درر الفوائد - ج ١ و ٢

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي

درر الفوائد - ج ١ و ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٥

دلالة القضية المشتملة على ذكر الوصف على عدم سنخ الحكم في غير مورده ، لا وضعا ولا من جهة قرينة عامة ، بل التحقيق عدم دلالتها على كون الوصف المذكور في القضية علة للحكم فضلا عن كونه علة منحصرة ، لاحتمال كون ذكره في القضية من جهة وجود مانع من تعلق الحكم بالمطلق في مرحلة الاثبات وان كان ثابتا له في مرحلة الثبوت ، او لكون الاهتمام بشأنه ، او لعدم احتياج غيره الى الذكر ، وغير ذلك من النكات ، نعم قد يستظهر العلية من جهة المناسبة بين الحكم والموضوع ، كوجوب الاكرام المتعلق بالعالم او وجوب التبين المتعلق بخبر الفاسق ، ولا فرق في ما ذكرنا بين الوصف المعتمد على الموصوف وغيره ، نعم لازم التقييد بالوصف عدم شمول الحكم في تلك القضية لغير مورد الوصف ، وهذا غير المفهوم المتنازع فيه كما عرفت.

ومن هنا يظهر ان بعض الكلمات الذي ينقل من الاعلام في الاستدلال على المقام ليس في محله ، مثل ما قيل انه لو لم يكن للوصف مفهوم لما صح القول بالتخصيص في مثل قولنا اكرم العلماء الطوال ، ولما صح حمل المطلق على المقيد ، اذ لا تنافى بينهما الا من جهة دلالة المقيد على سلب الحكم من غيره ، اذ هذه الكلمات اجنبية عما نحن بصدده ، ضرورة ان نفى وجوب اكرام القصار ليس من جهة ان تقييد العلماء بالوصف دل على عدم الحكم في غير مورده حتى يكون من باب المفهوم ، بل من حيث ان وجوب الاكرام في غير المنصوص يحتاج الى دليل ، والنص لا يشمله ، وكذا حمل المطلق على المقيد في مورد نقول به وهو في صورة احراز وحدة التكليف المتعلق بهما مع اظهرية دليل المقيد في اعتبار القيد من دليل المطلق في الاطلاق انما هو من جهة تضييق دائرة الحكم الثابت في القضية ، فكانه من اول الامر ورد الحكم على المقيد ، واين هذا من المفهوم المدعى في المقام.

ونظير ما ذكر الاستدلال بقولهم : الاصل في القيود ان تكون احترازية ، فانه بعد تسليم ظهور كل قيد في ذلك يوجب تضييق دائرة الموضوع ، ولا يفيد

٢٠١

انتفاء سنخ الحكم من غير مورد القيد كما هو واضح.

ومما استدل به على مفهوم الوصف ان أبا عبيدة مع كونه من اهل اللسان الذين ينبغى الرجوع اليهم في تشخيص المعانى قد فهم من قوله عليه‌السلام : «ليّ الواجد يحل عقوبته» (١) ان ليّ غيره لا يحل ، وفيه انه ليس ابو عبيدة او غيره باولى منّا في فهم هذا المعنى من القضية بعد القطع بوضع مفرداتها والقطع بعدم وضع آخر للمجموع ، وانما يفهم المفهوم من خصوص هذه القضية لان الوصف المأخوذ فيها مناسب للعلية للحكم مع العلم بعدم علة اخرى كما لا يخفى.

تنبيهان

الاول مما تقرر عند القائل بثبوت المفهوم للوصف انه يشترط ان لا يكون الوصف واردا مورد الغالب كما في قوله تعالى : (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ)(٢) ويمكن توجيهه بان المفهوم بعد غلبة وجوده في افراد ينصرف اليها ولا يحتاج في ذلك الى ذكر القيد ، فذكر القيد وعدمه سيان ، فهو بمنزلة القيد المساوي وسيجىء خروجه عن محل النزاع ، وفيه منع انصراف المفهوم الى الافراد الغالبة فان ميزان الانصراف انس اللفظ عرفا بالنسبة الى المعنى الخاص (٣) وليس دائرا مدار الغلبة في الوجود.

__________________

(١) الوسائل ومستدركه ، الباب ٨ من ابواب الدين والقرض.

(٢) سورة النساء ، الآية ٢٣.

(٣) الاولى في الجواب ان يقال على تقدير تسليم الانصراف لا بد من اخذ المفهوم من المطلق ايضا بملاحظة انصرافه الى المقيد ، فان القيد المنصرف اليه بمنزلة المذكور ، نظير اضمار زيد في قولك : دنف ، في جواب من قال كيف زيد ، اذ ليس المراد من الانصراف مجرد تطبيق المفهوم على مصداق خاص ، كيف؟ وكثيرا ما لا ينطبق المفهوم في نظر المخاطب الا على الافراد الحاضرة عنده ، لكن مع بقاء دائرة المفهوم المنطبق على سعتها ، فميزان الانصراف ان يصير غلبة الوجود على حد كلّما يذكر اللفظ كان في جنب مفهومه في ذهن كل من السامع ـ

٢٠٢

ويمكن ان يكون وجهه ان الورود مورد الغالب يخرج القيد عن اللغوية فلا يكون حينئذ دليلا على ارادة المفهوم ، وفيه انه لو كان القول بالمفهوم من جهة الخروج عن اللغوية لما يصح القول به في كثير من الموارد ، لوجود احتمال نكتة في ذكر القيد ، وهذا في الحقيقة انكار للمفهوم للقضية ، واثبات لها في بعض المقامات لقرينة خاصة ، مع ان خروج القيد عن اللغوية يكفى فيه كونه دخيلا في الحكم ولا يدل على الانحصار حتى يلزم منه العدم عند العدم.

