درر الفوائد - ج ١ و ٢

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي

درر الفوائد - ج ١ و ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٥

العلم بفردية هذا الموجود للعنوان المحرم والعلم بكون ذلك العنوان محرما ايضا ، ولو لم يكن له علم بالصغرى او بالكبرى فهل يحكم بصحة العبادة او البطلان على القول المذكور؟

تحقيق المقام ان الفرض المذكور تارة يتحقق بالنسيان لإحداهما ، واخرى بالجهل ، وهو اما ان يكون بسيطا او مركبا.

وجملة القول في المجموع انه لا يخلو محل الكلام من انه اما ان ورد فيه ترخيص من جانب الشارع او لا ، وعلى الثاني اما ان يكون المكلف معذورا بحكم العقل اولا.

اما القسم الاول فلا ينبغي الاشكال في صحة العبادة ضرورة عدم الفرق بين الترخيص والامر فاذا صح الترخيص في ذلك المحل مع كونه في نفس الامر محرما كذلك يصح الامر ، لعدم الفرق بين الترخيص والامر في كون كل واحد منهما ضدا للنهى ، وبعبارة اخرى اما ان يجمع بين النهى الواقعي والاباحة الظاهرية بحمل النهى الواقعي على النهي الشأنى الذي لا ينافى جعل حكم فعلى على خلافه ، او يقال : بعدم التنافي بينهما لترتب موضوعيهما وعلى اى حال لا تفاوت بين الترخيص والامر (١) وهذا واضح جدا.

__________________

الاجتماع ايضا بان لم يجعل الاكوان الخاصة بانفسها اجزاء للصلاة بل الاجزاء الاوضاع والهيئات الحاصلة منها لان الصلاة في الدار المغصوبة على هذا لا تكون من موارد الاجتماع «منه».

(١) هذا انما يتم بناء على القول : بشأنية الحكم الواقعي عند اجتماعه مع الظاهري ، فان النهى الواقعي في مقامنا على هذا صار شأنيا بواسطة الترخيص الظاهري ، وحيث لا مضادة بين الاحكام الا في مرتبة الفعلية فلا مانع من التمسك باطلاق الامر بالصلاة مثلا لصيرورة النهى شأنيا ، واما بناء على قول من يذهب الى فعلية الحكم الواقعي المجامع مع الظاهري وانما يدفع محذور التضاد بالترتب فيشكل التمسك باطلاق الامر الاولى الوارد بالصلاة مثلا عند الشك في الغصب كما هو ظاهر العبارة ، وجه الاشكال ان النهى عن الغصب وان سقط عن

١٨١

واما القسم الثاني فالاقرب فيه صحة العبادة ايضا لوجهين :

احدهما ان يقال : ان الامر وان امتنع تعلقه بهذا الفرد لكونه منهيا عنه في الواقع ، إلّا انه لا يتوقف صحة العبادة على الامر ، بل يكفى فيها وجود الجهة ، كما مر فى باب الضد ، ولا اشكال في وجود الجهة ، لان النزاع مبنى على الفراغ منها.

فان قلت : فعلى هذا ينبغى ان يحكم بالصحة في مورد العلم بالحرمة ايضا لان الجهة موجودة فيه.

قلت : الوجه في عدم الحكم بالصحة فيما اذا علم بالحرمة ان الجهة لا تؤثر في قرب الفاعل لوجود الجهة المبعدة ، بخلاف ما نحن فيه ، فان الجهة المقبحة لا تؤثر في البعد لمعذورية المكلف ، فلا مانع لافادة الجهة المحسنة تأثيرها.

فان قلت : ان الجهة المقبحة وان لم تؤثر في الفاعل إلّا انها منافية للجهة المحسنة في نفس الامر ومزاحمة لها ، فلا يبقى للفعل الخارجي حسن في نفس الامر حتى يتقرب به الفاعل باتيانه.

قلت : ليست الجهتان متضادتين من حيث ذاتهما ، ألا ترى وجود الخاصية الموافقة للطبع والمنافرة له في شرب دواء خاص واحد ، بل التزاحم في رتبة تأثير كل منهما فيما يقتضيه من ارادة الشرب وعدمه وكذلك في مرحلة مدح العقلاء مرتكب ذلك الفعل المشتمل على جهتين او ذمهم اياه ، وكما ان الجهة الملاءمة

__________________

الاثر بواسطة الشك فلا يلزم من توجه الامر محذور التكليف بالمحال ، ولكن كيف يرتفع محذور التكليف المحال اللازم من اجتماعهما عند القائل بالامتناع ، وبعبارة اخرى متى يرى المولى ذات الغصب والصلاة لا يرى في نفسه الا النهى ويرفع اليد عن امره في هذا الموضوع الذي اجتمع فيه ذات الغصب والصلاة هذا.

ولكن الذي يسهل الخطب ان اوامر الصلاة ليست باوامر فعلية ناظرة الى حال طرو الغصب حتى يلزم الاشكال المذكور بل انما هي اوامر ذاتية تشريعية ، والامر التشريعى اذا سقط النهى المزاحم له عن الاثر صار فعليا بحكم العقل «منه».

١٨٢

للطبع لا تزاحم الجهة المنافرة له في الواقع كذلك الجهة الملاءمة للقوة العاقلة والمنافرة لها ، وعلى هذا لو لم يؤثر الجهة المنافرة للعقل في استحقاق الفاعل للذم فلا مانع من تاثير الجهة الملاءمة له في استحقاقه للمدح.

والوجه الثاني ان العناوين الطارية على التكاليف ـ مما لا يشملها ادلتها ـ يمكن ان تجعل موردا لحكم آخر غير ما تعلق بنفس الواقع ، وبهذا يجمع بين الحكم الواقعي والظاهري ، ومن العناوين الطارية على التكليف كون المكلف معذورا من ذلك التكليف المتوجه اليه.

واما القسم الثالث فالحق فيه بطلان العبادة فان الجهة المقبحة مؤثرة فعلا في تبعيد العبد عن ساحة المولى فلا يمكن ان يكون الجهة المحسنة مؤثرة في القرب ، وبه يعلم عدم امكان تعلق الامر به ايضا ، لان العنوان الطاري لو كان بحيث لا يوجب عذرا للمكلف فحاله حال العلم بالحرمة ، فكما انه في مورد العلم بالحرمة لا يمكن بقاء الامر وصحة العبادة كذلك في حال لا يعذر فيها عقلا فتامل جيدا.

