درر الفوائد - ج ١ و ٢

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي

درر الفوائد - ج ١ و ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٥

١

٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

إنّ مؤسّسة النشر الإسلامي قد وقفت نفسها لإحياء العلوم الإسلاميّة ، عن طريق تحقيق وتصحيح وطبع ونشر الكتب العلميّة التي ألّفها أو يؤلّفها علماؤنا الأبرار قدماؤهم ومتأخّروهم. وقد وفّقها الله تعالى بهذا الصدد كثيرا ـ ولله الحمد أولا وآخرا ـ ، إذ قامت بطبع ونشر عشرات من الذخائر والمواريث الذهبيّة ، في العلوم الإسلاميّة المختلفة.

وأنّ لعلم اصول الفقه في العلوم الإسلاميّة مكانة رفيعة ، فإنّها قواعد ممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعية من أدلّتها ، ويبتنى عليه استخراج القوانين الإلهيّة المتكفّلة لسعادة بني آدم في الدنيا والآخرة ، وقد قام المحقّقون من علمائنا الأعلام بتهذيب هذه القواعد الاصولية وإحكامها ، وشيّدوا بصرف أعمارهم الشريفة وأفكارهم الدقيقة بنيانها. ثمّ ربّما نظموا حاصل أفكارهم العميقة ، وجعلوها في كتب قيّمة خدمة للعلم وأهله.

وممّا ألّف في هذا النظام مجموعة ألّفها استاذ الأساتذة العظام شيخ المشايخ الكرام مؤسّس الحوزة العلميّة الكبرى بقم المشرّفة ، صاحب النفس الزكيّة القدسيّة والأفكار العلمية القيّمة ، والتحقيقات الدقيقة المرضيّة ، آية الله العظمى مولانا الحاج الشيخ عبد الكريم الحائريّ اليزديّ «قدّس الله سرّه وأعلى الله في الخلد درجته» وسمّاها ب «درر الفوائد» فهي مشتملة على تحقيقات في علم الاصول بديعة ، وتفكيرات

٣

في تمهيد قواعدها بهيّة.

وإنّه «قدس‌سره» كما تشهد به مواضع عديدة من متن الكتاب ـ ويأتي تفصيله عن قريب ـ قد ألّفها في زمان شيخه الاستاذ ، استاذ المحقّقين ، آية الله العظمى المحقّق الخراساني صاحب كفاية الاصول «قدس‌سره» ، ثمّ جعلها مدار بحثه في دورات مختلفة وسنين متمادية ، وزاد على أصلها مطالب جديدة وأبرزها بصورة التعليقة عليها ، وفي بعض الأحيان جعلها ضمن متنها.

ولنستمع إلى بيان نبذة من تاريخ حياة المؤلّف وهجرته إلى ايران ، وكيفيّة أمر تأليف هذا الكتاب ، وكيفيّة أمر هذا التعليق والتكميل ، إلى ما أفاده شيخ العلماء والمجتهدين صندوق علم استاذه المؤلّف وخزينة سرّه آية الله العظمى الزاهد الورع التقي الزكيّ الحاجّ الشيخ محمّد علي الأراكي «أدام الله تعالى ظلّه وأطال بقاه» (١).

قال «دام ظلّه» : إنّ استاذنا المحقّق المؤلّف «طاب ثراه» قد هاجر بعد وفاة سيّده الاستاذ آية الله العظمى المجدّد الحاج الميرزا حسن الشيرازي ، وسيّده الاستاذ آية الله المحقّق السيّد الفشاركي «قدس‌سرهما» حوالي سنة ١٣١٦ ه‍. ق. إلى بلدة أراك في إيران ، وأقام بها طيلة ثمان سنوات ، وقد أسّس بها حوزة علميّة حضرها جمّ غفير من جهابذة العلم ، وألّف «رحمه‌الله» جميع المباحث الاصوليّة من المجلّد الثاني ، ومبحث مقدّمة الواجب ، واجتماع الأمر والنهي والضدّ من مباحث الألفاظ ، حين كان قاطنا في بلدة أراك وكفاية الاصول لم تطبع بعد ، ولذلك فقد كان ناظرا في هذه المباحث إلى تعليقة استاذه المحقّق الخراساني «قدس‌سره» على الفرائد.