الثاني محل النزاع في المقام ما لو كان هناك موضوع محفوظ في كلتا الحالين ، اعنى حال وجود الوصف وعدمه ، فيدعى مدعى المفهوم دلالة القضية على عدم سنخ الحكم المتعلق بالموضوع المفروض فينحصر مورد النزاع فيما تخلف الموصوف عن الوصف ، وهو في الاوصاف التى تكون اخص من الموصوف او اعم من وجه في مورد تخلف الموصوف ، كما اشرنا في المبحث السابق الى ان الموارد التي يكون الشرط محققا للموضوع ليست محلا للبحث ، ففي مثل قولنا : «في الغنم السائمة زكاة» لو قلنا بالمفهوم نقول بدلالته على نفى الزكاة في الغنم المعلوفة ، واما الابل فان قلنا بان في سائمتها زكاة فمن جهة فهم المناط ، وان العلة لاصل الزكاة السوم ، فيجرى المعلول في غير المذكور تبعا للعلة ، وان قلنا بدلالة القضية المذكورة على عدم الزكاة في معلوفة الابل فمن جهة حصر مناط اصل الزكاة في السوم ، ولا دخل لشيء مما ذكر بمفهوم الوصف المدعى كما لا يخفى.

__________________

والمتكلم مفهوم آخر مقدر كما لو تلفظ به ، فكما انه في صورة التلفظ القائل بالمفهوم يأخذ بالمفهوم فكذا الحال في صورة التقدير الحاصل من الانصراف.

فان قلت : الانصراف موجب لتضييق دائرة المفهوم الاول بحيث يكون في البين مفهوم واحد مضيق ، لا ان هنا مفهومين احدهما منضم الى الآخر.

قلت كلا بل باب الانصراف باب تعدد الدال والمدلول ، فلهذا يكون اللفظ في فاقد القيد حقيقة بالوضع الاول «منه».

٢٠٣

[مفهوم الغاية]

ومن المفاهيم التى وقع الاختلاف فيها مفهوم الغاية ، والمنسوب الى المشهور دلالة الغاية المذكورة في القضية على ارتفاع الحكم ، والى جماعة منهم الشيخ والسيد «قدس‌سرهما» عدم الدلالة ، والحق ان يقال : ان الغاية بحسب القواعد العربية تارة تكون غاية للموضوع واخرى تكون غاية للحكم ، الاول مثل سر من البصرة الى الكوفة ، والثاني مثل اجلس من الصبح الى الزوال ، ففي الاول حالها حال الوصف في عدم الدلالة ، وان كان تحديد الموضوع بها يوجب انتفاء الحكم المذكور في القضية عند حصولها ، لكن قد مر ان هذا ليس قولا بالمفهوم ، وفي الثاني الظاهر الدلالة فان الغاية جعلت بحسب مدلول القضية غاية للحكم المستفاد من قوله اجلس ، وقد حققنا في محله ان مفاد الهيئة انشاء حقيقة الطلب لا الطلب الجزئى الخارجي ، فيكون الغاية في القضية غاية لحقيقة الطلب المتعلق بالجلوس ، ولازم ذلك ارتفاع حقيقة الطلب عن الجلوس عند وجودها ، نعم لو قلنا : ان مفاد الهيئة هو الطلب الجزئى الخارجي فالغاية لا تدل على ارتفاع سنخ الوجوب ، وبعبارة اخرى لا اشكال في ظهور قولنا اجلس من الصبح الى الزوال في ان الزوال غاية للطلب المستفاد من قولنا اجلس ، فان جعلنا مفاد الهيئة حقيقة الطلب المتعلق بالجلوس فمقتضى جعل الغاية لها ارتفاعها عند تحقق الغاية ، وان جعلنا مفادها هو الطلب الجزئى فلازم ذلك ارتفاع ذلك الطلب الجزئى ، ولا ينافي وجود جزئى آخر بعد الغاية وحيث ان التحقيق هو الاول تكون القضية ظاهرة في ارتفاع سنخ الحكم عن الجلوس في المثال هذا (١).

__________________

(١) يمكن ان يقال بمنع المفهوم حتى فيما اخذ فيه الغاية قيدا للحكم ، كما في اجلس من الصبح الى الزوال لمساعدة الوجدان على انا لو قلنا بعد الكلام المذكور وان جاء زيد فاجلس من الزوال الى الغروب فليس فيه مخالفة لظاهر الكلام الاول ، فهذا يكشف

٢٠٤

وفي المقام نزاع آخر وهو ان الغاية هل هي داخلة في المغيّى او خارجه عنها؟ والتحقيق في هذا المقام ان الغاية التي جعلت محلا للكلام في هذا النزاع لو كان المراد منها هو الغاية عقلا اعنى انتهاء الشيء فهذا مبنى على بطلان الجزء الغير القابل للتقسيم وصحته ، فان قلنا بالثاني فالغاية داخلة في المغيى يقينا فان انتهاء الشيء على هذا عبارة عن جزئه الاخير ، فكما ان باقي الاجزاء داخلة في الشيء كذلك الجزء الاخير ، وان قلنا بالاول فالغاية غير داخلة لانها حينئذ عبارة عن النقطة الموهومة التى لا وجود لها في الخارج ، وان كان محل النزاع هو مدخول حتى والى ، وان لم يكن غاية حقيقة ، فانه قد يكون شيئا له اجزاء متصلة ، كالكوفة في قولنا سر من البصرة الى الكوفة ، والليل في قولنا صم من الفجر الى الليل ، فالحق التفصيل بين كون الغاية قيدا للفعل كالمثال الاول ، وبين كونها غاية للحكم كالمثال الثاني ، ففي الاول داخلة في المغيّى ، فان الظاهر من المثال المذكور دخول جزء من السير المتخصص بالكوفة في المطلوب ، كما ان الظاهر منه دخول السير المتخصص بالبصرة ايضا في المطلوب ، وفي الثاني خارجة عنه فان المفروض انها موجبة لرفع الحكم فلا يمكن بعثه الى الفعل المتخصص بها كما لا يخفى.

