درر الفوائد - ج ١ و ٢

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي

درر الفوائد - ج ١ و ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٥

كثير ، بل الخارج منها اكثر من الباقي بمراتب ، فحملها على هذا المعنى المستلزم لهذا التخصيص المستبشع لا يجوز ، فيدور الامر بين استكشاف تقييد متصل بالكلام مجهول عندنا فلا يجوز التمسك بها في الموارد الا بعد احراز كونها من مصاديق العنوان المذكور في الدليل من الخارج ، وبين حملها على معنى آخر ، وان كان خلافا لظاهرها ابتداء ، وعلى اي حال لا يجوز التمسك بها لما نحن بصدده.

والانصاف انه بعد ملاحظة خروج الاكثر لو حملناه على ظاهرها فالاقرب جعل كلمة من فيها زائدة او بمعنى الباء ، وكلمة ما مصدرية زمانية ، فيكون مفادها تخصيص اوامر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بزمان الاستطاعة ويصير موافقا لادلة نفي الحرج في الدين (١) ، هذا.

واما تقريب الدلالة في العلوى الاول فهو ان يقال : ان قوله عليه‌السلام «لا يسقط» انما هو في مقام توهم السقوط ، وهو وان كان فرع الثبوت إلّا انه يكفى في صدق الثبوت وعدم السقوط ثبوت التكليف الغيري المتعلق بالميسور سابقا ، لما ذكرنا في تصحيح الاستصحاب من اتحاد التكليف الغيري والنفسي عرفا ، او يقال : ان التكليف النفسي كان ثابتا في الموضوع الميسور ، لمسامحة العرف في الموضوع ، كما مضى في الاستصحاب ايضا ، والثمرة بينهما كالثمرة المذكورة في الاستصحاب بالطريقين هذا.

ولكن الاشكال الوارد في الرواية السابقة ، من لزوم خروج الاكثر ، جار هنا ايضا ، فلا بد من حمله على ما لا يستلزم ذلك ، والاولى حمله على الارشاد والموعظة لمن اراد اتيان شيء بالوجه الاكمل او الانتهاء الى اقصى درجات الكمال فلم يتمكن ، فان النفس قد تنصرف عن الاقدام على الميسور ايضا وان كان حسنا كما هو المشاهد المعلوم.

__________________

(١) ويعين هذا المعنى عدم مناسبة المعنى الاول لمورد الرواية ، فانه ورد جوابا عن سؤال تكرار الحج في كل عام فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله هذا الكلام في مقام نفي التكرار (م. ع. مدّ ظلّه).

٥٠١

ومن هنا يظهر الكلام في العلوى الثاني ايضا (١).

__________________

(١) توضيحه ان لفظة الكل الواقع في الصدر والذيل اما محمول على العموم الاستغراقي او على المجموعي ، وعلى الاول اما يلحظ الاستغراق بالنسبة الى الافراد او بالنسبة الى الاجزاء ، وفي كل من تقديري الاستغراق اما يلحظ سلب العموم واما يلحظ عموم السلب ، هذا بحسب مقام الثبوت ، واما بحسب مقام الاثبات فالصحيح منها احتمالان ؛ الاول ملاحظة الكل في الصدر مجموعيا وفي الذيل استغراقيا بملاحظة الاجزاء مع اعتبار سلب العموم ، فعلى هذا الاحتمال يناسب المقام ، والثاني كون الكل في الصدر استغراقيا مع ملاحظة سلب العموم وكونه في الذيل ايضا بهذا المعنى ، وعلى هذا يصير اجنبيا عن المقام ، وبقية الاحتمالات يختل المعنى معها ، كما لا يخفى على المتأمل. (م. ع. مدّ ظلّه).

٥٠٢

المسألة الثالثة

فيما اذا علم جنس التكليف ولم يتمكن من الاحتياط ، سواء كان عالما بالنوع ، كما اذا علم بوجوب الظهر او الجمعة ولم يقدر على الجمع بينهما ، او لم يكن كذلك ، كما اذا علم باصل الالزام ولم يعلم تعلقه بفعل شيء مخصوص او تركه.

ومجمل الكلام في المقام : أنه تارة تفرض هذه الحالة في واقعة واحدة ، واخرى في وقايع متعددة ، والاول لا يفرض غالبا الا في الشبهات الموضوعية ، كمن علم بوجوب وطى احدى امرأتيه بالنذر في زمان خاص غير قابل للجمع ، او علم بوجوب وطى امرأة خاصة او حرمته ، من جهة العلم بانه إما حلف على الوطى او على تركه ، والثاني يفرض في الشبهات الحكمية ايضا ، كمن علم بوجوب الجمعة دائما او حرمته كذلك مثلا.

اما الفرض الاول فلا يمكن في حقه مخالفة قطعية ولا موافقة قطعية ، ان كان التكليف توصليا ، والموافقة الاحتمالية والمخالفة كذلك حاصلتان قهرا ، وحيث لا معين لاختيار خصوص الفعل او الترك في مقام العمل يحكم العقل بالتخيير.

واما الفرض الثاني فالموافقة القطعية لما لم تكن متصورة فيه فلا اثر للعلم الاجمالي فيها ، واما المخالفة القطعية فلا وجه لاهمال العلم بالنسبة اليها.

لا يقال : الوقائع المتأخرة لما لم يكن التكليف بالنسبة اليها الا مشروطا بتحقق الزمان لا ربط لها بالمكلف ، فالتكليف الثابت المتعلق عليه منحصر فيما تعلق بالواقعة الشخصية الفعلية ، ولا اشكال في أن المخالفة القطعية غير ممكنة

٥٠٣

فيها كالموافقة القطعية.

