درر الفوائد - ج ١ و ٢

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي

درر الفوائد - ج ١ و ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٥

والجواب : انا لا نقول بانطباق العنوانين في عرض واحد ، بل نقول : ان الفعل الذي يكون عنوانه تحريك اليد في الآن الاول ينقلب عنوانه الى تحريك المفتاح في الآن الثاني (١) فافهم هذا.

ولكن لا يخفى ان هذا انما يصح فيما اذا كانت الواسطة من قبيل الآلة وأما اذا كان هناك فاعل آخر يصدر عنه الفعل فلا يمكن القول باتحاد الفعل الصادر عنه مع الفعل الصادر عن الفاعل الاول ، وهذا واضح.

وقد يجاب ايضا عن اصل الدليل : بانا لا نسلم لزوم تعلق الارادة بالفعل الصادر عن الفاعل بل يكفى في قابلية تعلق الحكم بشيء كونه مستندا الى المكلف بنحو من الاستناد ، سواء كان بنحو الفاعلية أم بنحو تأثير الشرط في وجود المشروط ام غير ذلك ، وبعبارة اخرى : الكلام في المقام انما هو في ان متعلق الارادة بحسب حكم العقل ما ذا؟ فنقول ما يقطع العقل باعتباره فى متعلق الطلب هو ارتباط المطلوب بالمكلف بنحو من انحاء الارتباط ، فخرج به ما ليس للمكلف تاثير فيه بنحو من الانحاء ، واما لو كان له ربط بالمكلف بوجه بحيث يكون وجوده منوطا باختياره بحيث لو شاء يوجد ولو لم يشأ لم يوجد فنمنع استحالة تعلق التكليف به عقلا.

وفيه : انه (٢) لو أراد أن التكليف فيما ليس بيد المكلف إلّا ايجاد شرطه كالاحراق بالنار مثلا متعلق بما هو شأن الواسطة ، كما اذا تعلق التكليف بما هو شأن

__________________

(١) حاصل الجواب انه لا مانع من ان يطرأ على فعل واحد في آنين متعددين عنوانان بملاحظة ترتب اثرين طوليين عليه مثلا بملاحظة تأثير حركة اليد في حركة المفتاح يطرأ عليها تحريك المفتاح وبملاحظة تأثير حركة المفتاح في انفتاح الباب يطرأ على حركة اليد عنوان فتح الباب في الآن الثاني ولا يزول عنها عنوان تحريك المفتاح كما هو ظاهر المتن حيث عبر بالانقلاب بل كلا العنوانين ثابتان كل واحد في آن غير آن الآخر «منه».

(٢) ويمكن ان يقال : ان المناط في صحة تعلق الامر عقلا كون المامور به بيده وتحت اختياره وان كان من قبيل الواسطة «منه».

١٢١

النار في المثال ، فهذا غير معقول ، وان اراد أن التكليف متعلق بما هو شأن المكلف فهو راجع الى الامر بايجاد الواسطة.

توضيح المقام على وجه يرفع الابهام عن وجه المرام : ان الاعراض باعتبار النسبة الى محالها تختلف ، تارة تكون نسبتها اليها بمجرد كونها حالّة بها من دون ان تكون صادرة عن محالها ، كالموت والحياة والسواد والبياض ، واخرى تكون نسبتها اليها من جهة انها صادرة عنها ، كالضرب والقيام ، أما ما كان من قبيل الاول فلا اشكال في عدم قابلية تعلق الطلب به ، ضرورة ان الطلب يقتضى صدور الفعل عن الفاعل ، وما ليس من مقولة الحركة والفعل لا يمكن تعلق الطلب به ، لان ارادة الآمر مثل ارادة الفاعل في كونها موجبة لتحريك العضلات ، غاية الامر أن الاولى موجبة لتحريك عضلات المأمور ، والثانية موجبة لتحريك عضلات المريد ، وظاهر ان ما ليس من قبيل الحركة لا يمكن تعلق ارادة الفاعل به فكذلك ارادة الآمر ، فلو تعلق الطلب بحسب الصورة بمثل ما ذكر يجب ارجاعه الى ما يرجع الى فعل المأمور.

والحاصل ان متعلق الطلب لا بد وان يكون معنى مصدريا صادرا عن المخاطب بالخطاب ، فلو لم يكن كذلك بان لم يكن من معنى المصدر ، او كان ولم يكن صادرا من المأمور لم يمكن تعلق الامر به : أما الاول فلما عرفت ، وأما الثاني فلما مضى من ان الارادة ما يوجب تحريك عضلات الفاعل الى الفعل ولا يمكن تحريكها الا الى فعل نفسه.

فتحصل مما ذكرنا أن الطلب اذا تعلق صورة بما ليس من الفعل الصادر من الفاعل يجب توجيهه بما يرجع الى ذلك ، ومن هنا يقوى التفصيل بين ما اذا تعلق التكليف بما ليس بينه وبين المكلف الا آلة توصل قوة الفاعل الى القابل ، وما اذا تعلق بالافعال التي ليست فعلا له بل هي افعال الواسطة ، ففي الاول التكليف متعلق بنفس ذلك الفعل ، وفي الثاني يجب ارجاعه الى السبب ، فليتامل جيدا.

١٢٢

[في المقدمات الداخلية]

الامر السابع : لو بنينا على وجوب المقدمة فهل اجزاء المركب المتصف بالوجوب النفسي تتصف به ، او بالوجوب المقدمى؟ والحق هو الثاني ، فهنا دعويان ، إحداهما عدم اتصاف الاجزاء بالوجوب النفسي ، والثانية اتصافها بالوجوب المقدمي.

