المقدمات منها يتبين لك انه اذا اقتضت جهة من الخارج وجوب احدى تلك المقدمات عينا فلا يزاحمه الحرمة التخييرية التى جاءت من قبل النهى ، لان الاول ليس له بدل بخلاف الثاني ، فلا وجه لرفع اليد عن احد الغرضين الفعليين اذا امكن الجمع بينهما ، فاللازم بحكم العقل

٨٥

قصر اطراف الحرام التخييرى على غير ما اقتضت المصلحة وجوبه عينا.

وهكذا الكلام في الواجب التخييرى بالنسبة الى الحرام التعيينى فان اللازم بحكم العقل تقييد مورد الوجوب بغير الحرام ، ولا يلاحظ هنا الاهم وغيره ، فانّ هذه الملاحظة انما تكون فيما اذا كان فوت احد الغرضين مما لا بد منه واما فيما يمكن الجمع بينهما فلا وجه لغيره.

ومن هنا ظهر انه بناء على عدم جواز اجتماع الامر والنهى يجب الحكم بكون الصلاة في الدار المغصوبة محرمة ، وتقييد مورد الصلاة بغير هذا الفرد وان كانت الصلاة اهم من الغصب بمراتب.

ولو كان الواجب تخييريا ، وكذلك الحرام فهل يمكن اجتماعهما في محل واحد بناء على عدم جواز اجتماعهما في غير هذا المورد او لا؟ مثاله لو كان صب الماء على الوجه مقدورا وهكذا اخذه على تقدير الصب بحيث لا يقع في المحل المغصوب ، فهل يمكن ان يكون هذا الصب تركه واجبا بدلا ، لكونه مما يترتب عليه ترك الحرام ، وكذلك فعله لكونه احد افراد غسل الوجه في الوضوء او لا؟ قد يقال بالعدم ، لان كون الشيء طرفا للوجوب التخييرى يقتضى ان يكون تركه مع ترك باقي الافراد مبغوضا للمولى ، وكونه طرفا للحرمة التخييرية يقتضى ان يكون الترك المفروض مطلوبا له.

والذى يقوى في النفس (*٢٤) ان يقال : ان فعل ذلك الشيء المفروض على تقدير قصد ترك احد الاطراف الذي هو بدل له في الحرمة لا مانع من تحقق العبادة به ، لانه على هذا التقدير ليس قبيحا عقلا بل على تقدير عدم قصد التوصل به الى الحرام ، نعم على غير هذين التقديرين وهو ما اذا كان الآتي بذلك الفعل قاصدا الى ايجاد فعل الحرام لا يمكن ان يكون ذلك الفعل عبادة ، فحينئذ نقول في المثال ان صابّ الماء على الوجه ان لم يقصد به ايجاد فعل الغصب فلا مانع من صحة وضوئه ، وإلّا فالحكم بالبطلان متجه ، وستطلع على زيادة توضيح لامثال هذا المقام في مسألة اجتماع الامر والنهى هذا.

٨٦

ثم ان هذه المسألة هل هي داخلة في المسائل الاصولية او الفقهية؟ اقول :

مسألتنا هذه ان كان البحث فيها راجعا الى الملازمة العقلية فهي من المسائل الاصولية ، وان كان عن وجوب المقدمة فهي من المسائل الفقهية ، وقد تقدم في اول الكتاب ما يوضح ذلك والظاهر الاول.

وكيف كان فتمام الكلام في هذا المقام في ضمن امور :

[في اعتبار الاختيار والمباشرة في المأمور به]

الأوّل : الواجب تارة يلاحظ فيه اضافته الى الفاعل واخرى لم يلاحظ فيه ذلك بل المطلوب ايجاد الفعل ولو بتسبيب منه ، وعلى الاول قد يلاحظ فيه مباشرة الفاعل ببدنه وقد يكون المقصود اعم من ذلك ومن ان يأتي به نائبه ، وايضا قد لا يحصل الغرض الا باعمال اختياره في الفعل ولو بايجاد سببه وقد لا يكون كذلك بمعنى عدم مدخلية الاختيار في الغرض ، وايضا قد يكون لقصد عنوان المطلوب مدخلية في تحصيل الغرض وقد يكون الغرض اعم من ذلك ، والمقصود في هذا البحث بيان انه هل الامر بنفسه ظاهر في تشخيص الوجوه المقدمة؟ او لا ظهور له فيه مطلقا؟ او يفصل بين تلك الوجوه؟ وعلى تقدير عدم الظهور هل الاصل ما ذا؟

فنقول : وبالله الاستعانة القيد على ضربين : احدهما ما يحتاج اليه الطلب بحكم العقل والثاني غيره ، والاول اما ان يكون مذكورا في القضية أو لا.