لانا نقول : التكاليف المشروطة بشرط متحقق الحصول فيما بعد حالها حال التكاليف المطلقة في وجوب مقدماتها الوجودية والعلمية ، وقد مضى الكلام في ذلك في مبحث مقدمة الواجب مستوفى (١) ومن اراد فليراجع.

والحاصل ان العقل لا يفرق في قبح المخالفة القطعية بين ما اذا كان التكليف مطلقا او مشروطا بشرط يعلم حصوله.

ومن هنا يعلم حال الواقعة الواحدة اذا كان احد طرفى المعلوم بالاجمال او كلاهما تعبديا (٢).

__________________

(١) عند البحث عن الواجب المعلق : ج ١ ، ص ١٠٨ ـ ١١١.

(٢) هذا الكلام مبني على تمشي المخالفة القطعية في هذا الفرض باخلال قصد القربة في الطرف الذي فرض كون التكليف على تقدير ثبوته فيه تعبديا ، ويمكن ان يقال اذا دار امر الفعل بين محبوبية المولى ومبغوضيته وكان كل من الاحتمالين والمحتملين مساويا مع الآخر فلا يتمشى هنا قصد الرجاء المصحح للعبادية ، ويكون حاله كالفعل المقطوع اباحته ، وعلى هذا فيصير حال الفرض كالتوصليين بلا فرق.

خاتمة

يعتبر في اجراء البراءة عقلية كانت او نقلية الفحص عن الدليل في مظانه بالمقدار المتعارف واليأس عنه ، والدليل عليه اما في العقلية فلعدم احراز الموضوع وهو عدم البيان بدونه ، اذ يكفى في رفع القبح وجود البيان بحيث لو تفحص عنه بالمقدار المتعارف لظفر به ، كما هو واضح بمراجعة الوجدان ، فما قبل الفحص يكون من الشبهة المصداقية ، واما في النقلية فلدعوى انصراف ادلتها عما قبل الفحص ، بمعنى ان لفظة لا يدري ونحوها منصرفة عن المتمكن من الفحص بسهولة ، وان كان لا يصدق عليه عنوان العالم ايضا ، لكن يكفى عدم صدق عنوان غير العالم في اندراجه تحت قاعدة الاشتغال بعد عدم اناطتها بعنوان العالم ، لما عرفت من كفاية وجود البيان بحيث لو فحص عنه لظفر به ، هذا حاصل الكلام في اصل لزوم الفحص.

واما الكلام في تبعة تركه ، فاعلم ان الاستحقاق منوط بصدور المخالفة مع وجود البيان بالكيفية المذكورة ، فلو فرض صدورها مع عدم البيان المذكور فلا استحقاق ، وان كان يظهر ـ

٥٠٤

........................................

__________________

خلافه من كلمات شيخنا المرتضى «رحمه‌الله» ومجرد احتماله صحة العقاب على تقدير لا يصحح عقابه على تقدير آخر يستقل العقل بالقبح على ذلك التقدير.

اذا عرفت ذلك فنقول : تارة يفرض التكليف مطلقا غير مشروط بشيء ومتوجها الى ذات المكلف غير معلق على عنوان ، فلا اشكال حينئذ في استحقاق العقاب على التقدير الذي ذكرنا.

واخرى يفرض مشروطا بشيء مع توجهه الى ذات المكلف فحينئذ قد يستشكل في استحقاقه العقاب لو أدّى ترك التعلم قبل حصول الشرط الى صدور المخالفة منه بعد حصوله بلا اختيار ، لعدم وجوب مقدمة الواجب المشروط قبل حصول شرطه ، فكيف يحسن العقاب في الفرض المذكور ، ومن هنا التجأ بعضهم الى جعل الخطاب من قسم الوجوب المعلق لا المشروط ، وبعض آخر الى جعل التعلم واجبا نفسيا تهيئيا ، والحق ثبوت الاستحقاق في هذا القسم كالفرض الاول ، بلا حاجة الى شيء من الوجهين ، لما تقرر في محلّه من ان الوجوب المشروط بعد العلم بحصول شرطه كالمطلق ، في وجوب المقدمات الوجودية والعلمية.

وثالثة يفرض كونه متوجها الى المكلف مع ملاحظة كونه معنونا بعنوان من العناوين ، كعامة التكاليف المتوجهة الى عنوان البالغ ، والحق في هذا القسم عدم الاستحقاق لو فرض ترك التعلم قبل حصول العنوان وتعذره بعده ، وذلك لان المستظهر من امثال هذه الخطابات كون القدرة الخاصة اعني الحاصلة في زمان تحقق العنوان شرطا شرعيا ، كنفس العنوان ، فكما لا يضر المنع عن حصول العنوان اختيارا فكذلك لا يضر المنع عن تحقق القدرة في زمن حصول العنوان.

واما الكلام في الاحكام فلا اشكال في لزوم الاعادة في الوقت والقضاء خارجه على الجاهل العامل بالبراءة قبل الفحص ، الا في مسألتي الاتمام في موضع القصر والاجهار او الاخفات في موضع الآخر ، فان الظاهر اتفاقهم على الصحة فيهما مع استحقاق العقاب في الجاهل المقصّر ، ووجّهه بعضهم بانه من باب الضدين المامور بهما على وجه الترتب ، واشكل آخر بمنع صحة الترتب ، وانت خبير بان ذلك انما يتم في مسألة الاتمام في موضع القصر ، اذ كل منهما مقيد بقيد يضادّ الآخر ، واما المسألة الاخرى فليست من الباب المذكور ، بل هي من باب المطلق والمقيد وصحّة الامرين فيه غير مبتنية على صحة الترتب كما هو واضح. ـ

٥٠٥

.................................................................................................

