درر الفوائد - ج ١ و ٢

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي

درر الفوائد - ج ١ و ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٥

لان ذا المزية حجة يقينا وغيره مما لم يعلم حجيته ، فيجب الاخذ بما يعلم حجيته ، ولا يجوز الاخذ بما يشك في حجيته لانه تشريع.

ومن هنا يظهر انه متى دار الامر بين التعيين والتخيير بين الطريقين فالاصل التعيين ، وان قلنا في غير هذا المقام بالتخيير ، لان اخذ الشيء طريقا عبارة عن جعله مستندا للحكم الشرعي ، ولا يجوز ذلك إلّا اذا علم بالحجية.

واما ان قلنا باعتبار الاخبار من باب السببية فالمقام من قبيل المتزاحمين ، مع احتمال اهمية احدهما المعين ، والذي يظهر من شيخنا المرتضى «قدس‌سره» (١) في مثل ذلك هو التعيين ، فان وجوب الاخذ بمحتمل الاهمية قطعي ، لانه اما متعين في الواقع او يكون احد طرفي التخيير ، بخلاف الطرف الآخر ، فالاخذ بمحتمل الاهمية موجب لبراءة الذمة يقينا ، بخلاف الاخذ بالآخر وفصّل شيخنا الاستاذ «دام بقاه» بين ان يكون منشأ الاهمية المحتملة اشدية المناط او اتحاده مع واجب آخر ، فان كان احتمالها ناشيا من الجهة الثانية فلا وجه لاستقلال العقل بوجوب ما كان منهما محتملا لها ، بل العقل يستقل بالتخيير بعد الجزم بعدم العقاب على الواجب الآخر لو كان ، فانه عقاب بلا بيان ومؤاخذة بلا برهان ، ولو كان احتمالها ناشيا من الجهة الاولى فالظاهر استقلال العقل بالاشتغال وعدم الفراغ عن العهدة على سبيل الجزم إلّا باتيان ما فيه الاحتمال ، حيث ان التكليف به في الجملة ثابت قطعا ، وانما الشك في تعيينه : هل هو على سبيل التخيير او التعيين؟ وليست الجهة لو كانت تكليفا آخر حتى يمكن نفيه باصالة البراءة ، بل هي على تقديره من كيفيات ذلك التكليف المعلوم تعلقه به ، بداهة ان اقوائية جهة وجوب الاهم ليست جهة اخرى منضمة اليها كما ، لا يخفى ، انتهى كلامه «دام بقاه» (٢).

__________________

(١) الفرائد ، المقام الثاني في التراجيح ، ص ٤٤٣.

(٢) تعليقة الفرائد ، هنا ، ص ٢٦٠.

٦٦١

اقول : الاقوى عندى التخيير مطلقا ، لان التكليف الشرعي بمقتضى الدليل الاولى ثابت في كلا الطرفين ، فالمقتضى للامتثال موجود فيهما ، وبعد عدم امكان الجمع ووجود المقتضى في كلا الطرفين تاما يحكم العقل بالتخيير ، لان التعيين ترجيح بلا مرجح ، فان مقتضى الامتثال انما هو امر المولى ، والعلم بان الواقع مطلوب للمولى من حيث هو وان احتمل عدم فعلية الطلب من جهة احتمال عروض عوارض اقتضت ذلك ، وهو موجود في كلا الطرفين من دون تفاوت اصلا ، نعم اشدية المناط توجب امرا آخر من قبل المولى على سبيل التعيين ، بملاحظة حال التزاحم ، وحيث لا سبيل الى العلم به ، كما هو المفروض ، فمقتضى الاصل البراءة.

والحاصل : انه فرق بين ما نحن فيه وبين دوران الامر الصادر من المولى بين التعيين والتخيير ، فانه في الثاني لم يثبت امر من المولى متعلقا بالطرف المشكوك ، فالاتيان به لا يوجب البراءة من الامر المعلوم على سبيل الجزم ، فيجب الاحتياط باتيان الطرف المعلوم ، قضاء لاشتغال الذمة بالتكليف يقينا ، واما فيما نحن فيه فكل طرف اتى به يعلم انه متعلق للتكليف الثابت عليه او لا ، نعم يحتمل ان يكون الآمر بواسطة الاهمية يرجح طرفا معينا (١) وحيث لم يثبت

__________________

(١) ملخص المقام انه اما ان نقول في المتزاحمين بان كلا من التخيير عند التساوي والتعيين عند الاهمية عقلي ، او بان الاول عقلي والثاني شرعي ، او بان كليهما شرعي ، وقد عرفت الحال مما ذكره في المتن بناء على الاخيرين ، واما بناء على الاول فالحق ايضا هو البراءة عن التعيين في صورة احتمال الاهمية ، فان التكليف بالاهم الواقعي في صورة عدم ابتلائه بالمهم كذلك ، وان كان العلم به منجزا له بمرتبته الواقعية ، واما مع ابتلائه بالمزاحم فلا نسلم ذلك ، ألا ترى انه لو علم بالمساواة او باهمية المزاحم فقدم ذلك المزاحم لا يكون معاقبا على ترك هذا الاهم الواقعي ، مع انه في صورة عدم المزاحمة لو تركه بتخيل المرتبة الضعيفة من الوجوب لكان معاقبا ، فيعلم من ذلك ان العلم بالتكليف في صورة المزاحمة منجز لاصله دون مرتبته. (م. ع. مدّ ظلّه).

٦٦٢

ذلك فالمؤاخذة عليه مؤاخذة بلا برهان فليتدبر.

وكيف كان فقد عرفت انه بناء على اعتبار الاخبار من باب الطريقية فمقتضى الاصل التعيين ، لانه مع دوران الامر بين الاخذ بما هو متيقن الحجية وما هو مشكوك الحجية فاللازم الاخذ بالاول ، فان جعل ما شك في اعتباره فعلا مدركا للحكم الشرعي تشريع محرم ، وحيث ان التحقيق اعتبار الاخبار من باب الطريقية فالاصل في المسألة التعيين. هذا تمام الكلام في مقتضى الاصل في المقام.