اما ما كان من هذا القبيل ولم يذكر في القضية فالظاهر ان المطلوب غير مقيد بالنسبة اليه ، ولذا نفهم من دليل وجوب الصلاة انها مطلوبة حتى من النائم الذي لا يقدر عليها ، ومن هنا يقال بوجوب القضاء مع انه تابع لصدق الفوت الذي لا يصدق إلّا مع بقاء المقتضى في حقه ، والدليل على ذلك ان الآمر المتصدي لبيان غرضه لا بد ان يبين جميع ما له دخل فيه ، فليستكشف اذا من عدم التنبيه عليه عدم مدخليته في غرضه (*٢٥) وان كان له دخل في تعلق

٨٧

الطلب مثل القدرة ، فعلى هذا نقول : قوله انقذ الغريق مثلا يستكشف عنه ان الانقاذ في كل فرد مطلوب له ، حتى فيما اذا وجد غريقان ولم يقدر على انقاذهما.

هذا حال القيود التي يتوقف عليها حسن الطلب ولم تذكر في القضية.

واما اذا ذكر مثل تلك القيود فيها ، كما اذا قال اضرب زيدا ان قدرت عليه ، فالظاهر اجمال المادة به ، من حيث ان ذكر هذا القيد يمكن ان يكون لتقييد المطلوب وان يكون لتوقف الطلب عليه ، فلا يحكم بتقييد المطلوب ولا باطلاقه ، بل يعمل فيه بمقتضى الاصول العملية.

واما اذا كان القيد مما لا يتوقف حسن الطلب عليه كتقييد الرقبة المامور بعتقها بالمؤمنة ونظائره فلا اشكال في انه متى لم يذكر في الكلام نتمسك باطلاقه ونحكم بعدم مدخليته ، ان وجدت هناك شرائط الاخذ بالاطلاق ، وإلّا فبمقتضى الاصول ، كما انه لا اشكال في انه متى ذكر في القضية فالظاهر ان له دخلا في المطلوب إلّا اذا استظهر من الخارج الغائه.

اذا عرفت هذا فنقول : ان شككنا في اعتبار اضافة الفعل الى المأمور فان كان اللفظ مفيدا لهذا القيد فنحكم باعتباره في المطلوب لانه ليس مما يتوقف عليه الطلب (١) لانه من الممكن ان يأمر بتحقق هذا الفعل على سبيل الاطلاق ،

__________________

(١) يمكن ان يقال بمدخلية هذه القيود الثلاثة اعنى الاضافة الى الفاعل ومباشرته في قبال التسبيب والنيابة في حسن الطلب بمعنى عدم حسن توجيهه نحو وجود الفعل على الاطلاق وان لم يصدر من فاعل مختار ، كما لو اتفق حصوله بهبوب الريح ونحوه او نحو النتائج المتولدة من فعل الشخص ، وكذا نحو فعل الغير ولو كان نائبا عن المأمور ، ووجه ذلك ان حال ارادة الآمر حال ارادة الفاعل بعينها ، فكما ان شأن الثانية تحريك عضلات المريد نحو ما هو صادر عنه ويعد فعلا له ، دون ما يتولد من فعله ، كالانكسار الحاصل من الكسر ، فضلا عن فعل الاجنبي فكذلك شأن الاولى تحريك عضلات المأمور نحو ما هو فعل له ، لان عضلاته بمنزلة عضلات الآمر فحينئذ نقول ان لم يذكر هذه القيود في القضية نحكم باطلاق المادة من جهتها ، لكن هذا مجرد فرض ، وان ذكر احدها يحصل الاجمال ، ولا بد من ان نرجع الى الاصل العملى ، وهو ـ

٨٨

بان يقول اريد منك تحقق هذا الفعل مطلقا سواء توجده بنفسك او تبعث غيرك عليه ، فلو قال اضرب زيدا مثلا الظاهر في ان المطلوب الضرب المضاف الى المأمور فاللازم بمقتضى هذا الظهور الحكم بتقييد المطلوب ، وان الغرض لا يحصل بضرب غيره اياه ، إلّا ان يستظهر من الخارج عدم مدخلية هذه الاضافة في الغرض مثل ان يكون الغالب في اوامر الشارع عدم اعتبار الاضافة المذكورة كما ادعى ، او ان يكون الغالب في الاوامر العرفية عدم اعتبارها ولم يتحقق في الاوامر الشرعية ما يوهن الغلبة العرفية.

[اعتبار الاختيار وقصد العنوان في المأمور به]

واما الاختيار وقصد العنوان فملخص الكلام فيهما انه لا اشكال في عدم امكان تعلق التكليف بخصوص الفعل الصادر من غير اختيار المكلف ولا بخصوص ما لم يكن عنوانه مقصودا ولو كان ملتفتا إليه ، اما الاول فواضح ، واما الثاني فلعدم امكان بعث الآمر الى غير عنوان المطلوب ، وهذا واضح بعد ادنى تامل (*٢٦) فانحصر الفعل القابل لتعلق التكليف في الاختياري الذي قصد عنوانه.