__________________

ثم انه ذكر لاصل البراءة شرطان آخران : احدهما ان لا يكون مثبتا لحكم آخر ، والثاني ان لا يكون موجبا للضرر.

اما الاول فالظاهر عدم ارادته حقيقة الاشتراط بحيث يدور مداره الحكم بالبراءة وجودا وعدما ، وذلك لاستقلال العقل بالقبح في صورة الفحص وعدم الظفر من دون اشتراطه بشيء ، بل المراد ان عدم التكليف في مورد لو كان ملازما او موضوعا لثبوت حكم في مورد آخر فلا يكون اجراء البراءة في الاول مثبتا لذلك في الثاني ، وهذا في الجملة ممّا لا اشكال فيه ، وان كان باطلاقه ممنوعا ، اذ لو كان ذلك الحكم الآخر ملازما او أثرا لعدم فعلية التكليف الاول في مورده كصحة الصلاة الملازمة لعدم فعلية التكليف بالازالة فلا اشكال في صحة اثباته باصل البراءة ، عقلية كانت ام نقلية ، نعم لو كان من آثار اباحة المورد الاول او عدم التكليف فيه واقعا ، او ملازما كذلك ، فلا يمكن اثباته باصل البراءة العقلية ، وكذا بالنقلية لو قلنا بان مفادها حتى مثل قوله : «كل شيء حلال الخ» تقرير البراءة العقلية ، واما لو قلنا بان مفادها جعل الاباحة ظاهرا او نفي التكليف كذلك فقد يقال ايضا بعدم امكان اثبات ذلك الحكم المترتب على الاباحة ، إلّا اذا كان الموضوع الاعم من الاباحة الواقعية والظاهرية ، فلو فرض ان جواز الصلاة من آثار الحلية الذاتية للحيوان ، لا الاعم منها ومن الثابتة بالعنوان الطارئ كالاضطرار والشك ، فاصالة الحل في لحم الحيوان المشكوك لا تصحح الصلاة في وبره. وفيه انه انما يتم في الحلية الثابتة بالاضطرار ، دون الثابتة بقاعدة الحل ، حيث ان مفادها تنزيل الحل الظاهري بمنزلة الواقعي ، ولازمه توسيع موضوع الحكم ، فاللازم المعاملة معها معاملة الحلية الواقعية.

واما الشرط الثاني فليس بشرط حقيقة لانتفاء الموضوع بوجود مثل قاعدة لا ضرر التى لها الحكومة على الادلة الاجتهادية ، فضلا عن الاصل العملي ، ولا بأس بصرف عنان الكلام الى بيان مقدار دلالة القاعدة ، ونسبتها مع سائر الادلة وحينئذ فنقول :

الظاهر انه ليس المراد نفي الحقيقة ادعاء بلحاظ نفي الآثار ، اذ نفي آثار نفس الضرر غير مقصود ، ونفي آثار المعنون خلاف الظاهر ، بملاحظة نظائره ، ولا نفيها حقيقة ، بملاحظة اسنادها الى الشارع ، اذ لا شاهد في العبارة على تلك الملاحظة ، وكلمة «في الاسلام» مثلها في قولنا :

اول مولود ولد في الاسلام ، بل المراد نفيها ادعاء بملاحظة نفي علة وجودها ، كما في «لا رفث ـ

٥٠٦

.................................................................................................

__________________

ولا فسوق ولا جدال في الحج» ، بمعنى سدّ ابواب تلك الامور شرعا ، وكذا سدّ ابواب الضرر ، سواء كان حكم الشرع ام اضرار بعض الناس بعضا ، بعدم جعل الاول ، وتحريم الثاني ، وايجاب التدارك على فرض العصيان.

واما النسبة بينها وبين سائر الادلة فالظاهر انها الحكومة لا بمعنى شرحها بمفادها اللفظي لمفادها ، بل بمعنى كون مفاد تلك حكما على الموضوع ومفاد هذه حكما على الحكم ، لما عرفت من اشتمالها على نفي الحكم الضرري ، وكلّما تحقق ذلك بين دليلين فالمقدم هو الثاني ، لانه بمفاده يفيد خلاف ما افاده الاصل العقلائي في الآخر ، حيث انه يدل على ثبوت الارادة اللبية مع الاستعمالية ، وهذا يدل على الانفكاك ، وليس وجه التقديم كون مفاد الادلة حكما حيثيا ومفاد هذه فعليّا ، بعد ثبوت اطلاق الادلة لمورد الضرر ، فكيف يحكم بكونها حيثيا.

ولو فرض تعارض فردين من الضرر ، او الضرر والحرج ، فالظاهر انه من باب التزاحم لاحراز الملاك في الطرفين ، وعلى هذا فلا بد من ملاحظة مراتب الضرر قلة وكثرة وترجيح جانب الاقل ، فلو كان ضرر صاحب الدار على تقدير ترك حفر البئر اقل من ضرر الجار على تقدير الحفر فلا بد من منعه عنه ، ولو كان العكس يحكم بالجواز مع ضمانه لضرر الجار ، ولكن لا يساعد مع ما ذكرنا كلمات الاصحاب حيث صرّحوا بتقديم جانب صاحب الدار ، من دون ملاحظة مراتب الضرر ولا الحكم بالضمان ، فان كان نظرهم الى تساقط الضررين بعد التعارض ثم الرجوع الى قاعدة السلطنة ، ففيه اوّلا انه ليس من باب التعارض بل من باب التزاحم كما عرفت ، وثانيا انه لا يصح الرجوع الى قاعدة السلطنة ، بعد عدم كونها مشرّعة كما قرر في محله.

بقي الكلام : فيما تعرضوا له في المقام ، من عدم وجوب تحمل الضرر لدفعه عن الغير ، ومن عدم جواز اضرار الغير لدفعه عن النفس.