[في النهي عن العبادة]

فصل : هل النهى عن الشيء يقتضى فساده او لا؟

ولنقدم امورا :

احدها : ان الفرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة ان المسئول عنه في السابقة جواز بقاء الامر والنهي فيما كان موردهما متحدا بحسب المصداق ومتعددا بالمفهوم وعدمه ، وفي هذه المسألة ملازمة النهي المتعلق بالشيء مع فساده.

قال المحقق القمي «قدس‌سره» في بيان الفرق : ان مورد المسألة السابقة هو ما كان بين المامور به والمنهى عنه عموم من وجه ومورد المسألة ما كان بينهما عموم مطلق ، ورد عليه في الفصول بان هذا الفرق ليس بسديد ، بل الفرق انه

١٨٣

اذا كان العنوانان بحيث لم يؤخذ احدهما في الآخر فهو من المسألة السابقة سواء كان بينهما عموم من وجه ام مطلق ، الاول مثل صل ولا تغصب ، والثاني مثل جئنى بحيوان ولا تجئنى بضاحك ، وان كان احد العنوانين مأخوذا في الآخر فهو من المسألة سواء كان بينهما عموم من وجه ام مطلق ايضا ، الاول مثل صل ولا تصل في الحمام ، والثاني مثل صل الصبح ولا تصل في الحمام.

اقول : ان كان مرادهما ان المسألتين متحدتان من جهة المسئول عنه وليس الفرق بينهما الا في اختلاف المورد ففيه ان مجرد اختلاف المورد لا يوجب تعددهما وصيرورتهما مسألتين ، وان كان المراد بيان اختصاص كل من النزاعين بمورد بمعنى ان النزاع في المسألة السابقة له مورد خاص لا يجرى فيه النزاع في هذه المسألة وبالعكس ففيه ان ما محّضه كل من الفاضلين للنزاع الثاني يجرى فيه النزاع الاول ، لان جهة كلام المجوز في المسألة السابقة هي تعدد العنوان ، كما ان جهة كلام المانع هناك الاتحاد في الوجود ، وكلاهما متحققان فيما فرضه الفاضلان مختصا بهذه المسألة ، كما هو واضح ، نعم في مثل صل ولا تصل في الحمام لو احرز ان النهي تعلق بالمقيد لا بخصوصية ايجاده في المكان الخاص لا يمكن فيه النزاع السابق ، والسر فيه ان المطلق والمقيد وان كانا متغايرين بحسب المفهوم إلّا ان تغاير الاول للثاني انما هو بملاحظة الاطلاق ، اذ لو جرد النظر عن ذلك يكون المقسم المتحد مع المطلق والمقيد في الذهن ، ولا اشكال في ان الجهة التي بها يغاير المقيد ويصير في قباله في الذهن وهي جهة الاطلاق لا دخل لها في المطلوبية ، لان هذه الجهة عبارة عن عدم مدخلية شيء في المطلوب سوى اصل الطبيعة ، ففي الحقيقة جهة المطلوبية قائمة باصل الحقيقة التي تكون مقسما بين المطلق والمقيد ، ومع كون المطلوب ما ذكر يمتنع تعلق النهى بالمقيد لاتحاد مورد الامر والنهى حتى في الذهن فليتدبر.

الثاني : ان النزاع في المسألة يمكن ان يكون عقليا فقط ، ويمكن ان يرجع الى اللفظ فقط ، ويمكن ان لا يكون ممحضا في احدهما ، اما الاول فبان يكون في

١٨٤

صحة العبادة بعد الفراغ عن كون النهي متعلقا بالخصوصية ووجود الجهة الموجبة للامر في الطبيعة ، فيرجع محصل النزاع الى ان وجود الجهة في الطبيعة يكفى في كونها عبادة ومحصلة للقرب وان كان المأتي به الفرد المشتمل على الخصوصية المبغوضية فعلا ، او لا؟ اما الثاني فبان يكون النزاع في ان القضايا الدالة على حرمة عبادة خاصة بعد كون اصلها مامورا بها هل تدل عرفا على فساد تلك العبادة او لا؟ واما الثالث فبان يكون المدعى في هذه المسألة صحة العبادة وبطلانها سواء كان طريق الاثبات في ذلك اللفظ ام العقل.

والظاهر كون النزاع هنا راجعا الى المسألة العقلية كالسابقة والدليل على ذلك انهم يعنونون النهى في العبادات ويتمسك القائل بالبطلان بعدم امكان صيرورة المبغوض عبادة ، وهذا يكشف عن ان مورد الكلام ما اذا فهم ثبوت المقتضى للطبيعة ، وانما النزاع في ان اتحادها مع المبغوض هل هو مانع من القرب او لا ، ولو كان النزاع راجعا الى اللفظ ما احتاج المانع الى هذا الكلام ، ولا اختص ما ادعاه بالعبادة ، اذ كما يمكن ان يدعى ان النواهى الواردة في العبادة تدل على الفساد كذلك يمكن ان يدعى ان النواهى الواردة في المعاملات كذلك.

الثالث : لا فرق بين النهي النفسي والغيري (١) والاصلى والتبعى لوجود الملاك في الجميع ، نعم يختص النزاع بالنواهى التحريمية لعدم قابلية النهى التنزيهى الوارد على الخصوصية لاسقاط الامر بالطبيعة (٢) والوجه في ذلك ان

__________________

(١) لا وجه لجريان النزاع في النهى الغيرى بعد ما هو المسلم فيما بينهم من ان الطلب الغيري لا يوجب موافقته قربا ولا مخالفته بعدا ، نعم الدخول فيما يعتقد مقدميته لمبغوض المولى وان لم يكن مقدمة واقعا او لم نقل بالطلب الشرعي للمقدمة موجب للقبح الفاعلى ، وهو كاف في بطلان العبادة «منه».

(٢) فيه ان النهي التنزيهى في هذا الباب حاله حال النهى التحريمي بعينه ولو قلنا بالفرق بينهما في الباب المتقدم ، توضيحه ان الامر هناك كان متعلقا بالطبيعة المغايرة مع الطبيعة المتعلقة للنهى ، فلا محالة عند تصادق الطبيعة على فرد واحد يفترق الحال بين النهى التحريمى

١٨٥

الكراهة لعدم منعها من النقيض لا تمنع الوجوب المانع عنه ، فاذا اجتمعت جهة الوجوب مع الكراهة فلا بد من صيروره الوجوب فعليا والكراهة شأنية ، فيكون الفرد المشتمل على الخصوصية الموجبة للكراهة مجزيا عن الواجب ، ولكنه اقل ثوابا من باقى الافراد ، وقد مر تفصيل ذلك في البحث السابق.