لنا على الاولى ان الاوامر تتعلق بالامور الموجودة في الذهن باعتبار حكايتها عن الخارج ، فالشيء ما لم يوجد في الذهن لا يعقل تعلق الامر به ، وهذه المقدمة في الوضوح مما يستغني عن البرهان ، فحينئذ الاجزاء الموجودة في ذهن الآمر لا تخلو من انها اما ان يلاحظ كل واحد منها بوجوداتها المستقلة الغير المرتبط بعضها ببعض نظير العام الافرادي ، وامان يلاحظ المجموع منها على هيأتها الاجتماعية ، فعلى الاول لا بد وان ينحل الارادة بارادات متعددة ، كما في العام الافرادي ، اذ الإرادة امر قائم بنفس المريد متعلق بالافعال ، فكما انها تتعدد بتعدد المريد ، كذلك تتعدد بتعدد المراد ، اذ لا يعقل وحدة العرض مع تعدد المعروض ، وعلى الثاني اي على تقدير كون الملحوظ الاجزاء على نحو الاجتماع فالملحوظ بهذا الاعتبار امر واحد ، ولا يعقل ان يشير اللاحظ في هذا اللحاظ الى امور متعددة ، فوجود الاجزاء بهذا الاعتبار في ذهن الآمر نظير وجود المطلق في ذهن من لاحظ المقيد ، في انه وان كان موجودا إلّا انه لا على وجه يشار اليه ، بل هو موجود تبعا للمقيد ومندكا فيه ، والحاصل ان الموجود بهذا الاعتبار ليس إلّا الكل والاجزاء بوجوداتها الخاصة لا وجود لها ، فمتعلق الامر النفسي لا يعقل إلّا ان يكون الكل الموجود في الذهن مستقلا ، والاجزاء لعدم وجودها في الذهن بهذا اللحاظ لا يمكن ان تكون متعلقة للامر ، نعم يمكن استناد الامر اليها بالعرض نظير استناد الامر المتعلق بالمقيد الى ذات المطلق اعنى الطبيعة المهملة.

وهذا هو المراد من كلام شيخنا المرتضى «قدس‌سره» في التقريرات :

١٢٣

«ان الجزء اذا لوحظ لا بشرط فهو عين الكل واذا لوحظ بشرط لا فهو غيره ومقدمة لوجوده» والمراد من قوله «قدس‌سره» لا بشرط ، عدم اشتراط ان يكون في ذهن الآمر معه شيء ام لا وهو الصّالح لان يتحد مع الكل ، ومن قوله «قدس‌سره» بشرط لا ، عدم ملاحظة الآمر معه شيئا ، اعنى ملاحظته مستقلا ، ولا اشكال في ان الجزء بهذا اللحاظ لا يصلح ان يتحد مع الكل ويحمل عليه ، اذ لا يصدق على الحمد ولا على غيره من اجزاء الصلاة انه صلاة.

ولنا على الثانية ان الآمر اذا لاحظ الجزء بوجوده الاستقلالي ، اي غير ملحوظ معه شىء يرى انه مما يحتاج اليه تلك الهيئة الملتئمة من اجتماع الاجزاء ، فحاله حال سائر المقدمات الخارجية من دون تفاوت اصلا (١).

هذه خلاصة الكلام في المقام وعليك بالتامل التام.

[في استدلال القائلين بوجوب المقدمة]

الامر الثامن : في ذكر حجج القائلين بوجوب المقدمة ، اقول ما تمسك به في

__________________

(١) بعد ما عرفت ان الفرق بين الجزء والكل انما هو باللحاظ اللابشرطى والبشرطلائى بمعنى ان الجزء ما كان ملحوظا بحده ، والكل عبارة عن عدة اشياء يجمعها اللحاظ ويشير اليها باشارة واحدة ، وقد عرفت ايضا ان لحاظ الايصال في المقدمة عبارة عن لحاظ ذوات المقدمات بهيئة الاجتماع والاشارة اليها في الذهن باشارة واحدة ، ويتحد هذا المعنى مع لحاظ الكل في المقدمات الداخلية ، فيلزم تكرر الطلب على معنى واحد ؛ احدهما نفسى والآخر غيري ، وهو خلاف الوجدان ، وهذا شاهد صدق على صدق انكار الوجوب المقدمى رأسا كما اختاره صاحب القوانين.

مضافا الى ما سنشير إليه في الحاشية الآتية من عدم مساعدة الوجدان على الوجوب ، بيانه ان الوجوب المقدمى لا يخلو من انحاء ثلاثة : اما يكون على وجه الاطلاق ، واما على وجه الاشتراط ، واما على نحو اعتبار لحاظ الايصال ، وكلها باطلة ، اما النحو الاول فلبداهة ان من يضع قدما سمت بلدة كربلاء بلا عزم المسافرة بل مع العزم على العدم فليس هذا الوضع منه متصفا بالمطلوبية المقدمية لاجل استحباب الزيارة ، واما الثاني فقد ذكر في المتن وجوه فساده باقسامه ، واما الاخير فقد علم من هنا حاله «منه».

١٢٤

هذا المقام وجوه :

اسدّها وامتنها ما احتج به شيخنا المرتضى «قدس‌سره» من شهادة الوجدان (١) فان من راجع وجدانه وانصف من نفسه يقطع بثبوت الملازمة بين الطلب المتعلق بالفعل والمتعلق بمقدماته ، لا نقول بتعلق الطلب الفعلى بها ، كيف والبداهة قاضية بعدمه ، لجواز غفلة الطالب عن المقدمة ، اذ ليس النزاع منحصرا في الطلب الصادر من الشارع حتى لا يتصور في حقه ذلك ، بل المقصود ان الطالب للشيء اذا التفت الى مقدمات مطلوبه يجد من نفسه حالة الارادة على نحو الارادة المتعلقة بذيها ، كما قد يتفق هذا النحو من الطلب النفسي ايضا فيما اذا غرق ابن المولى ولم يلتفت الى ذلك او لم يلتفت الى كونه ابنه ، فإن الطلب الفعلى في مثله غير متحقق لابتنائه على الالتفات ، لكن المعلوم من حاله انّه لو التفت الى ذلك لأراد من عبده الانقاذ ، وهذه الحالة وان لم تكن طلبا فعليا إلّا انها تشترك معه في الآثار ، ولهذا نرى بالوجدان في المثال المذكور أنه لو لم ينقذ العبد ابن المولى عد عاصيا ويستحق العقاب.

ومنها : اتفاق ارباب العقول كافة عليه على وجه يكشف عن ثبوت ذلك عند العقل ، نظير الاجماع الذي ادعى في علم الكلام على وجود الصانع او على حدوث العالم ، فان اتفاق ارباب العقول كاشف قطعى اجمالا عن حكم العقل ، فلا يرد على المستدل ان المسألة لكونها عقلية لا يجوز التمسك لها بالاجماع لعدم كشفه عن رأى المعصوم ، لان الايراد متوجه لو اراد من الاجماع المستدل به عليه الاجماع الاصطلاحى ، اما على الوجه الذي قررناه فلا مجال للايراد ، هذا.

