درر الفوائد - ج ١ و ٢

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي

درر الفوائد - ج ١ و ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٥

الاستعمال أن يتعقل معنى ويجعل اللفظ حاكيا ومرآة له ، وهذا لا يتحقق إلا بالاثنينية والتعدد.

لا يقال : يكفي التعدد الاعتباري ، بأن يقال : ان لفظ زيد مثلا من حيث إنه لفظ صدر من المتكلّم دالّ ، ومن حيث إن شخصه ونفسه مراد مدلول. لأنا نقول هذا النحو من الاعتبار يطرأ بعد الاستعمال ، فلو أردنا تصحيح الاستعمال بهذا النحو من التعدد يلزم الدور (١) ، لكن (*١٣) يمكن مع ذلك القول بصحة قولنا «زيد لفظ ، أو ثلاثي» (*١٤) مع كون الموضوع في القضية شخص اللفظ الموجود ، بأن يكون المتكلّم بلفظ زيد بصدد ايجاد الموضوع لا بصدد الحكاية عن الموضوع حتى يلزم اتحاد الدالّ والمدلول ، فيخرج حينئذ من باب استعمال اللفظ.

فتحصّل أن زيدا في قولنا : زيد لفظ ، أو ثلاثي ، يمكن أن يراد منه نوعه فيكون هناك لفظ ومعنى ، وأن يقصد المتكلّم ايجاد الموضوع فلا يكون من باب استعمال اللفظ ، هذا في المحمولات التي يمكن أن تحمل على الشخص المذكور في القضية ، وأما في المحمولات التي لا تعمّ هذا الشخص كقولنا «ضرب فعل ماض» فلا يمكن إلا أن يكون من باب الاستعمال.

[في ان الالفاظ موضوعة لذوات المعاني او للمعاني المرادة]

ومنها : هل الألفاظ موضوعة بازاء المعاني من حيث هي ، أو بازائها من حيث انها مرادة للافظها؟

قد اسلفنا سابقا انه لا يتعقل ابتداء جعل علقة بين اللفظ والمعنى ، وما يتعقل في المقام بناء الواضع والتزامه بأنه متى أراد المعنى الخاص وتعلّق غرضه

__________________

(١) وفيه ان الموضوع في القضية لا بد وان يتصور وتصور زيد قبل الوجود لا يكفى في الحكم عليه بملاحظة الفراغ من الوجود «منه»

٤١

بافهام الغير ما في ضميره تكلّم باللفظ الكذائي ، فبعد هذا الالتزام يصير اللفظ المخصوص دليلا على إرادته المعنى المخصوص عند الملتفت بهذا البناء والالتزام ، وكذا الحال لو صدر ذلك اللفظ من كل من يتبع الواضع فإن أراد القائل بكون الألفاظ موضوعة لمعانيها من حيث إنها مرادة هذا الذي ذكرنا فهو حق ، بل لا يتعقل غيره ، وإن أراد أن معانيها مقيدة بالإرادة بحيث لوحظت الارادة بالمعنى الاسمي قيدا لها ، حتى يكون مفاد قولنا : «زيد» هو الشخص المتصف بكونه مرادا ومتعقلا في الذهن فهو بمعزل عن الصواب.

والحاصل انه فرق بين القول بأن لفظ زيد مثلا موضوع لأن يدل على تصور الشخص المخصوص ، بحيث يكون التصور معنى حرفيا ومرآة صرفا للمتصور عند المتكلّم والسامع ، وبين القول بأنه موضوع لأن يدل على الشخص المقيد بالتصور الذهني ، على أن يكون القيد المذكور ملحوظا بعنوانه وبمعناه الاسمي ، والاوّل لا يرد عليه إشكال أصلا بل لا يتعقل غيره ، والثاني يرد عليه الاشكالات التي سنذكرها.