الرابع : محل النزاع انما هو في غير النواهى المستفاد منها الوضع ابتداء كالنهى المتعلق بالصلاة في اجزاء ما لا يؤكل لحمه وامثال ذلك ، لان تلك النواهى تنبئ عن عدم المصلحة في العمل الخاص فلا يتطرق اليه احتمال الصحة بعد ذلك ، وليس الفساد مرتبا على النهى بل النهى جاء من قبل الفساد.

الخامس : لو شك في اقتضاء النهى للبطلان فلا اشكال في عدم وجود اصل في هذا العنوان يعين احد طرفى الترديد ، فيجب الرجوع الى القواعد الجارية في نفس المسألة الفرعية ، فنقول : لو تعلق نهى بالصلاة في محل خاص مثلا وشككنا في ايجابه لبطلان العمل فلو أتى المكلف بتلك الصلاة المنهى عنها فهل الاصل يقتضى البطلان او الصحة؟ يمكن ابتناء ذلك على كون النزاع في المسألة لفظيا او عقليا ، فعلى الاول يرجع الشك في المسألة الى الشك في التقييد (١) فان القائل بان الخطاب المشتمل على النهى يدل على فساد العمل

__________________

ـ والتنزيهى ، وهذا بخلاف الحال في هذا المقام المفروض فيه تعلق النهى بعنوان العبادة كما في صل ولا تصل في الحمام ، ومن المعلوم عدم الفرق بين كون النهى تحريميا او تنزيهيا في عدم تصوير اجتماعه مع الامر للزوم اجتماع ضدين في شيء واحد من جهة واحدة وهو الطبيعة المهملة ، فلا بد في كليهما من تقييد مورد الامر بغير مورد النهي ، نعم يبقى ملاك الامر في كليهما صالحا لاسقاط الامر في التوصليات ، واما في باب العبادة المطلوب فيها رجحان الفعل فلا يكفى مجرد الملاك مع مرجوحية الفعل ولو لم تصل بحد المنع من النقيض ، هذا كله لو فرض تعلق النهى بالخاص ، ولو فرض تعلقه بالخصوصية فلا فرق ايضا بينهما في امكان حصول القرب بالطبيعة المتخصصة كما يأتى الاشارة اليه في الحاشية الآتية «منه».

(١) كونه راجعا الى الشك في التقييد حتى يجرى فيه البراءة على القول بها في الاقل ـ

١٨٦

عرفا يرجع قوله الى دعوى ان مورد الوجوب مقيد بغير الخصوصية المنهى عنها ، فالصلاة الماتى بها في محل ورد النهى عن اتيانها فيه باطلة ، لفقدان الشرط الشرعي على مذهب هذا القائل ، فلو شك في ذلك يرجع الشك الى ان المامور به هل هو مقيد شرعا بان لا يؤتى به في المحل المخصوص أو لا ، وعلى الثاني اعنى على تقدير كون النزاع عقليا فمقتضى الاصل فساد العمل لان المأمور به معلوم من حيث القيود والشروط بحيث لو كان توصليا لكان مجزيا ، وانما الشك في ان القرب المعتبر في العبادات هل يحصل بايجاد العمل في ضمن فرد محرم اولا ، ولا اشكال في لزوم الاتيان ثانيا حتى يقطع بفراغ ذمته.

اذا عرفت ذلك كله فنقول ان الافعال المتعلقة للنهى على قسمين : قسم اعتبر في صحته قصد القربة وهو الذي يسمى بالعبادة ، وقسم لم يعتبر فيه ذلك ، فان جعلنا النزاع في المقام راجعا الى الامر العقلى وهو انه بعد الفراغ عن وجود الجهة في الطبيعة هل يقتضى مبغوضية ايجادها في ضمن خصوص فرد فساد العمل لو اتى به في الفرد المحرم اولا؟ فالحق انه لا يقتضى الفساد مطلقا.

اما في العبادات فلان ما يتوهم كونه مانعا عن الصحة كون العمل مبغوضا ، فلا يحصل القرب المعتبر في العبادات به ، وفيه انه من الممكن ان يكون العمل المشتمل على الخصوصية موجبا للقرب من حيث ذات العمل وان كان ايجاده في تلك الخصوصية مبغوضا للمولى ، وبعبارة اخرى فكما انّا قلنا في مسألة اجتماع الامر والنهى بامكان ان يتحد العنوان المبغوض مع العنوان المقرّب كذلك هنا من دون تفاوت فان اصل الصلاة شيء وخصوصية ايقاعها

__________________

والاكثر مبنى على ان يكون الترديد بين كون النهى تحريميا وضعيا او تنزيهيا عباديا ارشادا الى افضل الافراد ، اذ لا يلزم من اجراء البراءة حينئذ محذور ، واما لو فرض كونه مرددا بين التحريم النفسى او التنزيهى بمعنى المرجوحية او التحريم الوضعى فلا يمكن اجراء البراءة للقطع ببطلان العبادة مطلقا «منه».

١٨٧

في مكان مخصوص مثلا شيء آخر مفهوما وان كانا متحدين في الخارج ، نعم لو تعلق النهى بنفس المقيد وهي الصلاة المخصوصة فلازمه الفساد من جهة عدم امكان كون الطبيعة من دون تقييد ذات مصلحة توجب المطلوبية والطبيعة المقيدة بقيد خاص ذات مفسدة توجب المبغوضية.