فحينئذ ان قلنا بان التكاليف المتعلقة بالطبيعة تسرى الى افرادها ، وقد عرفت ان الفرد القابل للحكم منحصر في الاخير ، فالقيدان المذكوران اعنى الاختيارية وقصد العنوان من القيود التي يحكم العقل باحتياج الطلب اليها ، وقد عرفت حكمها ، واما ان قلنا بعدم السراية كما هو التحقيق (*٢٧) فيكفى في حسن الخطاب بنفس الطبيعة من دون تقييد وجود فرد لها يحسن الخطاب بالنسبة اليه ، وعلى هذا فلو فرض تكليف متعلق بفعل مع قيد صدوره عن اختيار

__________________

هنا الاشتغال وان قلنا بالبراءة في الشك في القيدية في غير المقام ، وذلك لان الارادة كما قلنا لا تتوجه الا نحو الخاص المتقيد بهذه القيود الثلاثة ، وهي حجة عقلية على ذلك الخاص حتى يعلم من الخارج الغاء تلك الخصوصيات ، وقد مر نظير ذلك في دوران الامر بين الوجوب والندب فراجع «منه».

٨٩

المكلف او مع قصد العنوان يستكشف به تقييد الغرض ، اذ هما من القيود التى يستغنى عنها الطلب عقلا ، فذكرهما في الكلام يدل على تقييد الغرض كما عرفت.

نعم قدرة المكلف بالنسبة الى اصل الطبيعة مما يحتاج اليه صحة الطلب عقلا فلو لم تذكر في القضية فاطلاق المادة بحاله وان ذكرت تكون موجبة لاجمالها كما عرفت.

واما الشك في ان الفعل هل يجب ان يؤتى به بمباشرة بدنه او يجتزى باتيان النائب فالكلام فيه في مقامين : احدهما في امكان ذلك عقلا في الواجبات التعبدية التي يعتبر فيها تقرب الفاعل ، وانه كيف يمكن كون فعل الغير مقربا لآخر حتى يكون مجزيا عنه ، والثاني بعد الفراغ عن الامكان في مقتضى القواعد من الاصول اللفظيّة والعمليّة.

اما الكلام في المقام الاول : فنقول : ما يصلح ان يكون مانعا عقلا وجهان :

احدهما انه بعد فرض كون الفعل مطلوبا من المنوب عنه ، والامر متوجها اليه ، كيف يعقل ان يصير ذلك الامر المتوجه اليه داعيا ومحركا للنائب ، مع انه قد لا يكون امر بالنسبة الى المنوب عنه ايضا كما اذا كان ميتا.

والثاني بعد فرض صدور الفعل من النائب بعنوان الامر المتعلق بالمنوب عنه كيف يعقل ان يصير هذا الفعل مقربا له ، مع انه لم يحصل منه اختيار في ايجاد الفعل بوجه من الوجوه في بعض الموارد كما اذا كان ميتا ، والفعل ما لم يتحقق من جهة الإرادة والاختيار لا يمكن عقلا ان يصير منشأ للقرب.

اما المانع الاول فيندفع بان مباشرة الفاعل قد يكون لها خصوصيّة في غرض الآمر ، وعليه لا يسقط الامر بفعل الغير قطعا ولو لم يكن تعبديا ، وهذا واضح ، وقد لا يكون لها دخل في غرض الآمر ، وهكذا الكلام في اختياره ، فلو فرضنا تعلق الامر بمثل هذا الفعل الذي ليست المباشرة والاختيار فيه قيدا للمطلوب فامكان صيرورة الامر المتعلق بمثل هذا الفعل داعيا لغير المأمور اليه بديهي ،

٩٠

لوضوح انه بعد تعلق الامر بهذا الفعل الذي لم يقيد حصول الغرض فيه باحد من القيدين المذكورين لا مانع في صيرورة الامر المتعلق به محركا للغير لايجاد ذلك الفعل مراعاة لصديقه واستخلاصه من المحذورات المترتبة على ذلك الامر من العقاب والبعد عن ساحة المولى ، وهذا واضح.

ومنه يظهر عدم الاشكال فيما اذا لم يكن امر في البين كما في النيابة عن الميت ، ضرورة امكان فعل ذلك لحصول اغراض المولى المترتبة على الفعل ، ليستريح الميت من العقاب المترتب على فوتها ، وهذا لا اشكال فيه.

انما الاشكال في المانع الثاني وهو صيرورة هذا الفعل مقربا للغير عقلا ، اذ لو لم يكن كذلك لم يسقط غرض الآمر فلم يسقط عنه العقاب ، وهذا الاشكال يسرى في المقام الأول ايضا ، اذ بعد ما لم يكن فعله مقربا للغير ولم يسقط غرض الآمر عنه لا يعقل كون مراعاته سببا لايجاد ذلك الفعل.