ولكن الشأن في اثبات مثل هذا الاتفاق :

__________________

(١) فيه منع ، كما سنشير اليه في الحاشية الآتية «منه».

١٢٥

ومنها : ان المقدمة لو لم تكن واجبة لجاز تركها فحينئذ فان بقى الواجب على وجوبه يلزم التكليف بالمحال ، وإلّا يلزم خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا ، وبطلان اللازمين مما لا كلام فيه فكذا الملزوم.

والجواب : ان ما اضيف اليه الظرف (١) في قوله فحينئذ ان كان الجواز نختار الشق الاول ، اعنى بقاء الواجب على وجوبه ، ولا يلزم المحذور قطعا ، لعدم معقولية تأثير الوجوب في القدرة ، وان كان الترك مع كونه جائزا ، فان فرض امكان ايجاد المقدمة عند ذلك ، بان كان الوقت موسعا ، فنختار ايضا الشق الاول ، ولا يلزم التكليف بالمحال ، وهو واضح ، وإلّا بان انقضى زمان الاتيان بها فنختار الشق الثاني وقوله : «يلزم خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا» ان اراد خروجه من اول الامر عن كونه كذلك ، كما هو ظاهر عبارته ، فنمنع الملازمة ، وان اراد خروجه بعد ترك المقدمة وانقضاء زمانها فليس اللازم باطلا ، لان الوجوب قد يسقط بالاطاعة وقد يسقط بالعصيان.

__________________

(١) والاولى في الجواب ان يقال : انه ان اريد من الجواز الترخيص الشرعى نمنع الملازمة ، بمعنى انه متى راجعنا وجداننا نجد من انفسنا انا في اوامرنا لسنا بمقهورين في ارادة مقدمات المطلوب ، بل لا باس بالتصريح بانى لا الزمك على فعل المقدمة ، وان كان لا يجوز لنا الترخيص في الترك ايضا او المنع من فعلها ، فلا باس بالتصريح بنفى جميع الاحكام الخمسة عنها ، نعم هذا حال الآمر ، واما الفاعل فحيث ان ارادته محركة الى الفعل ، والمفروض انه فاعل مختار ، والتحرك نحو الفعل ايضا لا يتمشى من دون التحرك نحو المقدمات ، فلا محالة ينقدح في نفسه ارادة المقدمات ، واما الآمر فلا فائدة في امره الا تحريك العبد ، وهو يحصل بمجرد الامر النفسى من دون حاجة الى الامر المقدمى ، ولا يرى ايضا فائدة في نفس المقدمة حسب الفرض غير القرب الى ذيها ، ولا فائدة له في محض القرب ايضا ، فلم يبق إلّا انه ملجأ بارادة المقدمة من دون فائدة ، وقد عرفت خلافه بمراجعة الوجدان ايضا ، نعم لا بد من ارادة العبد للمقدمات لما عرفت في الارادة الفاعلية ، هذا لو اريد الجواز الشرعي ، واما لو اريد الجواز بمعنى عدم المنع ففيه ما ذكر في المتن «منه».

١٢٦

ومنها : ما حكى عن المحقق السبزواري ، وهو انها لو لم تكن واجبة يلزم عدم كون تارك الواجب المطلق مستحقا للعقاب ، بيان الملازمة انه اذا كلف الشارع بالحج ولم يصرّح بايجاب المقدمات فتارك الحج بترك قطع المسافة ، الجالس في بلده اما ان يكون مستحقا للعقاب في زمان ترك المشى او في زمان ترك الحج في موسمه المعلوم ، لا سبيل الى الاول ، لانه لم يصدر منه في ذلك الزمان الا ترك الحركة ، والمفروض انها غير واجبة عليه ، ولا الى الثاني ، لأنّ الاتيان بافعال الحج في ذي الحجة ممتنع بالنسبة اليه ، فكيف يكون مستحقا للعقاب بما يمتنع صدوره عنه ، ألا ترى ان الانسان اذا امر عبده بفعل معين في زمان معين في بلد بعيد والعبد ترك المشى الى ذلك البلد فان ضربه المولى عند حضور ذلك الزمان ، معترفا بانه لم يصدر منه الى الآن فعل قبيح يستحق به التعذيب ، لكن القبيح انه لم يفعل في هذه الساعة هذا الفعل في ذلك البلد ، لنسبه العقلاء الى سخافة الراى وركاكة العقل ، بل لا يصح العقوبة الا على الاستحقاق السابق قطعا ، ثم نقول اذا فرضنا ان العبد بعد ترك المقدمات كان نائما في زمان الفعل فاما ان يكون مستحقا للعقاب اولا ، لا وجه للثاني ، لانه ترك المامور به مع كونه مقدورا ، فثبت الاول ، فاما ان يحدث استحقاق العقاب في حالة النوم او حدث قبل ذلك ، لا وجه للاول لان استحقاق العقاب انما يكون لفعل القبيح ، وفعل النائم والساهي لا يتصف بالحسن والقبح بالاتفاق ، ولا وجه للثاني لان السابق على النوم لم يكن الا ترك المقدمة ، والمفروض عدم وجوبها ، هذا حاصل ما افاده «قدس‌سره» وقد نقلناه ملخصا.

والجواب : انه لا محذور في اختيار كل واحد من الشقين ، فلنا ان نختار الشق الاول ، وهو استحقاق العقاب في زمان ترك المشى لا على ترك المشى بل على ترك الحج المستند الى ترك المقدمة اختيارا ، فان طريقة الاطاعة والمعصية مأخوذة من العقلاء ، وهم يحكمون بحسن عقاب العبد التارك للمقدمة في زمن تركها ، ولا يلزمون على المولى انتظار زمن الفعل ، وليس هذا التزاما

١٢٧

بترتب العقاب على ترك المقدمة ، بل المقصود اثبات العقاب المترتب على ترك ذيها في زمن ترك المقدمة وامتناع ذيها اختيارا.