والحاصل انه كلما تعلق النهى بامر آخر يتحد مع الطبيعة المامور بها فالصحة والفساد فيه يبتنيان على كفاية تعدد الجهة في تعدد الامر والنهى ولوازمها من القرب والبعد والاطاعة والعصيان والمثوبة والعقوبة (١) وحيث اخترنا كفاية تعدد الجهة في ذلك فالحق في المقام الصحة ، وكلما تعلق النهى بنفس المقيد لا يمكن كون العمل صحيحا وان قلنا بكفاية تعدد الجهة ، فان الجهة الموجبة للمبغوضية ليست مباينة لاصل الطبيعة حتى في عالم الذهن ، فلا يمكن ان تكون مبغوضة ويكون اصل الطبيعة محبوبة من دون تقييد ، وبعبارة

__________________

(١) فيه ان الجهتين المتغايرتين مفهوما المتحدتين وجودا في باب الاجتماع كان اتحادهما مصححا للحمل فلهذا وقع اجتماع الامر والنهى في مورد تصادقهما محلا للنزاع المتقدم ، واما اذا كان احد المفهومين منطبقا على ذات الفعل والآخر كان من قبيل الخصوصية فمن الواضح عدم صحة حمل احدهما على الآخر وان كان الحد الواحد من الوجود محيطا بكليهما ، فالقائل بالامتناع في الفرض الاول لا يلزم ان يقول به في الثاني ، لعدم الاتحاد الحملى ، نعم حيث ان المتخصص والخصوصية متلازمان في الوجود لا يمكن اختلافهما في الحكم بان يتعلق الامر بالذات مثلا والنهى بالخصوصية بناء على ما هو المفروض من سراية الامر من الطبيعة الى الافراد ، فلا بد من تقييد الامر بغير هذا المورد ولكن هذا لا يوجب فساد العبادة لقيام الملاك في ذات الفعل ، فيكون الفاعل متقربا بنفس فعل الصلاة مثلا ومسخوطا عليه لوصف كينونته في الحمام.

فتحصل مما ذكرنا هنا وما ذكرنا في المتن انه متى تعلق النهى بالخصوصية فالحق صحة العبادة حتى على القول بالامتناع في المسألة السابقة ، ومتى تعلق بالخاص البطلان حتى على القول بالجواز هناك «منه».

١٨٨

اخرى لو بقيت المحبوبية التى هي ملاك الصحة في العبادة في المثال يلزم كون الشيء الواحد خارجا وجهة محبوبا ومبغوضا وهو مستحيل ، هذا حال العبادات.

واما غيرها فلا ينافي النهي فيها مع الصحة مطلقا لوضوح امكان ان تكون الطبيعة مشتملة على غرض من اغراض الآمر مطلقا ، فيحصل ذلك الغرض في الفرد المبغوض ولا نعنى بالصحة الا ذلك ، هذا في غير العقود والايقاعات ، واما فيهما فالنهى يدل على الصحة اذا تعلق بهما بلحاظ الآثار ، اذ لو لا ذلك لزم التكليف بالمحال كما هو واضح ، نعم لو تعلق بنفس الاسباب مع قطع النظر عن ترتب المسببات فليس النهى دليلا على الصحة ، ولكنه لا ينافيها ايضا ، لوضوح امكان ترتب الآثار المتوقعة من تلك الاسباب على ما يكون مبغوضا منها ، نعم قد يستفاد من بعض النواهى ان ورودها ارشاد الى فساد متعلقها ، وهذا لوجود قرائن في المقام ، ولولاه لزم حمله على ما هو ظاهر فيه من التحريم الغير المنافى للصحة بل موجب لها في بعض المقامات كما عرفت. هذا

وقد يقال : ان مقتضى القواعد وان كان كذلك إلّا ان في الاخبار ما يدل على ان التحريم ملازم للفساد شرعا (١) مثل ما رواه في الكافي والفقيه عن زرارة عن الباقر عليه‌السلام سأله عن مملوك تزوج بغير اذن سيده «فقال ذاك الى سيده ، ان شاء اجازه وان شاء فرق بينهما» قلت : اصلحك الله تعالى ان حكم بن عيينة (عتيبة) وابراهيم النخعى واصحابهما يقولون : ان اصل النكاح فاسد ولا تحلّ اجازة السيد له ، فقال ابو جعفر عليه‌السلام : «انه لم يعص الله ، وانما عصى سيّده فاذا اجازه فهو له جائز» (٢) حيث انه يدل على انه لو كان النكاح

__________________

(١) وقد ادعى سيدنا الاستاذ «طاب ثراه» اتفاق العلماء ايضا على ان كل معاملة ورد النهى عنها بعنوانها فهى فاسدة ، ولعل منشأ هذا الاجماع مثل هذه الاخبار ، مع امكان ان يقال بمنافاة النهى للرضاء بوقوع الاثر بناء على مدخليّة رضا الشارع في ترتب المسبب «منه».

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٤ ، ص ٥٢٣ ، الباب ٢٤ من ابواب نكاح العبيد والاماء ،

١٨٩

محرما شرعا لبطل ، بل يشعر بان الملازمة بين المعصية والفساد من المسلمات بين الاصحاب ، وانما اشتبه من قال بفساد النكاح في الفرض من جهة تخيل ان التحريم المستلزم للفساد اعم من ان يكون متعلقا بعنوان المعاملة باصل الشرع او يكون من جهة وجوب متابعة السيد.

ويمكن ان يقال : ليس المراد من المعصية في الرواية مخالفة النهى التحريمى بل مخالفة النهي الوضعي ، اذ من المتعارف اطلاق المعصية عرفا على عقد لم يشرّعه الشارع ولم يمضه ، ومن المعلوم ان العصيان بهذا المعنى ملازم للفساد ، فتامل (١).

[في المفاهيم]

فصل

والمراد من المفهوم هو القضية الغير المذكورة التابعة للمذكورة لخصوصية مستفادة منها ، واعلم ان النزاع في باب المفاهيم راجع الى الصغرى وان القضية الكذائية هل لها مفهوم او لا؟ فلو احرز المفهوم فلا اشكال في حجيته.

__________________

ـ الحديث ١. الكافي ج ٥ ص ٤٧٨ ، باب المملوك يتزوّج بغير اذن مولاه ، الحديث ٣. من لا يحضره الفقيه ، باب طلاق العبد ، الحديث ٤.

(١) وجه التأمل ان كون عصيان السيد في مورد الرواية من جهة مخالفة النهى الوضعى وعدم الاذن لا ينافى شمولها لمخالفة النهى التكليفي بعد اشديتها من الاولى في ملاك العصيان.

فان قلت كيف يتصور في مورد الرواية عصيان السيد اذ لو فرض نهى السيد سابقا على النكاح فهو مانع عن لحوق الاجازة ، وان لم يصدر عنه نهى. بل كان مجرد عدم الاذن فلا موضوع للعصيان.

