درر الفوائد - ج ١ و ٢

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي

درر الفوائد - ج ١ و ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٥

والحق ان يقال : ان بنينا على كون الخروج مقدمة لترك الغصب الزائد فالاقوى هو القول الثاني ، سواء قلنا بجواز اجتماع الامر والنهى ام لم نقل به ، وان لم نقل بمقدمية الخروج بل قلنا بصرف الملازمة بين ترك الغصب الزائد والخروج كما هو الحق ـ وقد مر برهانه في مبحث الضد ـ فالاقوى انه ليس مامورا به ولا منهيا عنه فعلا ، ولكن يجرى عليه حكم المعصية.

لنا على الاول : انه قبل الدخول ليس للخروج عنوان المقدمية ، ضرورة امكان ترك الغصب بانحائه ولا يتوقف ترك شيء منه على الخروج ، فيتعلق النهى بجميع مراتب الغصب من الدخول في الارض المغصوبة والبقاء والخروج ، لكونه قادرا على جميعها ، ولكنه بعد الدخول فيها يضطر الى ارتكاب الغصب مقدار الخروج ، فيسقط النهي عنه بهذا المقدار ، لكونه غير قادر فعلا على تركه ، والتكليف الفعلى قبيح بالنسبة اليه ، وهذا واضح ، ولكنه يعاقب عليه لكونه وقع هذا الغصب بسوء اختياره ، ولما توقف عليه بعد الدخول ترك الغصب الزائد كما هو المفروض ، وهذا الترك واجب بالفرض لكونه قادرا عليه ، فيتعلق به الوجوب بحكم العقل الحاكم بالملازمة بين وجوب ذي المقدمة ووجوب مقدمته ، فالخروج عن الدار المغصوبة منهى عنه قبل الدخول ، ولذا يعاقب عليه ، ومأمور به بعد الدخول ، لكونه بعده مقدمة للواجب المنجز الفعلي.

فان قلت : ما ذكرت انما يناسب القول : بكفاية تعدد الجهة في الامر والنهي ، واما على القول : بعدمها فلا يصح ، لان هذا الموجود الشخصى اعنى الحركة الخروجية مبغوض فعلا وان سقط عنها النهى لمكان الاضطرار ، وكما ان الامر والنهى لا يجتمعان في محل واحد كذلك الحب والبغض الفعليان ، ضرورة كونهما متضادين كالامر والنهى.

قلت : اجتماع البغض الذاتي مع الحب الفعلي مما لا ينكر ، ألا ترى انه لو عرقت بنتك او زوجتك ولم تقدر على انقاذهما ترضى بان ينقذهما الاجنبي وتريد هذا الفعل منه مع كمال كراهتك اياه لذاته.

١٦١

فان قلت : الكراهة في المثال الذي ذكرته ليست فعلية ، بخلاف المقام ، فان المفروض فعليتها ، فلا يجتمع مع الارادة.

قلت : ليت شعرى ما المراد بعدم فعلية الكراهة في المثال وفعليتها في المقام؟ ان كان المراد انه لا يشق عليه هذا الفعل الصادر من الاجنبى ، بل حاله حال الصورة التى يصدر هذا الفعل من نفسه ، بخلاف المقام فان الفعل يقع مبغوضا للآمر ، فالوجدان شاهد على خلافه ، ولا اظن احدا تخيله. وان اراد به أن الفعل وان كان يقع في المثال مبغوضا ومكروها للشخص المفروض إلّا ان هذا البغض لا اثر له ، بمعنى انه لا يحدث في نفس الشخص المفروض ارادة ترك الفعل المذكور لان تركه ينجر الى هلاك النفس ، ومن هذه الجهة هذا البغض المفروض لا ينافي ارادة الفعل ، فهو صحيح ، ولكنه يجرى بعينه في المقام ، فان الحركة الخروجية وان كانت مبغوضة حين الوقوع لكن هذا البغض لما لم يكن منشأ للاثر وموجبا لزجر الآمر عنها فلا ينافي ارادة فعلها ، لكونه فعلا مقدمة للواجب الفعلى.

ومحصل ما ذكرنا في المقام أن القائل بامتناع اجتماع الامر والنهى انما يقول بامتناع اجتماعهما واجتماع ملاكيهما اذا كان كل واحد من الملاكين منشأ للاثر وموجبا لاحداث الارادة في النفس ، واما اذا سقط جهة النهى عن الاثر كما هو المفروض فلا يعقل ان يتخيل ان الجهة الساقطة عن الاثر تزاحم الجهة الموجودة المؤثرة في الامر ، مثلا لو فرضنا ان المولى نهى عبده عن مطلق الكون في المكان الفلاني فاوقع نفسه في ذلك المكان بسوء اختياره ثم لم يمكنه الخروج من ذلك المكان ابدا فلا شك ان الاكوان الصادرة من العبد كلها تقع مبغوضة للمولى ، ويستحق عليها العقاب ، وان سقط عنها النهى لعدم تمكن العبد من الترك فعلا ، ثم انه لو فرضنا ان خياطة الثوب مطلوبة للمولى من حيث هى فهل تجد من نفسك ان تقول : لا يمكن للمولى ان يأمره بخياطة الثوب في ذلك المكان ، لان انحاء التصرفات والاكوان المتحققة في ذلك المكان مبغوضة

١٦٢

للمولى ، ومنها الخياطة ، فلا يمكن ان يتعلق ارادته بما يبغضه ، وهل ترضى ان تقول : ان المولى بعد عدم وصوله الى الغرض الذي كان له في ترك الكون في ذلك المكان يرفع يده من الغرض الآخر من دون مزاحم اصلا؟ وهل يرضى أحد أن يقول : انه في المثال المذكور يكون انحاء التصرفات في نظر المولى على حد سواء؟ وبالجملة اظن ان هذا من الوضوح بمكان بحيث لا ينبغي ان يشتبه على احد ، وان صدر خلافه عن بعض اساتيد العصر «دام بقائه» فلا تغفل.

والحاصل أن جهة النهى انما تزاحم جهة الامر اذا امكن للمكلّف بعث المكلّف الى ترك الفعل ، واما اذا لم يمكنه ذلك لكون الفعل صادرا قهرا من غير اختيار المكلف فلو وجدت فيه جهة الامر ولم يأمر به لزم رفع اليد عن مطلوبه وغرضه من دون جهة ومزاحم.