اما الاول فيمكن دعوى عدم استفادة وجوب صرف الضرر عن الغير من القاعدة مطلقا.

ولو لم يكن بتوجيهه الى النفس.

واما الثاني فيمكن ان يكون وجهه ان تجويز الشارع لاضرار الغير يكون بنفسه عدم المانع من علة ضرر الغير ، وتحريمه له يكون علة لعدم المانع من ضرر النفس ، وارتكاب علة عدم المانع ـ

٥٠٧

هذا حال الاصول الثلاثة اعنى البراءة والاحتياط والتخيير ، وقد تم فيها الكلام بعون الله الملك العلام ونتبعها الكلام في الاستصحاب مستعينا بالله العزيز الوهاب. من المبغوض اهون من ارتكاب نفس عدم المانع. (م. ع. مدّ ظلّه).

٥٠٨

المسألة الرابعة في الاستصحاب

وقد عرف بتعاريف غير خالية عن المناقشة ، وامتنها تعريفه بابقاء ما كان ، لان المراد بالابقاء بشهادة المقام هو الابقاء العملى ، لا الحقيقي.

وذكر ما كان مع كونه مأخوذا في مفهوم الابقاء يدل على مدخلية الكون السابق في الابقاء العملى ، فيخرج ما اذا كان الابقاء للعلم بالبقاء او لدليل خارجي عليه.

وايضا يعلم اعتبار الشك واليقين من هذه العبارة لانه لو كان للكون السابق دخل في الابقاء فلا بد من احرازه ، وكذا لو لم يكن شاكا في البقاء لم يكن ابقائه مستندا الى الكون السابق ، فلا يرد عليه الاشكال باخلال اليقين والشك اللذين هما ركنا الاستصحاب.

وايضا الاستصحاب على ما يظهر من مشتقاته هو فعل المكلف لا حكم الشارع بناء على اعتباره من باب الاخبار ، ولا حكم العقل ، او بناء العقلاء ، بناء على عدم اخذه من الاخبار ، فلا يرد على التعريف المذكور ما اورده شيخنا الاستاذ : «من ان الاستصحاب يختلف باختلاف جهة اعتباره» (١) اذ هو كما عرفت عبارة عن البناء على الحالة السابقة بحسب العمل ، غاية الامر أن وجه هذا البناء يختلف باختلاف الآراء ، فعند بعض حصول الظن النوعى او الشخصى من الكون السابق وعدم ما يدل على ارتفاعه ، وعند آخر الاخبار

__________________

(١) التعليقة ، ص ١٦٢.

٥٠٩

الدالة على وجوب البناء على الحالة السابقة ، وهكذا ، ولا يوجب هذا الاختلاف تفاوتا في حقيقة الاستصحاب كما لا يخفى.

ثم اعلم ان الاستصحاب ان اخذ من باب الظن فتارة يبحث عن وجود هذا الظن ، واخرى عن حجيته ، لا اشكال في ان النزاع الثاني نزاع في المسألة الاصولية ، كالنزاع في حجية خبر الواحد وامثال ذلك ، بناء على عدم اخذ عنوان الدليلية في موضوع علم الاصول ، واما الاول فادخاله في المسألة الاصولية مبنى على جعل محل الكلام ثبوت الملازمة بين الكون السابق والبقاء ، لان موضوع البحث حينئذ هو حكم العقل وهو ادراكه الملازمة ظنا ، وان احتيج بعد الفراغ عن هذا الحكم العقلى الى حكم شرعي يدل على حجية هذا الظن ، فموضوع البحث ذات الدليل العقلي وان لم يفرغ عن دليليته.

واما اذا اخذناه من الاخبار فادراجه في المسائل الاصولية مع الالتزام بكون موضوع علم الاصول هو الادلة الاربعة ، لا غير ، مشكل ، بل غير ممكن ، لان المبحوث فيه ليس إلّا ثبوت حكم الشارع بوجوب المضى على ما كان ، ومن الواضح عدم كون حكم الشارع الذي هو محل البحث في المقام من الادلة الاربعة ، بل هو مدلول الاخبار ، بعد احراز حجيتها وحجية ظواهرها ، وتميز ظاهرها عن غيره ، وغير ذلك مما جعل لكل واحد بحث مستقل ، والحاصل انه ليس النزاع في حكم الشارع في المقام الا مثل النزاع في حكم الشارع بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال وامثاله من المسائل الفقهية. فما افاده المحقق القمي «قدس‌سره» في القوانين من أن الاستصحاب ان اخذ من العقل كان داخلا في الدليل العقلي ، وان اخذ من الاخبار فيدخل في السنة ، صحيح في الشق الاول ، ولكنه محل نظر في الشق الثاني.

ويظهر من كلام شيخنا المرتضى «قدس‌سره» هنا (١) دخوله في المسائل

__________________

(١) الفرائد ، ص ٣٢٠.

٥١٠

الاصولية ، من جهة ان اجرائه في موارده مختص بالمجتهد وليس وظيفة للمقلد ، ومراده «قدس‌سره» انه بعد الاستظهار من ادلة الباب هذا الحكم من الشارع لا ينفع إلّا للمجتهد ، اذ مجراه تيقن الحكم في السابق وعدم طريق في اللاحق يدل على ارتفاعه ، ومن الواضح ان تشخيص المورد المذكور ليس شأن المقلد ، وهذا ميزان المسائل الاصولية ، بخلاف ما اذا استظهر من الادلة نجاسة الغسالة مثلا ، فان هذا الحكم بعد استظهاره من الادلة ينفع للمقلد ، وهو ميزان المسائل الفقهية ، وعلى هذا يدخل مسألة الاستصحاب ـ ولو على تقدير اخذه من الاخبار ـ في المسائل الاصولية ، ولا يخفى ان هذا الكلام يدل على عدم التزامه بكون موضوع علم الاصول خصوص الادلة.