[مفهوم الاستثناء]

ومن جملة ما يستفاد منه الحصر الجملة الملحوقة باداة الاستثناء ، ولا شبهة في انها تدل على اختصاص الحكم بالمستثنى منه وثبوت نقيضه للمستثنى ، ولذا

__________________

ـ عن ان المغيّى ليس سنخ الحكم من اى علة تحقق بل السنخ المعلول لعلّة خاصة ، سواء كانت مذكورة كما في ان جاء زيد فاجلس من الصبح الى الزوال ، ام كانت غير مذكورة ، فانه مع عدم الذكر أيضا تكون لا محالة هنا علّة يكون الحكم المذكور مسبّبا عنها (منه).

٢٠٥

يكون الاستثناء من الاثبات نفيا ومن النفى اثباتا ، وذلك للانسباق والتبادر القطعي.

ونسب الخلاف الى ابي حنيفة (١) ولعله يدعى ان الاستثناء لا يدل إلّا على ان المستثنى لا يكون مشمولا للحكم المنشأ في القضية ، واما ثبوت نقيضه له في الواقع فلا ، ويقرّب هذا المدعى القول بان الاسناد انما يكون بعد الاخراج ، اذ على هذا حاله حال التقييد ، وقد عرفت أنّ التقييد لا يدل إلّا على تضيق دائرة الموضوع في القضية ، وكيف كان يدل على خلاف ما ذهب اليه التبادر القطعى.

واحتج على مذهبه بقوله عليه‌السلام : «لا صلاة إلّا بطهور» (٢) اذ لو كان الاستثناء من النفى اثباتا للزم كفاية الطهور في صدق الصلاة وان كانت فاقدة لباقى الشرائط ، وفيه او لا ان الملحوظ في القضية هو المركب المشتمل على تمام ما اعتبر فيه سوى الطهور ونفيت حقيقة الصلاة او هي بقيد التمام عنه الا في مورد تحقق الطهور ، وثانيا على فرض التجوز في مثل التركيب المزبور لا يضرنا بعد شهادة الوجدان القطعي على ما ادعينا.

ومما استدل به على ما ذكرنا من المعنى قبول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اسلام من قال كلمة لا إله إلّا الله ، اذ لو لم يدل الاستثناء من النفي على الاثبات في المستثنى لما كانت هذه الكلمة بمدلولها دالة على الاعتراف بوجود البارى عزّ شأنه ، والقول بان هذه الدلالة في كل مورد كانت مستندة الى قرينة خاصة بعيد غاية البعد ، بل المقطوع خلافه ، كالقطع بخلاف ان هذه الكلمة

__________________

(١) لا يخفى ان هنا مقامين : احدهما ان كلمة الا هل تدل على الاخراج واثبات نقيض حكم المستثنى منه للمستثنى او لا؟ والثاني بعد تسليم دلالتها على الاخراج هل تدل على الحصر حتى يكون منشأ لاخذ المفهوم بالنسبة الى غير المستثنى من سائر الافراد او لا؟ وابو حنيفة انما خالف في المقام الاول ، فعده من المخالفين في استفادة الحصر لا وجه له «منه».

(٢) الوسائل ، الباب ١ من ابواب الوضوء ، الحديث ١ ج ١ ، ص ٢٥٦.

٢٠٦

كانت سببا لقبول الاسلام شرعا مع قطع النظر عن مدلولها ، هذا ، وهذا الاستدلال وان كان حسنا لكن لا يحتاج اليه بعد كون المعنى الذي ذكرنا متبادرا قطعيا من القضية.

وهنا اشكال آخر معروف ، وهو ان الخبر المقدر للفظة «لا» النافية للجنس ، اما موجود ، واما ممكن ، وعلى اى حال لا يدل الاستثناء على التوحيد الذي هو عبارة عن الاعتقاد بوجود البارى ونفى امكان الشريك له «عزّ شأنه» فانه ، على الاول الاستثناء يدل على حصر وجود الآلهة في البارى جل وعلا ، ولا يدل على نفى امكان الشريك له جل شأنه ، وعلى الثاني يدل على اثبات الامكان لوجوده تعالى شانه ، لا على وجوده تعالى ، ولا يدفع هذا الاشكال جعل «لا» تامة غير محتاجة الى الخبر ، فانه على هذا ايضا تدل القضية على نفى الآلهة واثبات البارى جل اسمه ، ولا تدل على عدم امكان غيره.

ويمكن ان يجاب بان المراد بالاله المنفى هو خالق تمام الموجودات وبعد نفى هذا المعنى مطلقا واثباته في الذات المقدسة يلزم ان يكون كل موجود سواه جل جلاله مخلوقا له ، ولا يمكن مع كونه مخلوقا ان يكون خالقا ، فحصر وجود الإله في البارى جل وعلا يدل بالالتزام البين على عدم امكان غيره تعالى ، فافهم.

بقى هنا شيء ، وهو ان الدلالة التى اشرنا اليها هل هي داخلة في المنطوق او المفهوم ، وهذا وان كان خاليا عن الفائدة اذ ليسا بعنوانهما موردا لحكم من الاحكام إلّا انه لا باس بذكر ذلك.

فنقول : قولنا اكرم العلماء الا زيدا يشتمل على عقد ايجابي وسلبى ، ودلالة العقد الايجابي بعد خروج زيد على وجوب اكرام باقي العلماء دلالة المنطوق ، ودلالة العقد السلبى على اثبات نقيض ذلك الحكم في المستثنى دلالة المفهوم ، اذ هى لازمة لخروج المستثنى عن تحت الحكم المتعلق بالمستثنى منه ، كما ان دلالته على حصر مورد وجوب الاكرام في الباقي وحصر مورد نقيضه في المستثنى ايضا داخلة في المفهوم ، فان ذلك كله لازم المعنى المستفاد من أداة الاستثناء

٢٠٧

بالمطابقة ، وهو خروج المستثنى عن تحت الحكم السابق على وجه الحصر ، وان جعلنا كلمة «الا زيدا» قرينة على ارادة وجوب اكرام الباقي على وجه الحصر من العقد الايجابي فتكون دلالة العقد الايجابي للقضية على حصر مورد وجوب الاكرام في الباقي داخلة في المنطوق ، ودلالته على ثبوت نقيضه للمستثنى داخلة في المفهوم المستفاد من حصر وجوب الاكرام في غيره ، ويحتمل بعيدا ان يكون الحصر مستفادا من تركيب العقد الايجابي مع السلبى ، بمعنى ان حصر مورد وجوب الاكرام في الباقي يستفاد من نفى وجوب اكرام زيد المستفاد من الاستثناء ، وكذا حصر مورد نفى الوجوب في زيد يستفاد من وجوب اكرام باقى العلماء المستفاد من قوله اكرم كل عالم فتدبر.