ثمّ عند بدء النهضة الدستوريّة في إيران عاد خفية إلى العراق في سنة ١٣٢٤ ه‍. ق ، وحضر مجدّدا مدة قليلة بحث المحقّق الخراساني في النجف الأشرف ، ثمّ هاجر إلى كربلاء المشرّفة ، وأقام بها حوالي ثمان سنوات ، وأكمل بقيّة المباحث الاصوليّة طيلة إقامته هناك ، وكان ناظرا في تلك المباحث إلى ما أفاده المحقّق الخراساني في الكفاية

__________________

(١) ـ بما أنّه «دام ظلّه» وضّح هنا كيفيّة تأليف هذا السفر الجليل والتعاليق العائدة إليه فقد قدّمناها على ما سيأتي في نبذة من حياة المؤلّف «قدس‌سره».

٤

وكانت مطبوعة حينذاك.

قال دام ظلّه : «ولقد كتبت هذه التحقيقات الجديدة التي للاستاذ بصورة تعاليق على كتاب الدرر ، ثمّ جعل الاستاذ حلقة ولجنة كنت أحضرها في محضره الشريف ، وأقرأ ما كتبته عليه فيصحّحها ويصوّبها ، وكثيرا ما يلخّص عبارتها ، رغبة منه «قدس‌سره» في إيجاز العبارات ، وحذرا من الإطناب المملّ ، وربّما غيّر بعض عبارات المتن وجعل التعليقة في أصل الكتاب ، وربّما عدل عمّا اختار في المتن إلى رأي آخر جعل في الهامش ، وفرزت هذه التحقيقات والتعليقات بالصورة النهائيّة على ما يرضاها شيخنا الاستاذ ، وقد تمّ أمر البحث عن المباحث اللفظيّة على هذا المنوال ، وأدام بعدها أيضا هذه الجلسات ، إلا أنّه عاقه عن تتميم المرام بعض حوادث تلك الأيام ، إلى أن دعا الله تعالى استاذنا إلى جواره ، فلبّى ربّه الكريم ، و «لدى الكريم حلّ ضيفا عبده» (١) وحرمنا الاستضاءة بأنوار أفكاره «طيّب الله ثراه وقدّس أسراره». إلى هنا تنتهي خلاصة ما أفاده آية الله العظمى الأراكي «مدّ ظلّه العالي».

ثمّ إنّه قد ظهرت هذه التعليقات والتحقيقات ضمن المجلّد الأوّل من الكتاب ، الحاوي لمباحث الألفاظ ، وطبعت في حياة المؤلّف المحقّق ، وهي الطبعة الثالثة من الكتاب ، المطبوعة سنة ١٣٥٥ ه‍. ق.

وأمّا بقيّة هذه التحقيقات فقد بقيت محفوظة عند آية الله العظمى الشيخ الأراكي «أدام الله تعالى ظلّه العالي» وقد تفضّل «دام ظلّه» على المؤسّسة ـ على ما كان هو المأمول من سماحته ـ فجعل هذه التعليقات مع ضمائم أخر مباركة باختيارنا ، فوجدنا أنّها متعلّقة بمباحث القطع والظنّ ، فكتبناها وجعلناها في موضعها من الكتاب. وهذه التحقيقات جميعها تعليقات وضعناها ذيل صفحات الكتاب ، إلا موضعا واحدا ، وهو آخر البحث عن قيام الأمارات والاصول مقام القطع ، فانّ فيه تغيير عبارة المتن ، فجعلنا هذه العبارة المحقّقة هو الأصل والمتن ، وجئنا بالعبارة السابقة

__________________

(١) ـ هذه الجملة تاريخ وفاة المؤلّف المحقّق «قدس‌سره» بحساب الجمل الكبيرة ، وهي سنة ١٣٥٥ ه‍. ق.

٥

في الذيل فلعلّها لا تخلو عن إفادة.