قال شيخنا الاستاذ دام بقاه في الكفاية في مقام الرد على هذا القول : إن قصد المعنى على انحائه من مقومات الاستعمال ، فلا يكاد يكون من قيود المستعمل فيه ، هذا ، مضافا إلى ضرورة صحة الحمل والاسناد في الجملة بلا تصرف في ألفاظ الأطراف ، مع أنه لو كانت موضوعة لها بما هي مرادة لما صح بدونه ، بداهة أن المحمول على زيد في «زيد قائم» والمسند إليه في «ضرب زيد» مثلا ، هما نفس القيام والضرب ، لا بما هما مرادان ، مع أنه يلزم كون وضع عامة الألفاظ عاما والموضوع له خاصا ، لمكان اعتبار خصوص ارادة اللافظين فيما وضع له اللفظ ، فانه لا مجال لتوهم أخذ مفهوم الارادة فيه ، كما لا يخفى ، وهكذا الحال في طرف الموضوع. انتهى كلامه أدام الله أيامه (١).

__________________

(١) الكفاية : الامر الخامس من المقدّمة ، ج ١ ، ص ٢٢.

٤٢

أقول : ليس الاستعمال على ما ذكرنا إلّا الإتيان باللفظ الخاص لإفادة إرادة المعنى الخاص ، وهذا لا محذور فيه أصلا ، وأمّا ما ذكره ثانيا فلا يرد على ما قررناه ، فانه بعد اعتبار التصور الذي هو مدلول الألفاظ طريقا إلى ملاحظة ذات المتصور يصح الاسناد والحمل في مداليل الألفاظ بلا مئونة وعناية ، نعم هذا الاشكال وارد على الطريق الآخر الذي قررناه ، وأمّا ما ذكره ثالثا ففيه أن كل لفظ يدل على إرادة المعنى العام بواسطة الوضع جعلوه مما يكون الموضوع له فيه عاما في مقابل الألفاظ التي تدل على ارادة المعنى الخاص ، ولا مشاحّة في ذلك.

ومن هنا تعرف صحة القول بأن الدلالة تابعة للارادة ، وما يرى من الانتقال إلى المعنى من الألفاظ وإن صدرت من غير الشاعر فهو من باب انس الذهن ، وليس من باب الدلالة ، ألا ترى أنه لو صرّح واحد بأني ما وضعت اللفظ الكذائي بازاء المعنى الكذائي وسمع منه الناس هذه القضية ، ينتقلون إلى ذلك المعنى عند سماع ذلك اللفظ ، مع أن هذا ليس من باب الدلالة قطعا.

[في وضع المركبات]

ومنها : اختلف في أنه هل للمركبات ـ أعني القضايا التامة ـ وضع آخر غير وضع المفردات ، أو ليس لها وضع سوى وضع المفردات؟

أقول : إن كان غرض مدّعي وضع آخر للمركبات أنها بموادها الشخصية لها وضع آخر غير وضع المفردات بمعنى ان لقضية «زيد قائم» وضعا آخر يكون لفظ زيد بمنزلة جزء الكلمة في ذلك الوضع ، فهو في غاية الفساد ، اذ وجدان كل احد يشهد ببطلان هذا الكلام ، مضافا الى لغويته.

وان كان الغرض أن وضع مفردات القضية لا يفى بصدق القضية التامة التي يصح السكوت عليها ، لان معانى المفردات معان تصورية ، وتعدد المعاني التصورية لا يستلزم القضية التامة التي يصح السكوت عليها ، فلا بد ان يكون

٤٣

القضية المستفادة من قولنا «زيد قائم» مسببة من وضع آخر غير وضع المفردات ، وهو الوضع النوعى لهذه الهيئة ، فهو صحيح فيما لم يشتمل المفردات على وضع تتم به القضية ، كالقضايا الخبرية في لسان العرب ، فان وضع زيد ووضع قائم مادة وهيئة لا يفى بافادة نسبة تامة يصح السكوت عليها ، واما في مثل القضية الانشائية كاضرب زيدا فلا وجه للالتزام بذلك (١) فليتدبر.