ويمكن التفصّى عنه بان يقال : انه بعد فرض انحصار جهة الاشكال في حصول القرب يكفى في حصوله رضى المنوب عنه بحصول الفعل من النائب ، كما انه قد يؤيد ذلك ببعض الاخبار الواردة في ان من رضي بعمل قوم اشرك معهم (١) وهذا المقدار من القرب يكفى في عبادية العبادة ، بل يمكن ان يقال بعدم الفرق عقلا بين الفعل الصادر من الانسان بنفسه وبين الصادر من نائبه في حصول القرب ، لانه بعد حصول هذا الفعل من النائب لا بد وان يكون المنوب عنه ممنونا منه ومتواضعا له من جهة استخلاصه من تبعات الامر المتعلق به ، وهذه الممنونية تصير منشأ لقربه عند المولى لان امره صار سببا لها ، وفيه ان الرضا والممنونية يتفرعان على كون الفعل الصادر من النائب مقربا له ، اذ لولاه لم يكن وجه لهما ، ولو توقف القرب عليهما لزم الدور.

ويمكن ان يقال : ان للقرب مراتب (*٢٨) باختلاف الجهات الداعية

__________________

(١) الوسائل ، الباب ٥ من ابواب الامر والنهى ، ج ١١ ، ص ٤٠٨.

٩١

للمكلف ، ادناها اتيان الفعل بداعى الفرار من العقاب مثل ان يكون حال العبد بحيث لو علم بعدم العقاب لم يات بالفعل اصلا ، فاتيانه به خوفا من المولى مقرب له عند العقل ، كما انه نرى الفرق عند العقلاء بين هذا العبد وبين العبد الذي لم يكن خوف مؤاخذة المولى مؤثرا فيه ، وهذا المقدار من القرب اعنى كون العبد بحيث يكون له جهة امتياز بالنسبة الى غيره في الجملة يكفى في العبادة ، ونظير هذا المعنى موجود في المقام ، اذ لو فرضنا عبدين احدهما لم يات بالمأمور به بنفسه ولا احد بدله والثاني لم يات به ولكن اتى به نائبه نرى بالوجدان ان حالهما ليس على حدّ سواء عند المولى ، بل للثاني عنده جهة خصوصية ليست للاول ، وان لم يصل الى مرتبة من اتى بالمأمور به بنفسه ، فنقول هذه المرتبة الحاصلة له بفعل الغير تكفى في العبادة.

ويمكن ان يقال ان تقرب المنوب عنه بتسليمه للفعل المتلقى من النائب الى الآمر بعنوان انه مولى ، ولا فرق في حصول القرب بين ان يسلمه اليه ابتداء وان يسلمه اليه بعد اخذه من نائبه.

هذا حاصل الوجوه التى افادها سيدنا الاستاذ طاب ثراه ولكن لم يطمئن بها النفس.

اقول : ويمكن ان يقال : ان الافعال على وجوه : منها ما لا يضاف الا الى فاعله الحقيقي الصادر منه الفعل مباشرة كالاكل والشرب ونظائرهما ، ومنها ما يضاف اليه والى السبب ايضا كالقتل والاتلاف والضرب ونظائرها ، ومنها ما يضاف الى الغير وان لم يكن فاعلا ولا سببا ومن ذلك العقود اذا صدرت عن رضى المالك ، بل ولو لم يكن عنه ايضا ابتداء اذا رضي بذلك بعده ، كما في الاجازة بناء على صيرورة العقد بها عقدا للمالك عرفا كما قيل ، ولعل الضابط كل فعل يتوقف تحقق عنوانه في الخارج على القصد واوقعه واحد بقصد الغير وكان ذلك الفعل حقا لذلك الغير ابتداء مع رضاه بصدوره بدلا عنه ، فلو صح هذه الاضافة العرفية وامضاها الآمر فلا بد من ان يعامل مع هذا الفعل معاملة

٩٢

الفعل الصادر من شخصه ، كما هو واضح ، مثلا لو فرضنا ان تعظيم زيد عمروا بدلا عن بكر اذا كان عن رضا بكر وتقبل عمرو الذي هو المعظّم ـ بالفتح ـ يحسب تعظيما لبكر عنده فاللازم عليه ان يترتب على هذا التعظيم اثر التعظيم الصادر من شخص بكر ، فلو فرضنا حصول القرب من هذا الفعل للمعظم ـ بالكسر ـ عند المعظم ـ بالفتح ـ فاللازم حصوله للمنوب عنه هذا ما امكن لي من التصور في المقام ولعل الله يحدث بعد ذلك امرا (١).

اذا عرفت هذا فنقول : لا اشكال في ان مقتضى القواعد عدم الاكتفاء بالفعل الصادر عن الغير في الاجزاء ، لان الظاهر من الامر المتوجه الى المكلف ارادة خصوص الفعل الصادر منه ، نعم لو دل دليل من الخارج على الاكتفاء بما يصدر من النائب وانه عند الآمر بمنزلة ما يصدر عن نفسه نأخذ به وإلا فلا.