ثمّ إنّ لآية الله العظمى الأراكي «مدّ الله تعالى ظلّه العالي» تعليقات وتحقيقات اصوليّة على كتاب الدرر ، في مباحث الألفاظ ، والاصول العمليّة ، ومبحث التعادل والترجيح ، قد تفضّل بها على المؤسّسة ، وجعلها تحت تصرّفها ، وهذه التعليقات والتحقيقات ، ما كانت منها متعلّقة بمباحث الألفاظ وضعناها مستقلّة عن متن الكتاب ، وجئنا بها بعد انتهاء المجلّد الأوّل ، ورمزنا في متن الكتاب رقما منجّما في موارد التعليقة ، ليكون تنبيها عليها ، وأفردنا هذه التحقيقات والتعليقات عن المتن لجهات ثلاث :

١ ـ اشتمال الكتاب على تعليقات المحقّق المؤلّف «قدس‌سره» فرأينا أنّ الإتيان بهذه التعليقات أيضا ربّما يوجب تشويش ذهن القارئ.

٢ ـ انّ هذه التعليقات ربّما كانت مطوّلة جدّا ، تزيد على المتن بكثير ، لاشتمالها على مطالب جديدة ونكات لم يتعرّض لها في المتن ، فكان إفرادها أولى.

٣ ـ إنّ قسما من هذه التحقيقات لم يكن بصورة التعليقة على الكتاب ـ وإن كان ناظرا إلى ما تضمّنه ـ بل هو بصورة مستقلّة ، فلذلك لا يمكن إدراجها بصورة التعليقة في ذيل الكتاب ، فأفردناها جميعها في آخر المجلّد الأوّل استطرادا. هذا بالنسبة إلى ما يتعلّق من هذه التحقيقات بمباحث الألفاظ المجموعة في المجلد الأوّل.

وأمّا ما تعلّقت منها بمباحث الاصول العمليّة ومبحث التعادل والترجيح ؛ فحيث لم يكن للمؤلّف المحقّق «قدس‌سره» تعليقات على هذه المباحث ، وكانت جميعها في صورة التعليقة المجملة ، فلذلك أدرجناها في هامش الكتاب بصورة تعليقات في ذيل الصفحات ، مشيرين في المتن برقم إلى موضع التعليقة ، ورمزنا في آخر كلّ تعليقة برمز مختصر إلى اسمه الشريف ، وكذلك فعلنا مع تعليقات المؤلف المحقّق «قدس‌سره».

ثمّ إنّ الكتاب لمّا كان خاليا عن بحث «الاجتهاد والتقليد» وقد كتب آية الله العظمى الأراكي «مدّ ظلّه العالي» ما أفاده استاذه المحقّق في ذلك البحث ، في رسالة بصورة مختصرة مناسبة لوضع الكتاب ، فزاد «دام ظلّه» في منّه علينا ، وأذن في طبع هذه الرسالة في آخر الكتاب.

٦

فصارت ـ ولله الحمد ـ موسوعتنا هذه كاملة كافلة بهذه المزايا والنكات والتحقيقات.

طبعات الكتاب

طبع كتاب «درر الفوائد» قبل هذا أربع طبعات :

١ ـ الطبعة الحجريّة ، وقد طبع المجلّد الأوّل منه في سنة ١٣٣٧ ه‍ ، والمجلّد الثاني منه في سنة ١٣٣٨ ه‍. بجهد العلامة الحجّة الحاج السيّد إسماعيل ابن آية الله الحاج آغا محسن الأراكي «قدس‌سرهما».

٢ ـ الطبعة الحجريّة أيضا ، المطبوعة في سنة ١٣٤٤ ه‍ ، بطهران ، في مطبعة «اتّحاد».

٣ ـ الطبعة الحجريّة أيضا ، المطبوعة في سنة ١٣٥٥ ه‍ ، في أواخر حياة المؤلّف «قدس‌سره» وكان المطبوع في هذه الطبعة خصوص مباحث الألفاظ منه ، وهذه الطبعة أصحّ طبعات الكتاب وأتقنها ، وقد اشتملت ـ كما أشرنا إليه ـ على زيادات في ذيل الصفحات ، هي تحقيقات جديدة من المؤلّف المحقّق «قدس‌سره» ، وقد مرّ شرح أمرها. وهذه الطبعات الثلاث كلّها كانت زمن حياة المؤلّف «طاب ثراه».