قلت : مقتضى وظيفة العبودية ان لا يتجاوز في افعاله خصوصا مثل النكاح عن اظهار الرضا من المولى ولا يكتفى بمجرد الرضا الباطنى فلو تجاوز عن هذه الطريقة صح اطلاق العصيان عليه حينئذ وبذلك يصير محرما شرعيا بهذا العنوان الثانوي ويصححه لحوق الاجازة «منه».

١٩٠

[مفهوم الشرط] (*٤١)

ومن المفاهيم مفهوم الشرط ، واختلف في ان الجملة الشرطية هل تدل على الانتفاء عند الانتفاء كما تدل على الثبوت عند الثبوت اما بالوضع واما بقرينة عامة يظهر منها ذلك بحيث لو اراد المتكلم غيره فلا بد له من اقامة قرينة خاصة او لا؟

اذا عرفت هذا فنقول : ما يحتمل ان يكون مدلولا للقضية امور :

احدها ان يكون مدلولها مجرد الثبوت عند الثبوت على اى نحو كان ولو من باب المقارنات الاتفاقية ، من دون دلالة على الارتباط واللزوم اصلا ، فضلا عن ان تكون دالة على الحصر.

ثانيها ان يكون مفادها ما ذكر مع زيادة ارتباط ولزوم بين المقدم والتالى باى نحو من اللزوم ، سواء كان الاول علة للثاني او الجزء الاخير لها ، ام كان الثاني علة للاول ، ام كانا معلولين لثالثة ونحو ذلك.

ثالثها ان يكون اللزوم المستفاد منها تأثير المقدم في الجزاء ، سواء كان علة تامة ام كان احد اجزائها.

رابعها ذلك مع زيادة ان المقدم علة تامة للتالى.

خامسها احد الاخيرين مع زيادة دلالتها على الحصر.

الانصاف ان الاحتمال الاول ليس مفادا للقضية ، ولا يبعد دعوى ظهورها في ترتب التالي على المقدم ، واما كون المقدم من قبيل العلة المنحصرة او جزئها المنحصر فلا نجزم به بعد مراجعة الوجدان مرارا ، أترى انه لو قال المتكلم ان جاءك زيد فاكرمه ، فسأل المخاطب ان لم يجئ ولكنه اكرمنى هل اكرمه او لا؟ فاجاب اكرمه ، هل يكون كلامه منافيا للظهور المنعقد لكلامه الاول؟ لا اظنك تجزم بذلك بعد التامل التامّ.

واما الادلة التى يستدل بها في المقام فكلها مخدوش :

١٩١

منها ان القضية المشتملة على كلمة لو تدل على امتناع التالى لامتناع المقدم ، بالاتفاق وبشهادة التبادر والوجدان ، وليس ذلك إلّا لدلالتها على حصر العلة ، اذ لو لا ذلك فمجرد امتناع العلة التي جعلت مدخولة لكلمة لو لا يستلزم انتفاء المعلول ، فعلم ان كلمة لو تدل على ان مدخولها علة منحصرة للجزاء ، ومن البعيد التفكيك بينها وبين ساير ادوات الشرط.

وفيه انه من الممكن ان يقال : ان امتناع التالي يستفاد من مفاد كلمة لو كامتناع المقدم في عرض واحد ، لا انه مستفاد من حصر العلة ، هذا ، مضافا الى ان مجرد الاستبعاد لا يعد دليلا يعتمد عليه (١).

ومنها انه بعد فهم اللزوم بين المقدم والتالى يحمل على العلية المنحصرة لكونها اكمل افراد اللزوم.

وفيه او لا ان انحصار العلية في شيء لا يوجب اكمليتها ، اذ بعد كون شيء علة فوجود شيء آخر مثله في العلية لا يوجب نقصا فيه ، كما ان عدمه ليس كمالا له ، كما هو واضح ، وثانيا انصراف الشيء الى الفرد الكامل ممنوع

__________________

(١) مع انه يمكن منع دلالته على الحصر ولو سلمنا دلالته على ترتب امتناع الجزاء على امتناع الشرط ، لامكان ان يكون للجزاء اسباب متعددة وكانت كلها منتفية ، وانما افرد بالذكر احدها للاستغناء عن ذكر الباقى ، ولهذا لو صرح في الكلام بذكر تلك الاسباب عقيب الكلام الاول لم يكن منافيا للظاهر ، كما اذا قال : لو كان هذا انسان لكان حيوانا ، ثم قال : ولو كان هذا فرسا لكان حيوانا.

نعم يبقى في البين كلام آخر مشترك بين لو وساير ادوات الشرط وهو ان ذكر خصوص شرط عقيب الادوات ظاهر في انه لخصوصية مناط للجزاء ، لا بما يكون جامعا بينه وبين شيء آخر ، وحينئذ فان كان شيء آخر مناطا ايضا يلزم خلاف القاعدة العقلية من استحالة تاثير المتعدد في الواحد.

والجواب ان اسناد المعلول الى مصداق العلة شايع متعارف كما يقال : النار علة للحرارة مع كون العلة هو الجامع بينها وبين الشمس «منه».

١٩٢

لانه ليس منشأ للانصراف ، وهل ترى من نفسك ان الانسان ينصرف الى خاتم الانبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والحاصل ان ميزان الانصراف انس اللفظ الى معنى خاص بحيث يفهم العرف منه ذلك المعنى ، واكملية الشيء لا ربط لها بهذا المقام.

ومنها ان اللزوم المستفاد من الجملة يحمل على العلية المنحصرة بمقدمات الحكمة ، كما ان الطلب يحمل على النفسى عند الاطلاق دون الغيري ، وكما انه يحمل على التعييني دون التخييري.