ومن جملة ما ذكروه في عداد ما يفيد الحصر كلمة انما ، وقد ارسله النحاة ارسال المسلم في كلماتهم وقالوا ان ذلك اعنى افادته الحصر جوّز انفصال الضمير في مثل قول الفرزدق.

انا الذائد الحامى الذمار وانما

يدافع عن احسابهم انا او مثلى

كما جاز في قولنا ، ما يدافع عن احسابهم الا انا او مثلى ، ونقل تصريح اهل اللغة ايضا بافادته الحصر.

والانصاف كما اعترف به في التقريرات عدم حصول الجزم بذلك : اما اولا فلعدم وجود ما يرادفه في عرفنا حتى نستكشف الحال منه بمراجعة الوجدان ، واما ثانيا فنحن متى راجعنا مواقع استعمال هذه الكلمة في كلمات الفصحاء لم نجد موضعا الا ويمكن المناقشة في استفادة الحصر من هذه الكلمة ، لاجل قيام القرينة المقامية على الحصر او غيرها ؛ من تقديم ما حقه التاخير او غير ذلك بحيث لو حذف لفظة انما عن الكلام لدلت القرائن على الحصر ايضا ، ولذا يستفاد الحصر من قولنا : «يدافع عن احسابهم انا او مثلى» بقرينة عطف او مثلى ، وهذا هو المجوز لانفصال الضمير ، ألا ترى انه لو فرض مورد خال عن جميع

٢٠٨

تلك القرائن كما في قولك : «انما زيد قائم» لا يفهم منه الحصر ، وانما المستفاد هو التأكيد ، واما ارساله في كلمات النحاة من المسلّمات وكذا تصريح اهل اللغة فلا يجدي شيء منهما في افادة القطع ، خصوصا مع ذكر التعليلات العليلة في كلامهم ، نعم الذي يمكن الجزم به ان مفاد تلك الجملة المصدرة بانما حصرا كان او غيره يصير آكد بواسطة تصديرها بهذه اللفظة ، واين هذا من افادة الحصر؟ (١)

__________________

(١) البحث عن كلمة «انّما» مما زيد في الطبعة الثالثة ، وهو بعينه موجود في تعليقات المؤلف «قدس‌سره» الموجودة عند آية الله العظمى الاراكى مدّ ظله العالى بعنوان انه زيد في المتن. «المصحح».

٢٠٩

المقصد الخامس : في العام والخاص

اعلم ان العموم قد يستفاد من جهة وضع اللفظ كلفظ الكل وما يرادفه ، وقد يستفاد من القضية عقلا كالنكرة الواقعة في سياق النفى او اسم الجنس الواقع في سياق النفى ، حيث ان نفى الطبيعة مستلزم لنفى افرادها عقلا ، وقد يستفاد من جهة الاطلاق مع وجود مقدماته كالنكرة في سياق الاثبات او اسم الجنس كذلك ، والعموم المستفاد من الاطلاق قد يكون بدليا ، وقد يكون استغراقيا حسب اختلاف المقامات.

اشكال ودفع

اما الاشكال : فهو انه ليس لنا لفظ يدل على العموم بحيث يستغنى عن التشبث بمقدمات الحكمة ، فان الالفاظ الدالة على العموم كلفظة الكل وامثالها تابعة لمدخولها ، فان اخذ مطلقا فالكل يدل على تمام افراد المطلق ، وان اخذ مقيدا فهو يدل على تمام افراد المقيد ، والمفروض ان مدخول الكل ليس موضوعا للمعنى المطلق كما انه ليس موضوعا للمعنى المقيد ، بل هو موضوع للطبيعة المهملة الغير الآبية عن الاطلاق والتقييد ، فحينئذ قول المتكلم «كل عالم» لا يدل على تمام افراد العالم إلّا اذا احرز كون العالم الذي دخل عليه لفظ الكل مطلقا ومع عدم احرازه يمكن ان يكون المدخول هو العالم العادل مثلا فيكون لفظ الكل دالا على تمام افراد ذلك المقيد ، ولذا لو صرح بهذا القيد لم يكن تجوزا اصلا ، لا في لفظ العالم ولا في لفظ الكل ، وهو واضح ، واما النكرة في سياق النفى وما في

٢١٠

حكمها فلا يقتضى وضع اللفظ الا نفى الطبيعة المهملة ، وهي تجامع مع المقيدة كما انها تجامع مع المطلقة ، والمحرز لكون الطبيعة المدخولة للنفى هى المطلقة لا المقيدة ليس إلّا مقدمات الحكمة ، كما ان المحرز لكون الطبيعة المدخولة للفظ الكل مطلقة ليس إلّا تلك المقدمات ، اذ بدونها يردد الامر بين ان يكون النفى واردا على المطلق وان يكون واردا على المقيد.

واما الدفع : فهو ان الظاهر من جعل مفهوم موردا للنفى او اللفظ الدال على العموم كون ذلك المفهوم بنفسه موردا لاحدهما ، لا انه اخذ معرفا لما يكون هو المورد ، ولا اشكال في ان ورود الكل على نفس مفهوم لفظ العالم مثلا يقتضى استيعاب تمام الافراد ، كما انه لا اشكال في ان ورود النفى عليه يقتضى نفى تمام الافراد.