واما الادلة : التى اقاموها على الترجيح فامور نذكر بعضها ، لعدم الفائدة في ذكر الجميع :

منها : الاجماع ، قال بعض الاساطين «قدس‌سره» (١) في طي امور استدل بها على المقصود ما لفظه :

الثاني : الاجماع بقسميه بل باقسامه من القولى والعملى المحقق والمنقول :

اما الاجماع المحقق القولى فطريق تحصيله مراجعة كتبهم خصوصا الاصولية المعدّة لذلك ، فانهم ينادون باعلى صوتهم بوجوب العمل بارجح الدليلين ، من غير خلاف محقق الّا خلاف شاذ ممن عرفت ، فان الاطلاقات النادرة والاقوال الشاذة الصادرة عن بعض الآراء والاجتهادات في مقابل جمهور العلماء مما لا يعبأ به ، وإلّا لم يبق للاجماع في غير الضروريات من مسائل الفقه مورد ومحل ، والحاصل ان هذا الاجماع كاحد الاجماعات الموجودة في المسائل الفقهية بل من اعلاها ، فان كانت الاقوال الشاذة قادحة في الاجماعات فخلاف الجماعة قادح في هذا الاجماع ، وإلّا فلا.

واما المنقول فقد ادعاه من اساطين الفن جمع كثير : ففي المبادى دعوى

__________________

(١) هو المحقق الحاج الميرزا حبيب الله الرشتى «قدس‌سره» في بدائعه. في مبحث التعادل والترجيح ، ص ٤٣٠.

٦٦٣

الاجماع على ترجيح بعض الاخبار على بعض ، وعن النهاية ان الاجماع على العمل بالترجيح والمصير الى الراجح من الدليلين ، وعن غاية المبادى اجماع الصحابة على العمل بالترجيح عند التعارض ، وعن غاية المأمول : «يجب العمل بالترجيح لان المعهود من العلماء كالصحابة ومن خلفهم من التابعين انه متى تعارض الامارات اعتمدوا على الراجح ورفضوا المرجوح» ، وعن الاحكام ايضا وجوب العمل بالدليل الراجح لما علم من اجماع الصحابة والسلف في الوقائع المختلفة على وجوب تقديم الراجح من الظنين ، وعنه ايضا في موضع آخر : «من تفتش عن احوالهم ونظر في وقايع اجتهاداتهم علم علما لا يشوبه ريب انهم كانوا يوجبون العمل بالراجح من الظنين دون اضعفهما». وعن المختصر ما يقرب من ذلك ويمكن استفادة عدم الخلاف من المعالم وامثاله حيث قال «قدس‌سره» : ان التعادل يحصل من اليأس عن الترجيح بكل وجه ، لوجوب المصير اليه او لا عند التعارض وعدم امكان الجمع (١) ، وارسله ارسال المسلمات ، ولم ينقل فيه خلافا ، وظاهره كما ترى اتفاق العلماء على ذلك ، خصوصا بعد تعرضه لخلاف بعض اهل الخلاف في التخيير مع التعادل وعدم تعرضه هنا.

والحاصل أن الوقوف في اثبات الاجماع محققا ومنقولا قولا وفعلا مبالغة في ايضاح الواضحات ، خصوصا العملى منه ، نعم ليس في هذه الاجماعات ما يحكى عن فتوى الصحابة والعلماء ، بل كلها حاكية عن عملهم ، وهو يكفى في المقام ، وليس دون الاجماع المنقول الاصطلاحى في الاستدلال هنا ، انتهى موضع الحاجة من كلامه وانما خرجنا من وضع هذا الكتاب تيمنا بنقل كلماته الشريفة جزاه الله عن اهل الاسلام خيرا.

اقول : قد تحقق في محله ان الاجماع الذي هو احد من الادلة عبارة عن الاتفاق الكاشف عن قول الامام عليه‌السلام او فعله وتقريره عليه‌السلام كشفا

__________________

(١) المعالم ، خاتمة في التعادل والترجيح ، ص ٢٥٠ طبع المؤسسة.

٦٦٤

قطعيا ، فلو حصلنا اتفاق الكل ولكن احتملنا ان يكون منشأ هذا القول منهم امرا لا يصح كونه مستندا عندنا ، فلم يتحقق عندنا اجماع محقق ، كما لا يخفى ، وفي المقام لما يمكن بل يظن ان مدرك فتوى القائلين بوجوب الترجيح بعض الوجوه الآتية فليس هذا الاتفاق بشيء ، بل يرجع الى تلك الوجوه ، هذا حال الاجماع المحصل الذي استدل به ، فكيف حال المنقول ، مضافا الى ان الناقلين لم ينقلوا الاجماع على وجوب الترجيح من الصحابة والعلماء ، بل نقلوا عملهم على ذلك ، وهو لا يكشف عن كونه واجبا عندهم.

ومنها ان العدول من الراجح الى المرجوح قبيح عقلا بل ممتنع قطعا ، فيجب العمل بالراجح ، لئلا يلزم ترجيح المرجوح على الراجح.

وفيه : انه ان اريد من الراجح ما هو كذلك بملاحظة الدواعى الشخصية للفاعل فترجيح المرجوح بهذا المعنى عليه محال ، لكن ليس العمل بغير ذي المزية اختيارا للمرجوح ، ضرورة انه ما لم يترجح بحسب دواعيه الشخصية لم يعقل اختياره ، وان اريد منه ما يكون كذلك عقلا فقد عرفت انه مع قطع النظر عن التعبد يحكم بالتوقف وعدم العمل بواحد منهما بالخصوص ، فما دعت الى العمل باحد الخبرين عند التعارض الا الاخبار الواردة في الباب ، فلا بد ان تلاحظ ، فان دلت على التخيير مطلقا حكم به ، وان دلت على الترجيح حكم به ايضا ، وان قصرت دلالتها من هذه الجهة فلا بد من الرجوع الى الاصل الذي أسسناه.

وكيف كان التمسك بقبح ترجيح المرجوح على الراجح او امتناعه مما لا دخل له بالمقام.

ومنها : الاخبار الواردة من طرقنا المشتملة على جمع من وجوه الترجيح ، وقد ذكرها شيخنا المرتضى «قدس‌سره» في رسالة التعادل والترجيح ، وهي العمدة في الباب عند مشايخنا «قدّس سرهم».