[علامات الحقيقة والمجاز]

ومنها : ذكروا لتشخيص الحقيقة عن المجاز امارات كالتبادر وعدم صحة السلب ، واستشكل في علاميتهما بالدور ، وأجابوا عنه بالاجمال والتفصيل ، ولا بحث لنا في ذلك ، انما الكلام في أنهم ذكروا في جملتها الاطراد قال شيخنا الاستاذ في الكفاية ، ولعله بملاحظة نوع العلائق المذكورة في المجازات ، حيث لا يطرد صحة استعمال اللفظ معها ، وإلّا فبملاحظة خصوص ما يصح معه الاستعمال فالمجاز مطرد كالحقيقة ، وزيادة قيد من غير تاويل او على وجه الحقيقة وان كان موجبا لاختصاص الاطراد كذلك بالحقيقة إلّا انه حينئذ لا يكون علامة لها الاعلى وجه دائر ، ولا يتأتى التفصى عن الدور بما ذكر في التبادر هنا ، ضرورة انه مع العلم بكون الاستعمال على نحو الحقيقة لا يبقى مجال لاستعلام حال الاستعمال بالاطراد او بغيره «انتهى» (٢).

اقول : يمكن توجيه كونه علامة بدون لزوم الدور بان يقال : ان المراد من الاطراد حسن استعمال اللفظ في كل موقع من غير اختصاص له بمواقع خاصة كالخطب والاشعار مما يطلب فيها اعمال محاسن الكلام ورعاية الفصاحة

__________________

(١) لا يخفى ان بعض الجمل الانشائية ايضا يحتاج الى وضع الهيئة ويشهد له الاختلاف بين قولنا ازيد قائم وهل قام زيد في المفاد (منه) دام ظله العالى على الانام.

(٢) الكفاية : الامر السابع من المقدّمة ، ص ٩ ـ ٢٨.

٤٤

والبلاغة ، بخلاف المجاز ، فانه انما يحسن في تلك المواقع خاصة ، وإلّا ففى مورد كان المقصود ممحضا في افادة المدلول لا يكون له حسن ، كما لا يخفى ، وهذا كما ترى يمكن حصوله لغير اهل اللسان ايضا اذا شاهد استعمال اهل اللسان.

[في الحقيقة الشرعية]

ومنها : اختلف في ثبوت الحقيقة الشرعية وعدمه.

اقول : لا مجال ظاهرا لإنكار ان الفاظ العبادات كانت في زمن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» بحيث يفهم منها عند الاطلاق المعاني المستحدثة ، وهل كان ذلك من جهة الوضع التعييني او التعيني ، او كانت موضوعة لتلك المعاني في الشرائع السابقة ايضا؟ لا طريق لنا لا ثبات احد الامور ، نعم الوضع التعييني بمعنى تصريح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالوضع لتلك المعاني بعيد غاية البعد ، لكن يمكن الوضع التعييني بنحو آخر ، بأن استعمل «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» تلك الالفاظ في المعاني المستحدثة بقصد انها معانيها ، وهذا ايضا نحو من الوضع التعييني (١) فانك لو اردت تسمية ابنك زيدا فتارة تصرح بانى جعلت اسم هذا زيدا ، واخرى تطلق هذا اللفظ عليه بحيث يفهم بالقرينة أنك تريد ان يكون هذا اللفظ اسما له ، وهذا القسم من الوضع التعيينى ليس بمستبعد في الشرع.

وقد يستدل ببعض الآيات (٢) من قبيل قوله تعالى : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا)(٣) وقوله تعالى : «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى

__________________

(١) وكون هذا الاستعمال على نحو الحقيقة او المجاز مبنى على ان الوضع هل هو عبارة عن مجرد التعهد في النفس واللفظ كاشف عنه او هو منتزع عن مرتبة اظهاره «منه».

(٢) قد غيّر متن الكتاب بما ترى ، من هنا الى قوله «ثم انه تظهر الثمرة آه» في الطبعة الثالثة المنقحة في زمن المؤلف قدس‌سره ومضمونه موجود في تعليقاته قدس‌سره الموجودة عند آية الله العظمى الاراكى مد ظلّه العالى. «المصحّح»

(٣) سورة مريم ، الآية ٣١.

٤٥

الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» (١) وقوله تعالى : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ)(٢) على كون هذه الالفاظ حقائق لغوية لا شرعية.