[في التعبدي والتوصلي]

الامر الثاني : لا اشكال في ان الواجب في الشريعة ينقسم على قسمين تعبدى وتوصلي ، ولو شك في كون الواجب توصليا او تعبديا فهل يحمل على

__________________

(١) ويمكن ان يقال : ان الصلاة عن الميت مثلا خارجة من باب النيابة ، بل هي من باب اداء الدين كما يستفاد من بعض الاخبار ، توضيحه ان العمل العبادي عبارة عما اخذ فيه قرب الفاعل ، فالصلاة مثلا ما دام الانسان حيا يعتبر فيها ان ياتى بها بنفسه على وجه يوجب قرب نفسه ، لانه في حال الحياة يعتبر قيد المباشرة ، واما بعد الممات فمقتضى الاخبار سقوط ذلك القيد ، فالذي يبقى دينا على عهدة الميت ويكون مطلوبا مادة للشارع هو مطلق الفعل الموجب لقرب فاعله من اي فاعل صدر ، غاية الامر انّه لا بد من الاشارة الى ما هو ثابت في عهدة الميت بان يقصد الفاعل الذي يتقرب بفعل نفسه انه ياتى بهذا الفعل بعنوان تفريغ ذمة الميت ، وهذا كما ترى لا يحتاج الى نية البدلية عنه وتنزيل نفسه منزلته ، كما في المتبرع لاداء دين غيره ، ثم حصول القرب للمتبرع واضح ، واما للاجير فيتحقق باتيان العمل لقرب نفسه بعنوان تفريغ الميت امتثالا لامر الشارع بالوفاء بعقد الاجارة «منه».

٩٣

الاول او الثاني؟

وتوضيح المقام يتوقف على تصور الواجبات التعبدية وشرح حقيقتها حتى يتضح الحال في صورة الشك فنقول ـ وبالله الاستعانة ـ :

انه قد اشتهر في السنة العلماء انها عبارة عما يعتبر فيه اتيانه بقصد اطاعة الامر المتوجه اليه ، واورد على ذلك بلزوم الدور فان الموضوع مقدم على الحكم رتبة لانه معروض له ، ولا اشكال في تقدمه على العرض بحسب الرتبة ، وهذا الموضوع يتوقف على الامر لما اخذ فيه من خصوصية وقوعه بداعى الامر التي لا تتحقق الا بعد الامر ، فالامر يتوقف على الموضوع لكونه عرضا له ، والموضوع يتوقف على الامر لانه لا يتحقق بدونه.

وفيه ان توقف الموضوع على الامر فيما نحن فيه مسلم لكونه مقيدا به والمقيد لا يتحقق في الخارج بدون القيد ، واما ان الامر يتوقف على الموضوع فان اردت توقفه عليه في الخارج فهو باطل ، ضرورة ان الامر لا يتعلق بالموضوع الا قبل الوجود ، واما بعده فيستحيل تعلقه به ، لامتناع طلب الحاصل ، وان اردت توقفه عليه تصورا فمسلم ، ولكن لا يلزم الدور اصلا ، فان غاية الامر ان الموضوع هنا بحسب وجوده الخارجي يتوقف على الأمر ، والامر يتوقف على الوجود الذهني له.

وقد يقرر الدور بان القدرة على الموضوع الذي اعتبر وقوعه بداعى الامر لا يتحقق إلّا بعد الامر ، والامر لا يتعلق بشيء الا بعد تحقق القدرة ، فتوقف الامر على القدرة بالبداهة العقلية ، وتوقف القدرة على الامر بالفرض.

وفيه ان الممتنع بحكم العقل تعلق الامر بشيء يعجز عن اتيانه في وقت الامتثال واما انه يجب ان يكون القدرة سابقة على الامر حتى يصح الامر فلا ، ضرورة انه لا يمتنع عند العقل ان يحكم المولى بشيء يعجز عنه المأمور في مرتبة الحكم ولكن حصل له القدرة عليه بنفس ذلك الحكم ، فحينئذ نقول انّ توقف القدرة على الامر مسلم ، واما توقف الامر على القدرة بمعنى لزوم كونها قبله رتبة فلا ، لما عرفت من جواز حصولها بنفس الامر ، وهاهنا كذلك ، لانه بنفس الامر تحصل

٩٤

القدرة على اتيان الفعل بداعيه.