اقول : الانصاف ان اثبات وجوب الترجيح بهذه الاخبار مشكل من وجوه.

احدها اختلاف هذه الاخبار ، حيث ذكر في بعضها موافقة الكتاب

٦٦٥

والسنة ، وفي بعضها مخالفة العامة ، واطلاق الاول يقتضى وجوب الاخذ بموافق الكتاب وان كان الآخر مخالفا للعامة ، وكذا اطلاق الثاني يقتضى وجوب الترجيح بمخالفة العامة وان كان الآخر موافقا للكتاب ، فاذا كان احد الخبرين موافقا للكتاب والآخر مخالفا للعامة فمقتضى اطلاق الاول الاخذ بالاول ، ومقتضى اطلاق الثاني الاخذ بالثاني.

ودعوى ان المقصود في المقام هو الايجاب الجزئي في مقابل السلب الكلى ، ويحصل ذلك بواسطة دلالة تلك الاخبار في مورد الافتراق ، مدفوعة ، بان حمل كلام السائل في تلك الاخبار على خصوص مورد الافتراق في كمال البعد ، كما لا يخفى ، وحمل كلام الامام عليه‌السلام على ذلك ـ بعد فرض ان السائل لم ينظر خصوص هذا المورد بل سأل عن مطلق تعارض ما ورد عنهم ـ يستلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وهو وان كان جائزا ان اقتضت المصلحة ذلك ، لكنه بعيد ايضا.

فان قلت : هذا الاشكال جار بناء على حمل اخبار الترجيح على الاستحباب ايضا ، فلا بد من حمل هذه الاخبار على خصوص مورد الافتراق على اى حال ، سواء قلنا بوجوب الترجيح او باستحبابه.

قلت : بناء على الحمل على الاستحباب يحمل على الحكم الحيثى ، كغالب الاحكام المستحبة المتعلقة بالعناوين ، من حيث انها هي مع قطع النظر عن المزاحمات ، بخلاف ما لو حملنا على الوجوب ، فانه على هذا يصير كسائر الاحكام الوجوبية المتعلقة بالعمل ظاهرا في الحكم الفعلى ، فتامل (١) ، وحملها

__________________

(١) وجه الامر بالتأمل ان المقام ليس من قبيل الواجبين المتزاحمين كانقاذ الغريقين ، حتى يقال ان فعلية الوجوب انما هو مع قطع النظر عن المزاحمات ، وذلك لان التزاحم فرع ثبوت الملاك في كلا الطرفين ، وهو مفقود في مقامنا بناء على الطريقية ، مع ان الابتلاء بالمزاحم في مقامنا ليس نادرا كما في انقاذ الغريقين ، فالحمل على الوجوب هاهنا ملازم مع النظر الى مادة الاجتماع ، بخلاف الحمل على الاستحباب ، لشيوع الحكم الحيثي في ذلك الباب. (م. ع. مدّ ظلّه).

٦٦٦

على ان المراد مجرد الرجحان من اى وجه حصل ليس بأولى من حملها على ما ذكرنا.

ومنها : التعارض بين الخبرين المشتملين على جمع من وجوه الترجيح : احدهما مقبولة عمر بن حنظلة (١) ، والآخر مرفوعة زرارة (٢) حيث انه مقتضى الاول منهما الاخذ برواية الاعدل والافقه وان كان الآخر اشهر ، ومقتضى الثاني منهما عكس ذلك ، وايضا بمقتضى الاول بعد فرض التساوى في الوجوه المذكورة فيه يجب التوقف حتى يلقى الامام عليه‌السلام ، وبمقتضى الثاني يجب الاحتياط ان كان احدهما موافقا له وإلّا فالتخيير.

ومنها : الاطلاقات الكثيرة الحاكمة بالتخيير من دون ذكر الترجيح اصلا

، مع كونها في مقام البيان ، وغلبة وجود احدى المرجحات في الخبرين المتعارضين ، خصوصا اذا تعدينا عن المنصوصة منها الى غيرها.

والحاصل ان حمل تلك الاطلاقات الكثيرة على مورد تساوى الخبرين من جميع الجهات مع كونه نادرا بواسطة الامر بالترجيح في الاخبار الأخر ليس باولى من حمل الأخبار الدالة على الترجيح على الاستحباب ، بل الاولى العكس ، اذ ليس فيها إلّا الامر بالاخذ بذى المزية بصيغة افعل ، وهي وان قلنا انها حقيقة في الوجوب ، لكن استعمالها في الشريعة في الاستحباب وصل الى حد انكر بعض اساطين الفن ظهورها في الوجوب لو لم تكن معها قرينة ، وكيف تطمئن النفس بتقييد تلك الاطلاقات الواردة في مقام البيان بواسطة هذا الظهور الذي من كثرة خفائه صار موردا للانكار ، وان ابيت عن حمل الاخبار الواردة في الترجيح على الاستحباب فلا اقل من الاجمال لدوران الامر بين الظهورين : ظهور الاخبار المطلقة في التخيير ، وظهور الاخبار الدالة على الترجيح فيه ، فيعمل بالاصل في موارد وجود احدى المرجحات المنصوصة ، وقد عرفت ان الاصل في

__________________

(١) الوسائل ، الباب ٩ من ابواب صفات القاضي ، الحديث ١.

(٢) المستدرك ، الباب ٩ من ابواب صفات القاضي ، الحديث ٢.

٦٦٧

المقام الترجيح بناء على حجية الاخبار من باب الطريقية ، ويؤخذ باطلاق ادلة التخيير في غيرها.

فان قلت : لا تعارض بين ظهور الاطلاق وظهور الامر ، لان الثاني وضعى ، والاول مبنى على عدم البيان ، وهو مفقود في المقام.

قلت : انعقاد ظهور الاطلاق موقوف على عدم وجود البيان المتصل بالكلام ، لا الاعم منه ومن المنفصل ، ولذا لا يسرى اجمال القيد المنفصل الى الاطلاق بخلاف المتصل ، ولو كان عدم القيد وان كان منفصلا له دخل في انعقاد ظهور المطلق لكان اللازم عدم انعقاد ظهور الاطلاق فيما اذا وجد ما يمكن ان يكون قيدا منفصلا عن الكلام ، والحاصل : ان حكم المقيد المنفصل حكم المعارض مع الاطلاق ، فاللازم الاخذ بما هو أقوى ظهورا هذا.