٤ ـ الطبعة المنضدة بالحروف الرصاصيّة ، وهذه الطبعة طبعت بعد وفاة المؤلّف «قدس‌سره» ، وهي أيضا قد اشتملت في مجلّدها الأوّل ـ وهو الحاوي لمباحث الألفاظ ـ على تعليقات المؤلّف ، كما في الطبعة الثالثة ، ومجلّدها الثاني خال عنها كالطبعات السابقة. وهي وإن كانت سهلة التناول للمطالع من جهة طبعها بالحروف الرصاصيّة ، إلا أنّها أيضا مشتملة على أخطاء مطبعيّة كثيرة ، وعلى حذف بعض الكلمات بل عبارات أيضا. ومع ذلك فقد قام بعض ناشري الكتب بتجديد هذه الطبعة الرابعة بصورة فتوغرافيّة ، لنفاد نسخ الكتاب ، وحاجة طلاب العلم إلى تناوله.

الطبعة الخامسة للكتاب ومزاياها

والآن فقد قامت مؤسّستنا «مؤسّسة النشر الإسلامي» بالطبعة الخامسة للكتاب

٧

وهي مشتملة على مزايا جديدة ، ما يلي بعضها :

١ ـ اشتمالها على تحقيقات وتعليقات المؤلّف المحقّق «قدس‌سره» على مباحث القطع والظن ، بشرح قد مضى.

٢ ـ اشتمالها على تحقيقات وتعليقات لآية الله العظمى الأراكي «دامت بركاته» على مباحث الألفاظ والاصول العمليّة ومبحث التعادل والتراجيح ، بشرح قد مضى أيضا.

٣ ـ اشتمالها على رسالة الاجتهاد والتقليد ، من إفادات المؤلّف المحقّق «قدس‌سره» بقلم آية الله العظمى الأراكي «مدّ ظلّه العالي» بالشرح الماضي.

٤ ـ اشتمالها على الاسلوب الأحسن في الطبع ، وعلى رعاية المحاسن المطبعيّة ، وإعمال الدقّة اللازمة في التصحيح المطبعي.

٥ ـ إعمال الدقّة في تصحيح أصل النسخة «متنا وهامشا».

كيفيّة عمليّة التصحيح :

برغم ما بذلناه من الفحص والتفتيش عن خطّ المصنّف «قدس‌سره» لم نعثر عليه ، إلا أنّه اعتمدنا في تصحيح المتن على نسخة آية الله العظمى الأراكي «دامت بركاته» الّتي قد صحّحها «مدّ ظلّه» بنفسه ، مقابلة على نسخة المؤلّف «قدس‌سره». ولمّا لم تكن مشتملة في أوّل بعض الفصول على العناوين الخاصّة ، زدناها عليها ـ تبعا في الأكثر للطبعة الرابعة ـ وجعلناها داخل معقوفتين بهذه الصورة [] ، كما أنّه قد اعتمدنا في تصحيح التعليقات المطبوعة سابقا على النسخة الخطّيّة الّتي كانت موجودة عند آية الله العظمى الأراكي «مدّ ظلّه العالي» وكما أنّ الاعتماد في التعليقات غير المطبوعة التي للمؤلّف «قدس‌سره» وفي رسالة الاجتهاد والتقليد وفي جميع تعليقات آية الله العظمى «دامت بركاته» كان على نسخة الأصل الّتي تفضّل بها سماحته ، وصورتها الفتوغرافيّة موجودة في مكتبة المؤسّسة.

وأخبرا ترى هذه المؤسّسة لزاما عليها أن تقدّم شكرها المتواصل لكلّ من حضرة آية الله العظمى الحاج الشيخ محمّد عليّ الأراكي «دام ظلّه» إذ أتحفنا بجوانب من

٨

حياة مؤسّس الحوزة العلميّة بقم المقدّسة مؤلف هذا الكتاب وكيفيّة تأليفه له وتنظيمه وإعطاء النسخ الأصليّة أو المصححة الموجودة عنده.