وقد يقال :

ان الامر باتيان الفعل بداعي الامر وان لم يكن مستلزما للدور إلّا انه مستحيل من جهة عدم قدرة المكلف على ايجاد هذا المقيد اصلا حتى بعد الامر بذلك المقيد فان القدرة على ايجاد الصلاة بداعى الامر بها مثلا تتوقف على الامر بذات الصلاة ، والامر بها مقيدة بكونها بداعى الامر ليس امرا بها مجردة عنه ، لان الامر بالمقيد ليس امرا بالمجرد من القيد ، فالتمكن من ايجاد الفعل مقيدا بحصوله بداعي الامر لا يحصل إلّا بعد تعلق الامر بذات الفعل.

وفيه ان الامر المتعلق بالمقيد ينسب الى الطبيعة المهملة حقيقة لانها تتحد مع المقيد ، فهذا الامر المتعلق بالمقيد بملاحظة تعلقه بالطبيعة المهملة يوجب قدرة المكلف على ايجادها بداعيه ، نعم لو اوجدها فيما هو مباين للمطلوب الاصلى لا يمكن ان يكون هذا الايجاد بداعي ذلك الامر ، كما لو امر بعتق رقبة مؤمنة فاعتق رقبة كافرة ، لان الموجود في الخارج ليس تمام المطلوب بل يشتمل على جزء عقلي منه ، اما لو لم ينقص الفعل الماتي به بداعي الامر بالطبيعة المهملة عن حقيقة المطلوب الاصلي اصلا كما في المقام فلا مانع من بعث الامر المنسوب الى المهملة للمكلف.

ويمكن ان يقال في وجه عدم امكان اخذ التعبد بالامر في موضوعه ان الامر ـ وان كان توصليا ـ يشترط فيه ان يصلح لان يصير داعيا للمكلف الى نحو الفعل الذي تعلق به ، لانه ليس إلّا ايجاد الداعي للمكلف ، والامر المتعلق بالفعل بداعي الامر لا يمكن ان يكون داعيا للمكلف الى ايجاد متعلقه ، لانه اعتبر في متعلقه كونه بداعي الامر ، ولا يمكن ان يكون الامر محركا الى محركية نفسه (*٢٩) فافهم.

هذا ان قلنا بان العبادات يعتبر فيها قصد اطاعة الامر.

ويمكن ان يقال : ان المعتبر فيها ليس إلّا وقوع الفعل على وجه يوجب

٩٥

القرب عند المولى وهذا لا يتوقف على الامر ، وبيان ذلك ان الفعل الواقع في الخارج على قسمين : احدهما ما ليس للقصد دخل في تحققه بل لو صدر من الغافل لصدق عليه عنوانه ، والثاني ما يكون قوامه في الخارج بالقصد كالتعظيم والاهانة وامثالها ، وايضا لا اشكال في ان تعظيم من له اهلية ذلك بما هو اهل له وكذا شكره ومدحه بما يليق به حسن عقلا ومقرب بالذات ولا يحتاج في تحقق القرب الى وجود امر بهذه العناوين ، نعم قد يشك في ان التعظيم المناسب له او المدح اللائق بشأنه ما ذا؟ وقد يتخيل كون عمل خاص تعظيما له ، او ان القول الكذائى مدح له والواقع ليس كذلك بل هذا الذى يعتقده تعظيما توهين له ، وهذا الذى اعتقده مدحا ذم بالنسبة الى مقامه.

اذا تمهد هذا فنقول : لا اشكال في ان ذوات الافعال والاقوال الصلاتية مثلا من دون اضافة قصد اليها ليست محبوبة ولا مجزية قطعا ، ولكن من الممكن كون صدور هذه الهيئة المركبة من الحمد والثناء والتسبيح والتهليل والدعاء والخضوع والخشوع مثلا مقرونة بقصد نفس هذه العناوين محبوبا للآمر ، غاية الامر ان الانسان لقصور ادراكه لا يدرك ان صدور هذه الهيئة منه بهذه العناوين مناسب بمقام البارى عزّ شانه ويكون التفاته موقوفا على اعلام الله سبحانه ، فلو فرض تمامية العقل واحتوائه بجميع الخصوصيات والجهات لم يحتج الى اعلام الشرع اصلا ، والحاصل ان العبادة عبارة عن اظهار عظمة المولى والشكر على نعمائه وثنائه بما يستحق ويليق به ، ومن الواضح ان محققات هذه العناوين مختلفة بالنسبة إلى الموارد ، فقد يكون تعظيم شخص بان يسلم عليه ، وقد يكون بتقبيل يده ، وقد يكون بالحضور في مجلسه ، وقد يكون بمجرد اذنه بان يحضر في مجلسك او يجلس عندك ، الى غير ذلك من الاختلافات الناشئة من خصوصيات المعظم ـ بالكسر ـ والمعظم ـ بالفتح ـ ولما كان المكلف لا طريق له الى استكشاف ان المناسب بمقام هذا المولى تبارك وتعالى ما هو إلّا باعلامه تعالى لا بد ان يعلمه أوّلا ما يتحقق به تعظيمه ثم يأمره به ، وليس هذا المعنى مما

٩٦

يتوقف تحققه على قصد الامر حتى يلزم محذور الدور.