ولكن الانصاف عدم ظهور للاخبار الدالة على التخيير ، ولا بد من ذكر ما وقفنا عليه من تلك الاخبار :

فمنها : خبر سماعة عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من اهل دينه كلاهما يرويه ، احدهما يأمر باخذه ، والآخر ينهاه عنه ، كيف يصنع؟ قال يرجئه حتى يلقى من يخبره ، فهو في سعة حتى يلقاه (١).

ومنها ما عن الحميرى عن الحجة روحى له الفداء الى ان قال : في الجواب عن ذلك حديثان الى ان قال عليه‌السلام : ـ وبايهما اخذت من باب التسليم كان صوابا (٢).

ومنها ما عن الحسن بن الجهم عن الرضا عليه‌السلام ، قال : قلت له : يجيئنا الاحاديث عنكم مختلفة ، فقال عليه‌السلام : ما جاءك عنا فقس على كتاب الله عزوجل واحاديثنا ، فان كان يشبههما فهو منا ، وان لم يكن يشبههما

__________________

(١) الوسائل ، الباب ٩ من ابواب صفات القاضي ، الحديث ٥.

(٢) الوسائل ، الباب ٩ من ابواب صفات القاضي ، الحديث ٣٩.

٦٦٨

فليس منا ، قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم ايهما الحق؟ قال عليه‌السلام : فاذا لم تعلم فموسع عليك بايهما اخذت (١).

ومنها ما عن الحرث بن المغيرة عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، قال : اذا سمعت من اصحابك الحديث وكلّهم ثقة فموسع عليك حتى ترى القائم فترد اليه (٢).

ومنها ما عن على بن مهزيار ، قال : قرأت في كتاب لعبد الله بن محمد الى ابى الحسن عليه‌السلام : اختلف اصحابنا في روايتهم عن ابى عبد الله عليه‌السلام في ركعتى الفجر في السفر ، فروى بعضهم صلّهما في المحمل ، وروى بعضهم لا تصلهما الا على الارض ، فوقّع عليه‌السلام : موسع عليك باية عملت (٣).

ومنها مرفوعة زرارة ، وفيها بعد ذكر المرجحات : إذن فتخير احدهما فتأخذ به ، ودع الآخر (٤).

هذا ما وقفنا عليه من الاخبار ، ولا يخفى عدم ظهور لبعضها في التخيير بين الخبرين اصلا كخبر سماعة ، لقوة احتمال ان يكون المراد من قوله عليه‌السلام فهو في سعة «الخ» (٥) كون المكلف في سعة من الامر والنهى الواقعيين حتى يعلم

__________________

(١) الوسائل ، الباب ٩ من ابواب صفات القاضي ، الحديث ٤٠.

(٢) الوسائل ، الباب ٩ من ابواب صفات القاضي ، الحديث ٤١.

(٣) الوسائل ، الباب ٩ من ابواب صفات القاضي ، الحديث ٤٤.

(٤) المستدرك ، الباب ٩ من ابواب صفات القاضي ، الحديث ٢.

(٥) يمكن ان يقال بقرينة سائر الاخبار التي وردت في التوسعة في الاخذ بكون المراد من السعة في هذا الخبر ايضا ذلك ، فمقصوده عليه‌السلام من الارجاء هو التوقف في مقام تعيين المدلول بالاستحسانات ، ومراده عليه‌السلام من السعة هو التخيير في الاخذ ، فالانصاف تمامية دلالة هذه الرواية على الاطلاق كرواية حسن بن الجهم ، فان المذكور في ادلتها من مشابهة الكتاب والحديث وعدمها انما هو من باب تمييز الحجة عن اللاحجة ، ولهذا فرض السائل بعد ذلك كون كلا الراويين ثقة حتى يكون من باب تعارض الحجتين ، فجوابه عليه‌السلام بالتوسعة في هذا الفرض مطلق بالنسبة الى وجود المرجح وعدمه ، كما ان رواية الحرث بن المغيرة بواسطة كون التوسعة فيها مغيّاة برواية الحجة عليه‌السلام يبعد حملها على حجية قول ـ

٦٦٩

حكم الواقعة ، لا انه في سعة الاخذ باحد الخبرين ، كما هو المدعى ، وكخبر الحرث بن المغيرة ، لاحتمال ان يكون المراد حجية قول الثقة من دون ملاحظة حال التعارض ، فهو على هذا من الادلة الدالة على حجية قول الثقة ، فتأمل.

وأما التوقيع الشريف وخبر على بن مهزيار فهما وان كانا دالين على التخيير بين الخبرين في الجملة ولكن لورودهما في المستحبات لا اطلاق لهما بحيث يشملان موارد الالزاميات ، فلو قال قائل باختصاص التخيير بالمستحبات كما هو احد الاحتمالات فلا يدلان على خلافه ، وكذا لورودهما في المورد الخاص اعنى تعارض الخبرين المخصوصين لا اطلاق لهما بحيث يشمل ثبوت التخيير حتى في مورد وجود المرجح ، اذ لعل الحكم بالتخيير فيهما من جهة عدم وجود المرجّح.

نعم خبر حسن بن الجهم لا اختصاص له بالمستحبات ، وان كان يشترك معهما في عدم الدلالة على التخيير حتى في صورة وجود المرجح.