هذا اذا اخترنا اول شقى الترديد ، وهو كون الخروج مقدمة لترك الغصب الزائد.

وأما على ثانيهما : فعدم كون الخروج موردا للحكم الشرعي واضح ، لعدم كونه مقدمة للواجب حتى يصير واجبا ، كما هو المفروض ، وعدم قدرة المكلف على ترك الغصب بمقدار الخروج حتى يصير حراما ، ولكن لو طبق تلك الحركة الخروجية على عبادة كان يصلى في تلك الحالة نافلة بحيث لا يستلزم غصبا زائدا على المقدار المضطر اليه او يصلى المكتوبة كذلك في ضيق الوقت كانت تلك العبادة صحيحة ، لما ذكرنا من الوجه ، وهو عدم قابلية الجهة الغير المؤثرة في نفس المريد للمزاحمة مع الجهة المؤثرة.

فان قلت : هب صحة الامر التوصلى في امثال المقام ، ولكن نمنع صحة الامر التعبدي ، والسر في ذلك ان الغرض في الاوامر التوصلية وقوع الفعل في الخارج كيف ما كان ، لترتب الغرض عليه وان اتحد مع مبغوض آخر ، واما الغرض في التعبديات فليس ذلك ، بل الغرض وقوع العبادة على وجه يحصل به القرب ، ولا يحصل القرب بما هو مبغوض فعلا ، لانه موجب لاستحقاق العقوبة

١٦٣

والبعد عن ساحة المولى.

قلت : بعد وجود جهة القرب في الفعل كما هو المفروض وعدم مزاحمة شيء للامر كما عرفت لا وقع لهذا الاشكال ، لانه لا نعنى بالقرب المعتبر في العبادات الا صيرورة العبد بتلك العبادة ذا مرتبة لم تكن له على تقدير عدمها ، ولا اشكال في ان العبد بعد اضطراره الى مخالفة المولى بمقدار ساعة مثلا لو عمد الى اتيان مقصود آخر له يكون اقرب الى المولى بحكم العقل منه لو لم يفعل ذلك ، وهذا واضح جدا ، وعلى هذا نقول : لا منافاة بين كون هذا الفعل موجبا للبعد والعقوبة من جهة اختياره السابق ، وموجبا للقرب اذا طبقه على عبادة من العبادات ، بمعنى انه في الحال التي يقع منه هذا المقدار من الغصب قطعا لو طبقه على عبادة من العبادات التي فيها جهة حسن لكان احسن من ان يوجده مبغوضا صرفا وهذا المقدار من القرب يكفى في العبادة.

وبعبارة اخرى : لو فرضنا عبدين اوقعا نفسهما في المكان الغصبي بسوء اختيارهما فاضطرا الى ارتكاب الغصب بمقدار زمن الخروج ، فاوجد احدهما في حال الخروج عملا راجحا في حد ذاته طلبا لمرضاة الله دون الآخر ، فالعبدان مشتركان في استحقاق العقاب على الدخول في المكان الغصبي والخروج ، ويختص الاول بما ليس للثاني ، ولا نعنى بالقرب الا هذا المعنى (١).

__________________

(١) فان قلت : ما ذكرته من التقريب في حال الاضطرار جار بعينه في حال الاختيار ايضا ، بمعنى انا لو فرضنا عبدين مختارين في الغصب ولكن يختار احدهما طلبا لمرضاة الله تعالى فعل الصلاة دون الآخر فهما مشتركان في معصية الغصب ويختص احدهما بما ليس للآخر ، غاية الفرق بين الحالين انه في حال الاضطرار النهى ساقط فلا مانع من الامر ، وفي حال الاختيار إمّا نقول بوجود الامر مترتبا على عصيان النهى ان صححنا الترتب في مبحث الضد ، وإمّا نقول بكفاية الجهة ان لم نصححه هناك.

قلت : بعد ما فرضنا تعلق النهى بالفرد بتمام مشخصاته ـ كما هو مبنى القائل بالامتناع ـ فلا يبقى للامر مجال ، وهل هو إلّا اجتماع الضدين في محل واحد؟ واما وجود الجهة المحسنة فلا ـ

١٦٤

ومما ذكرنا يظهر ان الحكم بصحة العبادة المتحدة مع الحركات الخروجية لا يحتاج الى إحراز ان في تلك العبادة مصلحة راجحة على مفسدة الغصب ، وأنها اهم عند الشارع من ترك الغصب ، لان ملاحظة الاهم وتقديمه على غيره انما يكون فيما اذا كان كل منهما تحت اختيار العبد ، فيجب عليه اختيار الاهم وترك غيره ، وأما اذا لم يكن المكلف مختارا على ترك الغصب اصلا فلا يكون مجرد المفسدة الخالية عن الاثر مانعا للامر بعنوان آخر متحد مع فعل الغصب ، وان كان ترك الغصب اهم من فعل ذلك بمراتب ، فلا تغفل.

[العبادات المكروهة]

الامر الثاني : ومما استدل به المجوزون انه لو لم يجز لما وقع نظيره ، وقد وقع ،

__________________

ينفع شيئا بعد فرض قيامها بالاختيار السوء المؤثر في بعد العبد عن ساحة المولى ، ولا يمكن ان يصير العبد باختيار واحد مبعدا ومقربا.

والحاصل : أن الفرق بين الحالين عدم سقوط ملاك النهى عن التأثير فيه في احداهما وسقوطه في الاخرى بواسطة لابدية وقوع المتعلق ، ومجرد المبغوضية الساقطة عن الاثر لا تضاد الامر ، وإلّا لما اجتمعت مع الامر في المثال المذكور في المتن ايضا.

ان قلت : غائلة التضاد بين الامر والنهى لا ترتفع بمجرد كون النهى قبل الدخول والامر بعده ، لوحدة الموضوع وبقاء ملاك النهى ، وانما المجدي لرفع التضاد اختلاف زمان الموضوع ولو مع وحدة زمان الحكمين.

قلت : ان اريد امتناع تعلق الامر بذات الخروج من حيث هو مع قطع النظر عن جهة اخرى طارية فهو حق لا محيص عنه ، وان اريد امتناعه ولو بملاحظة الجهة الطارية ففيه منع واضح ، لان المبغوضية الساقطة عن الاثر لا تمنع عن الامر اذا وجد له جهة طارية.