نعم يمكن كون الرجل في قولنا «لا رجل في الدار» معرفا لفرد خاص منه ويكون النفى واردا عليه ، ولكن هذا خلاف ظاهر القضية ، فان الظاهر ان مفهوم لفظ الرجل بنفسه مورد للنفى ، ولا يرد انه بناء على هذا الظهور يلزم عدم الاحتياج الى مقدمات الحكمة في الحكم الايجابي أيضا.

توضيح الاشكال ان ظاهر القضية الحاكية لتعلق الايجاب بالطبيعة انها بنفسها مورد للحكم لا بما هى معرفة لصنف خاص منها ، لعين ما ذكر في القضية المنفية ، ولازم تعلق الحكم بالطبيعة بنفسها سريانه في كل فرد ، فلا يحتاج فهم العموم من القضية الى مقدمات الحكمة ، وبيان دفعه ان المهملة تصدق على وجود خاص حقيقة فان كان الثابت في نفس الامر الحكم المتعلق بوجود خاص منها يصح نسبة الحكم اليها حقيقة ، فاسراء الحكم الى تمام الافراد لا يقتضيه وضع اللفظ ، بل يحتاج الى المقدمات ، وهذا بخلاف النفى المتعلق بالطبيعة المهملة ، فانه لا يصح إلّا اذا لم تكن متحققة اصلا ، اذ لو صح نفى الطبيعة مع وجود فرد خاص منها لزم اجتماع النقيضين.

ومحصل الكلام انه لا شك في ان قولنا كل رجل وقولنا لا رجل يفيدان

٢١١

العموم من دون احتياج الى مقدمات الحكمة (١) والسر في ذلك ما قلنا ، ولو لا ذلك لما دل قولنا «اكرم العالم مطلقا» ايضا على الاطلاق اذ الاطلاق ايضا امر وارد على مفهوم لفظ العالم ، والمفروض انه مهملة يجتمع مع المقيد ، ولذا لو قال : «اكرم العالم العادل مطلقا» لم يكن تجوزا قط ، كما ذكرنا في تقرير الشبهة في مدخول لفظ الكل والنفي ، ولا شبهة في ان العرف والعقلاء لا يقفون عند سماع هذا الكلام ولا يطلبون مقدمات الحكمة في مفهوم لفظ العالم الذي ورد الاطلاق عليه ، ولعل هذا من شدة وضوحه خفى على بعض الاساتيذ ، فتدبر فيما ذكرنا.

[حجية العام المخصص في الباقي]

فصل : لا شبهة ان العالم المخصص سواء كان بالتخصيص المتصل ام المنفصل حجة في الباقي ، وان كان قد يفرق بينهما من بعض جهات أخر كما يأتى ان شاء الله تعالى.

والدليل على ذلك ان التخصيص لا يستلزم التجوز في العموم حتى يبحث في انه بعد رفع اليد عن معناه الحقيقى هل الباقى اقرب المجازات او هو متساو مع سائر المراتب الى ان تنتهى الى مرتبة لا يجوز التخصيص اليها ، لانّ التخصيص ان كان متصلا فان كان من قبيل القيود والاوصاف فهو تضييق لدائرة الموضوع ، وان كان من قبيل الاستثناء فهو اما اخراج عن الموضوع قبل الحكم واما اخراج عن الحكم فيستكشف ان شمول العام له من باب التوطئة والارادة الصورية الانشائية لا الجديّة ، وعلى كل حال ليس حمل العام على باقى الافراد تجوزا فيه ، بل ظهوره انعقد واستقر في الباقي من اول الامر ، وان كان التخصيص منفصلا

__________________

(١) والحاصل انه فرق بين ان يكون المدخول مجملا مرددا بين المطلق والمقيد فيحتاج الى المقدمات ، او مهملا جامعا فيكفى لفظة الكل في تعيين الاطلاق «منه».

٢١٢

فالظاهر انه يكشف عن عدم كون الخاص مرادا في اللب مع استعمال لفظ العام في عمومه في مرحلة الاستعمال باحد الوجهين الذين ذكرا في المتصل ، ولا يخفى ان هذا الظهور الذي يتمسك به لحمل العام على الباقي ليس راجعا الى تعيين المراد من اللفظ في مرحلة الاستعمال ، بل هو راجع الى تعيين الموضوع للحكم جدّا ، فان جعلنا المخصص كاشفا عن عدم كون الخاص موضوعا للحكم في القضية فنقول : مقتضى الاصل العقلائى كون المعنى الذي القى الى المخاطب موردا للحكم في القضية بتمامه ، واذا علمنا عدم دخول جزء منه تحت الحكم فمقتضى الاصل دخول الباقى ، وان جعلناه كاشفا عن عدم كونه موردا للحكم الجدى بعد شمول الحكم الانشائى المجعول في القضية له فنقول مقتضى الاصل كون الارادة المنشأة في القضية مطابقة مع اللب ، وخرج عن تحت هذا الاصل الارادة المنشأة في القضية المتعلقة بالخاص فبقى الباقى ، هذا

لكن لا يخفى ان هذا انما يجرى في العام الاستغراقى حيث انه ينحل الى ارادات عديدة متعلقة بموضوعات كذلك فخروج واحدة منها عن تحت الاصل المذكور لا يضر بالباقي ، واما المجموعى حيث ان الارادة فيه واحدة فينحصر وجه حمله على الباقى بعد خروج البعض في الاول فتدبر فيه.

احتج النافي لحجية العام في الباقي بالاجمال ، لتعدد المجازات حسب مراتب العام وتعيين مرتبة خاصة تعيين بلا معين ، وقد اجيب بان الباقي اقرب المجازات ، وفيه ان المدار ليس على الاقربية بحسب الكم والمقدار (١) بل المعيار الاقربية بحسب زيادة الانس الناشئة عن المناسبة الخاصة بين المعنيين.

__________________

(١) والانصاف ان الاقربية بحسب الكم موجبة لزيادة الانس ، ألا ترى انه قد تصل زيادة الخارج الى حد موجب للاستهجان.