فظهر مما ذكرنا عدم ثبوت اطلاق لادلة التخيير حتى تشمل صورة وجود المرجح ، فلو دل الدليل على ثبوت الترجيح يؤخذ به من دون تزاحم اصلا ، فلنشرع في بيان ادلة الترجيح :

اعلم ان الاخبار الدالة (١) على تقديم الخبر الموافق للكتاب والمخالف للقوم بالغة حد الاستفاضة ، بل لا يبعد دعوى التواتر فيها ، وان كان في القسم الاول

__________________

الثقة من دون ملاحظة حال التعارض ، بل الظاهر بقرينة سائر الاخبار حملها على التخيير في الاخذ في صورة التعارض ، فظهر مما ذكرنا ثبوت الاطلاق في الاخبار. ولا يخفى ان التصرف في هيئة المقيدات الدالة على الترجيح بحملها على الاستحباب حفظا لاطلاق مادّة هذه الاخبار الواردة في مقام البيان وان كان يساعده الاعتبار ، لكن بناء المشايخ في مقام استدلالاتهم جرى على خلافه ، وقد صار حمل المطلق على المقيد عندهم من المسلمات ، ولا يخفى وجود ذلك في اخبار الترجيح ايضا ، بمعنى وجود المطلق والمقيد في نفس تلك الاخبار ، ولو مع الغض عن اطلاق اخبار التخيير. (م. ع. مدّ ظلّه).

(١) راجع الوسائل والمستدرك ، الباب ٩ من ابواب صفات القاضي.

٦٧٠

ما يدل على عدم حجية المخالف للكتاب ، فالاخذ بموافق الكتاب من جهة حجيته وعدم حجية غيره ، ولكن فيه ايضا ما يدل على كون موافقة الكتاب مرجّحة فيما اذا تعارض الخبر ان الجامعان لشرائط الحجية ، كما لا يخفى على الناظر في الاخبار.

ثم ان الادلة الدالة على الترجيح بهما وان كان بعضها مقتصرا على خصوص موافقة الكتاب والآخر مقتصرا على مخالفة القوم ولكن فيها ما يدل على الترتيب بينهما وان الترجيح بمخالفة القوم مختص بما اذا لم يكن لاحد الخبرين شاهد من كتاب الله تعالى ، فتلخص من جميع ما ذكرنا ان الترجيح بموافقة الكتاب لازم ثم بمخالفة القوم.

واما الترجيحات الأخر المذكورة في مقبولة عمر بن حنظلة ومرفوعة زرارة ، كأعدلية الراوى ، واوثقيته ، واصدقيته ، وكذا الشهرة بين الاصحاب ، فيمكن ان يقال بعدم دلالتهما على الترجيح بما ذكر في صورة تعارض الخبرين ، كما هو مفروض البحث.

اما ما ذكر من الاعدلية ونظائرها في المقبولة فلأنها في مقام تقديم حكم احد الحكمين في مقام رفع الخصومة ، ولا تدل على وجوب الترجيح في صورة تعارض الخبرين للمجتهد.

واما ما ذكر منها في المرفوعة فان الظاهر بقرينة سؤال السائل بعد ذلك : «هما عدلان مرضيان» انه ليس المراد من الاعدل من كان هذا الوصف فيه اكثر واشد بعد اشتراكهما في اصل الصفة ، بل المراد من كان منهما عادلا ، فهو من قبيل «أولو الارحام بعضهم أولى ببعض» وحاصله يرجع الى وجوب الاخذ بخبر العادل لكونه حجة وطرح الآخر لكونه غير حجة.

واما الشهرة فالظاهر بقرينة قوله عليه‌السلام في المقبولة : «فان المجمع عليه لا ريب فيه» وادراج الخبر المشتهر بين الاصحاب في جملة الامور التى رشدها بيّن أن الترجيح بها ليس من الترجيحات الظنيّة التى تعبدنا الشارع بها ، بل تقديم

٦٧١

الخبر المشتهر بين الاصحاب من جهة انه مقطوع به وأن غيره مقطوع الخلاف (١) وحمل قوله عليه‌السلام «لا ريب فيه» على عدم الريب بالاضافة الى الآخر فيجب الاخذ به تعبدا ركيك جدا من دون داع الى هذا الحمل ، لوضوح ان الخبر اذا صار مشتهرا بين الشيعة رواية وفتوى وعملا كما هو الظاهر من الاشتهار بين الاصحاب يوجب القطع بصحته وأن مضمونه هو حكم الائمة عليهم‌السلام ، ولازم ذلك صيرورة غيره مقطوع الخلاف ، فليس تقديم الخبر المشتهر بين الاصحاب من جهة الترجيح الذي يتكلم فيه.

الامر الثانى : اذا بنينا على الترجيح فهل يقتصر على المرجحات المنصوصة ام لا.

ذهب شيخنا المرتضى «قدس‌سره» الى الثاني (٢) واستفاد ذلك من امور : احدها الترجيح بالاصدقية والاوثقية ، فان اعتبار هاتين الصفتين ليس إلّا لترجيح الاقرب الى مطابقة الواقع في نظر الناظر ، وليس للسبب الخاص دخل ، ومنها تعليله عليه‌السلام الاخذ بالمشهور بقوله عليه‌السلام : «فان المجمع عليه لا ريب فيه» فانه بعد القطع بان ما يرويه المشهور لا يضير مما لا ريب فيه واقعا وإلّا كان غيره مقطوع الخلاف ولم يمكن فرضهما مشهورين يجب ان يكون المراد من قوله «فان المجمع عليه لا ريب فيه» انه كذلك بالاضافة الى غيره ، فيستفاد من التعليل المذكور قاعدة كلية : وهي ان كل خبر يكون مما لا ريب فيه بالاضافة الى معارضه يؤخذ به ، ومنها تعليلهم عليهم‌السلام لتقديم الخبر المخالف للقوم بان «الحق والرشد في خلافهم» فانه يدل على وجوب ترجيح كل ما كان معه امارة

__________________

(١) ولا ينافي ذلك فرض السائل بعد ذلك انهما مشهوران ، وذلك لان الامر دائر بين التصرف في هذه الفقرة بالحمل على المساواة في عدد المخبرين عددا يوجب القطع لو لا المزاحمة بالمثل ، وبين التصرف في تلك الفقرات العديدة ، ولا ريب ان الاول اهون واولى. (م. ع. مدّ ظلّه).

(٢) الفرائد ، التعادل والترجيح ، المقام الثالث ، ص ٥١ ـ ٤٥٠.

٦٧٢

الحق والرشد هذا.