ثم انا قد حققنا عدم مقدميّة فعل احد الضدين لترك الآخر ، وعليه فلا وجه لتوهم المقدمية في المقام ، ولو فرض الغض عن ذلك وسلمنا المقدمية فلا اشكال في ان الخروج ليس مقدمة مطلقة لترك الغصب الزائد ، وإلّا لزم تحصيله ولو بتحصيل مقدمته ، بل المقدّمية طارية عليه بعد الدخول ، وحينئذ فلا مانع من الامر المقدمى لكون هذه الجهة ايضا من الجهات الطارية «منه».

١٦٥

كما في العبادات المكروهة ، كالصلاة في الحمام ومواضع التهمة وامثال ما ذكر مما لا يحصى.

بيان الملازمة انه ليس المانع الا التضاد بين الوجوب والحرمة وعدم كفاية تعدد الجهة مع وحدة الوجود في الخارج ، وهو موجود بعينه في اجتماع الوجوب مع الكراهة واجتماع الوجوب مع الاستحباب ، اذ الاحكام متضادة باسرها ، والتالى باطل ، لوقوع الاجتماع في موارد كثيرة ، فيكشف عن بطلان المقدم وهو عدم جواز اجتماع الوجوب والحرمة.

واجيب عنه باجوبة كثيرة لا نطيل بذكرها.

والتحقيق في الجواب عن النقض بالعبادات المكروهة انها على ثلاثة اصناف :

احدها ما تعلق النهى بعنوان آخر يكون بينه وبين العبادة عموم من وجه كالصلاة في موارد التهمة بناء على ان يكون كراهتها من جهة النهى عن الكون فيها المجامع مع الصلاة.

والثاني ما تعلق النهى بتلك العبادة مع تقيدها بخصوصية وهو على قسمين :

احدهما ما يكون للفرد المكروه بدل كالصلاة في الحمام.

والثاني ما ليس كذلك كالصوم يوم العاشوراء والنوافل المبتدأة في بعض الاوقات.

اما القسم الاول : فمحصل الكلام فيه انه بعد دلالة الدليل على وجوب الصلاة من حيث هي ، اعنى مع قطع النظر عن اجتماعها في الوجود مع الحرام التعيينى او مع المكروه كذلك فكما ان اللازم بحكم العقل عدم فعلية الامر بالصلاة في صورة الاجتماع مع الحرام التعييني بناء على عدم جواز اجتماع الامر والنهى كذلك اللازم على هذا القول عدم فعلية وصف الكراهة في صورة الاجتماع مع العنوان المكروه ، والوجه في ذلك ان الحرمة التعيينية تقتضى عدم

١٦٦

وجود كل شخص من افراد الطبيعة المنهى عنها ، ومنها الفرد المجتمع مع عنوان الواجب ، والوجوب المتعلق بالطبيعة التى قد يتفق اجتماعها مع الحرام لا يقتضى خصوص ذلك الفرد المجتمع مع الحرام ، بل اي فرد وجد وطبقت عليه تلك الطبيعة يحصل الغرض الداعى الى الامر بها ، فعلى هذا مقتضى الجمع بين الغرضين ان يقيّد الآمر مورد الامر بغير الفرد الذي اجتمع مع الحرام ، ومن هنا ظهر ان تقييد عنوان المامور به واخراج الفرد المنهى عنه عن موضوع الوجوب لا يبتنى على احراز ان مصلحة ترك الحرام اعظم واهم عند الشارع من مصلحة ايجاد المامور به ، لان هذا الكلام انما يصح فيما اذا كان بينهما تزاحم بحيث لا يمكن الجمع بينهما ، واما بعد فرض امكان الجمع بينهما كما فيما نحن فيه فالواجب بحكم العقل تقييد مورد الوجوب ولو كان من حيث المصلحة اهم واعظم من ترك الحرام.

والحاصل انه اذا اجتمع عنوانان احدهما فيه جهة الوجوب والآخر فيه جهة الحرمة ، والاولى تقتضى فردا ما والثانية ترك كل فرد تعيينا ، وقلنا بعدم كفاية تعدد الجهة في تعلق الامر والنهى فاللازم بحكم العقل تقييد مورد الوجوب ، وهذا لا شبهة فيه بعد ادنى تامل ، واما اذا اجتمع عنوان الواجب مع المكروه فالامر بالعكس ، لان جهة الكراهة وان كانت تقتضى عدم تحقق كل فرد تعيينا بخلاف جهة الوجوب كما في الواجب والحرام ، إلّا ان الكراهة لما لم تكن مانعة للفعل على وجه اللزوم فلا تقاوم جهة الوجوب الملزمة للفعل ، فعلى هذا اذا اجتمع عنوان الواجب مع المكروه فاللازم بحكم العقل انتفاء وصف الكراهة فعلا ، ولكن لما كان الفرد الموجود الخارجي مشتملا على جهة الكراهة يوجد فيه حزازة ، فيكون امتثال الواجب في هذا الفرد اقل فضلا وثوابا من امتثاله في غيره لمكان تلك الحزازة.

فان قلت : فما معنى الكراهة مع ان الفعل المفروض مصداق للواجب ويعتبر في صدق الكراهة رجحان الترك؟

١٦٧

قلت : الاحكام الشرعية التى تدل عليها الادلة على قسمين : تارة يستظهر من الادلة انها احكام فعلية تعلقت بالموضوعات بملاحظة جميع الخصوصيات والضمائم واخرى يستظهر منها احكام حيثيّة تعلقت بموضوعاتها من حيث هي اعنى مع قطع النظر عن الضمائم الخارجية ، وما يكون من قبيل الثاني يتوقف فعليته على عدم عروض مانع للعنوان يقتضى خلاف ذلك الحكم الجاري عليه ، نظير قوله : «الغنم حلال» فانّ الحلّيّة وان كانت مجعولة ، إلّا أنّ هذا الجعل لا يلازم الفعليّة في جميع افراد الغنم ، فان الغنم الموطوءة او المغصوبة حرام مع كون الغنم من حيث الطبع حلالا ، وليس اطلاق الحلال على طبيعة الغنم مع كون بعض افرادها حراما جاريا على خلاف الاصطلاح ، بل يصح اطلاق الحلال بالمعنى المذكور على خصوص الفرد الحرام ايضا ، اذ المعنى ان هذا الفرد مع قطع النظر عن كونه مغصوبا مثلا حلال.

