درر الفوائد - ج ١ و ٢

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي

درر الفوائد - ج ١ و ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٥

ثم ان الثاني على انحاء : تارة يقتضى ايجاد متعلقه بعد تحقق ذلك الشيء المفروض وجوده في الخارج ، كما في مثال اكرم زيدا ان جاءك ، واخرى يقتضى ايجاده مقارنا له (١) كما في ارادة الصوم مقارنا للفجر الى غروب

__________________

(١) لا يخفى ان الشرط اذا كان امرا زمانيا ممتدا كسير الشمس قدر نصف القوس مثلا فلا يمكن جعله شرطا للطلب باعتبار وجوده الخارجي مع ملاحظة اقتران الفعل المامور به به او سبق الفعل عليه ، فان ملاحظته بوجوده الخارجي يقتضى الفراغ عنه ، ومع الفراغ عن وجوده لا يبقى للفعل محل ، فلا بد في امثال ذلك من ملاحظته باعتبار وجوده الاستقبالى شرطا ، بمعنى ان الشرط كون الشمس مثلا بحيث تسير هذا المقدار من المسافة ، فإما يطلب الفعل قبل شروعها بالسير واما مقارنا له ، لكن هذا المعنى لا يصحح الترتب المقصود تصحيحه في مسألة الامر بالضدين.

بيان ذلك ان ترك الاهم بمقدار نصف ساعة مثلا لو جعل بتحققه الخارجي شرطا للامر بالمهم يلزم خلاف المقصود ، اذ لازمه الفراغ الذهني عن مضى نصف الساعة ، والمقصود فعل المهم في ذلك النصف ، ولو جعل بوجوده الاستقبالي شرطا بمعنى ان يقال : «ان كنت ممن يترك في المستقبل فعل الاهم في نصف ساعة فافعل في ذلك النصف الضد المهم» فلازمه طلب الجمع بين الضدين ، اذ طلب الاهم موجود والمفروض اجتماعه مع طلب المهم.

فان قلت : اطلاق الامر لا يمكن ان يشمل حال عصيانه فلا يمكن ان يقال : ايها الذي يعصى افعل ولا تعص ، فاذا خرج عنوان من يعصى الامر بالاهم عن تحت اطلاقه فلا مانع من مجيء الامر بالمهم.

قلت : وان كان لا يصح تعلقه بهذا العنوان لكن تعلقه بالذات الواقعة تحت هذا العنوان صحيح ، بمعنى ان المكلف الذي في علم الله سبحانه يكون ممن يعصى ليس خارجا عن التكليف ، كيف وإلّا يلزم خروج العصاة عن تحت عامة التكاليف وحينئذ فيلزم طلب الجمع من هذه الذات احد الطلبين متعلق بذاته والآخر بعنوانه.

فان قلت : فما الحيلة في تصحيح الامر بالضدين في زمان واحد بعد بطلان طريقة الترتب المذكور؟

قلت : طريق تصحيحه ، ان نقول : الفعل الزماني المحتاج الى مقدار نصف ساعة من الزمان مثلا لا يكون تركه زمانيا ومحتاجا الى الزمان ، بل هو نظير الفصل والوصل من الامور الحاصلة

١٤١

الشمس ، وكما في ارادة الوقوف في العرفات مقارنا لاول الزوال الى الغروب ، وامثال ذلك ، وتارة يقتضى ايجاده قبل تحقق ذلك الشيء ، كما لو اراد استقبال زيد في اليوم على تقدير مجيئه غدا.

وهذه الانحاء الثلاثة كلها مشتركة في انها مع عدم العلم بتحقق ذلك

__________________

في الآن الذي هو ليس جزء من الزمان وإلّا لزم تركب الزمان من الجزء الذي لا يتجزى وقد تسالموا على بطلانه ، وعلى هذا فالامر بالمهم يقتضى المهم في تقدير هذا الترك الآنى ، والامر بالاهم في هذا الآن ساقط ، وانما يكون فيما قبل هذا الآن ، فالزمان واحد والآن مختلف.

وان شئت توضيح الحال بالمثال فافرض ان انقاذ الغريق محتاج الى اعمال القوة بمقدار نصف ساعة ولا يمكن في اقل من هذا المقدار ، فالفعل حينئذ وان كان محتاجا الى هذا المقدار ، ولكن الترك يتحقق في الآن من دون حاجة الى مضى شيء من اجزاء الزمان المذكور الذي فرضناه زمانا للفعل على تقدير وجوده ، بمعنى انه بعد انصراف العبد عن الامتثال يتحقق الترك منه في الخارج في الآن المتصل باول الزمان المذكور من دون حاجة الى مضى شيء من اجزائه ، نظير تحقق الفصل والوصل في الخارج ، فطلب فعل الانقاذ يقتضى اشغال هذا الوقت بالانقاذ ، وطلب المهم كالصلاة يقتضى اشغاله بجميعه بالمهم ، لكن الاول في الآن السابق على ان تحقق الترك ، والثاني في الآن المتأخر عن ذلك الآن ، ولا يضر هذا التقدم والتأخر الآنيان باجتماعهما في الزمان ، كما لا يضر في العلة والمعلول ، بل ولو فرض اضداد كثيرة مترتبة في الاهمية فيتحقق هناك اوامر في آنات كثيرة ، ولا يضر باجتماعها كلها في زمان واحد نظير العلل الكثيرة الطولية الموجودة كل منها مع الاخرى ومع المعلول في زمان واحد.

فان قلت : هذا متمش في مثل المثال المذكور من الانقاذ مما ليس له إلّا فرد واحد زماني ، واما في مثل الازالة مما يمكن له افراد زمانية تدريجية فمتى انقضى زمان الفرد الاول تصل النوبة الى الفرد الثاني ، فلا يبقى مجال للامر بالصلاة مثلا.

قلت : بعد تصحيح الامر في المثال الاول لا يبقى وقع لهذا السؤال فانّا نفرض ان الامر بالصلاة متعلق بجزء جزء منها مستقلا حسب ازمنة الازالات ، ففى اول زمان كل فرد من الازالة يتحقق امر بجزء من الصلاة يسعه ذلك الزمان ، نظير من توجد له القدرة على اجزاء الصلاة شيئا فشيئا ، كما لو قام عنده احد ويلقنه اقوالها وافعالها شيئا فشيئا من اول الصلاة الى آخرها مثلا فتدبر جيدا «منه».