وفي الكل نظر : لان الترجيح بالصفات قد عرفت حاله ، وكذا الترجيح بالاشهرية ، واما الترجيح بمخالفة القوم والتعليل بأن الرشد في خلافهم فلا يدل الّا على ان الخبر الذي يكون معه هذا المرجح يؤخذ به لكونه معه اقرب الى الواقع واقعا وفي نظر الشارع ، لا لكونه اقرب في نظر الناظر ، ولو جعل الشارع عند التعارض الخبر الذي يخالف القوم حجة لعلمه بانه غالب الوصول الى الواقع دون غيره فكيف يصح لنا التعدى منه الى كل خبر يكون معه شيء يرجح في نظرنا مطابقته للواقع ، مع عدم العلم بالغلبة التى صارت موجبة لجعل الشارع هناك ، مثلا اذا جعل الشارع خبر الثقة لنا حجة وان نقطع بان جهة حجيته كونه طريقا الى الواقع وموصلا اليه في الغالب لكن لا يصح لنا ان نعمل بكل ما يفيد الظن لنا ، لان ملاك حجية خبر الثقة وان كان غلبة الوصول لكن وجوده في الظن الحاصل لنا من سبب آخر غير معلوم.

ومن هنا يظهر أن الاقوى بناء على الاخذ بالمرجحات الرجوع فيما لم يكن هناك احدى المرجحات المنصوصة الى اطلاق التخيير ، إن تم دلالة الادلة الدالة على التخيير ، وإلّا فإلى الاصل.

* * *

بقى في المقام ما يجب تعرضه وهو بعض الاشكالات الواردة في بادئ النظر على مقبولة عمر بن حنظلة ، والاولى نقلها بتمامها ولعله من بركاتها يزول كل شبهة اوردت عليها.

اقول : روى المشايخ الثلاثة باسنادهم عن عمر بن حنظلة قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجلين من اصحابنا يكون بينهما منازعة في دين او ميراث ، فتحاكما الى السلطان او الى القضاة ، أيحل ذلك؟ قال : من تحاكم اليهم في حق او باطل فانما تحاكم الى الطاغوت ، وما يحكم له فانما يأخذه سحتا ، وان كان حقه ثابتا ، لانه اخذ بحكم الطاغوت ، وانما امر الله ان يكفر

٦٧٣

به ، قال الله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) قلت : فكيف يصنعان؟ قال : ينظران الى من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف احكامنا فليرضوا به حكما ، فانى قد جعلته عليكم حاكما ، فاذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فانما بحكم الله استخف ، وعلينا قد رد ، والراد علينا الراد على الله ، وهو على حد الشرك بالله ، قلت : فان كان كل رجل يختار رجلا من اصحابنا فرضيا ان يكونا ناظرين في حقهما فاختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال عليه‌السلام : الحكم ما حكم به اعدلهما وافقهما واصدقهما في الحديث واورعهما ، ولا يلتفت الى ما يحكم به الآخر ، قلت : فانهما عدلان مرضيان عند اصحابنا لا يفضل واحد منهما على الآخر؟ قال عليه‌السلام : ينظر الى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه بين اصحابك فيؤخذ به من حكمهما ، ويترك الشاذ النادر الذي ليس بمشهور عند اصحابك ، فان المجمع عليه لا ريب فيه ، وانما الامور ثلاثة : امر بيّن رشده فيتبع ، وامر بيّن غيّه فيجتنب ، وامر مشكل يرد حكمه الى الله ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجى من المحرمات ، ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرمات ، وهلك من حيث لا يعلم ، قال : قلت : فان كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال : ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف الكتاب والسنة ووافق العامة ، قلت : جعلت فداك أرأيت ان كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة ، فوجدنا احد الخبرين موافقا للعامة ، والآخر مخالفا بأى الخبرين يؤخذ؟ قال عليه‌السلام : ما خالف العامة ففيه الرشاد ، فقلت : جعلت فداك ، فان وافقهم الخبران جميعا؟ قال عليه‌السلام : ينظر الى ما هم أميل اليه حكامهم وقضاتهم ، فيترك ، ويؤخذ بالآخر ، قلت : فان وافق حكامهم الخبرين جميعا؟ قال عليه‌السلام : اذا كان ذلك فارجه حتى تلقى امامك ، فان الوقوف عند

٦٧٤

الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات (١) ، هذا.

واما الاشكالات الواردة فهى من وجوه :

احدها : ان قطع المخاصمات وفصل الخصومات لا يناسبه تعدد الحاكم والفاصل.

والثاني : ان مقام الحكومة آب عن الغفلة عن معارض مدرك الحكم ، فكيف يصح الحكمان ويرجّح احدهما على الآخر.

والثالث : ان اجتهاد المترافعين وتحريهما في مدرك حكم الحاكم لا يجوز اجماعا.

الرابع : ان اللازم مع التعارض الاخذ باسبق الحكمين ، اذ لا يبقى للمتاخر مورد ، هذا ان كان احدهما سابقا على الآخر ، وان صدرا دفعة فاللازم التساقط دون الترجيح.

والخامس : ان الامر في تعيين الحاكم انما هو بيد المدعى ، فينفذ حكم من اختاره في الواقعة ، وقد فرض في الرواية الامر بيدهما وتحريهما بعد اختلافهما في الحكم.

وحسم مادة الاشكال باحد وجهين :

إما بان يخرج الواقعة من المخالفة والمخاصمة وتحمل على السؤال عن المسألة المتعلقة بالاموال التى صارت منشأ للنزاع والحاصل ان المتنازعين لمّا كان منشأ نزاعهما الشبهة في حكم المسألة فيجب رجوعهما الى رواة الحديث ليعلما حكم الواقعة ويرتفع النزاع من بينهما ، وحينئذ لا اشكال اصلا.

وإمّا بحملها على مورد التداعى ، فيصح ان يختار كل منهما غير من يختاره الآخر ، فينفذ حكم كل منهما على من اختاره دون الآخر ، نعم يظهر من الرواية

__________________

(١) الوسائل ، الباب ٩ و ١١ من ابواب صفات القاضي ، الحديث ١ والباب ١٢ منها ، الحديث ٩. اصول الكافي ، ج ١ ، باب اختلاف الحديث ، الحديث ١٠ ، ص ٨ ـ ٦٧.