اذا عرفت ما ذكرنا فنقول : اطلاق المكروه على الوجود الذي يكون فعلا مصداقا للواجب لاتحاده معه نظير اطلاق الحلال على الفرد المجامع مع الحرام من الغنم ، بمعنى ان هذا الوجود مع قطع النظر عن اتحاده مع الواجب يكون مكروها هذا.

واما اول القسمين ؛ من الثاني اعنى ما اذا تعلق النهي بالعبادة مع خصوصية زائدة ، كالصلاة في الحمام ، فمحصل الكلام فيه ان النهى المتعلق بتلك العبادة الخاصة لا بدّ وان يرجع الى نفس الخصوصية اعنى كونها في الحمام ، وقد مر بيانه في مقدمات المبحث ، فحينئذ نقول : هذا النهى اما لبيان الكراهة الذاتية لهذه الخصوصية وان لم يكن وصف الكراهة الفعلية موجودا نظير ما قدمنا فيكون اللازم كون هذا الفرد اقل ثوابا من ساير الافراد ، وعلى هذا يكون هذا النهى مولويا يستفاد منه الكراهة الشرعية ، واما ان يحمل على الارشاد وترغيب المكلف الى اتيان فرد آخر من الطبيعة يكون خاليا عن المنقصة ويستكشف الكراهة الذاتية منه بطريق الإنّ.

١٦٨

وأمّا ثاني القسمين ؛ وهو ما اذا تعلق النهي بالعبادة ولا بدل لها ، كالصوم في يوم عاشوراء وامثاله ، فيشكل الامر فيه من حيث ان حمل النهي فيه على بيان الكراهة الذاتية مع الالتزام بكونه راجحا ومستحبا فعليا ينافي التزام الائمة عليهم‌السلام بتركه وامرهم شيعتهم بالترك ايضا ، وحمله على الارشاد يستلزم الارشاد الى ترك المستحب الفعلى من دون بدل ، والقول بكونه مكروها فعلا ينافي كونه عبادة.

والذي يمكن ان يقال في حلّ الاشكال امران :

احدهما : ما افاده سيدنا الاستاذ «نور الله مضجعه» وهو ان يقال : برجحان الفعل من جهة انه عبادة ورجحان الترك من حيث انطباق عنوان راجح عليه ، ولكون رجحان الترك اشد من رجحان الفعل غلب جانب الكراهة وزال وصف الاستحباب ، ولكن الفعل لما كان مشتملا على الجهة الراجحة لو اتى به يكون عبادة ، اذ لا يشترط في صيرورة العمل عبادة وجود الامر ، بل يكفى تحقق الجهة فيه على ما هو التحقيق ، فهذا الفعل مكروه فعلا لكون تركه ارجح من فعله ، واذا اتى به يقع عبادة لاشتماله على الجهة.

ويشكل بان العنوان الوجودي لا يمكن ان ينطبق على العدم ، لان معنى الانطباق هو الاتحاد في الوجود الخارجي ، والعدم ليس له وجود.

والثاني : ان يقال : ان فعل الصوم راجح ، وتركه مرجوح ، وارجح منه تحقق عنوان آخر لا يمكن ان يجتمع مع الصوم ويلازم عدمه ، ولما كان الشارع عالما بتلازم ذلك العنوان الارجح مع عدم الصوم نهى عن الصوم للوصلة الى ذلك العنوان ، فالنهى على هذا ليس إلّا للارشاد ولا يكون للكراهة ، اذ مجرد كون الضد ارجح لا يوجب تعلق النهى بضده الآخر ، بناء على عدم كون ترك الضد مقدمة ، كما هو التحقيق ، ولعل السر في الاكتفاء بالنهى عن الصوم بدلا عن الامر بذلك العنوان الارجح عدم امكان اظهار استحباب ذلك العنوان ، هذا.

ومما ذكرنا يظهر الجواب عن النقض بالواجبات التي تعرض عليها جهة

١٦٩

الاستحباب كالصلاة في المسجد ونحوها هذا تمام الكلام في المقام وعليك بالتأمل التام.

[في تداخل الاسباب والمسببات]

ثم انه نسب الى بعض ان اجزاء غسل واحد عن الجنابة والجمعة انما هو بواسطة اجتماع الواجب والمندوب في فرد واحد فيكون من موارد اجتماع حكمين متضادين ، ومثله ما عن البعض من عد مطلق تداخل الاسباب كما في منزوحات البئر ونحوها من هذا القبيل ، ولا بأس بتحقيق مسألة الاسباب والمسببات في الجملة ليعرف ان الاستدلال بما ذكر مما لا وجه له.

اقول : اذا جعل الشارع طبيعة شيء سببا فلا يخلو هذا في نفس الأمر من وجوه :

احدها ان يكون السبب صرف الوجود لتلك الطبيعة اعنى حقيقتها التى هي في مقابل العدم الكلي ، وكذلك المسبب مثل ان يقول : اذا انتقض عدم النوم بالوجود يوجب انتقاض عدم الوضوء بالوجود.

وثانيها ان يكون الطبيعة باعتبار مراتب الوجود سببا لوجود طبيعة اخرى كذلك ، مثل قولك «النار سبب للحرارة» والمراد ان النار باعتبار مراتب الوجود سبب للحرارة كذلك ، بمعنى ان كل وجود ثبت للنار يؤثر في حرارة خاصّة.

وثالثها ان يعتبر في طرف السبب صرف الوجود وفي طرف المسبب مراتبه.

ورابعها العكس.

لا اشكال في ما اذا ثبت احد الوجوه ، لانه على الاول لا يكون السبب ولا المسبب قابلا للتكرار بداهة ان ناقض العدم لا ينطبق إلّا على اول الوجودات ان وجدت مرتّبة وعلى المجموع ان وجدت دفعة وعلى هذا لا يكون السبب الا واحدا وكذلك المسبب ، كما انه على الثاني يتكرر المسبّب بتكرر السبب بلا

١٧٠

اشكال ، وعلى الثالث لا تؤثر الافراد الموجودة من طبيعة واحدة آثارا متعددة ، لان المفروض وحدة السبب ، نعم لو اختلف السبب نوعا ووجد من كل من النوعين فرد يجب ان يتعدد المسبب لان المفروض قابلية التعدد في طرف المسبب ، وعلى الرابع لا يتكرر المسبب وان تكرر السبب ، سواء كان التكرر من جهة فردين من طبيعة واحدة ام من طبيعتين مختلفتين ، لعدم قابلية المسبب للتكرار ولا اشكال في شيء مما ذكرنا ظاهرا.