١٤٢

المفروض تحققه لا تؤثر الارادة في نفس الفاعل ، كما انها مشتركة في انه على تقدير العلم بذلك مؤثرة في الجملة.

انما الاختلاف في انه على التقدير الاول العلم بتحقق ذلك في الزمن الآتى لا يوجب تحريك الفاعل الى نحو المراد ، لان المقصود ايجاد الفعل بعد تحقق ذلك الشيء لا قبله ، نعم لو توقف الفعل في زمان تحقق ذلك الشيء على مقدمات قبل ذلك اقتضت الارادة المتعلقة بذلك الفعل على تقدير وجود شيء خاص ايجاد تلك المقدمات قبل تحقق ذلك الشيء ، كما نرى من انفسنا ان الانسان اذا اراد اكرام زيد على تقدير مجيئه وعلم بمجيئه في الغد وتوقف اكرامه في الغد على مقدمات قبله يهيئ تلك المقدمات ، وهكذا حال ارادات الآمر فلو امر المولى باكرام زيد على تقدير مجيئه وعلم العبد بتحقق مجيئه غدا وتوقف اكرامه غدا على ايجاد مقدمات في اليوم وجب عليه ايجادها ، ولا عذر له عند العقل لو ترك تلك المقدمات ، وهذا واضح لا سترة عليه.

وعلى التقدير الثاني باعثية الارادة بالنسبة الى الفاعل انما تكون بالعلم بتحقق ذلك الشيء المفروض وجوده في الآن الملاصق للآن الذي هو فيه.

كما انه على الثالث تؤثر اذا علم بتحققه في الزمن الآتى.

وان شئت قلت : هذه الارادة المعلقة على وجود شيء اذا انضم اليها العلم بتحقق ذلك الشيء تقتضى ايجاد كل من الفعل ومقدماته في محله ، فمحل الاكرام في الفرض الاول بعد تحقق المجىء ومحل مقدماته قبله ، ومحل الفعل في المثال الثاني مقارن للشرط ومحل مقدماته قبله ، كما في الوقوف في العرفات مقارنا للزوال ، ومحل الفعل في المثال الثالث قبل تحقق الشرط.

والحاصل انه لا نعنى بالواجب المشروط الا الارادة المتعلقة بالشيء مبتنية على تحقق امر في الخارج ، وهذه الارادة لا يعقل ان تؤثر في نفس الفاعل الا بعد الفراغ من حصول ذلك الامر ، وبعبارة اخرى هذه الارادة من قبيل جزء العلة لوجود متعلقها واذا انضم اليها العلم بتحقق ذلك الشيء تؤثر في كل من الفعل

١٤٣

ومقدماته في محله كما عرفت ، فالارادة المبتنية على امر مقدر ، سواء علم بتحقق ذلك الامر ام لم يعلم بل ولو علم عدمه ، موجودة ، ولكن تاثيرها في الفاعل يتوقف على العلم بتحقق ذلك الامر.

المقدمة الثانية : ان الارادة المبتنية على تقدير امر في الخارج لا يعقل ان تقتضى ايجاد متعلقها على الاطلاق ، اي سواء تحقق ذلك المقدر ام لا ، وإلّا خرجت عن كونها مشروطة بوجود شيء ، فمتى ترك الفعل بترك الامر المقدر لا يوجب مخالفة لمقتضى الارادة ، نعم المخالفة انما تتحقق فيما اذا ترك مع وجود ذلك المقدر ، وهذه المقدمة في الوضوح بمثابة لا تحتاج الى البرهان.

المقدمة الثالثة : ان الارادة المتعلقة بشيء من الاشياء لا يقدح في وجودها كون المامور بحيث يترك في الواقع او يفعل ، اذ لا مدخلية لهذين الكونين في قدرة المكلف ، فالارادة مع كل من هذين الكونين موجودة ، ولكن لا يمكن ان يلاحظ الآمر كلا من تقديرى الفعل والترك في المامور به لا اطلاقا ولا تقييدا ؛ اما الثاني فواضح لان ارادة الفعل على تقدير الترك طلب المحال ، وارادة الفعل على تقدير الفعل طلب الحاصل ، واما الاول فلان ملاحظة الاطلاق فرع امكان التقييد ، وحيث يستحيل الثاني يستحيل الاول ، فالارادة تقتضى ايجاد ذات متعلقها ، لا انها تقتضى ايجاده في ظرف عدمه ولا ايجاده في ظرف وجوده ولا ايجاده في كلتا الحالتين ، لان هذا النحو من الاقتضاء يرجع الى طلب الشيء مع نقيضه او مع حصوله ، فظهر ان الامر يقتضى وجود ذات الفعل من دون ملاحظة تقييد الفعل بالنسبة الى الحالتين المذكورتين ولا اطلاقه بالنسبة اليهما ، نعم الامر المتعلق بذات الفعل موجود سواء كان المكلف ممن يترك او يفعل ، ولكن هذا الامر الموجود يقتضى عدم تحقق الترك وتحقق الوجود ، لا انه يقتضى الوجود على تقدير الترك ، وبعبارة اخرى يقتضى عدم تحقق هذا المقدر لا انه يقتضى وجود الفعل في فرض وقوعه ، لان الثاني يرجع الى اقتضاء اجتماع النقيضين دون الاول ، فافهم فانه لا يخلو عن دقة.

١٤٤

المقدمة الرابعة : انه لم يرد في خبر ولا في آية بطلان تعلق الامرين بالضدين في زمان واحد حتى نتمسك باطلاق ذلك الخبر وتلك الآية في بطلانه ، انما المانع حكم العقل بقبح التكليف بما لا يطاق ، وهو منحصر في ما اذا كان الطلبان بحيث يقتضى كل واحد منهما سلب قدرة المكلف عن الاتيان بمقتضى الآخر لو اراد الاتيان بما يقتضيه ، امّا لو كانا بحيث لا يوجب ذلك فلا مانع اصلا.