وفيه او لا انه ليس حمل الطلب على النفسي والتعييني من جهة الاطلاق ، بل يحمل على النفسي عند الشك في كونه نفسيا او غيريا وعلى التعييني عند الشك في كونه تعيينيا او تخييريا اما من جهة ظهوره عرفا فيهما عند خلو اللفظ عما يدل على غيرهما ، واما من جهة ان الطلب المتعلق بشيء حجة عقلا على كونه واجبا نفسيا تعيينيا ، بمعنى انه لو كان كذلك في الواقع يصح العقوبة على مخالفته ، ولا يجوز عند العقل الاتيان بما يحتمل ان يكون بدلا له ، ولو سلّم ان حمله عليهما انما يكون من جهة مقدمات الاطلاق فقياس ما نحن فيه عليه قياس مع الفارق ، فان حمل الطلب على النفسي والتعييني عند الاطلاق من جهة انهما قسمان من الطلب في قبال قسمين آخرين منه ، ولكل من الاقسام اثر خاص ، فلو لم يحمل على قسم خاص فلا بد من الالتزام بالاهمال ، والمفروض كونه في مقام البيان ، فيجب ان يحمل على ما هو اخف مئونة من الاقسام ، والنفسي اخف مئونة من الغيري ، فان الغيري يحتاج الى لحاظ الغير ، وكذا التعييني اخف مئونة من التخييري ، لانه يحتاج الى ذكر البدل ، وهذا بخلاف انحصار العلة ، فانه عنوان منتزع من عدم علة اخرى ، ومن المعلوم ان وجود علة اخرى وعدمها ليسا موجبين لتفاوت العلة اصلا ، فلو اراد بيان الانحصار يحتاج الى دال مستقل آخر ، كما انه لو اراد بيان عدمه يحتاج الى مبين آخر فافهم.

ومما استدل به المثبتون اطلاق ترتب الجزاء على الشرط ، وتقريب

١٩٣

الاستدلال به ان مقتضى اطلاق ذلك ان يكون الجزاء مستندا الى خصوص الشرط دائما ، سواء وجد شيء آخر سابقا عليه او مقارنا له ام لا ، وهذا لا ينطبق إلّا على العلة المنحصرة ، فانه لو تعددت العلة فلو كانت سابقة على ما ذكر في القضية يكون الجزاء مستندا اليها ، وان كانت مقارنة له يكون الجزاء مستندا الى مجموع العلتين.

والجواب انه لو تكرر المسبب بتعدد الاسباب لا يلزم اهمال السبب او استناد المسبب الى مجموع السببين ، فيحفظ الاطلاق المستفاد من القضية ، وهو انه متى يوجد الشرط يترتب عليه الجزاء ، من دون لزوم القول بالحصر ، واما لو فرضنا الجزاء واحدا على كل حال فاللازم على تقدير تعدد الاسباب وان كان عدم ترتبه على الشرط اصلا احيانا وعدم كونه مستقلا كذلك لكنك عرفت مما تقدم انا ما سلمنا دلالة القضية على كون الشرط علة تامة ، بل المقدار المسلم وقوع الجزاء عقيب الشرط مع ربط بينهما ، ويكفى في الربط كونه صالحا للتأثير فيه وان منع من تأثيره سبق علة اخرى.

ثم ان كل من استدل على ثبوت المفهوم بالاطلاق المستفاد من الحكمة فكلامه على فرض تماميته خارج من المدعى ، لان المدعى ثبوت المفهوم للقضية الشرطية دائما وان القضية الشرطية تنحل الى عقد ايجابي وسلبي ، والاطلاق المستفاد من المقدمات ليس دائميا لانه تابع لوجود المقدمات.

حجة المنكرين (*٤٢) امور :

احدها ما استدل به السيد «قدس‌سره» من ان تأثير الشرط هو تعليق الحكم به ، وليس يمتنع ان يخلفه وينوب منابه شرط آخر يجري مجراه ولا يخرج عن كونه شرطا ، فان قوله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ)(١) يمنع من قبول الشاهد الواحد حتى ينضم اليه شاهد آخر ، فانضمام الثاني الى الاول

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ٢٨٢.

١٩٤

شرط في القبول ، ثم علمنا ان ضم اليمين يقوم مقامه ايضا ، فنيابة بعض الشروط عن بعض اكثر من ان تحصى ، مثل الشمس فان انتفائها لا يستلزم انتفاء الحرارة ، لاحتمال قيام النار مقامها ، والامثلة لذلك كثيرة عقلا وشرعا «انتهى».

والظاهر انه «قدس‌سره» قد استظهر من كلام القائلين بالمفهوم ان ذلك من جهة الشرطية ، وان لازمها انتفاء المشروط بانتفاء الشرط فورود ما افاده على هذا الكلام واضح لا اشكال فيه ، ولكن المدعين لم يتشبثوا بمجرد اطلاق الشرط بل يدعون ظهور الجملة في كون مدخول أداة الشرط علة منحصرة للجزاء ، فلا يصح التقابل معهم الا بنفى هذا الظهور.

الثاني انه لو دل لكان باحدى الدلالات ، والملازمة كبطلان التالى واضحة.

واجيب بمنع بطلان التالى (١) وان الالتزام ثابت ، وقد عرفت الكلام في ذلك.

الثالث قوله تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً)(٢).

__________________

(١) والحق في الجواب ان يقال بمنع بطلان التالى تارة وبمنع الملازمة اخرى ، توضيحه انا ان استندنا في اثبات المفهوم الى دلالة الادوات على الحصر منعنا بطلان التالى ، لان حصر الشرطية في التالى يلزمه الانتفاء عند الانتفاء باللزوم البين بالمعنى الاخص الذي هو مناط الدلالة الالتزامية ، وان استندنا الى ما اشرنا اليه في الحاشية السابقة من ان ذكر شرط خاص ظاهر في كونه شرطا لخصوصيته منعنا الملازمة بين ثبوت المفهوم وبين كونه باحدى الدلالات الثلاث ، لكفاية كونه بالدلالة العقليّة ، وهي ثابتة فيما نحن فيه ، وان كانت الدلالة اللفظية غير ثابتة ، لان الانتفاء عند الانتفاء ليس من اللوازم البينة بالمعنى الاخص للمعنى المذكور اعنى كون الشرط سببا خاصا بخصوصيته ، بل يحتاج الى ضم المقدمة العقلية اعنى امتناع تأثير المتعدد في الواحد ، فيكون لازما بينا بالمعنى الاعم «منه».

(٢) سورة النور ، الآية ٣٣.

١٩٥

وفيه ان القائل بالمفهوم يشترط ان لا يكون الشرط محققا للموضوع ، والشرط في القضية المذكورة محقق للموضوع ، فان الاكراه لا يتحقق إلّا مع ارادة التحصن ، هذا مضافا الى ان استعمال القضية الشرطية في ما لا مفهوم له احيانا مما لا ينكر ، انما الكلام في ظهورها في ما له المفهوم وضعا او بقرينة عامة وعدمه ، والمدعى يقول بالاول ، ومجرد الاستعمال بقرائن خارجية في بعض المقامات لا ينافي دعواه.