وهكذا لسماحة العلامة حجة الاسلام والمسلمين الحاج الشيخ محمّد المؤمن القمي حيث كان له السعي الحثيث في تحقيق الكتاب وتقديمه. وكذلك للعلّامة الشيخ محمّد هادي اليوسفي في تنظيمه لحياة المؤلّف «قدس‌سره».

ونسأل الله تعالى أن يرزقنا الإخلاص في جميع الأعمال ، وأن يتقبّل منّا بكرمه العميم وأن ينصر جنود الإسلام نصر عزيز مقتدر ، ويمدّهم بملائكته ، ويفتح لهم فتحا يسيرا ، وأن يديم بقاء سيّدنا الإمام الخميني إلى قيام مهدي الامّة عليه الصلاة والسّلام بدولته الكريمة التي يعزّ بها الإسلام وأهله ، وأن يجعلنا من الدعاة الى طاعته والقادة الى سبيله ، وأن يوفقنا لإحياء آثار كبار علماء الاسلام ورجال مدرسة أهل بيت الوحي والرسالة ، آمين.

مؤسّسة النشر الاسلامي

التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة

٩

١٠

١١

١٢

١٣

١٤

١٥
١٦

حياة المؤلّف

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الشخصيّات الخالدة :

إنّ عجلة الزمن في دورانها المستمرّ لا تلفّ في طيّاتها أشخاصا بارزين فحسب ، بل حتّى كثيرا من آثارهم ، فلا يبقى منها أثر يذكر. ولكن يستثنى من هذه السنّة الطبيعيّة اولئك النماذج الانسانيّة الذين تقرّبوا بأعمالهم إلى ربّهم حتّى كانوا من أوليائه ، فإنّهم لعظمتهم وصلابتهم يستثنون من هذه السنّة الطبيعيّة الجارية ، فهم كما قال علي عليه‌السلام : «باقون ما بقى الدّهر ، أعيانهم مفقودة ، وأمثالهم في القلوب موجودة» (١) فكأنّهم مستثنون ممّا يروى عن الرسول الكريم : «إنّ الشمس والقمر يبليان كلّ جديد». هؤلاء هم رجال العلم والفضيلة ، الذين يخلّدون في ذاكرة الناس بما يقدّمون لهم من خدمة صادقة مخلصة.

آية الله العظمى الشيخ عبد الكريم الحائري :

ومن هؤلاء النماذج النادرة مؤسّس الحوزة العلميّة بمدينة قم المقدّسة المرحوم آية الله العظمى الحاج الشيخ عبد الكريم الحائريّ اليزديّ المهرجرديّ الميبديّ «قدّس الله سرّه» فهو من الأحياء الخالدين الذين لا تنسى الخواطر ذكرهم.

في سنة ١٢٧٦ ه‍. ق في قرية «مهرجرد» من نواحي ميبد في محافظة يزد ، وفي وسط عائلة مؤمنة تعمل في حقل الزراعة ، فتح عينيه على الحياة وليد ـ قدّم في مقتبل حياته

__________________

(١) ـ نهج البلاغة ، القسم الثالث : قصار الحكم ، الكلمة : ١٤٧ ط. صبحى الصالح.

١٧

خدمات مهمّة وقيّمة إلى الامّة والثقافة الإسلاميّة ، وأصبح له حقّ عظيم على علمائنا وحوزاتنا العلميّة ـ هو المرحوم آية الله العظمى الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري مؤسّس الحوزة العلميّة بمدينة قم المقدّسة.