اذا عرفت المقدمات المذكورة فنقول : لو امر الآمر بايجاد فعل مقارنا لترك ضده الآخر فهذا الامر باعث في نفس المأمور لو علم بتحقق ذلك الترك في الآن المتصل بالآن الذي هو فيه ، اذ لو صبر الى ان يتحقق ذلك الترك لم يقع المامور به بالعنوان الذي امر به ، وهو المقارنة ، فمحل تاثير هذا الامر في نفس المامور انما يكون مقارنا لوقوع الترك ، فيجب ان يؤثر في ذلك المحل بمقتضى المقدمة الاولى ، وهذا الامر المبتنى على ترك الضد لا يوجب التاثير في المتعلق مطلقا حتى يستلزم لا بدية المكلف من ترك الضد بحكم المقدمة الثانية ، والامر المتعلق بالضد الآخر الذي فرضناه مطلقا لا يقتضى ايجاد المتعلق في ظرف عدمه بحكم المقدمة الثالثة ، حتى يلزم منه وجود التكليف بالضدين في ظرف تحقق هذا الفرض ، بل الامر بالاهم يقتضى عدم تحقق هذا الفرض ، والامر بالمهم يقتضى ايجاده على تقدير تحقق الفرض ، ومن هنا يتضح عدم تحقق المانع العقلى في مثل هذين الامرين ، لان المانع كما عرفت ليس إلّا لزوم التكليف بما لا يطاق ، لان ذلك انما يلزم من الخطابين لو كانا بحيث يلزم من امتثال كل منهما معصية الآخر ، وقد عرفت انه لا يلزم منهما فيما نحن فيه ذلك ، لان المكلف لو امتثل الامر بالاهم لم يعص الامر الآخر الذي تعلق بالمهم ، انما ترتب على هذا الامتثال انتفاء ما كان شرطا للامر بالمهم ، وقد عرفت ان عدم اتيان الواجب المشروط بترك شرطه ليس مخالفة للواجب ، والحاصل انه لا يقتضى وجود الخطابين بعث المكلف على الجمع بين الضدين.

ومما يدلك على هذا انه لو فرضنا محالا صدور الضدين من المكلف لم يقع

١٤٥

كلاهما على صفة المطلوبية ، بل المطلوب هو الاهم لا غير ، لعدم تحقق ما هو شرط لوجوب المهم.

فان قلت : سلمنا امكان الامر بالضدين على نحو قرّرته ولكن بم يستدل على الوقوع فيما اذا وجب الازالة عن المسجد مطلقا وكان في وقت الصلاة ، فان حمل دليل الصلاة على الوجوب المعلق على ترك ازالة النجاسة يحتاج الى دليل.

قلت : المفروض ان المقتضى لوجوب الصلاة محقق بقول مطلق ، وليس المانع إلا حكم العقل بعدم جواز التكليف بما لا يطاق ، وبعد ما علمنا عدم كون هذا النحو من التكليف تكليفا بما لا يطاق يجب بحكم العقل تاثير المقتضى.

هذا غاية ما يمكن ان يقال في المقام وعليك بالتامل التام فانه من مزال الاقدام.

حجة المانع : ان الضدين مما لا يمكن ايجادهما في زمان واحد عقلا ، وجعلهما في زمان واحد متعلقين للطلب المطلق تكليف بما لا يطاق.

وهاتان المقدمتان مما لا يقبل الانكار انما الشأن بيان ان تعلق الطلبين بالضدين في زمان واحد ولو على نحو الترتب يرجع الى الطلب المطلق بهذا والطلب المطلق بذاك في زمان واحد.

وبيانه : ان الامر بايجاد الضد مع الامر بايجاد ضده الآخر لا يخلو من انه اما امر بايجاده مطلقا في زمان الامر بضده كذلك ، واما امر بايجاده مشروطا بترك الآخر ، والثاني على قسمين لانه اما ان يجعل الشرط هو الترك الخارجي للضد الآخر ، او يجعل الشرط كون المكلف بحيث يترك في علم الله ، اما الاول فلا يلتزم به كل من احال التكليف بما لا يطاق ، واما الاول من الاخيرين فلا مانع منه إلّا انه عليه لا يصير الامر مطلقا الا بعد تحقق الترك ومضى زمانه ، وهذا وان كان صحيحا لكنه خارج عن فرض القائل بالترتب ، لانه يدعى تحقق الامرين في زمان واحد ، واما الاخير منهما فلازمه القول باطلاق الامر المتعلق بالمهم في ظرف تحقق شرطه ، والمفروض وجود الامر بالاهم ايضا ، لانه

١٤٦

مطلق ففي زمان تحقق شرط المهم يجتمع الامران المتعلقان بالضدين ، وكل واحد منهما مطلق ، أمّا الامر المتعلق بالاهم فواضح ، وأمّا الامر المتعلق بالمهم فلان الامر المشروط بعد تحقق شرطه يصير مطلقا.

والجواب يظهر مما قدمناه في المقدمات ؛ وحاصله ان الامر بالاهم مطلق ، والامر بالمهم مشروط ، اما قولك بان الشرط اما هو الترك الخارجي او العنوان المنتزع منه فنقول انه هو الترك الخارجي ، وقولك انه على هذا يلزم تأخر الطلب عن زمان الترك مدفوع بما عرفت من عدم لزوم اقتضاء الطلب المشروط ايجاد متعلقه بعد تحقق الشرط ، بل قد يقتضيه كذلك وقد يقتضى مقارنة الفعل للشرط ، كما عرفت ذلك كله مشروحا.

فان قلت : سلمنا كون الشرط نفس الترك الخارجي للضد ولا يلزم من ذلك تأخر الطلب عن مضى زمان الترك ولكن نقول في ظرف فعلية الطلب المشروط اما تقول ببقاء الطلب المطلق اولا ، والثاني خلاف الفرض والاول التزام بالامر بما لا يطاق.

قلت : نختار الشق الاول ولكن لا يقتضى الطلب الموجود حينئذ الا عدم تحقق الترك الذي هو شرط لوجوب الآخر ، لا انه يقتضى ايجاد الفعل في ظرف تحقق هذا الترك ، كما اوضحناه في المقدمات ، فليتامل في المقام فانه مما ينبغى ان يصرف لاجله الليالى والايام.