انما الاشكال في الاستظهار من القضايا الملقاة من الشارع وانها ظاهرة في اي شيء حتى يكون هو الاصل المعول عليه حتى يثبت خلافه ، والذي يظهر من مجموع الكلمات المتفرقة في مصنفات شيخنا العلامة المرتضى «قدس‌سره» ان مقتضى اطلاق ادلة السببية كون كلّ واحد من افراد الطبيعة سواء وجدت دفعة ام بالتفاوت سببا مستقلا ، مثلا لو قال الشارع : «ان نمت فتوضأ» فالنوم اللاحق اذا أثر في وضوء آخر فهو المطلوب ، واما اذا لم يؤثّر فاللازم تقييد موضوع الشرط بالنوم الخاص وهو النوم الاول او الغير المسبوق بمثله.

فان قلت : ظاهر القضية وحدة المسبب وهو حقيقة الوضوء في القضية المفروضة فلم لا يكون هذا صارفا عن ظهور اطلاق السبب لو سلم مع انه لنا ان نمنع اقتضاء اطلاق السببية كون كل فرد سببا مستقلا ، ألا ترى انه لو جعلت الطبيعة معروضة للامر لا يقتضى اطلاقها كون كل واحد من افرادها واجبا مستقلا ، واي فرق بين كون الشيء معروضا للامر وبين كونه معروضا للسببية؟

قلت : قد حقق في محله ان الالفاظ الدالة على المفاهيم لا تدل بحسب الوضع الاعلى الطبيعة المهملة المعراة عن اعتبار الاطلاق والتقييد والوجود والعدم ، لكنها بهذا النحو لا يمكن ان تكون معروضة لحكم من الاحكام ، فاللازم بحكم العقل اعتبار الوجود حتى يصح بهذا الاعتبار كونها موضوعة للحكم ، والوجود اللازم اعتباره بحكم العقل اعم من ان يكون وجودا خاصا مقيدا بقيد وجودي او

١٧١

عدمي او كل واحد من الوجودات الخاصة او صرف الوجود في مقابل العدم الكليّ ، فلو دل دليل على اعتبار الوجود بوجه من الوجوه المذكورة فهو المتبع وإلّا فاللازم هو الاخذ بصرف الوجود ، لانه ثابت على كل حال وهو المتيقن.

اذا عرفت هذا فنقول : السر في الاخذ بصرف الوجود في موضوع الامر والاكتفاء في مقام الامتثال بفرد واحد هو كونه متيقنا وعدم دلالة دليل على ازيد منه ، فلو دل دليل على اعتبار ازيد فلا تعارض بينهما ، لما عرفت من ان الاخذ به انما هو من باب القدر المتيقن وعدم ما يبين الزائد وحينئذ نقول : لو قال الشارع : اذا نمت فتوضأ فمقتضى الجزاء مع قطع النظر عن الشرط كون موضوع الأمر هو صرف الوجود لما عرفت آنفا ومقتضى السببية الفعلية المستفادة من القضية الشرطية كون كل فرد من افراد النوم سببا فعليا ، لان الاسباب العادية والمؤثرات الخارجية تكون بهذه المثابة ، بمعنى ان كل طبيعة تكون في الخارج مؤثرة يؤثر كل فرد منها ، ومن هذه الجهة يحمل السببية المستفادة من القضية الملقاة من الشارع على ما هو المتعارف من الاسباب ، وبعبارة اخرى يفهم من القضية الشرطية امران : احدهما يكون مدلولا لاداة الشرط وهو العلية الفعلية لما جعل شرطا في القضية ، والثاني يكون مفهوما من القضية من جهة ما ارتكز في اذهان اهل العرف من الامر المتعارف ، وهو كون كل وجود لهذا الشرط علة فعلية ، وعلى هذا فاللازم هو الحكم بتعدد التاثير عند تعدد تلك الافراد ، لانه لو حكمنا به لم نرتكب خلافا لظاهر القضية ، لما عرفت من ان الاخذ بصرف الوجود في موضوع الامر انما كان من جهة عدم البيان ، وهذا الظهور العرفى للقضية يصير بيانا له ، بخلاف ما لو حكمنا بعدم تعدد التأثير ، فانه لا بد حينئذ من التصرف اما في الظاهر المستفاد من أداة الشرط بحملها على افادة كون تاليها مقتضيا لا علة تامة ، واما في الظاهر الآخر المستفاد من العرف من غير دليل.

فان قلت : سلمنا ذلك كله ولكن المسبب ليس فعل المكلف حتى يقتضى تعدد افراد السبب الفعلى تعدده ، بل المسبب هو الوجوب ولا يقتضى تعدد اسباب

١٧٢

الوجوب تعدده ، بل يتاكد بتعدد اسبابه.

قلت : ظاهر القضية ان السبب الشرعي يقتضي نفس الفعل ، وامر الشارع انما جاء من قبل هذا الاقتضاء ، بمعنى ان الشارع امرنا باعطاء كل ذي حق حقه ، فافهم فانه دقيق.

فان قلت : يمكن ان يكون السببان مؤثرين في عنوانين مجتمعين في فرد واحد ، فلا يقتضي تعدد السبب تعدد الوجود كما لو قال الآمر : «ان جاءك عالم فاكرمه» ، «وان جاءك هاشمي فاكرمه» فجاءك عالم هاشمي ، فلا شبهة في انه لو اكرمت ذلك العالم الهاشمي امتثلت كلا من الامرين.

قلت : اما او لا فظاهر القضية وحدة عنوان المسبب ، ولا شك في انه مع وحدة عنوان المسبب لا يمكن القول بتعدد التاثير إلّا بالتزام تعدد الوجود ، لعدم معقولية تداخل الوجودين من طبيعة واحدة ، وثانيا نقول بعد الاغماض عن هذا الظهور لا اقل من الشك في ان المفهومين المتأثرين من السببين هل يجتمعان في مصداق واحد اولا ، ومقتضى القاعدة الاشتغال لان الاشتغال بالتكليفين ثابت ولا يعلم الفراغ الا من ايجادين.

هذا محصل ما استفدنا من كلمات شيخنا الاجل المرتضى «قدس‌سره» مع تنقيح منا.