ان قلت : هذا في العام المجموعي صحيح دون الاستغراقى.

قلت : الاستغراقي ايضا متحد مع المجموعى في اصل المعنى ، فيجىء فيه ايضا ما قلناه في المجموعىّ «منه».

٢١٣

وفي تقريرات شيخنا المرتضى «قدس‌سره» ما محصله ان دلالة العام على كل فرد غير منوطة بدلالته على الآخر ، ولو فرض كون دلالة العام على الباقي دلالة مجازية فمجازيته انما هي بملاحظة عدم شموله للافراد المخصوصة لا لشموله لباقى الافراد ، فالمقتضى لحمله على الباقي موجود والمانع مفقود لاختصاص المخصص بغيره انتهى ملخص كلامه «قدس‌سره» (١)

ولا يخفى ما فيه اذ الدلالة المستفادة من القضية المشتملة على لفظ الكل مثلا على كل فرد انما هي من جهة السور المحيط بتمام الافراد الدال عليه لفظ الكل حقيقة ، وبعد فرض صرف اللفظ عن هذا المعنى واستعماله في معنى آخر لا يعلم ان ذلك المعنى المجازي هل هو معنى محيط بالباقي او الاقل ، وبعبارة اخرى ليس كل فرد مستقلا مدلولا ابتدائيا للفظ الكل حتى يكون له مداليل متعددة فيجب حفظ ما لم يعلم خلافه ، بل الانتقال الى كل فرد مستقلا انما هو ببركة ذلك المعنى الواحد الذي جعل مرآة لملاحظة حال الافراد ، وبعد رفع اليد عن هذا المعنى من اين لنا طريق الى ثبوت الباقي ، والاولى في الجواب ما قررنا.

[التمسّك بالعامّ في الموارد المشتبهة]

فصل : إذا خصص العام بمخصص وكان مرددا بين المتباينين يسقط عن الاعتبار في كليهما ، سواء كان المخصص متصلا ام منفصلا ، وسواء كان الترديد من جهة الشبهة في المفهوم ام في المصداق.

واما اذا خصص بشيء مردد بين الاقل والاكثر ، فان كان من جهة الشبهة في المصداق فسيأتى الكلام فيه ، وان كان من جهة الشبهة في المفهوم فلا اشكال في سراية اجماله الى العام لو كان المخصص متصلا ، لان المجموع كلام واحد ، ولا يتم ظهوره الا بعد تماميته وخلوه عن الصارف اما بالقطع واما باصالة عدمه ،

__________________

(١) مطارح الأنظار ، الهداية الاولى بحث العموم والخصوص ، ص ١٩٦.

٢١٤

وليس احدهما في المقام ، اما الاول فواضح واما الثاني فلعدم بناء العقلاء على التشبث بها بعد وجود ما يصلح لان يكون صارفا.

واما اذا كان منفصلا فقد استقر بناء مشايخنا على التمسك بالعموم في الفرد المشكوك انطباق عنوان المخصص عليه ، واستدلوا على ذلك بان العموم قد تم واستقر ظهوره في كل فرد اما بالقطع بعدم المخصص المتصل ، واما بواسطة الاصل ، حيث انه شك في اصل وجوده ، فهو حجة في نفسه ، ولا يرفع اليد عنها إلّا بحجة اخرى اقوى منها ، والمخصص المجمل المردد بين الاقل والاكثر بحسب المفهوم ليس حجة إلّا في القدر المتيقن ، وفي هذا المقدار يرفع اليد عن ظهور العام قطعا ، واما الزائد فليس المخصص حجة فيه ، فرفع اليد عن العموم فيه طرح للحجة المستقرة من دون معارض.

وفيه نظر لامكان ان يقال : انه بعد ما صارت عادة المتكلم جارية على ذكر التخصيص منفصلا عن كلامه فحال المخصص المنفصل في كلامه حال المتصل في كلام غيره ، فكما انه يحتاج في التمسك بعموم كلام سائر المتكلمين الى احراز عدم المخصص المتصل اما بالقطع واما بالاصل ، كذلك يحتاج في التمسك بعموم كلام المتكلم المفروض الى احراز عدم المخصص المنفصل ايضا ، فاذا احتاج العمل بالعام الى احراز عدم التخصيص بالمنفصل فاللازم الاجمال فيما نحن فيه ، لعدم احراز عدمه ، لا بالقطع ولا بالاصل ، اما الاول فواضح ، واما الثاني فلما مضى من ان جريانه مخصوص بمورد لم يوجد ما يصلح لان يكون مخصصا ، والمسألة محتاجة الى التامل (١).

__________________

(١) والانصاف خلاف ما ذكرنا ووجهه انه لو صح ما ذكر لما جاز تمسك اصحاب الائمة عليهم‌السلام بكلام امام زمانهم ، لانه كالتمسك بصدر كلام متكلم قبل مجىء ذيله ، فحيث جرى ديدنهم على التمسك دل ذلك على استقرار ظهور الكلام وعدم كونه مع كلام الامام اللاحق كصدر الكلام الواحد الصادر في المجلس الواحد مع ذيله ، غاية الامر لو فرض

٢١٥

ولو كان المخصص مجملا بحسب المصداق بان اشتبه فرد وتردد بين ان يكون فردا للعنوان الخاص او باقيا تحت عموم العام فلا اشكال في عدم جواز التمسك بالعام فيما اذا كان المخصص متصلا بالكلام ، لعدم انعقاد ظهور العام من اول الامر الا في غير مورد العنوان الخاص.

واما اذا كان المخصص منفصلا فقد يتوهم جواز التمسك به فيما شك انطباق العنوان الخاص عليه بعد انطباق العنوان العام عليه قطعا ، وغاية ما يمكن ان يقال في تقريب ذلك ان قول القائل اكرم العلماء يدل بعمومه الافرادي على وجوب اكرام كل واحد من العلماء ، وباطلاقه على سراية الحكم الى كل حالة من الحالات التى تفرض للموضوع ، ومن جملة حالاته كونه مشكوك الفسق والعدالة ، كما انه من جملة حالاته كونه معلوم العدالة او معلوم الفسق ، وبقوله لا تكرم الفساق من العلماء قد علم خروج معلوم الفسق منهم ، ولا يعلم خروج الباقى فمقتضى اصالة العموم والاطلاق بقاء المشكوك تحت الحكم.