١٤٧

المقصد الرابع

في جواز اجتماع الامر والنهى وامتناعه

وليعلم اولا : ان النزاع المذكور انما يكون بعد فرض وجود المندوحة ، وتمكن المكلف من ايجاد عنوان المأمور به في غير مورد النهى ، وإلّا فالمسلم عند الكل عدم الجواز لقبح التكليف بما لا يطاق ، نعم ذهب المحقق القمي «قدس‌سره» الى التفصيل بين ما كان العجز مستندا الى سوء اختيار المكلف وعدمه ، فخص القبح بالثاني ، ومن هنا حكم بان المتوسط في الارض المغصوبة منهى عن الغصب فعلا ومأمور بالخروج كذلك ، ولكنك خبير بان هذا التفصيل يأبى عنه العقل بل لعل قبح التكليف بما لا يطاق مطلقا من البديهيات الاوّلية.

وكيف كان فقبل الشروع في المقصود ينبغى رسم امور :

احدها : قد يتوهم ابتناء المسألة على كون متعلق التكاليف هو الطبيعة او الفرد ، فينبغى التكلم في هذه المسألة على وجه الاختصار حذرا من فوت المهم والنظر فيها يقع في مقامات : احدها في تشخيص مرادهم ، والثاني في انه هل يبتنى النزاع في مسألتنا هذه عليها ، بمعنى انه لو اخذ باحد طرفى النزاع فيها لزم الاخذ باحد طرفى المسألة فيما نحن فيه ام لا ، والثالث في ادلة الطرفين.

اما المقام الاول : فنقول : يمكن ان يكون مرادهم انه بعد فرض لزوم اعتبار الوجود في متعلق الطلب فهل الوجود المعتبر هو وجود الطبيعة او وجود الفرد ، ويمكن ان يكون مرادهم انه بعد فرض اعتبار الوجود هل المعتبر اشخاص الوجودات الخاصة او المعنى الواحد الجامع بين الوجودات.

اما المقام الثاني : فالحق عدم ابتناء مسألة جواز اجتماع الامر والنهى وعدمه

١٤٨

عليه ، اذ يمكن القول بان متعلق الاحكام هو الطبائع بكلا المعنيين اللذين احتملنا في مرادهم ، ومع ذلك يمنع جواز اجتماع الامر والنهى ، إمّا لما ذكره صاحب الفصول «قدس‌سره» من ان متعلق الطلب انما يكون الوجودات الخاصة لعدم جامع لها في البين ، وإمّا لانه على تقدير تعلق الطلب بالجامع يلزم سرايته اليها لمكان الاتحاد والعينية ، وكذلك يمكن القول بتعلق الطلب بالفرد بكلا الاحتمالين ايضا والالتزام بجواز الاجتماع ، لان الفرد الموجود في الخارج يمكن تعريته في الذهن عن بعض الخصوصيات ، ومع ذلك لا يخرج عن كونه فردا ، مثلا الصلاة في الدار المغصوبة الموجودة بحركة واحدة شخصية لوحظت تلك الحركة الشخصية من حيث إنّها مصداق للصلاة ، وجرّد النظر عن كونها واقعة في الدار المغصوبة لم تخرج عن كونها حركة شخصية ، فللمجوّز بعد اختياره أن متعلق التكاليف هو الافراد ان يقول : ان هذه الحركة من حيث كونها مصداقا للصلاة محبوبة ومأمور بها ، ومن حيث انها مصداق للغصب منهى عنها.

واما المقام الثالث : فالذي يمكن ان يحتج به على كون متعلق التكاليف هو الافراد على المعنى الاول امران :

احدهما عدم كون الطبيعة موجودة في الخارج وانما الوجود مختص بافرادها وليس لها حظ من الوجود ، بناء على عدم وجود الكلى الطبيعى في الخارج كما ذهب اليه بعضهم.

والثاني : ان المقدور ليس إلّا الفرد ولا يمكن الطلب بغير المقدور ، اما الثاني فواضح ، واما الاول فلان الطبيعة مجردة عن الخصوصيات ، وانضمام الامور الخارجية لا يمكن ان تتحقق في الخارج فلو اراد ايجادها فاللازم ايجاد الفرد مقدمة حتى يتحقق الطبيعة في ضمنه.

والجواب عن الاول بالمنع عن الاصل المذكور اعنى امتناع وجود الكلى الطبيعى في الخارج ، بل نقول عند التحقيق يمتنع اضافة الوجود في الخارج الا اليه ، بداهة ان الفرد المتشخص الموجود في الخارج الذي هو مجمع الحيثيات

١٤٩

والعناوين كالجسمية والحيوانية والناطقية وانه طويل او قصير او ذو لون كذا لو جرد النظر فيه عن هذه الحيثيات لم يبق شيء حتى يكون الوجود مضافا اليه ، فعلم ان فردية الفرد لا تتحقق الا بعد اجتماع هذه الحيثيات المتعددة في الوجود.

واما الجواب عن الثاني فبان الممتنع ما اذا قيدت الطبيعة بشرط عدم انضمامها بالخصوصيات ، واما اذا جردت عن هذا الاعتبار فلا اشكال في تعلق القدرة بها ، واما وجود الفرد فليس مقدمة لوجود الطبيعة ، لمكان اتحادهما في الخارج كما هو واضح.

حجة من يقول بان الطلب يتعلق بوجود الطبيعة ان الطلب يتوقف على تصور المحل ، والفرد لا يمكن ان يتصور الا بعد التحقق وحينئذ غير قابل لتعلق الطلب به ، امّا انه لا يمكن ان يتصور الفرد قبل تحققه فلان الصور الذهنية مأخوذة من الخارج فحيث لم يتحقق الفرد بعد في عالم الخارج لا يمكن ان يحيط به الذهن وينتقش فيه صورة ، فكلّ ما يتصور حينئذ لا يخرج عن كونه كليا غاية الامر يمكن تقييده في الذهن بقيود عديدة حتى يصير منحصرا في فرد واحد ، ولكنه مع ذلك لا يخرج عن كونه كليا قابلا للصدق على كثيرين ، واما انه بعد تحققه غير قابل للطلب فواضح.

والجواب ان ما ذكرت من توقف الطلب على تصور المحل ان اردت لزوم تصوره تفصيلا فهذه المقدمة ممنوعة ، ولو اردت لزوم تصوره ولو بالوجه والعنوان الاجمالي فهو مسلم ، ولكن استحالة تصور الفرد قبل وقوعه بهذا النحو من التصور ممنوعة ، ضرورة امكان تصور افراد الطبيعة بعنوان انها افراد لها.

والذي يمكن ان يحتج به لتعلق الطلب بالفرد بالمعنى الثاني ان الوجودات باسرها متباينات بمعنى انه ليس لها جامع.