ويمكن أن يقال بوجه آخر : وهو ان ذوات الافعال مقيدة بعدم صدورها عن الدواعي النفسانية محبوبة عند المولى ، وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمات ثلاث :

احداها : ان المعتبر في العبادة يمكن ان يكون اتيان الفعل بداعى امر المولى بحيث يكون الفعل مستندا الى خصوص امره ، وهذا معنى بسيط يتحقق في الخارج بامرين : احدهما جعل الامر داعيا لنفسه ، والثاني صرف الدواعي النفسانية عن نفسه ، ويمكن ان يكون المعتبر اتيان الفعل خاليا عن ساير الدواعي ومستندا الى داعي الامر بحيث يكون المطلوب المركب منهما ، والظاهر هو الثاني لانه انسب بالاخلاص المعتبر في العبادات.

الثانية : ان الامر الملحوظ فيه حال الغير تارة يكون للغير واخرى يكون غيريا مثال الاول الامر بالغسل قبل الفجر على احتمال ، فان الامر متعلق بالغسل قبل الامر بالصوم ، فليس هذا الامر معلولا لامر آخر إلّا ان الامر به انما يكون لمراعاة حصول الغير في زمانه ، والثاني الاوامر الغيرية المسببة من الاوامر المتعلقة بالعناوين المطلوبة نفسا.

الثالثة : انه لا اشكال في ان القدرة شرط في تعلق الامر بالمكلف ، ولكن هل يشترط ثبوت القدرة سابقا على الامر ولو رتبة او يكفي حصول القدرة ولو بنفس الامر؟ الاقوى الاخير ، لعدم وجود مانع عقلا في ان يكلف العبد بفعل يعلم بانه يقدر عليه بنفس الامر.

اذا عرفت هذا فنقول : الفعل المقيد بعدم الدواعي النفسانية وثبوت الداعي الالهي الذي يكون موردا للمصلحة الواقعية وان لم يكن قابلا لتعلق الامر به بملاحظة الجزء الاخير للزوم الدور ، اما من دون ضم القيد الاخير فلا مانع منه.

ولا يرد ان هذا الفعل من دون ملاحظة تمام قيوده التي منها الاخير لا يكاد يتصف بالمطلوبية ، فكيف يمكن تعلق الطلب بالفعل من دون ملاحظة

٩٧

تمام القيود التى يكون بها قوام المصلحة.

لانا نقول : عرفت انه قد يتعلق الطلب بما هو لا يكون مطلوبا في حد ذاته ، بل يكون تعلق الطلب لاجل ملاحظة حصول الغير ، والفعل المفيد بعدم الدواعى النفسانية وان لم يكن تمام المطلوب النفسى مفهوما ، لكن لما لم يوجد في الخارج إلّا بداعى الامر لعدم امكان خلو الفاعل المختار عن كل داع يصح تعلق الطلب به ، لانه يتحد في الخارج مع ما هو مطلوب حقيقة ، كما لو كان المطلوب الاصلى اكرام الانسان فانه لا شبهة في جواز الامر باكرام الناطق لانه لا يوجد في الخارج الا متحدا مع الانسان الذى اكرامه مطلوب اصلى ، وكيف كان فهذا الامر ليس امرا صوريا بل هو امر حقيقى وطلب واقعي لكون متعلقه متحدا في الخارج مع المطلوب الاصلى.

نعم يبقى الاشكال في ان هذا الفعل اعنى الفعل المقيد بعدم الدواعي النفسانية مما لا يقدر المكلف على ايجاده في مرتبة الامر فكيف يتعلق الامر به ، وقد عرفت جوابه في المقدمة الثالثة هذا.

وقد يقال في العبادات بان الامر متوجه الى ذات الفعل ، والغرض منه جعل المكلف قادرا على ايجاد الفعل بداعي الامر الذي يكون موردا للمصلحة في نفس الامر ، والعقل بعد التفاته الى اخصية الغرض يحكم بلزوم الاطاعة على نحو يحصل به الغرض ، اما توجه الامر الى ذات الفعل فلعدم امكان اخذ حصوله بداعى الامر في المطلوب من جهة لزوم الدور ، واما ان العقل يحكم بلزوم اتيان الفعل بداعى الامر فلانه ما لم يسقط الغرض لم يسقط الامر ، لان الغرض كما صار سببا لحدوثه كذلك يصير سببا لبقائه ، لان البقاء لو لم يكن اخف مئونة من الحدوث فلا اقل من التساوى ، والعقل حاكم بلزوم اسقاط الامر المعلوم.

وفيه انه لا يعقل بقاء الامر مع اتيان ما هو مطلوب به على ما هو عليه (١)

__________________

(١) فيه ان الامر علة لوجود المتعلق ، والعلة انما تقتضى المعلول المستند اليها ، وان كان

٩٨

لان بقاء الامر مع ذلك مستلزم لطلب الحاصل ، وهذا واضح بادنى تامل.