لا يقال : ان قوله لا تكرم الفساق من العلماء قد اخرج الفاسق الواقعى من الحكم لا الفاسق المعلوم ، فالفرد المردد لو صدق عليه عنوان الخاص محكوم بحكمه واقعا ، فكيف يجتمع هذا الحكم مع الحكم الذي أتى من قبل العام.

لانا نقول : حال الحكم الواقعي المفروض مع الحكم الذي أتى من قبل العام حال الاحكام الواقعية مع الاحكام المتعلقة بالشيء في حال الشك ، فالكلام في المقام هو الكلام فيها اشكالا ودفعا.

وفيه ان الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي انما هو من جهة ان الشك في احدهما ماخوذ في موضوع الحكم الآخر (١) ، وليس شمول العام للفرد حال كونه

__________________

ـ صدور الحكم المخالف من الامام اللاحق كشف ذلك عن كون مؤدى العام السابق حكما ظاهريا بالنسبة الى اهل ذلك الزمان اعنى ما قبل صدور الخاص «منه».

(١) ان قلت : هذا على تقدير القول بطوليّة الحكم الظاهري بالنسبة الى الواقعيّ واضح ـ

٢١٦

مشكوك العدالة والفسق بلحاظ كونه مشكوك الحكم ، لعدم امكان ملاحظة الشك في حكم المخصص موضوعا في الدليل المتكفل لجعل الحكم الواقعي ، للزوم ملاحظة حال الشك اطلاقا وقيدا ، وهما ملاحظتان متباينتان ، فحينئذ لا يمكن الجمع بين كون الفرد المشكوك الفسق واجب الاكرام ، ولو كان فاسقا في الواقع ، وبين عدم وجوب اكرام كل فاسق في الواقع كما هو مفاد المخصص ، فالفرد المشكوك لو كان عادلا يجب إكرامه بحكم العموم ولو كان فاسقا لا يجب بحكم المخصص وتعيين ان الفرد المذكور هل هو عادل او فاسق ليس على عهدة احد الدليلين ، بل قد يكون المتكلم بكلا الدليلين ايضا شاكا ، فلا معنى للتمسك باصالة العموم لتعيين مراده ، كما هو واضح.

وبعبارة اخرى بعد خروج الفساق في الواقع من قوله اكرم العلماء يبقى حجية العام بالنسبة الى العلماء الغير الفساق ، فكأنه ورد من اول الامر كذلك ، فكما انه لو ورد من اول الامر مقيدا بعدم الفسق اذا شككنا في عدالة فرد من العلماء وفسقه لم يكن للتمسك بالعموم مجال كذلك لو ورد المخصص بعد صدور العام بصورة العموم.

نعم لو ظهر من حال المتكلم (١) ان تكلمه بالعموم مبنى على الفحص عن

__________________

الورود ، واما على القول بشأنية الواقعي فلا ، لامكان ان يكون الحكم في بعض افراد العام بملاك الشك وفي الآخر بملاك آخر.

قلت : بعد ورود لا تكرم الفساق يصير العام في حكم اكرم العلماء الغير الفساق ، وكما لا يجوز التمسك حينئذ بعمومه الفردى في الفرد المشكوك الفسق كذلك لا يجوز باطلاقه ، لان انعقاد الظهور الاطلاقى متفرع على حجيّة العام في العموم الافرادي «منه».

(١) بل ولو لم يظهر وكان محتملا ، فان معيار صحة الرجوع الى كلام المتكلم صحة السؤال عن نفسه بما هو متكلم ، ومع الاحتمال يصح السؤال ، فيصح الرجوع.

لا يقال : ينافي هذا مع القول بان المخصص المنفصل سواء كان لفظيا ام لبيا يوجب كالمتصل تقييد عنوان العام في مقام الحجية بحسب الكبرى ، ومن المعلوم ان الشك في مرحلة

٢١٧

حال افراده ووضوح انه ليس من بينها ما ينطبق عليه عنوان الخاص ، صح التمسك بالعموم واستكشاف ان الفرد المشكوك ليس داخلا في الخاص ، وهذا في المخصصات اللبية غالبا ، وقد يتحقق في اللفظية ايضا ، لكن بشرط كون النسبة بين الدليلين عموما من وجه ، نظير الدليل على جواز لعن بنى امية والادلة الدالة على حرمة سب المؤمن ، واما اذا كان المخصص الاخص مطلقا فلا مجال لما ذكرنا قطعا ، ضرورة انه لو كان حال افراد العام مكشوفة لدى المتكلم وانه لا ينطبق على احد منها عنوان المخصص لكان التكلم بالدليل الخاص لغوا.

وممّا ذكرنا يظهر انه ليس المعيار في عدم جواز التمسك كون المخصص لفظيا ، كما انه ليس المعيار في الجواز كونه لبيا ، بل المعيار ما ذكر ، فتامل فيه.

[استصحاب العدم الازلى]

تنبيه : بعد ما عرفت سقوط العام عن الاعتبار فيما شك في انطباق عنوان

__________________

ـ الصغرى لا يرجع فيه الى عموم الكبرى.