واستدل القائل بتعلق الطلب بالطبيعة بالمعنى الثاني أيضا بوجهين : احدهما ان وجود الشخص لا يدخل في الذهن وإلّا لانقلب خارجا ، والثاني ان امكان تصور الوجود

١٥٠

الشخصى انما يكون بعد تحققه وفي ذلك الوقت لا يمكن تعلق الطلب به.

والجواب عن حجج الاولين منع عدم الجامع بين الوجودات كما ترى بالوجدان انه قد تتعلق الارادة بايجاد الماء لرفع العطش من دون مدخلية خصوصيات الوجود في الارادة ، وستطلع على زيادة توضيح في ذلك ان شاء الله.

وعن حجج الآخرين ، اما عن الاول فبأنه لا يلزم من تعلق الطلب بالموجودات الشخصية كونها بوصف تحققها في الخارج متصورة في الذهن حتى يلزم الانقلاب بل يكفى انتقاش صورها في الذهن ويتعلق الطلب بهذه الصور الذهنية حاكية عن الخارجيات ، واما عن الثاني فبما عرفت مما سبق فلا نعيد.

الامر الثاني : ان الموجود الخارجي من اي طبيعة كان امر وحداني محدود بحد خاص سواء قلنا باصالة الوجود او اصالة الماهية غاية الامر انه على الاول يكون الثاني منتزعا وعلى الثاني يكون الاول منتزعا نعم يمكن ان ينحل في الذهن الى ماهية ووجود واضافة الوجود الى الماهية فحينئذ لو قلنا : بان الوحدة في الخارج مانعة عن اجتماع الامر والنهى فاللازم ان نقول : بالامتناع سواء قلنا باصالة الوجود او الماهية ولو قلنا بعدم كونها مانعة ويكفى تعدد المتعلق في الذهن فاللازم القول بالجواز سواء قلنا ايضا باصالة الوجود او الماهية.

الامر الثالث : ان الظاهر من العنوان الذي يجعلونه محلا للنزاع ان الخلاف في جواز اجتماع الامر والنهى وعدمه ولا يخفى انه غير قابل للنزاع اذ من البديهيات كون التضاد بين الاحكام وملاكاتها.

انما النزاع في انه هل يلزم على القول ببقاء اطلاق دليل وجوب الصلاة مثلا بحاله وكذا اطلاق دليل الغصب في مورد اجتماعهما اجتماع الامر والنهي في شيء واحد حتى يجب عقلا تقييد احدهما بغير مورد الآخر او لا يلزم بل يمكن ان يتعقل للامر محل وللنهى محل آخر ولو اجتمعا في مصداق واحد فهذا النزاع في الحقيقة راجع الى الصغرى نظير النزاع في حجية المفاهيم.

الامر الرابع : انه لا اشكال في خروج المتباينين عن محل النزاع بمعنى عدم

١٥١

الاشكال في امكان أن يتعلق الامر باحدهما والنهى بالآخر الاعلى تقدير التلازم بينهما في الوجود ، كما لا اشكال في خروج المتساويين في الصدق ، لما عرفت من اعتبار وجود المندوحة كما لا إشكال في دخول العامين من وجه في محل النزاع ، إنما النزاع في ان العام المطلق والخاص ايضا يمكن ان يجرى فيه النزاع المذكور ام لا؟

قال المحقق القمي «قدس‌سره» : ان العام المطلق خارج عن محل النزاع ، بل هو مورد للنزاع في النهى في العبادات.

واعترض عليه المحقق الجليل صاحب الفصول «قدس‌سره» بانه ليس بين العامين من وجه والمطلق من حيث هاتين الجهتين فرق ، بل الملاك انه لو كان بين العنوان المامور به والعنوان المنهى عنه مغايرة يجرى فيه النزاع وان كان بينهما عموم مطلق ، كالحيوان والضاحك ، وان اتحد العنوانان وتغايرا ببعض القيود لم يجر النزاع فيهما ، وان كان بينهما عموم من وجه ، نحو صلّ الصبح ولا تصلّ في الارض المغصوبة ، هذا.

ويشكل بانه لو اكتفى المجوز بتغاير المفهومين ووجود المندوحة فلا فرق بين ان يكون بينهما عموم من وجه او مطلقا ، وان يكون العنوان الماخوذ في النهى عين العنوان الماخوذ في الامر مع زيادة قيد من القيود او غيره ، ضرورة كون المفاهيم متعددة في الذهن في الجميع ، ولو لم يكتف بذلك فليس لتجويز الاجتماع في العامين من وجه ايضا مجال ، فاللازم على من يدعى الفرق بيان الفارق.

قال شيخنا المرتضى في التقريرات المنسوبة اليه بعد نقل كلام المحقق القمي وصاحب الفصول : ما هذا لفظه ، اقول : ان ظاهر هذه الكلمات يعطى انحصار الفرق بين المسألتين في اختصاص احداهما بمورد دون اختها وليس كذلك ، بل التحقيق ان المسئول عنه في احداهما غير مرتبط بالاخرى ، وتوضيحه أن المسئول عنه في هذه المسألة هو امكان اجتماع الطلبين فيما هو الجامع لتلك الماهية المطلوب فعلها والماهية المطلوب تركها ، من غير فرق في ذلك بين موارد الامر والنهى ، فانه كما يصح السؤال عن هذه القضية فيما اذا كان بين المتعلقين عموم

١٥٢

من وجه ، فكذا يصح فيما اذا كان عموم مطلق ، سواء كان من قبيل قولك : صل ، ولا تصل في الدار المغصوبة ، او لم يكن كذلك ، والمسئول عنه في المسألة الآتية هو ان النهى المتعلق بشيء هل يستفاد منه ان ذلك الشيء ممّا لا يقع به الامتثال؟ حيث ان المستفاد من اطلاق الامر حصول الامتثال باى فرد كان ، فالمطلوب فيها هو استعلام أن النهي المتعلق بفرد من افراد المامور به هل يقتضى رفع ذلك الترخيص الوضعى المستفاد من اطلاق الامر أو لا؟ ولا ريب ان هذه القضية كما يصح الاستفسار عنها فيما اذا كان بين المتعلقين اطلاق وتقييد فكذلك يصح فيما اذا كان بينهما عموم من وجه كما اذا كان بينهما عموم مطلق ، وبالجملة : فالظاهر ان اختلاف المورد لا يصير وجها لاختلاف المسألتين كما زعموا ، بل لا بد من اختلاف جهة الكلام «انتهى موضع الحاجة من كلامه ، قدس‌سره» (١).