ولنا ان نختار الشق الثاني فنقول : ان تارك المقدمة مستحق للعقاب في زمان الحج ، وقوله «قدس‌سره» : «ان فعل الحج هناك غير مقدور فلا يمكن اتصافه بالقبح» غير وجيه ، لانا نقول يكفى في اتصافه بالمقدورية كون المكلف قادرا على اتيان مقدمته في زمانها ، فاتصاف مثل هذا الفعل المقدور بواسطة مقدورية مقدماته بالقبح لا مانع له ، واى قبح اعظم من ترك الواجب مع الاقتدار عليه؟

وامّا ما ذكره اخيرا من فرض كون تارك المقدمة نائما في زمن الفعل ، فالجواب عنه ان ما لا يمكن ان يتصف بالحسن والقبح من فعل النائم انما يكون فيما استند الى النوم مثل ما اذا ترك الصلاة مستندا الى النوم ، وليس هذا الترك فيما نحن فيه مستندا الى النوم حتى لا يمكن اتصافه بالقبح ، بل هو مستند الى ترك المقدمة في زمانها اختيارا ، وهذا النوم المفروض وقوعه زمن امتناع الفعل وجوده وعدمه سيان ، وهذا واضح.

ومنها : ما حكى عن المحقق المذكور أيضا ، وهو انها لو لم تكن واجبة لزم ان لا يستحق تارك الفعل العقاب اصلا ، وبيانه ان المريد للشيء اذا تصور احوالا مختلفة يمكن وقوع كل واحد منها ، فاما ان يريد الاتيان بذلك على اي تقدير من تلك التقادير ، او يريد الاتيان به على بعض تلك التقادير ، وهذا مما لا اشكال فيه ، وحينئذ نقول : اذا أمر احد بالاتيان بالواجب في زمانه ، وفي ذلك الزمان يمكن وجود المقدمات ويمكن عدمها ، فاما ان يريد الاتيان به على اي تقدير من تقديري الوجود والعدم ، فيكون في قوة قولنا : «ان وجدت المقدمة فافعل وان عدمت فافعل» واما ان يريد الإتيان به على تقدير الوجود ، والاول محال ، لانه يستلزم التكليف بما لا يطاق ، فثبت الثاني ، فيكون وجوبه مقيدا بحضور المقدمة ، فلا يكون تاركه بترك المقدمة مستحقا للعقاب ، لفقدان شرط الوجوب ،

١٢٨

والمفروض عدم وجوب المقدمة ، فينتفى استحقاق العقاب رأسا.

والجواب : أمّا اولا فبأنه لو تم ما ذكره هنا لزم ان لا يقع الكذب في الاخبار المستقبلة ، بيان الملازمة انه لو اخبر المخبر بانى غدا اشترى اللحم ، فعلى تقدير عدم الشراء لا وجه لتكذيبه ، إذ له ان يقول ان الاخبار بشراء اللحم اما ان يكون على تقدير ايجاد جميع المقدمات او الاعم من ذلك وعدمها ، لا سبيل الى الثاني ، لأوله الى الاخبار عن الممتنع ، فثبت الاول ، فيئول الى الاخبار بشراء اللحم على تقدير وجود جميع المقدمات ، والمفروض عدم وجود واحدة منها ، اذ لا اقل من ذلك ، فلا يكون كذبا اذ عدم تحقق اللازم في صورة عدم تحقق الملزوم ليس كذبا في القضية الشرطية الخبرية.

واما ثانيا فبان اللازم على ما ذكره عدم استحقاق العقاب على ترك واجب اصلا ، لرجوع الواجبات باجمعها الى الواجب المشروط ، بيان ذلك ان كل واجب لا بد له من مقدمة ، ولا اقل من ارادة الفاعل ، فحينئذ نقول : اما ان يريد ذلك الفعل في حالتى وجود المقدمة وعدمها او فى حالة وجودها فقط ، والاول مستلزم للتكليف بما لا يطاق ، والثاني مستلزم لعدم استحقاق العقاب على ترك واجب من الواجبات ، اذ ترك الواجب المشروط بترك شرطه ليس موجبا للعقاب ، وليت شعرى هل ينفعه وجوب المقدمة في دفع هذا الاشكال؟!

واما ثالثا فبان الحالات التي تؤخذ في موضوع الطلب اطلاقا او تقييدا هي ما يمكن تعلق الطلب بالموضوع معه ، ويجوز كونه في تلك الحالة باعثا للمكلف نحو الفعل ، واما ما لم يكن كذلك بان لا يمكن معه ان يكون الطلب باعثا للمكلف نحو الفعل فلا يعقل تقييد الطلب به ولا اطلاقه ، اما الاول فللزوم لغوية الطلب ، واما الثاني فلانه تابع لامكان التقييد ، وحالتا وجود المقدمة وعدمها من قبيل الثاني ، لانه على الاول يصير الفعل واجبا فلا يمكن تعلق الطلب به على تقدير وجوبه ، وعلى الثاني يصير ممتنعا فلا يمكن ايضا تعلق

١٢٩

الطلب به على هذا التقدير ، وبعد عدم امكان تقييد الطلب باحدهما لا يمكن ملاحظة الاطلاق ايضا بالنسبة اليهما ، بل الطلب متعلق بذات الفعل مع قطع النظر عنهما اطلاقا وتقييدا ، وهو يقتضى ايجاد الفعل ، ولو لم يوجد يستحق العقاب ، وهذا واضح.

وقد ذكروا وجوها أخر غير ناهضة على المطلوب طوينا ذكرها اقتصارا على ما هو الاهم في الباب ، وهو الهادي الى الصواب.

[في مقدمات الحرام]

الامر التاسع : في بعض من الكلام في مقدمات الحرام.