وينبغي التنبيه على امور :

احدها : المفهوم لو قلنا به هو انتفاء سنخ الحكم عن الموضوع المذكور في القضية في غير مورد الشرط لا شخصه ، ضرورة ان ارتفاع شخص الحكم بارتفاع بعض قيود الموضوع عقلى ، وهذا ليس من المفهوم المتنازع فيه ، وهكذا مفهوم الوصف وباقى المفاهيم التي وقعت موردا للنزاع ، فيكون مورد النزاع منحصرا فيما كان الحكم بسنخه قابلا للثبوت وعدمه في غير مورد الشرط.

ومن هنا ظهر انه ليس من باب المفهوم الحكم بالانتفاء عند الانتفاء في باب الوصايا والاوقاف ونظائرهما ، فانه لو اوصى بثلث ماله مثلا للعلماء فمن كان خارجا عن العنوان لا يكون موردا لهذه الوصية قطعا ، ولا يمكن ان يكون المال بعد انتقاله الى العلماء بموت الموصى وكونه ملكا لهم مالا لغيرهم ، وهكذا حال الوقف وامثاله ، فعدم كون المال لغير المتصف بالعنوان في مثال الوصية وكذا عدمه لغير المتصف بعنوان الموقوف عليه فيما لو وقف على عنوان خاص ليس من باب مفهوم اللفظ. هذا

وقد خالف فيما ذكرنا من ان المناط في باب المفهوم انتفاء سنخ الحكم بعض اساطين الفن ، وجعل المفهوم في قولنا «اكرم زيدا ان جاءك» انتفاء شخص الوجوب المتحقق في هذه القضية على تقدير انتفاء الشرط ، ولعل نظره الى ان هيئة افعل موضوعة بالوضع العام والموضوع له الخاص بازاء جزئيات

١٩٦

الطلب ، فما هو جزاء في القضية المذكورة هو الوجوب الجزئى الشخصى المتعلق باكرام زيد دون حقيقة الوجوب المتعلق باكرام زيد ، ولم تحضرني عبارته حتى اتأمل في مراده «قدس‌سره».

اقول لو كان الوجه ما ذكرنا ففيه او لا ما عرفت في تحقيق معنى الحروف وانها موضوعة كاسماء الاجناس للمعنى العام ومستعملة فيه وحينئذ لا مورد لهذا الكلام ، وثانيا ان الشرط في قولنا ان جاءك زيد فاكرمه يستدعى حقيقة ايجاب الاكرام لا الايجاب الجزئي الشخصي المتحقق بجميع الخصوصيات اذ ليس لنا شرط في القضايا الشرطية يكون كذلك (١) غاية الامر حقيقة الايجاب لا تتحقق الا في ضمن الايجاب الخاص ، ونسلّم منك انه ليس لتلك الحقيقة لفظ موضوع ، ولكنا نفهم ان الايجاب الجزئى المدلول عليه باللفظ الخاص ليس معلولا للشرط المذكور في القضية ، بل المعلول هو الحقيقة الموجودة في ضمنه ، وحينئذ فبعد فرض فهم حصر السبب من القضية لازمه ارتفاع حقيقة وجوب اكرام زيد في مورد عدم الشرط.

الثاني (*٤٣) لا بد في مفهوم القضية الشرطية على القول به من حفظ الموضوع مع تمام ما اعتبر قيدا في الموضوع او في الشرط او في طرف الجزاء وينحصر اختلافه مع المنطوق في امرين : احدهما انتفاء الشرط في المفهوم مع ثبوته في المنطوق والثاني الحكم الثابت في المفهوم يكون نقيض ما ثبت في المنطوق ، فمفهوم قولنا ان جاءك زيد راكبا يوم الجمعة فاضربه ضربا شديدا ، ان لم يجئك زيد راكبا يوم الجمعة فلا يجب عليك ان تضربه ضربا شديدا.

ومن الاعتبارات الراجعة الى القضية الشرطية الكل المجموعي فلو قال :

__________________

(١) كيف؟ ولو كان كذلك لجرى مثله في القضايا الاخبارية التعليقية كما في قولنا ان جاءك زيد يجيئنى عمرو فلا يمكن ان يقال بنفى سنخ الاخبار لمجىء عمرو عن هذا المتكلم عند عدم مجىء زيد ، اذ المنفى نفس هذا الاخبار الجزئى المتخصص بخصوصيات الزمان والمكان وغيرهما ، ولعل له اخبارا جزئيا آخر على وجه الاطلاق ، وهو من الفساد بمكان «منه».

١٩٧

«ان جاءك زيد فتصدق بكلّ مالك» على نحو الكل المجموعي فمفهومه عدم وجوب التصدق بمجموع المال على تقدير عدم الشرط ، وهذا مما لا اشكال فيه (١) اما لو وقع العموم الاستغراقي في موضوع الجزاء فهل تقتضى القاعدة مراعاته في طرف المفهوم؟ فيكون المفهوم من قولنا ان جاءك زيد فاكرم كل عالم ، على نحو الاستغراق الافرادي ، عدم وجوب اكرام الكل على تقدير عدم الشرط ، حتى لا ينافي وجوب اكرام البعض ، او عدم مراعاته ، حتى يكون المفهوم من القضية المذكورة السالبة الكلية.

ومن هنا وقع النزاع بين امامى الفن الشيخ محمد تقى وشيخنا المرتضى «قدس‌سرهما» في حديث اذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء فادعى الاول بداهة ان المفهوم الايجاب الجزئى ، بملاحظة ان نقيض قولنا : «لم ينجّسه شيء» ينجسه شيء ، وادّعى الثاني بداهة ان المفهوم هو الايجاب الكلي واستدل في الطهارة على ما هو ببالى (٢) بان العموم لوحظ مرآة وآلة لملاحظة الافراد ، فكانّه لم

__________________

(١) لا يخفى انه لو قيل : بافادة الاداة للعلية التامة مضافا الى الانحصار الذي هو مبنى اخذ المفهوم لزم في الكل المجموعى أيضا ـ اذا اخذ في الجزاء ـ كون المفهوم السالبة الكلية وارتفاع الكل بجميع اجزائه عند ارتفاع الشرط ، اذ لو بقى بعضها مستندا الى شيء آخر لكان خلفا فيما فرضناه من كون الشرط تمام العلة المنحصرة للكل بجميع اجزائه ، اذ حينئذ لا بد ان يكون هو العلة لكل واحد واحد من الاجزاء وللهيئة الاجتماعية من غير شركة شيء آخر معه في شيء منها.