اقول : والحق ان العنوانين لو كانا بحيث اخذ احدهما في الآخر وكان بينهما عموم مطلق ايضا لا يتطرق فيهما هذا النزاع ؛ وتوضيحه : انه لا اشكال في تغاير المفاهيم بعضها مع الآخر في الذهن ، سواء كان بينهما عموم مطلق او من وجه او غيرهما ، وسواء كان احدهما ماخوذا في الآخر ام لا ، إلّا انه لا يمكن ان يقال فيما اذا كان بين المفهومين عموم مطلق وكان احدهما مشتملا على الآخر : ان المطلق يقتضى الامر والمقيد يقتضى النهي ، لان معنى اقتضاء الاطلاق شيئا ليس إلّا اقتضاء نفس الطبيعة ، اذ لا يعقل الاقتضاء لصفة الاطلاق ، والمقيد ليس إلّا نفس تلك الطبيعة منضمة الى بعض الاعتبارات ، ولو اقتضى المقيد شيئا منافيا للمطلق لزم ان يقتضى نفس الطبيعة امرين متنافيين.

وبعبارة اخرى : بعد العلم بان صفة الاطلاق لا تقتضى تعلق الحب بالطبيعة ، فالمقتضى له نفسها ، وهى متحدة في عالم الذهن مع المقيد ، لانها مقسم له وللمطلق ، فلو اقتضى المقيد الكراهة لزم ان يكون المحبوب والمبغوض

__________________

(١) مطارح الأنظار ، الهداية الثانية من بحث اجتماع الامر والنهى ، ص ١٢٨

١٥٣

شيئا واحدا حتى في الذهن ، وهذا غير معقول بخلاف مثل مفهوم الصّلاة والغصب مثلا ، لعدم الاتحاد بينهما في الذهن اصلا.

الامر الخامس : قد يتراءى تهافت بين الكلمات ، حيث عنونوا مسألة جواز اجتماع الامر والنهي ومثلوا له بالعامين من وجه ، واختار جمع منهم الجواز وانه لا تعارض بين الامر والنهى في مورد الاجتماع ، وفي باب تعارض الادلة جعلوا احد وجوه التعارض التعارض بالعموم من وجه ، وجعلوا علاج التعارض الاخذ بالأظهر إن كان في البين وإلّا التوقف او الرجوع الى المرجحات السندية ، على الخلاف ، وكيف كان ما تمسك احد لدفع المنافاة بجواز اجتماع الامر والنهي.

والجواب : ان النزاع في مسألتنا هذه مبنى على احراز وجود الجهة والمناط في كلا العنوانين وان المناطين هل هما متكاسران عند العقل اذا اجتمع العنوانان في مورد واحد كما يقوله المانع ، او لا؟ كما يقوله المجوز ، ولا اشكال في ان الحاكم في هذا المقام ليس إلّا العقل ، وباب تعارض الدليلين مبنى على وحدة المناط والملاك في الواقع ، ولكن لا يعلم ان الملاك الموجود في البين هل هو ملاك الامر او النهى مثلا ، فلا بد ان يستكشف ذلك من الشارع بواسطة الاظهرية ان كان احد الدليلين اظهر وإلّا التوقف او الرجوع الى المرجحات السندية ، حسبما قرر في محله ، نعم يبقى سؤال ان طريق استكشاف ما هو من قبيل الاول وما هو من قبيل الثاني ما ذا؟ وهذا خارج عن المقام.

اذا عرفت ذلك فلنشرع فيما هو المقصود من ذكر حجج المجوزين والمانعين :

فنقول وعلى الله التوكل : احسن ما قيل في تقريب احتجاج المجوزين هو ان المقتضى موجود والمانع مفقود ، أمّا الاول فلما عرفت من ان فرض الكلام ليس إلّا فيما يكون المقتضى موجودا ، وأمّا الثاني فلان المانع ليس إلّا ما تخيله الخصم من لزوم اجتماع المتضادين من الحكمين ، والحب والبغض ، والمصلحة والمفسدة في شيء واحد ، وليس كما زعمه.

وتوضيحه يحتاج الى مقدمة وهي ان الاعراض على ثلاثة اقسام :

١٥٤

منها : ما يكون عروضه واتصاف المحل به في الخارج ، كالحرارة العارضة للنار والبرودة العارضة للماء وامثالهما من الاعراض القائمة بالمحالّ في الخارج.

ومنها : ما يكون عروضه في الذهن واتصاف المحل به في الخارج (١) كالابوة والبنوة والفوقية والتحتية وامثالها.

ومنها : ما يكون عروضه في الذهن واتصاف المحل به فيه ايضا ، كالكلية العارضة للانسان ، حيث ان الانسان لا يصير متصفا بالكلية في الخارج قطعا فالعروض في الذهن لان الكلية انما تنتزع من الماهية المتصورة في الذهن ، واتصاف تلك الماهية بها ايضا فيه لانها لا تقبل الكلية في الخارج.

فنقول حينئذ : لا اشكال في ان عروض الطلب سواء كان امرا او نهيا لمتعلقه ليس من قبيل الاول ، وإلّا لزم ان لا يتعلق إلّا بعد وجود متعلقه ، كما ان الحرارة والبرودة لا تتحققان الا بعد تحقق النار والماء ، فيلزم البعث على الفعل الحاصل والزجر عنه ، وهو غير معقول ، ولا من قبيل الثاني لان متعلق الطلب اذا وجد في الخارج مسقط للطلب ومعدم له ، ولا يعقل ان يتصف في الخارج بما هو يعدم بسببه ، فانحصر الأمر في الثالث ، فيكون عروض الامر والنهى لمتعلقاتهما كعروض الكلية للماهيات.