ولكن يرد على ما افاده «قدس‌سره» ان لازم ما ذكره كون بعض المسائل الفقهية داخلا في المسائل الاصولية ، من قبيل قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده وعكس هذه القاعدة ، لوضوح ان تشخيص مجاريهما لا يكون وظيفة للعامى ، بل ينتقض بكل حكم شرعى متعلق بالموضوعات التى لا يكون تشخيص مصاديقها الا وظيفة للمجتهد ، من قبيل الصلاة والغناء والوطن وامثال ذلك مما لا يحصى ، فتأمل.

واوثق كلام في المقام ان يقال : كل قاعدة اسست لملاحظة لاحكام الواقعية الاولية ، ـ سواء كانت من الطرق اليها ، او من الاحكام المتعلقة بالشك من دون ملاحظة الكشف عن الواقع ـ تسمى قاعدة اصولية ، وسواء كانت منجزة للاحكام الواقعية او مسقطة لها ، فيخرج ما ذكر في مقام النقض عن تحت القاعدة المذكورة ، فان الاحكام المذكورة ليست مجعولة بملاحظة حكم آخر ، بل هي احكام مجعولة لمتعلقاتها من جهة اقتضاء كان ثابتا فيها ويدخل مسألة الاستصحاب ونظائرها في المسائل الاصولية لدخولها تحت القاعدة المذكورة.

ثم ان المعتبر في اليقين والشك المأخوذين في موضوع الاستصحاب تحققهما

٥١١

فعلا ، ولا يكفى وجودهما الشأنى ، بمعنى كون المكلف بحيث لو التفت لكان متيقنا للحدوث وشاكا في البقاء ، أما بناء على اخذه من الاخبار فواضح ، لان المعتبر فيها وجودهما الظاهر في الفعلية ، وأما بناء على اخذه من باب الطريقية فلان طريقية الكون السابق للبقاء انما هي في صورة الالتفات ، واما في حال الغفلة فلا يكون مفيدا للظن النوعى حتى يكون طريقا ، والظاهر ان هذا لا اشكال فيه.

اذا عرفت هذا فنقول : قد فرّع شيخنا المرتضى «قدس‌سره» على ذلك مسألتين :

احداهما ان المتيقن للحدث اذا التفت الى حاله في اللاحق فشك جرى الاستصحاب في حقه ، فلو غفل عن ذلك وصلّى بطلت صلاته ، لسبق الامر بالطهارة ، ولا يجرى في حقه حكم الشك في الصحة بعد الفراغ عن العمل ، لان مجراه الشك الحادث بعد الفراغ لا الموجود من قبل.

الثانية لو غفل المتيقن للحدث عن حاله وصلى ثم التفت وشك في كونه محدثا حال الصلاة او متطهرا جرى في حقه قاعدة الشك بعد الفراغ ، لحدوث الشك بعد العمل وعدم وجوده قبله حتى يوجب الامر بالطهارة والنهى عن الدخول في الصلاة بدونها.

ثم قال «قدس‌سره» نعم هذا الشك اللاحق يوجب الاعادة بحكم استصحاب عدم الطهارة لو لا حكومة قاعدة الشك بعد الفراغ عليه انتهى كلامه «قدس‌سره» (١).

اقول : وللنظر فيما افاده «قدس‌سره» مجال ، لان المصلى في الفرض الاول كالثاني ليس محكوما بحكم الاستصحاب ، لان المفروض انه غفل في حال صلاته عن الحالة السابقة ولم يكن شاكا في تلك الحالة ، فكيف يمكن ان يحكم

__________________

(١) الفرائد ، ذيل الامر الخامس ، ص ٣٢١ ـ ٣٢٢.

٥١٢

عليه في تلك الحالة بعدم جواز نقض اليقين بالشك ، نعم ، كان محكوما بهذا الحكم قبل الصلاة في حال التفاته ، ولكنه رفع بواسطة رفع موضوعه ، واما بعد الصلاة فإن قلنا بان الشك الحاصل له هنا من افراد الشكوك الحادثة بعد الفراغ عن العمل ، لان الشك الموجود قبل العمل قد انتفى وهذا الشك الموجود بعده شك آخر حدث بعد الفراغ ، يجرى في حقه قاعدة الشك بعد الفراغ ، على احتمال يأتى في المسألة الثانية ، وإن قلنا بانه هو الشك الموجود قبل العمل عرفا ، فليس من افراد الشكوك التى تجرى فيها القاعدة المذكورة ، فاللازم الاخذ باستصحاب الحدث ، والحكم ببطلان الصلاة ، بملاحظة هذا الشك الموجود بعد الفراغ ، بالتقريب الذي يأتى بيانه في المسألة الثانية.

واما المسألة الثانية فالاخذ بقاعدة الشك بعد الفراغ فيها مبنى على كونها من الاصول العملية ، واما على كونها من الطرق من جهة ملاحظة التعليل الوارد في بعض الاخبار من انه حين العمل اذكر فلا تكون مشمولة لها ، للعلم بانه حين العمل ليس اذكر منه بعده ، فحينئذ ان قلنا بالاول يؤخذ بالقاعدة ، وتقدم على الاستصحاب ، لا من جهة الحكومة ، بل من جهة انه لولاه لزم كون القاعدة لغوا ، لورودها مورد الاستصحاب غالبا ، اما موافقة له او مخالفة ، وان قلنا بالثاني فتقديمها عليه في موارد جريانها من جهة الحكومة ، نظير تقديم ساير الادلة والامارات عليه ، ولكن الدليل غير شامل للشك المفروض ، لعدم صدق التعليل المقتضى للطريقية.