قال شيخ المشايخ العظام آية الله العظمى الحاجّ الشيخ محمّد علي الأراكي «دام ظلّه العالي» : «إنّ للمترجم له قصّة عجيبة من بدء تكوّنه ، وكان حدوثه بخرق العادة ودعاء أبيه. وبقاؤه أيضا بدعاء أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام ، وكيفيّة حمل أمّه به تشبه الإعجاز ، وهو إنّ أباه محمّد جعفر لم يرزق ولدا رغم مرور سنوات على زواجه ، فتزوّج اخرى بالعقد المنقطع رجاء انجاب ولد منها ، وفي ليلة دخوله بها ، أيقظت بنتا لها من زوجها السابق وأخرجتها من البيت ، فكانت الطفلة تبكي لذلك ، فرقّ قلبه عليها ، وتوجّه بالدعاء والتضرّع إلى الله عزوجل بقلب منكسر حزين قائلا : اللهمّ أنت القادر على أن تهب لي ولدا من زوجتي الاولى حتّى لا أكون سببا لإيذاء وبكاء هذه الطفلة اليتيمة ، فاستجاب له ربّه ، ووهب له من زوجته الاولى هذا الولد المبارك».

دراساته ورحلاته :

في أردكان ويزد : تعلّم مبادئ العلوم العربيّة والإسلاميّة في بلدة أردكان في محضر مجد العلماء الأردكاني وغيره ، ثمّ انتقل إلى مدينة يزد فدخل «مدرسة الخان» والتحق بحلقة تلامذة المرحوم الحاج السيّد ميرزا حسين وامق والسيّد يحيى المجتهد اليزديّ الكبير.

في سامراء : قال السيّد الأمين في «أعيان الشيعة» : فكان تتلمذه (أي المرحوم الشيخ عبد الكريم) في المتون على العلّامتين الميرزا إبراهيم الشيروانيّ المحلاتيّ الشيرازي والحاج الشيخ فضل الله نوري ، وفي الأبحاث الخارجة على العلّامة السيّد محمّد الفشاركي الأصبهاني (١).

وحكى آية الله العظمى الأراكي «دام ظلّه» إنّه «قدس‌سره» حين إذ ورد

__________________

(١) ـ أعيان الشيعة ، ج ٨ ، ص ٤٢ ، طبعة دار التعارف.

١٨

العراق ورد مع أمّه على الفاضل الأردكاني بكربلاء ، ولمّا كان المؤمن ينظر بنور الله فقد تفرّس فيه الخير والمستقبل الجيّد ، فكتب كتابا الى سامرّاء إلى العلّامة الحجّة آية الله العظمى المؤسّس الحاجّ السيّد الميرزا حسن الشيرازي «قدس‌سره» كتب فيه ما كتب ممّا وجد فيه من آثار النبوغ وشطرا وافيا ممّا تفرّس منه ، وأوصى إلى السيّد بمراعاته وتهيئة اموره في التحصيل والمعاش ، فلمّا قرأ السيّد الكتاب تولّى اموره وأسكنه في دار مع ولده الحاجّ ميرزا علي آغا ، فكان يقرأ العلوم مع ولده تحت رعاية الميرزا ومراقبته التامّة ، حتى عدّ من خواصّ أهل بيته وكواحد من أولاده.

في النجف الأشرف : قال الشيخ آغا بزرك الطهراني في «طبقات أعلام الشيعة» ما مضمونه : وحضر [في سامراء] على السيّد المجدّد الشيرازي والميرزا محمّد تقيّ الشيرازي وغيرهما ، فقد لازم حلقات دروسهم سنوات طويلة. وبعد وفاة المجدّد هاجر السيّد الفشاركي إلى النجف الأشرف فصحبه المترجم له وظلّ ملازما لدروسه إلى أن توفي في سنة ١٣١٦ ه‍. ق ، فلازم درس الشيخ محمّد كاظم الخراساني وكان من أجلّاء تلاميذه وبارزي حوزة درسه.

في كربلاء : وهبط كربلاء قبل وفاة الخراساني ، فالتفّ حوله عدد من الطلاب فاشتغل بالتدريس والإفادة ، وكان الميرزا محمّد تقيّ الشيرازي حينئذ في كربلاء يجلّه ويشير إليه ويعترف بفضله ومكانته حتّى أنّه أرجع احتياطاته إليه ، فألفت بذلك إليه الأنظار وأحلّه مكانة سامية في النفوس.