اذا عرفت ذلك فنقول : ان طبيعة الصلاة والغصب وان كانتا موجودتين

__________________

(١) هذا القسم على حسب تسليم ما قرره اهل المعقول ، وإلّا فما ذكره لا يخلو من اشكال : من جهة ان الابوة والبنوة والفوقية والتحتيّة وامثال ذلك امور خارجية لها نفس امرية وراء عالم الخيال ، ولها الصدق والكذب باعتبار المطابقة للواقع وعدمها ، وحينئذ فان اراد اهل المعقول بعدم وجود هذه الامور في الخارج عدم وجودها بحد مستقل كالجواهر فهو من البديهيات ، ولكن لا يلزم ان يكون كل ما له نفس امرية في الخارج من هذا القبيل ، وان ارادوا سلب الوجود عنها في الخارج رأسا وحصره في الذهن وعالم الخيال فيمكن دعوى القطع بخلافه ، للفرق الواضح بين هذه الامور وبين ما يتخيله الانسان مما لا واقع له وان كان له منشأ خارجى «منه».

١٥٥

بوجود واحد وهي الحركة الشخصية المتحققة في الدار المغصوبة إلّا انه ليس متعلق الامر والنهي الطبائع الموجودة في الخارج ، لما عرفت من لزوم تحصيل الحاصل ، بل هي بوجوداتها الذهنية ، ولا شك ان طبيعة الصلاة في الذهن غير طبيعة الغصب كذلك ، فلا يلزم من وجود الامر والنهى حينئذ اجتماعهما في محل واحد.

فان قلت : لا معنى لتعلق الطلب بالطبائع الموجودة في الذهن ، لانها ان قيدت بما هي في ذهن الآمر فلا يتمكن المكلف من الامتثال ، وان قيدت بما هى في ذهن المأمور لزم حصول الامتثال بتصورها في الذهن ولا يجب ايجادها في الخارج ، وهو معلوم البطلان.

قلت : نظير هذا الاشكال يجري في عروض الكلية للماهيات ، لانه بعد ما فرضنا ان الماهية الخارجية لا تقبل ان تتصف بالكلية ، وكذا الماهية من حيث هي ، لانها ليست إلّا هى ، فينحصر معروض الكلية في الماهية الموجودة في الذهن ، فيتوجه الاشكال بانه كيف يمكن ان تتصف بالكلية مع انها من الجزئيات ولا تنطبق على الافراد الخارجية ، ضرورة اعتبار الاتحاد في الحمل ، ولا اتحاد بين الماهية المقيدة بالوجود الذهني وبين الافراد الخارجية.

وحل هذا الاشكال في كلا المقامين انه بعد ما فرضنا ان الماهية من حيث هي مع قطع النظر عن اعتبار الوجود ليست إلّا هى ، ولا تتصف بالكلية والجزئية ولا بشيء من الاشياء ، فلا بد من القول بان اتصافها بوصف من الاوصاف يتوقف على الوجود ، وذلك الوجود قد يكون وجودا خارجيا كما في اتصاف الماء والنار بالبرودة والحرارة ، وقد يكون وجودا ذهنيا ، لكن لا من حيث ملاحظة كونه كذلك بل من حيث كونه حاكيا عن الخارج ، مثلا ، ماهية الانسان تلاحظ في الذهن ويعتبر لها وجود مجرد عن الخصوصيات حاك عن الخارج فيحكم عليها بالكلية ، فمورد الكلية في نفس الامر ليس إلّا الماهية الموجودة في الذهن ، لكن لا بملاحظة كونها كذلك بل باعتبار حكايتها عن

١٥٦

الخارج.

فنقول : موضوع الكلية وموضوع التكاليف المتعلقة بالطبائع شيء واحد ، بمعنى ان الطبيعة بالاعتبار الذي صارت موردا لعروض وصف الكلية تكون موضوعة للتكاليف من دون تفاوت اصلا.

فان قلت : سلمنا ذلك كله ، لكن مقتضى كون الوجود حاكيا عن الخارج بلحاظ المعتبر ان يحكم باتحاده مع الوجودات الخارجية ، فاللازم من تعلق ارادته بهذا الوجود السعى تعلقها ايضا بالوجودات لمكان الاتحاد الذي يحكم به اللاحظ.

قلت : الحكم باتحاد الوجود السعى مع الوجودات الخاصة في الخارج لا بد له من ملاحظة مغايرة بين الموضوع والمحمول حتى يجعل احدهما موضوعا والآخر محمولا ، ولا ينافي ذلك الحكم بالاتحاد لانه بنظر آخر ، وبعبارة اخرى : للاحظ ملاحظتان : احداهما تفصيلية ، والاخرى اجمالية ، فهو بالملاحظة الاولى يرى المغايرة بين الموضوع والمحمول ولذا يجعل احدهما موضوعا والآخر محمولا ، وبالملاحظة الثانية يرى الاتحاد فحينئذ لو عرض المحمول شيء في لحاظه التفصيلي فلا وجه لسريانه الى الموضوع لمكان المغايرة في هذا اللحاظ.

وبهذا اندفع الاشكال عن المقام ونظائره مما لم تسر الاوصاف القائمة بالطبيعة الى افرادها ، من قبيل الكلية العارضة للانسان ، وكذا وصف التعدد العارض لوجود الانسان بما هو وجود الانسان ، مع ان الفرد ليس بكلى ولا متعدد ، وكذا الملكية العارضة للصاع الكلى الموجود في الصيعان الموجودة في الصبرة ، حيث حكموا بان من اشترى صاعا من الصبرة الموجودة يصير مالكا للصاع الكلى بين الصيعان ، والخصوصيات ليست ملكا له ، وفرعوا على هذا انه لو تلف منها شيء فالتالف من مال البائع ما بقى مقدار ما اشترى المشترى ، فافهم واغتنم.

فان قلت : كيف يمكن ان يكون هذا الوجود المجرد عن الخصوصيات محبوبا او مبغوضا وليس له في الخارج عين ولا اثر ، لان ما في الخارج ليس إلّا

١٥٧

الوجودات الخاصة ، ولا شبهة في ان المحبوب والمبغوض لا يمكن ان يكون الا من الامور الخارجية ، لان تعلق الحب والبغض بشيء ليس إلّا من جهة اشتماله على آثار توجب ملائمة طبع الآمر له او منافرته عنه ، وليس في الخارج الا الوجودات الخاصة المباين بعضها مع بعض.