اقول : والتحقيق عندي ان القضايا الشرطية لا يستفاد منها كون الشرط اعنى ما جعل تلو إن واخواتها علة تامة ، بل انما يستفاد منها ان الجزاء يوجد في ظرف وجود الشرط مع ارتباط بين الشرط والجزاء على نحو الترتب ، سواء كان الشرط علة تامة للجزاء ام كان احد اجزاء العلة التامة بعد الفراغ من باقيها ، وما قيل في بيان دلالة ادوات الشرط على كون تاليها اعنى مدخولها علة تامة للجزاء مخدوش ، وسيأتى توضيح ذلك في بحث المفاهيم ان شاء الله.

اذا عرفت هذا فنقول : يكفى في صدق القضايا الشرطية المتعددة التي جزائها حقيقة واحدة تحقق تلك الحقيقة مرة واحدة ولو تعدد ما جعل شرطا في الخارج ،

١٧٣

وكذا في صورة تعدد افراد الطبيعة الواحدة التي جعلت شرطا ، نعم لو وجد الجزاء ثم تحقق فرد من افراد ما جعل شرطا يجب اتيان الجزاء ثانيا ، لان مقتضى القضية الشرطية تحقق الجزاء في ظرف وجود الشرط ، فالفعل الموجود قبل تحقق الشرط لا يكفى.

ومما ذكرنا يظهر ان الاصل في باب الاسباب كفاية المسبب الواحد في صورة تعدد السبب وعدم تخلل المسبب ، واما في صورة التخلل فيجب الاتيان بفعل آخر للوجود اللاحق فتدبر جيدا ، هذا (١).

__________________

(١) هذا ما حققناه سابقا ولكن رجعنا عنه اخيرا واخترنا القول بعدم التداخل ، بتقريب ان الاسباب شرعية كانت او غيرها انما تؤثر في حقيقة وجود المسببات ، وعنوان الصرفية والوحدة والتعدد عناوين منتزعة بعد تأثيرها ، بمعنى ان السبب الواحد يقتضى مسببا واحدا ، لا لأن الوحدة ماخوذة في المسبب بل لوحدة السبب ، وكذا الحال في المتعدد ، وعلى هذا فيزداد المسبب بازدياد السبب سواء كان السبب من جنس واحد او من اجناس متعددة ، فان اطلاق دليل السببية يقتضى ثبوتها لجميع الافراد.

وبالجملة بعد ما استفدنا من تالى «ان» واخواتها السببية المطلقة وقلنا ان طبيعة الجزاء ماخوذة باعتبار حقيقة الوجود بلا اخذ قيد فيه من كونه صرف الوجود او قيد الوحدة ونحو ذلك الذي لازمه الصدق على جميع مراتب الوجود لم يبق محيص عن القول : بعدم التداخل سواء وجد الاسباب دفعة ام على التعاقب فان المقتضى متعدد حسب ظاهر القضية ، وقابلية المحل قهرية مع كون الجزاء حقيقة الوجود ، والمانع مفروض العدم.

فان قلت : هذا صحيح فيما اذا جعل الشارع طبيعة سببا لطبيعة اخرى ، واما اذا جعل شيئا سببا للامر بطبيعة فلا بد من ملاحظة ان الطبيعة الواقعة تلو الامر ملحوظة بلحاظ صرف الوجود ام بلحاظ حقيقة الوجود ، فعلى الاول لا محيص عن التداخل ، فان السبب وان كان متكررا وعلى حسب تكرره يتكرر الامر لكن الطبيعة المامور بها غير قابلة للتكرار.

قلت بعد الاعتراف بكون السبب في سائر الاسباب حقيقة الوجود لا مجال لهذا السؤال ، فان الامر ايضا من احد الاسباب فيجرى فيه الكلام المتقدم بعينه ، بمعنى ان الارادة من احد اسباب وجود المراد ، فالارادة الواحدة تقتضى وجودا واحدا ، والوحدة غير جائية من تأثيرها ،

١٧٤

وانت بعد الاحاطة بما ذكرنا تعرف ان استدلال المجوز باجتماع المثلين او الضدين في باب الاسباب مما لا وجه له اصلا ، وتوضيحه انه في صورة تعدد الافراد من الطبيعة الواحدة ان قلنا بان السبب ليس إلّا صرف الوجود وكذا المسبب فلا يكون هناك الا سبب واحد ومسبب واحد ، وليس من مورد اجتماع المثلين اصلا ، وكذا ان قلنا بصرف الوجود في طرف المسبب فقط ، او السبب كذلك وان قلنا بكون السبب مراتب الوجود وكذلك المسبب فالاسباب متعددة وكذلك المسببات ، فلا اجتماع للمثلين ايضا ، وهكذا الامر في صورة تعدد الفردين من طبيعتين ، لانه ان جعلنا المسبب صرف الوجود فالواجب واحد بوجوب واحد ، وان جعلناه مراتب الوجود فالواجب متعدد بتعدد السبب ، والوجوب ايضا كذلك فلا اجتماع للمثلين ايضا.

واما قضية اجتماع الضدين كالوجوب والاستحباب في غسل الجمعة والجنابة فنقول : ان قلنا بتعدد الحقيقة في الغسلين فلا يكون من مورد اجتماع الضدين ، لانه على هذا يكون من قبيل وجوب اكرام العالم واستحباب اكرام الهاشمي ، وان قلنا بوحدتهما حقيقة ، فان بنينا على عدم كفاية غسل واحد عنهما فلا شبهة ايضا في عدم اجتماع الضدين ، وان بنينا على كفاية غسل واحد فالموجود في الخارج من قبيل الصلاة في المسجد في كونه مصداقا للواجب فقط مع افضليته من ساير المصاديق من جهة اشتماله على جهة الاستحباب.

هذا تمام الكلام في حجج المجوزين وقد عرفت ان امتنها ما ذكر اولا.

__________________

بل منتزعه قهرا بعد تأثيرها ، وكذا التعدد ، ولازم ذلك ازدياد المراد بازدياد الارادة.

ومن هنا يظهر انه لا فرق في لزوم القول : بعدم التداخل بين جعل الجزاء في القضايا الشرطية وجود فعل الجزاء او وجوبه وان كان عبارة شيخنا المرتضى «رحمه‌الله تعالى» ظاهرة في الفرق بينهما ، ولا يتوهم تهافت ما هنا مع ما مر في مقدمات المبحث من عد الامر من اقسام العرض ، فان ما هنا باعتبار الوجود الخارجي للمأمور به وما هناك باعتبار الوجود الذهنى له «منه».