٦٧٥

انه لو كان احدهما اعلم وافقه فليس لاحد اختيار غيره ، ويمضى حكمه على الطرفين ، وكيف كان فيرتفع ما ذكر من الاشكالات :

أمّا اشكال تعدد الحكمين فلما مضى.

وأمّا إشكال غفلة كل منهما عن مدرك حكم الآخر فلا مكان اطلاع كل منهما على ذلك ، ولكن يعتقد عدم صحته ، كما هو غير عزيز.

وأمّا اشكال لزوم الاخذ بالاسبق فلأنه فيما لو كان الحكم نافذا على الطرفين ، وما نحن فيه ليس كذلك ، لان المفروض ان كل واحد اختار حكما غير من اختاره الآخر ، فلا ينفذ حكم من اختار احدهما على الآخر وان كان سابقا.

واما اجتهاد المترافعين فلأنه بعد ما كانت الشبهة حكمية ولم ترتفع بالحكومة امرهما الامام عليه‌السلام بالنظر في ادلة نفس الواقعة واستنباط الحكم منها حتى يرتفع نزاعهما ، والامر بترجيح احد الحكمين اذا كانت فيه احدى المرجحات المذكورة في الرواية من جهة ان حكمهم في الصدر الاول كان مطابقا لمضمون الرواية والله العالم.

وينبغى التنبيه على امور

احدها : بناء على وجوب الترجيح لو بنينا على التعدى من المرجحات المنصوصة الى غيرها فهل يعتبر الظن الشخصى؟ بمعنى ان الخبرين المتعارضين اذا كان مع احدهما أمارة توجب الظن الفعلى بكونه مطابقا للواقع نأخذ به ونقدمه على الآخر وإلّا فحالهما سواء وان كان مع احدهما ما يوجب أقربيته الى الواقع نوعا ، او أن المعتبر الظن النوعى وان لم يوجب الظن شخصا ، او أن المعتبر ابعدية احدهما عن الخلاف بحيث لو فرض العلم بصدق احدهما وكذب الآخر كان احدهما ابعد عن الكذب واقرب الى الصدق؟

٦٧٦

لا ينبغى الاشكال في عدم اعتبار الظن الشخصى ، لان المرجحات المنصوصة في الاخبار كموافقة الكتاب ونظائرها لا تستلزم الظن الشخصى ، مع وجوب الاخذ بها بناء على وجوب الترجيح ، فالملاك المأخوذ من الاخبار ليس الظن الشخصى ، لعدم اعتبار ذلك في الاصل ، فيبقى الاخيران.

واستظهر شيخنا المرتضى «قدس‌سره» من تعليلهم عليهم‌السلام لتقديم الخبر المخالف للعامة بان الحق والرشد في خلافهم ، ومن تعليلهم عليهم‌السلام لاخذ الخبر الموافق للمشهور بانه لا ريب فيه ، أن الملاك في الترجيح كون احدهما ابعد عن الباطل من الآخر وان لم يكن معه امارة المطابقة (١) وتقريب ذلك أن قولهم عليهم‌السلام «ان المجمع عليه لا ريب فيه» بعد العلم بان المراد ليس نفي الريب عنه حقيقة يراد منه انه لا ريب فيه بالاضافة الى الآخر ، فيتحصل من هذا التعليل ان الملاك في الترجيح كون احد الخبرين بالاضافة الى الآخر اقرب الى الواقع وابعد عن الباطل وان لم يكن معه ما يوجب اقربيته الى الواقع على نحو الاطلاق ، وكذا تعليلهم الاخذ بالخبر المخالف للقوم بان الحق والرشد في خلافهم.

اقول : لا يظهر من الاخبار بعد فرض جواز التعدى ان الملاك ما افاده «قدس‌سره» لان قوله عليه‌السلام : «فان المجمع عليه لا ريب فيه» بعد تعذر حمله على ظاهره يجب حمله على الرجحان الفعلى او النوعى ، وكذا قولهم : «فان الحق والرشد في خلافهم» اذ الظاهر انه لوحظ كون خلافهم طريقا الى الواقع ، ويؤيد ذلك ما في بعض الاخبار من امرهم عليهم‌السلام بالاستفتاء من فقيه البلد والعمل بخلاف ما يفتى (٢) ، ومن انهم ليسوا من الحنيفية على شيء (٣) وغير

__________________

(١) الفرائد ، بحث التعادل والترجيح ، المقام الثالث ، ص ٥١ ـ ٤٥٠.

(٢) الوسائل ، الباب ٩ من ابواب صفات القاضي ، الحديث ٢٣.

(٣) الوسائل ، الباب ٩ من ابواب صفات القاضي ، الحديث ٣٢.

٦٧٧

ذلك مما يوجد في الاخبار ، وكيف كان بناء على التعدى فلا وجه لترجيح غير ما يكون مؤيدا بما يفيد الظن نوعا.

الثاني : قد عرفت مما ذكرنا سابقا ان تقديم النص الظنى السند او الجهة او كليهما على الظاهر وان كان قطعى السند مما يحكم به العرف ، ولازم ذلك عدم التوقف الذي هو الاصل الاولى في تعارض الخبرين فيما اذا كان احدهما عاما والآخر خاصا وامثال ذلك من النص والظاهر ، وكذا الحكم في الاظهر والظاهر ، وهل يكون مورد التخيير والترجيح ايضا غير ما ذكر او هو عام؟ وجهان :

اقصى ما يقال للاول ان مورد الاخبار الواردة في العلاج هو الخبران اللذان يتحير العرف فيهما دون ما له طريق جمع مرتكز في اذهانهم وجرى عليه ديدنهم.

اقول : قد ذكرنا سابقا ان العرف يعاملون مع الخاص الظنى معاملة الخاص القطعى في تقديمه على العام وتحكيمه عليه ، ولكن لا اشكال في انه لم يكن منشأ لانعقاد ظهور آخر وصرف ظهور العام كالقرينة المتصلة حتى لا يبقى تعارض في البين ولا يحسن السؤال عن حكمهما ولا يشمله الاخبار الواردة في تعارض الخبرين.