ومن هنا يعلم ما في ما افاده «قدس‌سره» من ان هذا الشك اللاحق يوجب الاعادة بحكم الاستصحاب لو لا حكومة قاعدة الشك بعد الفراغ ، لانه لو اخذ بالقاعدة من باب الطريقية بملاحظة التعليل المذكور ، فلا تجرى في الفرع المزبور اصلا ، حتى تكون مقدمة على الاستصحاب ، وان اخذ بها من باب التعبد فتقدمها ليس من باب الحكومة ، كما لا يخفى ، ولعله اشار الى ما ذكرنا او بعضه بقوله : «فافهم».

٥١٣

* * *

ثم ان الاستصحاب ينقسم باعتبار المستصحب والدليل الدال عليه في السابق والشك في بقائه في اللاحق إلى اقسام عديدة لا يهمنا التعرض لذكرها لقلة الجدوى.

وانما المهم هنا بيان امور :

[في استصحاب حكم العقل]

احدها : ان الدليل الدال على وجود المستصحب في السابق ان كان هو العقل فهل يمكن الاستصحاب ام لا؟ ذهب شيخنا المرتضى «قدس‌سره» الى الثاني ، وذهب جمع من مشايخنا الى الاول ، تبعا لسيد مشايخنا الميرزا الشيرازي «قدس‌سره» وهو الحق.

وتوضيح ذلك يتوقف على بيان مرام الشيخ «قدس‌سره» اوّلا فنقول : حاصل ما يستفاد من كلامه في وجه منع جريان الاستصحاب أن العقل لا يحكم بحكم الا بعد احراز موضوعه بقيوده وحدوده ، حتى عدم المانع والرافع ، فحينئذ اذا حكم العقل بالحسن او القبح على موضوع محدود بحدوده فما دام ذلك الموضوع على حاله لا يعقل الشك في حكمه ، والشك في الحكم إما من جهة القطع بزوال قيد او جزء من ذلك الموضوع ، واحتمال ان يكون ملاك ذلك الحكم في المجرد عنهما ايضا ، وإما من جهة الشك في انطباق الموضوع العقلى على أمر خارجى ، ولا يمكن الاستصحاب في كل من الصورتين : اما الاولى فللقطع بزوال الموضوع ، واما الثانية فللشك في بقاء الموضوع ، ومن جملة شرائط الاستصحاب احراز الموضوع.

فان قلت : لو بنينا على احراز الموضوع في الاستصحاب بالدقة العقلية لانسد بابه في الاحكام الشرعية ايضا ، ضرورة عدم امكان الشك فيها الا من جهة الشك في الموضوع ، ومن المعلوم عدم الاشكال هنا من هذه الجهة ، لان الميزان صدق نقض اليقين بالشك عرفا ، وهو يقتضى بقاء ما هو الموضوع عندهم.

٥١٤

قلت : الفرق بين المقامين أنه في القضايا الملقاة من الشرع يرى العرف موضوعا وحكما وشيئا آخر يكون من حالات الموضوع وواسطة في ثبوت الحكم لذلك الموضوع ، وان كان عند العقل لا تكون القضية الا مركبة من الموضوع والمحمول والنسبة وليس هناك شيء آخر يكون ظرفا او حالا لثبوت الحكم للموضوع ، مثلا ، اذا قال الشارع : الماء نجس اذا تغير ، فموضوع هذه القضية عند العرف هو الماء ، والتغيّر واسطة لثبوت النجاسة للماء ، فحينئذ لو شك بعد زوال التغير من قبل نفسه في النجاسة من جهة الشك في ان التغير في زمان سبب لنجاسة الماء مطلقا ولو زال بعد ذلك او أنه سبب لها حدوثا وبقاء ، او من جهة الشك في انه بعد زوال التغيّر هل قام مقامه ملاك آخر اولا ، يصدق ان ما كان موضوعا للنجاسة في الزمن السابق باق بعينه ، والشك في النجاسة شك في بقائها ، فيشمله ادلّة الاستصحاب ، واما القضية الملقاة من العقل فليست مشتملة على شيء آخر خارج عن الموضوع يسمى ظرفا او حالا وواسطة في ثبوت الحكم كما كان في القضية الملقاة من الشرع ، فحينئذ متى زال قيد او جزء من الموضوع العقلى فالباقي موضوع آخر مغاير لما كان اولا ، فلا يفرض الشك في الحكم العقلى مع بقاء موضوعه ، ومن هنا يظهر عدم جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي المستكشف بالعقل ايضا ، هذه خلاصة ما افاده قدس‌سره في المقام (١).

اقول : وتحقيق الحال ان يقال : ان عدم الاجمال في موضوع حكم العقل بمعنى ادراكه واذعانه الفعلى مسلم ، لعدم امكان ان يذعن بحسن شيء او قبحه ولم يتعين عنده موردهما ، فاذا حكم بحسن شيء مركب او مقيد او قبحه فجميع خصوصيات ذلك له دخل في حكمه ، بحيث لو زال بعض الخصوصيات وتغير عما

__________________

(١) الفرائد ، في الوجه الثاني من تقسيم الاستصحاب بحسب دليل المستصحب ، ص ٣٢٥ ، وفي التنبيه الثالث من تنبيهات الاستصحاب ، ص ٣٧٨. (طبعة رحمة الله).