١٧٥

في بيان حجة المانع

اعلم ان احسن ما قرر في هذا المقام ما افاده شيخنا الاستاذ «دام بقاه» في فوائده ، ونحن نذكر عباراته لئلا يسقط شيء مما اراده.

قال ـ بعد اختيار القول المشهور وهو الامتناع ما هذا لفظه ـ : وتحقيقه على وجه يتضح فساد ما قيل او يمكن ان يقال للقول بالجواز من وجوه الاستدلال يتوقف على بيان امور :

احدها انه لا اشكال في تضاد الاحكام الخمسة باسرها في مقام فعليتها ومرتبة واقعيتها ، لا بوجوداتها الانشائية من دون انقداح البعث والزجر والترخيص فعلا نحو ما انشأ وجوبه او حرمته او ترخيصه ، فلا امتناع في اجتماع الايجاب والتحريم في فعل واحد انشاء من دون بعث نحوه وزجر عنه مع وضوح الامتناع معهما ، ومن هنا ظهر انه لا تزاحم بين الجهات المقتضية لها الا في مرتبة فعليتها وواقعيتها ، وانه يمكن انشاء حكمين اقتضائيين لفعل واحد وان لم يمكن ان يصير فعليا إلّا احدهما ، ومما ذكرنا ظهر ان تعلق الامر والنهي الفعليين بشيء واحد محال ولا يتوقف امتناعه على استحالة التكليف بالمحال.

ثانيها انه لا ريب في ان متعلق الاحكام انما هو الافعال بهويتها وحقيقتها لا باسمائها وعناوينها المنتزعة عنها ، وانما يكون اخذ اسم او عنوان خاص في متعلق الامر او النهى لاجل تحديد ما يتعلق به احدهما منها وتعيين مقداره ، فلا ينثلم وحدة المتعلق بحسب الهوية والحقيقة واقعا بتعدد الاسم او العنوان ، ولا تعدده كذلك بوحدتهما ، فالحركة الخاصة الكذائية المحدودة بحدود معينة لا تتعدد اذا سميت باسمين او انتزع عنها عنوانان من وجهين ، كما ان الحركتين الخاصتين اللتين يكون كل منهما محدودة بحدود معينة لا تصيران واحدا اذا سميتا باسم واحد وانتزع عنهما مفهوم واحد ، وهذا من اوائل البديهيات ، وبالجملة انما يتعلق الاحكام في الادلة بالاسامي والعنوانات بما هي حاكية عن

١٧٦

المسميات والمعنونات وفانية فيها لا بما هي بنفسها ، ومن الواضح انه لا يتكثر المحكى والمرئي الواحد بتكثر الحاكى والمرآة ولا يتحد المتكثر بوحدتها.

ثالثها ان الطبيعتين اللتين يتعلق بإحداهما الامر وبالاخرى النهى اذا تصادقتا في مورد يكشف عن انهما ليستا بحاكيتين عن هويتين وحقيقتين مطلقا بل في غير مورد التصادق ، وإلّا يلزم ان يكون له هويتان وماهيتان ، ولا يكون لوجود واحد الا ماهية وحقيقة واحدة ، ولا عن موجودين متغايرين في الخارج ولو كانا متحدين بحسب الحقيقة والماهية كالضرب الواقع في الخارج تارة ظلما واخرى تاديبا الا في غير المورد ، وبالجملة تعدد الوجه واختلاف الجهة المأخوذ في اصل عنوان المسألة لا يجدى شيئا في مورد الاجتماع ، لا تعدده بحسب الحقيقة والماهية ولا بحسب الوجود في الخارج ، بل هو واحد ماهية ووجودا ، نعم يجدى تعدد ما يحكيه ويريه ، وهو لا يجدى مع وحدة المرئى والمحكى ذاتا ووجودا لما عرفت من ان متعلقات الاحكام نفس الافعال الخاصة المسماة باسماء او المعنونات بعناوين متباينات او متصادقات مطلقا او في الجملة ، من غير تفاوت في ذلك بين القول باصالة الوجود والقول باصالة الماهية ، لوحدة المورد ماهية ووجودا ، واما الطبيعة المأمور بها والطبيعة المنهى عنها فان كان كل واحد منهما عنوانا للفعل الذي تعلق به الامر والنهى فهما مفهومان اعتباريان انتزعا عن الفعل المعنون بهما ، ولو قلنا باصالة الماهية ، وإلّا فخصوص ما كان عنوانا منهما لبداهة اعتبارية المفاهيم التي ليست بازائها شيء في الخارج ولا وجود لها الا بوجود ما انتزعت عنه ولا موطن لها الا الذهن ، واختصاص الاصالة ـ على القول باصالة الماهية ـ بالحقايق الخارجية التي يكون بازائها شيء في الخارج ويكون لها موطنان الذهن والخارج غاية الامر تلزمها الجزئية في الخارج ويعرضها الكلية تارة والجزئية اخرى في الذهن.

ومن هنا ظهر عدم ابتناء المسألة على القول باصالة الوجود والماهية اصلا ، كما تخيله الفصول ، وان الاصيل في مورد الاجتماع واحد وجودا كان او ماهية.

١٧٧

فظهر مما بيناه ان مورد الاجتماع لوحدته ذاتا ووجودا ـ لما حقق في هذا الامر ـ وكونه بنفسه متعلقا للحكم واقعا وحقيقة وان اخذ في الدليل اسمه او عنوانه ـ لما حقق في سابقه ـ لا يمكن ان يكون بالفعل واجبا وحراما يبعث نحوه ويزجر عنه فعلا للتضاد بين الاحكام في هذا المقام وان لم يكن بينها التضاد بحسب وجوداتها الانشائية كما عرفت في الامر الاول.