حوزته في أراك : وفي أوائل سنة ١٣٣٣ ه‍. ق. سافر إلى إيران لزيارة مشهد الإمام الرضا عليه‌السلام ، في خراسان ، وتلقّى دعوة من بعض وجوه أراك للإقامة عندهم ، فهبط «سلطان آباد» المسمّاة اليوم ب «أراك» ، وكان هناك بعض أهل العلم فعنى بتدريسهم وتنمية مواهبهم ، فكان أن ازداد عددهم وبلغ نحو ثلاثمائة طالب علم ، وأقبل الطلاب عليه وأصبحت المدينة مركزا ثقافيا وعلميا على بساطتها. ولما انتقل الشيخ محمّد كاظم الخراساني إلى رحمة الله راجع الشيعة في التقليد السيّد محمّد كاظم اليزدي المتوفى سنة ١٣٣٧ ه‍ ، والشيخ الميرزا محمّد تقيّ الشيرازي المتوفى سنة ١٣٣٨ ه‍ ، وشيخ الشريعة الأصفهاني المتوفى سنة ١٣٣٩ ه‍ ، واتّجه إليه أيضا عدد من

١٩

المقلّدين وحاز ثقة العامّة فضلا عن الخاصّة (١).

وقال : وقد سمعت على عهد شيخنا الشيرازى أنّه طلب الى المترجم له أن يعود إلى النجف بعد وفاة السيّد اليزدي في ١٣٣٧ ه‍ لينصّ عليه ويحمّله أعباء المرجعيّة ، لو لا أن حال دون ذلك انتقال الشيرازي إلى رحمة الله في سنة ١٣٣٨ ه‍ (٢)

هذا ما يوجد في كتابي أعيان الشيعة وطبقات أعلام الشيعة في كيفية إقامة المترجم له بكربلاء المشرّفة وهجرته الى أراك ايران وتأسيس الحوزة بها.

إلا أنّ شيخ المشايخ العظام آية الله العظمى الأراكي قد نقل الأمر في هجرته الى ايران وإقامته بكربلاء على مزيد من ذلك وإليكم نصّ مقاله :

قال «دام ظلّه» : إنّ استاذنا المحقّق المؤلّف «طاب ثراه» قد هاجر بعد وفاة سيّده الاستاذ آية الله العظمى المجدّد الحاج الميرزا حسن الشيرازي وسيّده الاستاذ آية الله المحقّق السيد الفشاركي «قدس‌سرهما» حوالي سنة ١٣١٦ ه‍. ق الى بلدة أراك في ايران وكان ذلك بان التمس العلامة السيّد محمود الأراكي من المرحوم الشيخ الحائري أن يهاجر الى بلدة أراك فأبى ذلك لسببين : الأوّل ممانعة استاذه الآخوند والآخر ممانعة أمّه لأنّها جاورت العتبات المقدّسة في كربلاء لتدفن فيها ، ولكن السيّد أصرّ على ذلك واستطاع أن يقنع الآخوند الخراساني وكذا والدة الشيخ الحائري فهاجر الشيخ الى أراك سنة ١٣١٦ ه‍. ق وأقام بها طيلة ثمان سنوات ، وقد أسّس بها حوزه علميّة قد حضرها جمّ غفير من جهابذة العلم وألّف «رحمه‌الله» جميع المباحث الاصوليّة من المجلّد الثاني ، ومبحث مقدّمة الواجب ، واجتماع الأمر والنهي والضدّ من مباحث الألفاظ حين كان قاطنا في بلدة أراك ، وكفاية الاصول لم تطبع بعد ، ولذلك فقد كان ناظرا في هذه المباحث إلى تعليقة استاذه المحقّق الخراساني «قدس‌سره» على الفرائد. ثمّ عند بدء النهضة الدستوريّة في ايران عاد مرّة اخرى خفية الى العراق في سنة ١٣٢٤ ه‍. ق ، وحضر مجدّدا مدة قليلة بحث المحقّق الخراساني في النجف الأشرف ، ثم هاجر الى

__________________

(١) ـ طبقات أعلام الشيعة : ج ٣ ، ص ١١٥٨ ، ١١٥٩.

(٢) ـ طبقات أعلام الشيعة : ج ٣ ، ص ١١٦٤.

٢٠