تقريب الاستدلال : ان هذه الآيات تدل على وجود معاني هذه الالفاظ في الشرائع السابقة ، ويثبت وضع هذه الالفاظ لها فيها بضم مقدمة اخرى ، وهى ان العرب المتدينين بتلك الاديان لما سمعوا هذه الآيات فلا يخلو إمّا انهم ما فهموا منها هذه المعاني المعروفة ، او فهموها بمعونة القرائن الموجودة في البين ، او فهموها من حاقّ اللفظ ، والاول واضح البطلان لا يمكن الالتزام به ، وكذلك الثاني ، اذ من البعيد جدا احتفاف جميع تلك الالفاظ الموجودة في القرآن بالقرينة ، فلم يبق الا الالتزام بانهم فهموا تلك المعاني من حاقّ اللفظ ، وهو المطلوب ، ولعل هذا هو المراد من بعض العبارات المشتملة على الاستدلال بهذه الآيات لا ما يتوهم من ان المراد اثبات تداول هذه الالفاظ في الشرائع السابقة.

ثم انه تظهر الثمرة بين القولين في حمل الالفاظ الصادرة من الشارع بلا قرينة على معانيها الشرعية بناء على ثبوت الوضع والعلم بتاخر الاستعمال عنه (٣) ، وعلى معانيها اللغوية بناء على عدمه ، ولو شك في تأخر الاستعمال وتقدمه إمّا بجهل التاريخ في احدهما او كليهما فالتمسك باصالة عدم الاستعمال الى ما بعد زمان الوضع فيثبت بها تأخر الاستعمال مشكل ، فانه مبنى على القول بالاصول المثبتة إما مطلقا او في خصوص المقام ، مضافا الى معارضتها بالمثل (٤) في القسم

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ١٨٣.

(٢) سورة الحج ، الآية ٢٧.

(٣) وهنا قيد آخر : وهو ان يكون المعنى الاول مهجورا ، وإلّا فمجرد ثبوت الحقيقة الشرعية والعلم بتاخر الاستعمال لا يوجب الحمل على المعاني الشرعية كما لا يخفى «منه».

(٤) هذا بناء على جريان الاصل في مجهولى التاريخ ذاتا وسقوطهما بالمعارضة ، ولكن التحقيق كما يأتي في محله ان شاء الله تعالى عدم الجريان رأسا لكون النقض في كل منهما شبهة مصداقية للنقض بالشك او باليقين. «منه».

٤٦

الثاني ، نعم يمكن اجراء اصالة عدم النقل فيما اذا جهل تاريخه وعلم تاريخ الاستعمال ، بناء على أن خصوص هذا الاصل من الاصول العقلائية فيثبت به تاخر النقل عن الاستعمال ولا معارض له ، أما على عدم القول بالاصل المثبت في الطرف الآخر فواضح ، وأمّا على القول به فلان تاريخه معلوم بالفرض ، واحتمال ان يكون بناء العقلاء على عدم النقل في خصوص ما جهل رأسا لا فيما علم اجمالا وشك في تاريخه بعيد ، لظهور ان بنائهم على هذا من جهة ان الوضع السابق عندهم حجة ، فلا يرفعون اليد عنها الا بعد العلم بالوضع الثاني.

[في الصحيح والاعم]

ومنها : قد اختلفوا في ان الفاظ العبادات هل هي موضوعة بازاء خصوص الصحيحة او الاعم منها ومن الفاسدة.

اعلم ان جريان النزاع على القول بثبوت الحقيقة الشرعية واضح ، وأما على القول بالعدم فيمكن جريانه ايضا بان يقال : هل الاصل في استعمال الشارع بعد العلم بعدم ارادة المعنى اللغوى هو المعاني الشرعية الصحيحة الى ان يعلم خلافها ام لا؟ فمن يدعى الاول يذهب الى ان العلاقة بينها وبين المعانى اللغوية اشد ، فحملها بعد العلم بعدم ارادة المعانى الحقيقة على المعانى الشرعية الصحيحة اولى واسد.

وكيف كان يتم هذا المبحث بذكر امور :

احدها : انه لا اشكال في ان الصحيحى ان قال بان الصلاة الصحيحة على اختلافها اجزاء وشرائط كلها افراد للمعنى الجامع الواحد الذي هو الموضوع له للفظ الصلاة فلا بد له من تصور معنى واحد جامع لشتات تلك الحقائق المختلفة ، كما أنّ الاعمى ايضا لا بد له من تصور جامع يكون اوسع دائرة من الاول ، نعم لو ادعى كل واحد منهما ما ادعاه على نحو الاشتراك اللفظي يمكن هذه الدعوى مع عدم القدر الجامع بين تلك الحقائق ، لكن هذه المقالة مع كونها بعيدة في

٤٧

نفسها لا تناسب كلماتهم كما لا يخفى.