وليعلم او لا ان الالتزام بحرمة مقدمة الحرام بقصد التوصل اليه ليس قولا بحرمة مقدمة الحرام ، لان هذا من جزئيات مسألة التجرى ، فعد بعض الاساطين حرمة مقدمات الحرام بقصد التوصل الى ذيها من باب مقدمة الحرام واقتضاء النهى المتعلق بذيها لها مما لم يعرف له وجه ، لان الجهة المقبحة الموجودة في اتيان المقدمة بقصد التوصل الى الحرام ليست منوطة بوجود محرم واقعى يكون هذه الماتي بها بقصد التوصل مقدمة له ، بل هي بعينها موجودة فيما لو اعتقد حرمة شيء واتى بمقدماته بقصد التوصل اليه ولم يكن ذلك الشيء محرما في الواقع ، او اعتقد مقدمية شيء لمحرم واتى به بقصد التوصل الى ما اعتقد ترتبه عليه ، واعجب من ذلك قياسه بباب مقدمة الواجب ، فان ما تحقق هناك ان اتيان ذات المقدمة من دون قصد التوصل الى ذيها لا يعد اطاعة ، لا ان موضوع الطلب التبعى هو الفعل المقرون بهذا القصد.

وكيف كان فالمهم في هذا الباب بيان ان المقدمات الخارجية للحرام هل تتصف بالحرمة نظير ما قلنا في المقدمات الخارجية للواجب ، ام لا تتصف اصلا ، ام يجب التفصيل بينها.

فنقول : ان العناوين المحرمة على ضربين. احدهما ان يكون العنوان بما هو

١٣٠

مبغوضا من دون تقييده بالاختيار وعدمه ، من حيث المبغوضية ، وان كان له دخل في استحقاق العقاب ، اذ لا عقاب الاعلى الفعل الصادر عن اختيار الفاعل ، والثاني ان يكون الفعل الصادر عن ارادة واختيار مبغوضا بحيث لو صدر عن غير اختياره لم يكن منافيا لغرض المولى ، فعلى الاول علة الحرام هي المقدمات الخارجية من دون مدخلية الارادة ، بل هي علة لوجود علة الحرام ، وعلى الثاني تكون الارادة من اجزاء العلّة التامة.

اذا عرفت هذا فنقول : نحن اذا راجعنا وجداننا نجد الملازمة بين كراهة الشيء وكراهة العلة التامة له من دون سائر المقدمات ، كما اذا راجعنا الوجدان في طرف ارادة الشيء نجد الملازمة بينها وبين ارادة كل واحدة من مقدماته ، وليس في هذا الباب دليل امتن واسد منه ، وما سوى ذلك مما اقاموه غير نقى من المناقشة ، وعلى هذا ففي القسم الاول ان كانت العلة التامة مركبة من امور يتصف المجموع منها بالحرمة ، وتكون احدى المقدمات لا بشخصها محرمة (١) الا إذا وجد باقى الاجزاء وانحصر اختيار المكلف في واحدة منها فتحرم عليه شخصا ، من باب تعين احد افراد الواجب التخييرى بالعرض فيما اذا تعذر الباقي ، فان ترك احد الاجزاء واجب على سبيل التخيير ، فاذا وجد الباقي

__________________

(١) ان قلت : على القول بالمقدمة الموصلة في مقدمة الواجب لا بد ان نقول بحرمة جميع المقدمات للحرام ، فان المولى انما يبغض المقدمات المبغوضة في لحاظ ايصالها اليه ، فلم يتعلق المبغوضية في الواقع إلّا بالمقيد وان كان التقييد غير ملحوظ بعنوانه ، وبالجملة عين الكلام في مقدمة الواجب ياتى في مقدمة الحرام من غير فرق بينهما.

قلت : ان المطلوب في جانب النهى انما هو عدم الفعل ، ومبغوضية الفعل من مبادى انقداح هذا الطلب في نفس الآمر ، كما انها من مقدمات انقداح الارادة في نفس الفاعل ، وبالجملة فالطلب في جانب النهى يتعلق بالعدم كما يتعلق بالفعل في طرف الامر ، وعلى هذا فنقول : مقدمة عدم الفعل عبارة عن عدم احدى مقدمات الوجود ، واللازم من مطلوبيته مطلوبية عدم احداها ، وهي عبارة اخرى عن حرمة احدى المقدمات لا بشخصها «منه».

١٣١

وانحصر اختيار المكلف في واحد معين يجب تركه معينا ، واما القسم الثاني اعنى فيما اذا كان الفعل المقيد بالارادة محرما فلا يتصف الاجزاء الخارجية بالحرمة ، لان العلة التامة للحرام هي المجموع المركب منها ومن الارادة ، ولا يصح اسناد الترك الا الى عدم الارادة ، لانه اسبق رتبة من ساير المقدمات الخارجية.

فقد فهم مما ذكرنا ان القول بعدم اتصاف المقدمات الخارجية للحرام بالحرمة مطلقا لسبق رتبة الصارف وعدم استناد الترك الا اليه مطلقا مما لا وجه له ، بل ينبغي التفصيل ، لانه في القسم الاول لو فرض وجود باقي المقدمات مع عدم الارادة تحقق المبغوض قطعا ، فعدم إحداها علة لعدم المبغوض فعلا ، واما في القسم الثاني فلو فرضنا وجود باقي المقدمات مع الصارف لم يتحقق المبغوض ، لكونه مقيدا بصدوره عن الإرادة فالمقدمات الخارجية من دون انضمامها الى الارادة لا توجد المبغوض ، ففى طرف العدم يكفى عدم احدى المقدمات ، ولما كان الصارف اسبق رتبة منها يستند ترك المبغوض اليه دون الباقي ، فيتصف بالمحبوبية دون ترك احدى المقدمات الخارجية ، فلا يكون فعلها متصفا بالحرمة.

١٣٢

المقصد الثالث

[في الضد]

هل الامر بالشيء يقتضى النهى عن ضده الخاص اولا؟

اقول : لما كانت المسألة مبتنية على مقدمية ترك الضد لفعل ضده (١) فاللازم التكلم فيها فنقول : هل ترك الضد مقدمة لفعل ضده ، او فعله مقدمة لترك ضده ، او كل منهما مقدمة للآخر ، او لا توقف في البين؟

والمعروف من تلك الاحتمالات هو الاول (*٤٠) والاخير فلا نتعرض لغيرهما ، وستطلع على بطلانه في اثناء البحث ، والقائل بتوقف فعل الضد على ترك ضده الآخر إمّا ان يقول مطلقا كما عليه جل ارباب هذا القول ، او يفصل بين الرفع والدفع ، بمعنى انه لو كان الضد موجودا واراد ايجاد الآخر يتوقف ايجاده على رفع ضده ، وان لم يكن موجودا واراد ايجاد ضده لم يكن موقوفا على ترك الضد.