٥١٥

كان عليه اوّلا يرتفع حكمه قطعا ، ولكن يمكن ان لا يكون لبعض تلك الخصوصيات دخل فيما هو ملاك لحكمه ، اعنى الحسن والقبح الواقعيين ، بان يعتقد العقل حسن شيء او قبحه على سبيل الاهمال والاجمال ، إما بان يرى ذلك في مركب او مقيد مثلا من دون ان يعلم مدخلية لخصوصية او جزء معين في الحسن والقبح ، أو يرى ان المطلق مثلا مقتض للحسن او القبح ولكن يحتمل ان يكون وجوده في خصوصية خاصة رافعا لما يقتضيه المقتضى ، فالقدر المتيقن عند العقل حينئذ هو المقيد بغير القيد المفروض ، مع احتمال ان يكون الملاك في المطلق ، أو بان يعتقد ان الملاك قائم بالمجموع المركب او المقيد ولكن يحتمل وجود ملاك آخر في فاقد الجزء او القيد ، ففى جميع الصور المفروضة اذا تغير موضوعه الاولى بزوال القيد المفروض او الجزء المفروض يشك في ثبوت الملاك في الباقي.

اذا عرفت هذا فنقول : لا ينبغى الاشكال في عدم جواز استصحاب نفس حكم العقل ، ضرورة عدم تصور الشك في بقائه ، كما لا ينبغى الاشكال في عدم جواز استصحاب ملاك حكمه ، لان الشك وان كان متصورا فيه ولكنه ليس موضوعا لاثر من الآثار الشرعية ، ولكن استصحاب الحكم الشرعي المستكشف بقاعدة الملازمة بمكان من الامكان ، لعدم المانع فيه الا الشك في الموضوع بحسب الدقة ، ولو كان هذا مانعا لانسد باب الاستصحاب في الاحكام الكلية والجزئية ، لكون الشك فيها راجعا الى الشك في الموضوع يقينا ، وما هو الجواب في باقي موارد الاستصحاب هو الجواب هنا من دون تفاوت اصلا ، وستطلع على تحقيق وجوب اخذ الموضوع من العرف في محلّه ان شاء الله.

[في ادلة الاستصحاب]

الامر الثاني : في بيان حال الادلة الدالة على وجوب البناء على الحالة السابقة ، وانها هل تدل عليه مطلقا او تختص ببعض الموارد؟

٥١٦

فنقول : ذهب شيخنا المرتضى «قدس‌سره» الى الثاني وذكر من الادلة الدالة على الاستصحاب امورا كلها مختصة بصورة الشك في الرافع مع احراز المقتضى على ما أفاده «قدس‌سره».

احدها : ظهور كلمات جماعة في الاتفاق عليه.

ثانيها : انا تتبعنا موارد الشك في بقاء الحكم السابق المشكوك من جهة الرافع ، فلم نجد من اول الفقه الى آخره موردا الا وحكم الشارع فيه بالبقاء ، الا مع امارة توجب الظن بالخلاف ، كالحكم بنجاسة الخارج قبل الاستبراء ، فان الحكم بها ليس لعدم اعتبار الحالة السابقة ، وإلّا لوجب الحكم بالطهارة لقاعدة الطهارة ، بل لغلبة بقاء جزء من البول او المنى في المخرج ، فرجح هذا الظاهر على الاصل ـ الى ان قال «قدس‌سره» ـ والانصاف ان هذا الاستقراء يكاد يفيد القطع وهو اولى من الاستقراء الذي ذكره غير واحد كالمحقق البهبهاني وصاحب الرياض انه المستند في حجية شهادة العدلين على الاطلاق.

ثالثها الاخبار المستفيضة فذكر اخبار الباب عموما وخصوصا ثم قال «قدس‌سره» بعد التكلم فيها نقضا وابراما : إن اختصاص الاخبار الخاصة بالقول المختار واضح ، واما الاخبار العامة فالمعروف بين المتأخرين الاستدلال بها على حجية الاستصحاب مطلقا ، وفيه تأمل قد فتح بابه المحقق الخوانساري «قدس‌سره» في شرح الدروس ، توضيحه ان حقيقة النقض هي رفع الهيئة الاتصالية ، كما في نقض الحبل ، والاقرب اليه على تقدير مجازيته هو رفع الامر الثابت ، وقد يطلق على مطلق رفع اليد عن الشيء ولو لعدم المقتضى له بعد ان كان آخذا به ، فالمراد من النقض عدم الاستمرار عليه والبناء على عدمه بعد وجوده ، اذا عرفت هذا فنقول : ان الامر يدور بين ان يراد بالنقض مطلق ترك العمل وترتيب الاثر ، وهو المعنى الثالث ، ويبقى المنقوض عاما لكل يقين ، وبين ان يراد من النقض ظاهره ، وهو المعنى الثاني ، فيختص متعلقه بما من شأنه الاستمرار المختص بالموارد التى يوجد فيها هذا المعنى ، والظاهر رجحان هذا على

٥١٧

الاول ، لان الفعل الخاص يصير مخصصا لمتعلقه العام ، كما في قول القائل : لا تضرب احدا ، فان الضرب قرينة على اختصاص العام بالاحياء ، ولا يكون عمومه للاموات قرينة على ارادة مطلق الضرب عليه كسائر الجمادات «انتهى ما اردنا نقله من كلامه ، رفع مقامه» (١).

اقول : اما الاتفاق فلا يتحقق المحصل منه الكاشف عن رأى المعصوم قطعا ، والمنقول منه ليس بحجة مع ما يرى من الاختلاف وذهاب جمع الى عدم حجية الاستصحاب مطلقا.

واما التتبع الذي ذكره «قدس‌سره» فان كان الدليل في كل مورد غير ادلة الاستصحاب فالانصاف انه يفيد الاطمينان التام بوجوب الجرى على طبق المقتضى للبقاء ، أما ان هذا الحكم هل هو من جهة ملاحظة الحالة السابقة مع وجود المقتضى للبقاء او من جهتها من دون اعتبار المقتضى او من جهته من دون اعتبار الحالة السابقة فلا يعلم ، وان كان الدليل على ذلك ادلة الاستصحاب فليس بدليل مستقل ، فليتكلم فيها.