لانا نقول : انما نسلم ذلك في القيد المنفصل مع القطع بعدم ابتناء عموم الكبرى على الفحص عن الصغريات ، واما مع الانفصال والاحتمال فلا نسلم التقييد في العام بحسب الكبرى ، لكن هل هذه المرجعيّة باقية بعد وجدان الخلاف في مورد فيما عداه من الموارد اوانها ترتفع بعد ذلك اذ ينكشف بذلك عدم فحص المتكلم وقد كان مبنى الحجية احتمال الفحص؟ الحق ان يقال ، قد يكون حجيّة العموم في المصداق المشتبه من باب احتمال فحص المتكلم ثم تكلمه مبنيا على ذلك بالعموم ، وهذا لا يتحقق إلّا في القضايا الخارجيّة دون الحقيقية ، فاللازم السقوط بواسطة وجدان اتصاف بعض الافراد ، وقد يكون الحجية من باب احتمال طريقية عنوان العام وكشفه النوعى عن حال الافراد في نظر المتكلم وسوقه العموم مبنيا على هذه الجهة ، وهذا يتحقق في كلتا القضيتين ، كما في «لعن الله بنى امية قاطبة» حيث يحتمل أن سوق هذا العموم مبنى على غلبة كون الانتساب الى هذه الشجرة ملازما مع عدم ايمان صاحبه في نظر المتكلم ، فاللازم البقاء على الحجية لان العام حينئذ من الطرق الظاهرية التي شانها الخطاء تارة والاصابة اخرى «منه».

٢١٨

المخصص من جهة الشبهة في المصداق فالمرجع في الفرد المشكوك فيه الى الاصل المنقح للموضوع لو كان ، وإلّا احدى القواعد الأخر من البراءة او الاحتياط او التخيير حسب اختلاف المقامات ، وهذا لا اشكال فيه ، كما انه لا اشكال في انه لو كان له حالة سابقة مع حفظ وجوده وشك في بقائها يحكم بواسطة الاستصحاب بكونه محكوما بحكم العام او الخاص.

وانما الكلام في انه لو لم يكن له حالة سابقة مع حفظ وجوده فهل يكفى استصحاب العدم الازلى المتحقق بعدم الموضوع في جعله محكوما بحكم العام او لا؟ مثلا اذا شك في امراة انها قرشية اولا فهل يصح استصحاب عدم قرشيتها والحكم بان الدم الذي تراه بعد الخمسين محكوم بالاستحاضة اولا؟ قد يقال بالصحة ، نظرا الى ان الباقى تحت العام لم يكن معنونا بعنوان خاص ، بل يكفى فيه عدم تحقق العنوان الخاصّ ، وعدم الوصف لا يحتاج الى الموضوع الخارجي ، ولذا قالوا : ان السالبة لا تحتاج الى وجود الموضوع بخلاف الموجبة ، فالمرأة الموجودة لم تكن بقرشية قطعا ، فان النسبة بينها وبين قريش تتوقف على تحقق الطرفين ، وعلى هذا كان احراز المشتبه بالاصل الموضوعي في غالب الموارد الا ما شذ ممكنا.

وفيه ان الاثر الشرعي لو كان مترتبا على عدم تحقق النسبة ، او على عدم وجود الذات المتصفة ، او على عدم الوصف للذات مع تجريدها عن ملاحظة الوجود والعدم لصح الاستصحاب ، لتحقق الموضوع المعتبر في باب الاستصحاب ، واما لو كان الاثر مترتبا على عدم الوصف للموضوع مع عناية الوجود الخارجي فلا يمكن الاستصحاب الا بعد العلم بان الموضوع مع كونه موجودا في السابق لم يكن متصفا بذلك الوصف ، واستصحاب عدم النسبة الى حين وجود الموضوع او استصحاب عدم تحقق الموضوع المتصف كذلك او استصحاب عدم الوصف للذات مع عدم ملاحظة الوجود والعدم كذلك لا يثمر في اثبات السالبة التي فرضناها موضوعة للاثر إلّا بالاصل المثبت ولا يبعد كون

٢١٩

المثال من قبيل الاول (١).

تذنيبات

الأوّل : لو اخذ في موضوع حكم رجحانه واستحبابه او جوازه من حيث هو كموضوع وجوب الوفاء بالنذر وكاطاعة الوالدين وامثال ذلك فلا بد في الاستدلال بدليل ذلك الحكم من اثبات رجحان ذلك الموضوع او جوازه ، ولا يمكن ان يستكشف ذلك من عموم الدليل المذكور ، فان التمسك بالعام يتوقف على احراز موضوعه ، وهذا واضح ، لكنه نسب الى بعض التمسك بعموم دليل وجوب الوفاء بالنذر للحكم بصحة الوضوء والغسل المنذورين بمائع مضاف لو شك في صحته وبطلانه ، وربما يؤيد ذلك ما ورد من صحة الاحرام قبل الميقات والصيام في السفر اذا تعلق بهما النذر ، ويؤيده ايضا حكمهم بصحة النافلة في وقت الفريضة اذا تعلق بها النذر.

والحق انه لا يجوز التمسك بالعام فيما شك من غير جهة تخصيصه ، والوضوء والغسل بالمائع المضاف لو كانا باطلين لم يلزم تخصيص في دليل النذر ، فكيف يستكشف صحتهما من عموم دليل النذر ، واما صحة الصوم في السفر بعد النذر والاحرام قبل الميقات كذلك بعد وجود الدليل على ذلك فبالجمع بين الدليل

__________________

(١) توضيح ذلك انه قد يستظهر من مناسبة الحكم والموضوع في بعض المقامات ان التأثير والفاعلية ثابت للموضوع المفروغ عن وجوده عند اتصافه بوصف ، كما في قضيّة «اذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شيء» ولهذا لا يجدى استصحاب عدم الكرية من الازل ، وقد يستظهر من المناسبة المذكورة ان التأثير ثابت لنفس الوصف ، والموضوع المفروغ عن وجوده انما اعتبر لتقوم الوصف به كما في قوله عليه‌السلام : «المرأة ترى الدم الى خمسين إلّا ان تكون قرشية» حيث ان حيضية الدم الى ستين انما هي من خاصيّة التولد من قريش ، لا ان المرأة لها هذه الخاصية بشرط التولد ، فانتفاء هذا الوصف موجب لنقيض الحكم ولو كان بعدم الموضوع ، ولهذا يكون استصحاب العدم الازلى نافعا «منه».

٢٢٠