ولا يخفى ان تعلق الاحكام بالطبائع لا الافراد لا يرفع غائلة هذا التضاد في مورد الاجتماع فان غاية تقريبه ان يقال : ان الطبائع من حيث هي هى وان كانت ليست إلّا هي ولا تصلح لان تتعلق بها الاحكام الشرعية كالآثار العادية والعقلية إلّا انها مقيدة بالوجود بحيث كان الوجود خارجا والتقييد به داخلا صالحة لتعلق الاحكام بها ، ومن الواضح ان متعلقى الامر والنهى على هذا ليسا بمتحدين اصلا لا في مقام تعلق البعث والزجر بهما ولا في مقام الامتثال لاحدهما وعصيان الآخر باتيان المورد بسوء الاختيار ؛ اما في المقام الاول فلبداهة تعددهما ومباينة احدهما عن الآخر بما هو متعلق الامر او النهى وان اتحدا فيما هو خارج عنهما بما هما كذلك ، واما في المقام الثاني فلسقوط احدهما بالاطاعة والآخر بالعصيان بمجرد الاتيان فاين اجتماعهما في واحد؟ وانتزاع المأمور بهية والمنهى عنهية عنه انما هو لمجرد كونه مما ينطبق عليه ما امر به ونهى عنه من دون ان يتعلق به بنفسه البعث والزجر.

وهذا لا يجدي بعد ما عرفت بما لا مزيد عليه ان تعدد ما يؤخذ في دليلهما من الاسم او العنوان لا يوجب تعدد ما هو المتعلق لهما في مورد الاجتماع لا ماهية ولا وجودا ، بل الاسمان او العنوانان حاكيان في هذا المورد عن واحد يكون متعلقا لهما حسب توسعة متعلقهما واقعا بحيث يعمانه ، وتوهم الجدوى في ذلك اما لتخيل ان تعدد العنوان حاك عن تعدد المحكي ماهية وذاتا مطلقا ولو فيما اتحدا وجودا كما في مورد التصادق ، او انّ تعدده كاف بان يكون بنفسه متعلقا للبعث او الزجر لا بما هو حاك وفان ، وقد عرفت بما لا مزيد عليه فسادهما ،

١٧٨

وان المورد الواحد واحد وجودا وماهية ، وان العنوان بما هو هو ليس إلّا امرا انتزاعيا لا وجود له الا بوجود منشأ الانتزاع ، ولا واقعية له الا بواقعيته ، وليس ما يوجب البعث والطلب من الآثار المطلوبة والمبغوضة والصفات الحسنة والذميمة الا في المنشأ دونه ، فليس بما هو كذلك محكوما بالامر او النهي بل بما هو حاك ، فيكون المامور به او المنهى عنه هو المحكى ، وهذا فيما كان الماخوذ في الدليلين او احدهما من قبيل اسامي الماهيات اوضح من ان يخفى على عاقل فضلا عن فاضل ، هذا.

مضافا الى ان هذا التقريب يقتضى الجواز مطلقا ولو كان العنوانان متساويين ، لتعددهما في مقام البعث وسقوطهما بالاطاعة والعصيان باتيان واحد من مصاديقهما ، ولا يقول به القائل به ايضا ، إلّا ان يدعى انه انما لا يقول به لاجل انه طلب المحال حينئذ لا من اجل ان الطلب محال فتدبر جيدا.

ومما حققنا من كون العناوين بمعنوناتها تكون متعلقة للاحكام كما في الاسماء بلا اشكال ولا كلام ظهر ان غائلة التضاد في مورد الاجتماع في نفس الطلب على حالها ، سواء قلنا : بتعلق الاحكام بالطبائع او الافراد ، وقد عرفت بما لا مزيد عليه او (١) بالاختلاف فانه على هذا يكون افراد حقيقة واحدة متعلقة للبعثين ، اذ يكون الطبيعة المامور بها على سعتها بحسب الوجود بحيث لا يشذ عنها فرد متعلقة للامر ، وان كانت خصوصيات الافراد ومشخصاتها خارجة عنها بما هي مامور بها ولازمة لها ، وكان بعض ما تسعها من الافراد التي تكون بالفعل مبعوثا اليها حسب قضية البعث اليها على سعتها الذي لازمه عقلا التخيير فيها بما هي منهيّا عنها ، فيكون هذا البعض بوجوده الشخصى بما هو وجود تلك الحقيقة والماهية من دون ملاحظة خصوصية مبعوثا اليه ، وبما هو وجودها مع ملاحظة الخصوصية ممنوعا فعلا ، وملاحظة الخصوصية وعدم ملاحظتها لا توجب تعدده

__________________

(١) لفظه : «او» ليست في نسخة الفوائد.

١٧٩

بل هو واحد حقيقة وماهية ووجودا كما لا يخفى على من له ادنى التفات «انتهى كلامه» (١).

اقول : وانت بعد الاحاطة بتمام ما قدمناه تعرف موارد الاشكال في كلامه ، فان ما افاده في المقدمة الثانية من كون متعلق الاوامر والنواهي انما هي الافعال بهوياتها وحقائقها غير معقول ، للزوم طلب الحاصل ان تعلق الطلب بنفس الحقيقة الخارجية ولا دفع لهذه الغائلة الا الالتزام بكون متعلق التكاليف صورا ذهنية من حيث حكايتها عن الخارج ، واما ما افاده في طي كلماته من عدم تعلق التكاليف بالاسماء فهو من الواضحات ، ولا يتوهم احد تعلق التكاليف بصرف الاسماء لانها ليست إلّا الفاظا كاشفة عن معانيها ، بل القائل يدعى تعلقها بالمفاهيم المتعقلة في الذهن باعتبار حكايتها عن الخارج كما حققنا ، واما ما افاده في المقدمة الثالثة من وحدة مورد تصادق العناوين فان اراد عدم كونها موجودات متميزا بعضها من بعض في الخارج فهو من البديهيات ، وان اراد عدم تحقق لها في نفس الامر بمعنى كونها صورا ذهنية لا واقعية لها فهو مقطوع البطلان ، ويكفى في تعلق التكاليف بتلك العناوين تحققها في نفس الامر.

وبالجملة اظن ان التامل التام فيما ذكرنا من دليل المجوزين يوجب القطع بصحة هذا القول فتدبر جيدا.

[حكم العبادة المجمع للعنوانين على القول بالامتناع]

تذييل : لا اشكال في بطلان العبادة على تقدير القول : بعدم جواز الاجتماع (٢) اذا علم حرمة الفرد المنطبق عليه عنوان العبادة ، وذلك حاصل من

__________________

(١) الفوائد «المطبوعة ضميمة تعليقة الفرائد» الفائدة الآخرة ، ص ٧ ـ ٣٣٥.

(٢) ويمكن ان يقال : بصحة الصلاة في الدار المغصوبة على تقدير القول : بعدم جواز ـ

١٨٠