__________________

(١) يمكن ان يقال بمنع الابتناء ، بمعنى انا وان انكرنا المقدمية يمكن ان نقول باقتضاء الامر بالشيء للنهى عن الضد الخاص ، بتقريب انا اذا راجعنا وجداننا نجد من انفسنا انه اذا اردنا فعلا نترك اضداده بارادة منا واختيار ، بحيث يصح المؤاخذة على ذلك الترك ، ولو لم يكن مسبوقا بالارادة والاختيار لما صح ، وبالجملة نجد الملازمة بين ارادة الشيء وارادة ترك اضداده الخاصة ، كما نجد الملازمة بين ارادة الشيء وارادة مقدماته ، ألا ترى انك لو اردت الخلوة مع احد وكان عندك شخص آخر فانك تتوسل الى قيامه من المجلس باى وسيلة امكنت ، وعلى هذا فنقول : ان كان حال ارادة الآمر حال ارادة الفاعل بعينها لزم القول بهذه الملازمة في الاولى ايضا ، ولكن قد عرفت منع المقايسة المذكورة «منه».

١٣٣

ثم ان وجه التوقف يمكن ان يكون احد امور ثلاثة : الاول ان يقال بان ترك الضد ابتداء مقدمة لفعل الضد. والثاني ان يكون مقدمية الترك من باب مانعية الفعل. والثالث ان يكون من جهة عدم قابلية المحل ، فان المحل لما لم يكن قابلا لان يرد عليه كلاهما فصار وجود كل منهما متوقفا على خلو المحل عن الآخر.

وكيف كان فلنشرع فيما هو المقصود ، وقبل ذكر ادلة الطرفين لا بد وان يعلم حكم حال الشك لنرجع اليه اذا عجزنا من القطع باحد الطرفين.

فنقول : لو شك في كون ترك الضد مقدمة بعد علمه بوجوب مقدمة الواجب وعلمه بوجوب فعل الضد الآخر فهل الاصل يقتضى الحكم بصحة العمل ان كان من العبادات او الفساد؟

قد يقال بالاول ، لان فعلية الخطاب مرتفعة بواسطة الشك ، خصوصا في الشبهة الموضوعية التي قد اطبقت على اجراء البراءة فيها كلمة العلماء «رضوان الله عليهم» من الاصوليين والاخباريين ، واذا لم يكن الوجوب فعليا لا مانع من صحة العمل ، لان المانع قد تحقق في محله انه الوجوب الفعلى ، ولذا افتى العلماء بصحة الصلاة في الارض المغصوبة في صورة نسيان الغصبية ، ولو انكشف الخلاف بعد ذلك لم يجب عليه الاعادة والقضاء ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، واوضح من ذلك صورة القطع بعدم المقدمية وانكشاف خطاء قطعه بعد ذلك ، فان الحكم بفساد صلاته موجب لفعلية الخطاب حين القطع بعدمه.

والحق ان الشك في المقام ليس موردا لأصالة البراءة لا عقلا ولا شرعا :

اما الاول : فلان مقتضاها هو الأمن من العقاب على مخالفة التكليف الواقعي على تقدير ثبوته ، ولا يمكن جريانها هنا ، لان العقاب لا يترتب على مخالفة التكليف المقدمى ، ولا يمكن الحكم بسقوط العقاب عن التكليف النفسي اذا استند تركه الى هذه المقدمة المشكوك مقدميتها ، لان التكليف النفسي معلوم ، ويعلم ان الاتيان به ملازم لهذا الترك الذي يحتمل كونه مقدمة ، إنما الشك في ان هذا الترك الذي قد علم كونه ملازما لفعل الواجب المعلوم

١٣٤

هل هو مقدمة اولا؟ وهذا لا يوجب سقوط العقاب عن الواجب النفسي المعلوم ، كما هو واضح.

واما الثاني : فلانه على تقدير كون الترك مقدمة فالوجوب المتعلق به بحكم العقل على حد الوجوب المتعلق بفعل ضده ، فكما انه في هذا الحال يكون فعليا منجزا كذلك مقدمته ، وعلى هذا الفرض لا يعقل الترخيص ، والمفروض احتمال تحقق الفرض في نظر الشاك وإلّا لم يكن شاكا ، ومع هذا الاحتمال يشك في امكان الترخيص وعدمه عقلا ، فلا يمكن القطع بالترخيص ولو في الظاهر.

لا يقال : بعد احتمال كون الترخيص ممكنا لا مانع من التمسك بعموم الادلة الدالة على اباحة جميع المشكوكات واستكشاف الامكان بالعموم الدال على الفعلية.

لانا نقول : فعلى هذا يلزم من ثبوت هذا الحكم عدمه ، اذ لو بنينا على انكشاف الامكان بعموم الادلة فاللازم الالتزام بدلالة العموم على عدم كون ترك الضد مقدمة ، اذ مع بقاء هذا الشك لا يمكن انكشاف الامكان ، فلو علم من عموم الحكم عدم كون ترك الضد مقدمة فلا مجرى له ، لان موضوعه الشك.

وبالجملة : فلا ارى وجها لجريان اصالة الاباحة في المقام ، هذه خلاصة الكلام في حكم الشك فلنعد الى اصل البحث.

فنقول ؛ الحق كما ذهب اليه الاساطين من مشايخنا هو عدم التوقف والمقدمية لا من جانب الترك ولا من جانب الفعل.

اما عدم كون ترك الضد مقدمة لفعل ضده فلان مقتضى مقدميته لزوم ترتب عدم ذي المقدمة على عدمه ، لانه معنى المقدمية والتوقف ، فعلى هذا يتوقف عدم وجود الضد على عدم ذلك الترك المفروض كونه مقدمة وهو فعل الضد الآخر ، والمفروض أن فعل الضد ايضا يتوقف على ترك ضده الآخر ،

١٣٥

ففعل الضد يتوقف على ترك ضده كما هو المفروض ، وترك الضد يتوقف على فعل ضده لانه مقتضى مقدمية تركه. هذا.