فالاولى ان يقال في وجه حكم العقل باتيان الفعل على نحو يسقط به الغرض ان الاتيان به علي غير هذا النحو وان كان يسقط الامر إلّا ان الغرض المحدث له ما دام باقيا يحدث امرا آخر وهكذا ما دام الوقت الصالح لتحصيل ذلك الغرض باقيا ، فلو أتى بالفعل على نحو يحصل به الغرض وإلّا يعاقب على تفويت الغرض.

لا يقال : فوت الغرض الذي لم يدخل تحت التكليف ليس منشأ للعقاب.

لانا نقول : نعم لو لم يكن الآمر بصدد تحصيله واما لو تصدى لتحصيله بالامر ولكن لم يقدر على ان يامر بتمام ما يكون محصلا لغرضه كما فيما نحن فيه والمكلف قادر على ايجاد الفعل بنحو يحصل به الغرض الاصلى فلا اشكال في حكم العقل بلزوم اتيانه كذلك.

ومن هنا يعلم انه لا وجه للالتزام بامرين (*٣٠) احدهما بذات الفعل والثاني بالفعل المقيد بداعى الامر ، لان الثاني ليس إلّا لالزام المكلف بالفعل المقيد وقد عرفت انه ملزم به بحكم العقل.

__________________

وان كان استناد المعلول اليها لا باقتضائها بل انما هو حاصل قهرا ، وحينئذ نقول : لو لم يات بداعى الامر فما هو المعلول لهذا الامر لم يؤت به ، فعليه الاتيان بالفعل ثانيا مع هذا القيد ، وليس المتعلق للامر صرف الوجود الغير القابل للتكرار ، بل مطلق الوجود القابل له ، كما مر الاشارة اليه سابقا.

ومن هنا يظهر طريق آخر لتصحيح الامر العبادي غير طريق اخصيّة الغرض وهو ملاحظة تقيد المتعلق لبا بالقيد المذكور مع القول بمطلق الوجود.

ان قلت : مع ملاحظة هذا التقيد لا حاجة الى القول بمطلق الوجود لتمامية المطلب على تقدير القول بصرف الوجود ايضا ، لان صرف وجود المقيد بداعى الامر غير منطبق على الفعل المأتي به لا بداعى الامر ، قلت صرف الوجود انما يلاحظ بالاضافة الى الفعل وقيوده الملحوظة معه استقلالا ، وهذا القيد ليس كذلك وان كان ثابتا في الذهن لبا «منه».

٩٩

مضافا الى ما افاده في بطلانه شيخنا الاستاذ دام بقائه من ان القول به يوجب اما الالتزام بما قلنا من بقاء الامر الاول ما لم يسقط غرض الآمر ، واما الالتزام بعدم وصول الآمر الى غرضه الاصلى ، لان المكلف لو اتى بذات الفعل من دون داعى الامر لا يخلو اما ان نقول ببقاء الامر الاول واما ان نقول بسقوطه ، فعلى الاول فاللازم التزامك بما التزمنا ، وعليه لا يحتاج الى الامر الثاني ، وعلى الثاني يلزم سقوط الامر الثاني ايضا لارتفاع موضوعه ، فيلزم ما ذكرنا من عدم الوصول الى غرضه الاصلى هذا.

ولقائل ان يقول نختار الشق الثاني (*٣١) من سقوط الامر الاول باتيان ذات الفعل ، وسقوط الثاني ايضا بارتفاع موضوعه ولا يلزم محذور اصلا ، لان الوقت اما باق بعد واما غير باق ، فعلى الاول يوجب الغرض ايجاد امرين آخرين على ما كانا ، وعلى الثاني يعاقب المكلف على عدم امتثال الامر الثاني مع ما كان قادرا عليه بوجود الامر الاول ، لان الامر الثاني لو فرضناه امرا مطلقا فعدم ايجاد متعلقه معصية بحكم العقل ، سواء كان برفع المحل او كان بنحو آخر ، وهذا واضح.

فاتضح مما ذكرنا من اول العنوان الى هنا وجوه خمسة في تصوير العبادات.

وانت خبير بان كلّ ما قلنا في الواجبات النفسية العبادية يجرى مثله في الواجبات المقدمية العبادية ، فلا يحتاج الى اطالة الكلام بجعل عنوان لها مستقلا.

[في تأسيس الاصل]

ولما كان الغرض في هذا البحث هو التكلم في الاصل اللفظي والعملي فيما لو تردد امر الواجب بين ان يكون عباديا او توصليا فلنشرع في المقصود الاصلى.

فنقول : لو شك في الواجب في انه هل هو تعبدى او توصلى فعلى ما قدمناه (*٣٢) من عدم احتياج العبادة الى التقييد بصدورها بداعى الامر لا

١٠٠