ولكن الذي يسهل الخطب ان غاية ما يستفاد من تركيب اجزاء القضية الشرطية اللفظية ليس بازيد من كون الشرط متى حصل في الخارج يترتب عليه بلا مهلة حصول الجزاء فيه ، وهذا اعم من ان يكون تمام العلة او جزء اخيرا منها ، وحينئذ فان قلنا باستفادة الحصر كان ملحوظا بالنسبة الى هذا المعنى «منه».

(٢) واليك نصّ عبارته : «والقول باهماله [يعنى اهمال المفهوم] ضعيف في الغاية ، منشؤه توهّم كون كريّة الماء علّة لعدم تنجّسه بجميع النجاسات ، لا لعدم تنجّسه بكلّ فرد ، لكن ظاهر السياق ، هو الثاني ، فانتفاء الكريّة يوجب تنجسه بكلّ فرد ، لان النفى عن كلّ فرد يفرض من

١٩٨

يذكر في القضية الا الاحكام الجزئية المتعلقة بالافراد ، فيكون تعليق هذا الحكم المنحل الى احكام جزئية عديدة على بلوغ الكرية منحلا الى تعليقات عديدة ، ولازم حصر العلة كما هو المفروض انه في صورة انتفاء الكرية ينقلب كل نفي الى الاثبات.

ويمكن ان يستدل لهذا المطلب بوجه آخر وهو انه بعد فرض حصر العلة في الكرية يلزم ان لا يكون لبعض افراد العام علة اخرى ، اذ لو كان لبعض الافراد علة اخرى يتحصل المجموع من علتين ، وهذا خلف ، ولازم ذلك في القضية المذكورة الايجاب الكلى في صورة عدم الكرية ، وهذا واضح.

والحق ان القضية المذكورة وامثالها ظاهرة في ان عمومها ملحوظ وان المفهوم في القضية المذكورة هو الايجاب الجزئى ، والدليل على ذلك التبادر ، ولا ينافي دعوى التبادر المذكور ما تقدم سابقا من انكار اصل المفهوم في القضايا الشرطية ، فان هذا التبادر المدعى هنا يكون في كيفيّة مفهوم القضية ، وفائدته انه لو علمنا من الخارج ان القضية المشتملة على الكل الاستغراقى جيء بها لبيان المفهوم وبنينا على الاخذ بالمفهوم في قضية شخصية من جهة وجود القرائن الخارجية نأخذ به على نحو ما ذكرنا ، فلا تغفل.

واما الاستدلال الاول فجوابه ان العموم وان لوحظ مرآة في الحكم الذي اسند الى موضوعه إلّا انه لا منافاة بين هذا وبين ملاحظة هذا العموم الاستغراقى امرا وحدانيا بملاحظة التعليق على الشرط (١) وهذا امر واضح لا يحتاج امكانه في

__________________

ـ النجاسة اذا استند الى الكريّة انتفى بانتفائها ، وليس هذا من قبيل اذا صحبت زيدا فلا تخف احدا ، لقيام القرينة في المثال». كتاب طهارة الشيخ الانصاري ، في البحث عن الماء المحقون ، ص ١١.

(١) لا يقال : ملاحظة العموم في مقام اسناد الحكم مرآة وفي مقام التعليق موضوعا محتاجة الى نظرة ثانية الى وصف العموم والاشارة اليه بالمعنى الاسمى ، وهو خارج عن طريقة المحاورة المتعارفة قطعا.

لانا نقول ، اما الاحتياج الى النظرة الثانية فلا فرق فيه بين الارجاع الى الافراد او الى

١٩٩

مرحلة الثبوت الى مزيد برهان ، واما الدليل عليه في مرحلة الاثبات فهو التبادر ، فان مفهوم قولنا لو كان معك الامير فلا تخف احدا ليس انه في صورة عدم كون الامير يجب الخوف من كل احد.

واما الاستدلال الثاني فهو مبنى على الالتزام بان تالى الادوات علة ، وهذا غير مسلم حتى بناء على القول بالمفهوم ، اذ يكفى في المعنى المستفاد من تعليق الجزاء كون تالى الادوات جزء اخيرا للعلة اما منحصرا بناء على القول بالمفهوم او اعم من ذلك بناء على عدمه.

الثالث (*٤٤) لو تعددت القضايا وكان الجزاء واحدا فلا يمكن الجمع بين مداليلها الاولية ، ضرورة وقوع التعارض بين مفهوم كل منها مع منطوق الاخرى ، فلا بد من التصرف اما بتخصيص مفهوم كل منها بمنطوق الاخرى ، واما بحملها على بيان مجرد الوجود عند الوجود ، والفرق بينهما انه على الاول يؤخذ بالمفهوم في غير مورد المنطوق ، بخلاف الثاني ، واما بحمل الشرط في كل من القضايا على جزء السبب واخذ المفهوم من المجموع ، واما بالالتزام بان المذكور في القضايا مصداق للسبب وما هو سبب هو الجامع بين ما ذكر ، ولعل الاظهر هو الوجه الثاني عرفا ، واما احتمال اخذ احدى القضايا منطوقا ومفهوما فلا وجه له اصلا ، فانه يوجب طرح غيرها ، كما لا يخفى.

[مفهوم الوصف]

ومن جملة المفاهيم التي قد وقع النزاع في ثبوتها مفهوم الوصف ، والحق عدم

__________________

ـ وصف العموم ، كيف؟ والتعليق ربط ، والربط محتاج الى لحاظ الطرفين ، واما لزوم الاشارة الى العموم بالمعنى الاسمى فمحل انكار جدا ، لامكان الاشارة اليه مع حفظ كونه حرفيا ، ولعله لوضوحه غنى عن البيان وحينئذ فنقول بعد امكان كل من الامرين في مرحلة الثبوت فالميزان في مرحلة الاثبات هو التبادر ، والمدعى انه مع الارجاع الى العموم دون الآحاد ، كما يتضح ذلك بملاحظة الامثلة العرفية «منه».

٢٠٠