مضافا الى عدم امكان تأثير العدم في الوجود ، وهو من الواضحات ، وإلّا لامكن انتهاء سلسلة الموجودات الى العدم.

واما عدم كون فعل الضد علة ومؤثرا في ترك ضده فلانه لو كان كذلك لزم مع عدمه وعدم موجود يصلح لان يكون علة لشيء إمّا ارتفاع النقيضين ، او تحقق المعلول بلا علة ، أو استناد الوجود الى العدم.

بيان ذلك : أنه لو فرضنا عدم الفعل الذي فرضناه علة لعدم الضد وعدم كل شيء من الممكنات يصلح لان يكون علة لشيء فلا يخلو الواقع من امور : لأنك اما ان تقول : بوجود ذلك الفعل الذي كان عدمه معلولا اولا ، فعلى الاول يلزم استناد الوجود الى العدم اذ المفروض عدم وجود شيء في العالم يصلح لان يكون علة ، وعلى الثاني : إما ان تقول : بتحقق العدم المفروض معلولا اولا ، فعلى الثاني يلزم ارتفاع النقيضين ، وعلى الاول يلزم تحقق المعلول بلا علة ، مضافا الى ان مقتضى كون الفعل علة لترك ضده كون تركه مقدمة لفعل ضده الآخر لان عدم المانع شرط ، فيلزم الدور.

فان قلت : ان الدور الذي اوردت على القائل : بمقدمية ترك الضد لفعل ضده الآخر انما يتوجه لو التزم بكون الفعل ايضا علة للترك ، وهو لا يلتزم به ، وانما يقول بكون ترك الضد مستندا الى الصارف لكونه اسبق رتبة من الفعل ، ومعلوم ان المعلول اذا كانت له علل فهو يستند الى اسبق علله ، فحينئذ يقول بان فعل الضد يتوقف على ترك ضده الآخر ، ولكن ترك الضد لا يتوقف على فعل ضده الآخر ، بل يكفى فيه الصارف ، فاندفع بذلك الدور.

قلت : الاستناد الفعلى وان كان الى الصارف ليس إلّا ، لما ذكر من كونه اسبق العلل ، إلّا انه يكفى في البطلان وقوع الفعل في مرتبة علة الترك ، لاستلزام ذلك التقدم عليه ، مع كون الترك ايضا مقدما على الفعل بمقتضى

١٣٦

مقدميته ، لان وجه بطلان الدور تقدم الشيء على نفسه ، وهذا الوجه موجود هنا بعينه ، فان ترك الضد بمقتضى المقدمية مقدم طبعا على فعل ضده ، وكذلك فعل الضد بمقتضى شأنيته للعلية يجب ان يكون مقدما على ترك ضده ، فترك الضد مقدم على فعل ضده الذى هو مقدم على ذلك الترك ، فيجب ان يكون ترك الضد مقدما على نفسه ، وكذلك فعل الضد.

ومما ذكرنا يظهر عدم الفرق بين الرفع والدفع ، لان البرهان الذي ذكرناه على عدم التوقف يجرى فيهما على نهج واحد.

وانت اذا تاملت فيما ذكرنا لم تجد بدا من القول بعدم التوقف ، فلا نطيل المقام بذكر ما اوردوه في بيان المقدمية والمناقشة فيه.

انما المهم التعرض للمسألة التي فرّعوها على مقدمية ترك الضد وعدمها ، اعنى بطلان فعل الضد لو كان عباديا وقد وجب ضده على الاول (١) وصحته على الثاني.

فنقول : اما بناء على كون ترك الضد مقدمة فلا اشكال في بطلان العمل بناء على بطلان اجتماع الامر والنهى ، بل قد يقال بالبطلان حتى على القول بامكان الاجتماع ، لان محل النزاع في مسألة جواز اجتماع الامر والنهي فيما اذا كان هناك عنوانان يتفق تحققهما في وجود واحد ، وليس المقام من هذا القبيل ،

__________________

(١) يمكن ان يقال بمنع ترتب هذه الثمرة ، بمعنى انا وان اخترنا اقتضاء الامر بالشيء للنهى عن الضد يمكن ان نقول بصحة العبادة المذكورة ، فان الطلب الغيرى امرا كان او نهيا لا يوجب موافقته قربا ولا مخالفته بعدا ، فلو كان في متعلق النهى الغيرى جهة حسن لم يمنع النهى المذكور عن مقربيته وعباديته.

فان قلت : مخالفة النهى الغيرى وان لم توجب بعدا من حيث نفسها ولكنها توجبه من حيث ادائها الى مخالفة الطلب النفسي ، والذي يوجب البعد لا يمكن ان يكون مقربا.

قلت : وان كان وجوده مفضيا الى وجود المبغوض النفسى ، لكن البعد من آثار وجود الثاني ، والذي ينافى المقربيّة كون الشيء مبعدا بنفسه وبلا واسطة «منه».

١٣٧

لان عنوان المقدمية ليس مما امر به ، لانه ليس مما يتوقف عليه المطلوب ، بل المطلوب انما يتوقف على نفس ترك الصلاة مثلا اذا كان ضدها مطلوبا ، فلو جاز تعلق الامر بها لزم اجتماع الامر والنهى في شيء واحد ، فيكون ذلك من باب النهى في العبادات ، هذا على القول بكون ترك الضد مقدمة.

واما على القول بعدم مقدميته فان قلنا بكفاية الجهة في صحة العبادة وان لم يتعلق به الامر لمانع عقلى (١) كما هو الحق فلا اشكال في الصحة ، واما لو لم نقل بكفاية الجهة فيشكل الامر بان الامر بالضد وان لم يقتض النهى عن ضده لعدم المقدمية ، ولكنه يقتضى عدم الامر به لامتناع الامر بايجاد الضدين في زمان واحد ، وحيث لا امر فلا يقع صحيحا ، لان المفروض عدم كفاية جهة الامر في الصحة ، فالمناص حينئذ منحصر في تصحيح تعلق الامر فعلا بالضد مع كون ضده الآخر مأمورا به.