قلت : ان اردت من عدم كون الوجود الجامع في الخارج عدمه مع وصف كونه جامعا ومتحدا مع كثيرين فهو حق لا شبهة فيه ، لان الشيء مع وصف كونه جامعا لا يتحقق إلّا في الذهن ، وان اردت عدمه في الخارج اصلا فهو ممنوع ، بداهة ان العقل بعد ملاحظة الوجودات الشخصية التي تحويها طبيعة واحدة يجد حقيقة واحدة في تمام تلك الوجودات ، واقوى ما يدل على ذلك الوجدان ، فانا نرى من انفسنا تعلق الحب بشرب الماء مثلا من دون مدخلية الخصوصيات الخارجية في ذلك ، ولو لم تكن تلك الحقيقة في الخارج لما امكن تعلق الحب بها ، والذي يدل على تحقق صرف الوجود في الخارج ملاحظة وحدة الأثر من افراد الطبيعة الواحدة ، ولو لم يكن ذلك الاثر الواحد من المؤثر الواحد لزم تأثر الواحد من المتعدد ، وهذا محال عقلا.

فان قلت : ما ذكرت انما يتم في الماهيات المتأصلة التى لها حظ من الوجود في الخارج ، كالانسان ونحوه ، وأمّا ما كان من العناوين المنتزعة من الوجودات الخارجية كالصلاة والغصب فلا يصح فيه ذلك ، لان هذه العناوين ليس لها وجود في الخارج حتى يجرد من الخصوصيات ويجعل موردا للتكاليف ، بل اللازم في امثالها هو القول بان مورد التكاليف الموجود الخارجي الذي يكون منشأ لانتزاع تلك المفاهيم ، ولا ريب في وحدة الوجود الخارجي الذي يكون منشأ للانتزاع ، وبعبارة اخرى تعدد العناوين مفهوما لا يجدى لعدم الحقيقة لها الا في العقل ، وما يكون موردا للزجر والبعث ليس إلّا الوجود الخارجي الذي ينتزع منه هذه العناوين ، ولا شبهة في وحدته.

قلت : بعد ما حققنا تحقق صرف الوجود في الخارج لا مجال لهذه الشبهة ،

١٥٨

لان العناوين المنتزعة لا تنتزع الا من صرف الوجود من دون ملاحظة الخصوصيات ، مثلا مفهوم ضارب ينتزع من ملاحظة حقيقة وجود الانسان واتصافه بحقيقة وجود المبدأ من دون دخل لخصوصيات افراد الانسان او كيفيات الضرب في ذلك.

اذا عرفت هذا فنقول : مفهوم الغصب ينتزع من حقيقة التصرف في ملك الغير من دون مدخلية لخصوصيات التصرف من كونه من الافعال الصلاتية او غيرها في ذلك ، ومفهوم الصلاة ينتزع من الحركات والاقوال الخاصة مع ملاحظة اتصافها ببعض الشرائط من دون مدخلية خصوصية وقوعها في محل خاص ، وقد عرفت مما قررنا سابقا قابلية ورود الامر والنهى على الحقيقتين المتعددتين بملاحظة الوجود الذهني المتحدتين بملاحظة الوجود الخارجي ، وهنا نقول ان المفاهيم الانتزاعية وان كان حقيقة البعث او الزجر المتعلق بها ظاهرا راجعا الى ما يكون منشأ لانتزاعها ، لكن لما كان فيما نحن فيه منشأ انتزاع الصلاة والغصب متعددا لا باس بورود الامر والنهى وتعلقهما بما هو منشأ لانتزاعهما. هذا غاية الكلام (١) في المقام وعليك بالتامل التام فانه من مزال الاقدام.

وينبغي التنبيه على امور :

__________________

(١) إن قلت : ما ذكرت في تقريب الجواز في اجتماع ارادة الآمر وكراهته آت بعينه في جانب الفاعل ، فما سر ما نشاهده من ان الفاعل مع ذلك لا يتمشى منه الحركة سمت ما كان متحدا مع المبغوض من افراد محبوبه ، بل ينصرف ارادته قهرا نحو سائر الافراد ، فقضية المقايسة بين ارادتى الآمر والفاعل ان نقول هنا ايضا بانصراف ارادة الآمر نحو سائر الافراد.

قلت : سر ذلك ان دواعى الارادة ومرجحات الخصوصية الفردية كليهما حاضرة في نفس المريد في طرف الفاعل ، ومفترقة في جانب الآمر ، فدواعى الارادة في نفس المريد ومرجحات الفرد في نفس المامور ، وهو بسوء اختياره يختار الفرد المبغوض من الطبيعة التى ارادها مولاه «منه».

١٥٩

[في من توسط ارضا مغصوبة]

الاول : انه لا اشكال في ان من توسط ارضا مغصوبة لا مناص له من الغصب بمقدار زمن الخروج باسرع وجه يتمكن منه ، لانه في غيره يتحقق منه هذا المقدار مع الزائد ، وفيه يتحقق منه هذا المقدار ليس إلّا ، وهذا لا شبهة فيه ، إنّما الاشكال في ان الخروج من تلك الدار ما حكمه؟

والمنقول فيه اقوال :

احدها انه مامور به ومنهى عنه ، وهذا القول محكى عن ابي هاشم ، واختاره الفاضل القمي «قدس‌سره» ونسبه الى اكثر افاضل المتاخرين وظاهر الفقهاء.

وصحته تبتنى على امرين : احدهما كفاية تعدد الجهة في تحقق الامر والنهى مع كونهما متحدتين في الوجود الخارجي ، والثاني جواز التكليف فعلا بامر غير مقدور اذا كان منشأ عدم القدرة سوء اختيار المكلف.

والامر الاول قد فرغنا منه واخترنا صحته ، ولكن الثاني في غاية المنع ، بداهة قبح التكليف بما لا يقدر عليه لكونه لغوا وعبثا.

واما ما يقال من ان الامتناع او الايجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار فهو في قبال استدلال الاشاعرة للقول بان الافعال غير اختيارية ، بان الشيء ما لم يجب لم يوجد فكل ما تحققت علته يجب وجوده وكل ما لم يتحقق علته يستحيل وجوده ، وحاصل الجواب ، ان ما صار واجبا بسبب اختيار المكلف وكذا ما صار ممتنعا به لا يخرج عن كونه اختياريا له ، فيصح عليه العقاب ، لا ان المراد أنه بعد ارتفاع القدرة يصح تكليفه بغير المقدور فعلا.

القول الثاني : أنه مامور به مع جريان حكم المعصية عليه ، كما اختاره صاحب الفصول «قدس‌سره».

القول الثالث : انه مأمور به بدون ذلك.

١٦٠