واما الاخبار فالانصاف ان ظهورها في حجية الاستصحاب غير قابل للانكار ، وأما اختصاص مواردها بما اختاره «قدس‌سره» فمحل منع ، بل الحقيق شمولها للشك في المقتضى ايضا ، وتحقيق الحال فيها بتوقف على ذكر كل واحد منها :

فنقول : ان الاخبار الواردة في المقام بين عامة وخاصة :

فمن الاولى صحيحة زرارة ، ولا يضرها الاضمار لان زرارة اجلّ شأنا من ان يسأل غير الامام ، فالمسئول اما ابو جعفر واما ابو عبد الله عليهما الصلاة والسّلام لانه يروى عن كليهما ، قال قلت له : الرجل ينام وهو على وضوء ، أيوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء ، قال : يا زرارة! قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن ،

__________________

(١) الفرائد ، ص ٣٢٩ و ٣٣٦ و ٥٧٤.

٥١٨

فاذا نامت العين والاذن فقد وجب الوضوء ، قلت : فان حرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم ، قال : لا ، حتى يستيقن انه قد نام ، حتى يجىء من ذلك أمر بيّن ، وإلّا فانه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين أبدا بالشك ولكن ينقضه بيقين آخر (١).

وفقه الحديث أن الظاهر من الفقرة الاولى ان شبهة السائل كانت حكمية ، أعنى أنه كان شاكا في ان مفهوم النوم الذي جعل ناقضا للوضوء هل يشمل مثل الخفقة والخفقتين ام لا؟ فسأل عن ذلك فاجابه عليه‌السلام بما حاصله : «ان النوم الموجب للوضوء لا يتحقق بذلك ، بل الملاك نوم العين والاذن» والفقرة الثانية سؤال عن الشبهة الموضوعية ، اعنى بعد ما علم زرارة ما هو الملاك في النوم الناقض سأل عن الشك في تحقق ذلك ، فاجابه بقوله عليه‌السلام : «لا ، حتى يستيقن أنه قد نام حتى يجىء من ذلك امر بيّن ، وإلّا فانه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين ابدا بالشك ولكن ينقضه بيقين آخر».

ثم إن قوله عليه‌السلام : «فانه على يقين من وضوئه» يحتمل بعيدا ان يكون هو الجزاء للشرط ويصير المفاد : «وان لم يجئ من ذلك امر بين فانه يجرى على يقين من وضوئه» والظاهر ان جواب الشرط محذوف قامت العلة مقامه ، كما وقع نظيره في الكتاب العزيز مثل قوله تعالى : (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) (٢) ومثل قوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (٣) ، ومن كفر فان الله غنى عن العالمين (٤) وامثال ذلك مما لا يحصى ، وحينئذ هذه القضية تكون صغرى لقوله «ولا ينقض اليقين الخ».

والظاهر ان قوله عليه‌السلام : «من وضوئه» لمجرد كونه متعلقا لليقين في

__________________

(١) الوسائل الباب ١ من ابواب نواقض الوضوء الحديث ١.

(٢) سورة الزمر ، الآية ٧.

(٣) سورة النمل ، الآية ٤٠.

(٤) سورة آل عمران ، الآية ٩٧.

٥١٩

المورد ، لا لمدخليته في الحكم ، لان المناسبات المقترنة بالكلام كما انها قد توجب التقييد وان لم يكن القيد مذكورا كما في قوله : «اذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء» (١) الظاهر من جهة فهم العرف المستند الى المناسبة المقامية انه لم ينجسه شيء بالملاقاة كذلك قد توجب الغاء القيد المذكور في الكلام ، كما فيما نحن فيه ، فان المناسب لعدم النقض هو جنس اليقين في قبال الشك ، فاندفع ما يقال في المقام : ان استظهار العموم من الخبر مبنى على كون اللام للجنس ، وظهوره فيه ممنوع بعد سبق الخصوصية ، لما عرفت من ان المناسبة في المقام توجب الغاء الخصوصية بنظر العرف.

ثم اعلم ان هذه الصحيحة انفع للمقام من الاخبار العامة الآتية ، لكونها نصا في وجوب الجرى على الحالة السابقة المتيقنة في حال الشك ، بخلاف الاخبار العامة فانها تحتمل افادتها لقاعدة الشك السارى كما يأتى ، نعم ليست الصحيحة نصا في العموم لكنها ظاهرة فيه كما اشرنا اليه.

بقى الكلام في ان الصحيحة وامثالها مما يدل على عدم جواز نقض اليقين بالشك هل تعم الشك في المقتضى او تختص بالشك في الرافع بعد احراز المقتضى؟.

والاقوى الاول توضيح ذلك ان النقض بحسب اللغة ضد الابرام ، فلا بد ان يتعلق بماله اجزاء مبرمة كما في قوله تعالى : نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً» (٢) كما ان متعلق الابرام لا بد ان يكون ذا اجزاء متفاسخة ، وقد يستعار لمثل العهود والايمان مما شأنه الاستحكام والاتقان ، لكونها شبيهة بماله اجزاء ذات ابرام ، واليقين حاله حال العهد واليمين ، وانتقاضه عبارة عن انفساخ تلك

__________________

(١) الوسائل ، الباب ٩ من ابواب الماء المطلق ، الحديث ١ و ٢ و ٥ و ٦ والعبارة هكذا : «اذا كان الماء قدر كرّ لم ينجسه شيء».

(٢) سورة النحل ، الآية ٩٢.

٥٢٠