والذى يمكن ان يكون وجها لذلك احد امرين :

الاول : ما نقل عن بعض الاساطين من ان الامر بالضد انما ينافي الامر بضده الآخر لو كانا مضيقين ، أما لو كان احدهما مضيقا والآخر موسعا فلا مانع من الامر بكليهما ، لان المانع ليس إلّا لزوم التكليف بما لا يطاق ، وهذا

__________________

(١) لا اشكال في تصوير هذا الوجه بناء على القول بالحسن الذاتي في جميع العبادات ، اعنى كونها بحسب ذواتها مع قطع النظر عن تعلق الامر بها معروضات للحسن الفعلى ، واما بناء على تبعية حسنها لتعلق الامر بها كما هو لازم من تصحيح الامر العبادي باخصية الغرض ، فيشكل بانه مع سقوط الامر بمزاحمة الاهم لا يبقى حسن حتى يصير داعيا.

ويمكن الجواب بان الذي نقول بسقوطه للمزاحمة انما هو الامر الفعلى ، واما الامر الذاتي التشريعى فباق بحاله ، وهو كاف في عروض الحسن العقلي ، بل لو قلنا بالمبنى الاول اعنى عروض الحسن لذات الفعل العبادى ايضا لا بد ان نقول بتوقف صحة العبادة على وجود الامر التشريعى ، ألا ترى عدم صحة الظهر ممن اشتغل ذمته بالعصر وقد ضاق الوقت الا عن اربع ركعات «منه».

١٣٨

المانع منحصر فيما اذا كانا مضيقين ، اذ لو كان احدهما موسعا فلا يلزم ذلك قطعا ، سواء كان الآخر موسعا ايضا ام لا ، واى مانع من ان يقول المولى لعبده :اريد منك من اول الظهر الى الغروب انقاذ هذين الغريقين ، او يقول : اريد منك انقاذ هذا الغريق فعلا واريد منك ايضا انقاذ الغريق الآخر في مجموع الوقت الذي يكون اعم من هذا الوقت وغيره.

اقول : تمامية ما افاده «قدس‌سره» مبنية على مقدمتين :

احداهما : ان يكون الوقت المضروب ظرفا للواجب من قبيل الكلى الصادق على جزئيات الوقت ، فيصير المحصل من التكليف بصلاة الظهر ايجاب ايجاد الصلاة في طبيعة الوقت المحدود بحدين ، اذ لو كان التكليف راجعا الى التخيير الشرعي بين الجزئيات من الازمنة فلا يصح ذلك ، لان البعث على غير المقدور قبيح عقلا وان كان على سبيل التخيير بينه وبين فعل آخر مقدور ، ألا ترى قبح الخطاب التخييرى بين الطيران الى السماء واكرام زيد مثلا.

والثانية : ان الامر بالطبيعة لا يستلزم السراية الى الافراد وإلّا لكان اللازم منه المحذور الاول بعينه.

وحيث ان عدم السراية الى الافراد هو المختار كما يجيء تحقيقه في مسألة اجتماع الامر والنهى ان شاء الله ، ولا يبعد صحة المقدمة الاولى ، فلا باس بالالتزام بتحقق الامر الفعلى بالصلاة في مجموع الوقت مع ايجاب ضدها في اول الوقت ضيقا.

بل يمكن ان يقال

لا مانع من الامر حتى على القول : بالتخيير الشرعى او على القول : بسراية حكم الطبيعة الى الافراد ، لان المانع من التكليف بما لا يطاق ليس إلّا اللغوية ، وهي مسلمة فيما اذا كان نفس الفعل غير مقدور كالطيران الى السماء ، واما اذا كان نفسه مقدورا كما فيما نحن فيه غاية الامر يجب عليه بحكم العقل امتثال امر آخر من المولى ولا يقدر مع الامتثال على اتيان فعل

١٣٩

آخر (١) فلا يلزم اللغوية ، اذ يكفى في ثمرة وجود الامر انه لو اراد المكلف عصيان الواجب المعين يقدر على اطاعة هذا الامر ، ومن ذلك يظهران قياس مقامنا هذا بمثال الطيران الى السماء ليس في محله.

[مسألة الترتب]

والوجه الثاني : ما افاده سيد مشايخ عصرنا الميرزا الشيرازي «قدس‌سره» وشيد اركانه واقام برهانه تلميذه الجليل والتحرير الذي ليس له بديل سيدنا الاستاذ السيد محمد الاصفهاني «جزاهما الله عن الاسلام واهله افضل الجزاء» وهو ان يتعلق الامر او لا بالضد الذي يكون اهم في نظر الآمر مطلقا من غير التقييد بشيء ، ثم يتعلق امر آخر بضده متفرعا على عصيان ذلك الامر الاول.

واثبات هذا المطلب يستدعى رسم مقدّمات :

الاولى : ولعلها العمدة في هذه المسألة توضيح الواجب المشروط ، وهو وان مر ذكره في مبحث مقدمة الواجب مفصلا ، إلّا انه لا بد من ان نشير اليه ثانيا توضيحا لهذه المسألة التى نحن بصددها.

فنقول وعلى الله التوكل : ان الارادة المنقدحة في النفس المتعلقة بالعناوين على ضربين تارة تكون على نحو تقتضى ايجاد متعلقها بجميع ما يتوقف عليه ، من دون اناطتها بوجود شيء او عدمه ، واخرى على نحو لا تقتضى ايجاد متعلقها الا بعد تحقق شيء آخر وجودى او عدمى ، مثلا ارادة اكرام الضيف تارة تكون على نحو يوجب تحريك المريد الى تحصيل الضيف واكرامه ، واخرى على نحو لا يوجب تحريكه الى تحصيل الضيف ، بل يقتضى اكرامه على تقدير مجيئه.

__________________

(١) فيه ان اطلاق كل من الامرين الموسعين بالنسبة الى جميع اجزاء الزمان الموسع ، وكذلك اطلاق ما كان موسعا فيما كان احدهما كذلك والآخر مضيقا بالنسبة الى الجزء الذي عين للمضيق يلزم منه طلب الجمع تخييرا ، فكانه قال : إمّا افعل هذا الضد وذلك الضد في هذا الجزء الذي لا يسمع الا لاحدهما ، وإمّا افعل احدهما في هذا الجزء والآخر في الجزء الآخر ، وهو ايضا في البطلان مثل ان يقال : إمّا طر الى السماء ، أو صل «منه».

١٤٠