وبعبارة اخرى : تارة يقال بان الخاص المنفصل كالمتصل في صرف ظهور العام وانعقاد ظهور آخر لمجموع الكلامين ، واخرى يقال بان العام وان لم يصرف عن ظهوره المنعقد له بورود الخاص المنفصل ولكن في مقام تعارض الخاص المذكور مع العام ، العرف يقدمون الخاص عليه ، والاول يكذبه وجدان كل احد ، والثاني لا يستلزم حمل السؤالات الواردة في الأخبار على غير الموارد المذكورة (١) اذ

__________________

(١) بل الظاهر انصراف الاخبار الى غير موارد الجمع العرفي ، لعدم صدق التنافي بين الكلامين مع وجود الجمع المذكور ، وعدم سراية الشك الى السند مع عدم التنافي ، بل نقول وهكذا الكلام في العامين من وجه ايضا ، بمعنى انصراف الاخبار عن شمولهما ، فان ادراج مادة الاجتماع في كل منهما لا يخرجهما عن قانون المحاورة ، غاية الامر عدم الدليل على اندراجه في

٦٧٨

المرتكزات العرفية لا يلزم ان يكون مشروحة ومفصلة عند كل احد حتى يرى السائل في هذه الاخبار عدم احتياجه الى السؤال عن حكم العام والخاص المنفصل وأمثاله ، اذ ربّ نزاع بين العلماء يقع في الاحكام العرفية ، مع انهم من اهل العرف ، سلّمنا التفات كل الناس الى هذا الحكم حتى لا يحتمل عدم التفات السائلين في تلك الاخبار فمن الممكن السؤال ايضا لاحتمال عدم امضاء الشارع هذه الطريقة ، وعلى هذا يجب ان يؤخذ باطلاق الاخبار.

ويؤيد عموم الاخبار ما ورد في رواية الحميرى عن الحجة عليه‌السلام ، من قوله عليه‌السلام «في الجواب عن ذلك حديثان : اما احدهما فاذا انتقل من حالة الى اخرى فعليه التكبير ، واما الآخر فانه روى انه اذا رفع راسه من السجدة الثانية وكبّر ثم جلس ثم قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير «الخ» (١) ولا شك ان الثاني اخص من الاول مطلقا ، مع انه عليه‌السلام امر بالتخيير بقوله في آخر الخبر : «وبايهما اخذت من باب التسليم كان صوابا».

وكذا ما رواه على بن مهزيار قال : قرأت في كتاب لعبد الله بن محمد الى

__________________

ايهما معيّنا ، وعدم السبيل الى فهم المراد من الكلامين غير ورود الكلامين المتنافيين ، نعم يبقى الاشكال فيما اذا انفصل الخاص عن العام بمدة مديدة ، كما اذا صدر العام من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والخاص من العسكري عليه‌السلام ، اذ الامر حينئذ يدور بين امور كلها بعيدة ، اما سهو الرواة عن نقل القرينة المتصلة مع العام ، واما تعمدهم باسقاطها ؛ واما وقوع النسخ في زمان الائمة عليهم‌السلام بحيث كان مبدؤه من زمانهم لا من زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان الكشف عنه بلسان الامام عليه‌السلام ، وإما الالتزام بالتخصيص المستلزم لتأخير البيان عن وقت الحاجة بمدة ، بل والاغراء بالجهل بسبب بيان الخلاف ، وهو وان لم يكن علة تامة للقبح لكنه في البعد بمكان لا يقصر عما سبقه ، ففي مثل ذلك قد يتوهم شمول الاخبار العلاجية ، لكن الاقوى خلافه ايضا لانه اذا جرى دأب المتكلم على تفريق كلماته في مجالس عديدة يندرج حمل عامه المنفصل على خاصه كذلك ولو بمدة تحت قانون المحاورة العرفية. (م. ع. مدّ ظلّه).

(١) الوسائل ، الباب ٩ من ابواب صفات القاضي ، الحديث ٣٩.

٦٧٩

ابى الحسن عليه‌السلام : اختلف اصحابنا في رواياتهم عن ابي عبد الله في ركعتى الفجر في السفر ، فروى بعضهم صلهما في المحمل ، وروى بعضهم لا تصلّهما الا على وجه الارض «الخ» (١) وظاهر ان الروايتين من قبيل النص والظاهر ، لان الاولى نص في الجواز ، والثانية ظاهرة في عدمه ، لامكان حملها على ان ايقاعها على الارض افضل ، مع انه عليه‌السلام امر بالتخيير بقوله عليه‌السلام : «موسع عليك باية عملت» ودعوى السيرة القطعية على التوفيق بين الخاص والعام والمطلق والمقيد من لدن زمان الائمة عليهم‌السلام وعدم رجوع احد من العلماء الى المرجحات الأخر يمكن منعها ، كيف ولو كانت لما خفيت على مثل شيخ الطائفة «قدس‌سره» فلا يظن بالسيرة ، فضلا عن القطع ، بعد ذهاب مثله الى العمل بالمرجحات في تعارض النص والظاهر كما يظهر من عبارته المحكية عنه في الاستبصار والعدة ، وقد نقل العبارتين شيخنا المرتضى «قدس‌سره» في رسالة التعادل والترجيح (٢) فلاحظ.

الثالث : لو بنينا على تقديم الاظهر فمتى علم كون احد الدليلين اظهر من الآخر فلا اشكال ، ومتى اشتبه الحال فقد ذكروا لتشخيص الاظهر امورا لا بأس بذكر بعضها :

منها : انه لو دار الامر بين التخصيص والتقييد فالثاني مقدم ، نظرا الى ان الاطلاق ليس معنى وضعيا للفظ ، وانما حكم به من جهة مقدمات احداها عدم البيان على القيد ، ومتى ورد دليل يوجب التقييد وان كان من الالفاظ الدالة على العموم يقدم على الاطلاق لارتفاع موضوعه بذلك.

وفيه ان عدم البيان الذي اعتبر في تحقق الاطلاق هو عدم البيان المتصل ، لا الأعمّ منه ومن المنفصل ، كما لا يخفى.

__________________

(١) الوسائل ، الباب ٩ من ابواب صفات القاضي ، الحديث ٤٤.

(٢) الفرائد ، المقام الرابع (من بحث التعادل والترجيح) ، ص ٤٥٢.

٦٨٠