اذا عرفت هذا فنقول : لا يتعقل اخذ القدر الجامع بين ذوات تلك الحقائق المختلفة المتصفة بالصحة مع قطع النظر عن اعتبار امر خارج عنها ، لان معنى اخذ القدر الجامع الغاء الخصوصيات واخذ ما هو مشترك سار في جميع الافراد ، والمفروض ان لتلك الخصوصيات دخلا في الصحة ، مثلا : الصلاة التي ياتي بها القادر قائما يتقوم صحتها بالقيام ، فلو اعتبر القيام مثلا في الموضوع له فلا يصدق على الصلاة التي ياتي بها المريض جالسا ، وان لم يعتبر فيلزم صدقها على الصلاة التي ياتى بها القادر جالسا ، وكلاهما خلاف مذهب الصحيحي.

والذي يمكن ان يقال في تصوير الجامع بين الافراد الصحيحة ان كل واحد من تلك الحقائق المختلفة اذا اضيفت الى فاعل خاص يتحقق لها جامع بسيط يتحد مع هذه المركبات اتحاد الكلى مع افراده ، مثلا ، قيام الشخص القادر لتعظيم الوارد وايماء الشخص المريض له يشتركان في معنى واحد ، وهو اظهار عظمة الوارد بقدر الامكان ، وهذا المعنى يتحد مع قيام القادر ، كما انه يتحد مع ايماء المريض ، وعلى هذا فالصلاة بحسب المفهوم ليست هي التكبيرة والقراءة والركوع والسجود وكذا وكذا ، بل هي بحسب المفهوم هو المعنى الواحد البسيط الذي يتحد مع تمام المذكورات تارة ، ومع بعضها اخرى ، ومع ما قيد بكيفية خاصة تارة ، وبنقيضها اخرى.

وهذا المعنى وإن كان امرا متعقلا بل لا محيص عن الالتزام به بعد ما يعلم ان لتلك الحقائق المختلفة فائدة واحدة وهي النهي عن الفحشاء والمنكر ولا يكاد ان تؤثر الحقائق المتباينة في الشىء الواحد من دون رجوعها الى جهة واحدة ولكن كون هذا المعنى مفاد لفظ الصلاة محل اشكال من وجهين :

احدهما ان الظاهر مما ارتكز في اذهان المتشرعة هو ان الصلاة عبارة عن نفس تلك الاجزاء المعهودة (١) التى اولها التكبير وآخرها التسليم.

__________________

(١) لا يخفى ان اعتبار الوحدة بين اجزاء الصلاة على وجه ياتى في تصوير الجامع

٤٨

والثاني أن مقتضى ما ذكر من الجامع ان الصحيحى لا بد ان يلتزم بالاشتغال في موارد الشك في الجزئية او الشرطية ، وان بنى في الاقل والاكثر على البراءة عقلا لانه مكلف باتيان ذلك المعنى الواحد فمتى شك في جزئية شيء او شرطيته يرجع شكه الى ان ذلك المعنى الواحد هل يتحقق بدون الاتيان بالمشكوك ام لا ، مع ان القائلين بالصحيح قائلون بالبراءة فيهما.

وقد تصدى لدفع هذا الاشكال شيخنا الاستاذ «دام بقاه» في الكفاية بان الجامع انما هو مفهوم واحد منتزع من هذه المركبات المختلفة زيادة ونقيصة بحسب اختلاف الحالات ، يتحد معها نحو اتحاد ، وفي مثله يجرى البراءة ، وانما لا يجرى فيما اذا كان المامور به أمرا واحدا خارجيا مسببا عن مركب مردد بين الاقل والاكثر ، كالطهارة المسببة عن الغسل والوضوء فيما اذا شك في اجزائهما «انتهى كلامه» (١).

اقول : لا اشكال في انه اذا كان الشيء مجمعا ومصداقا لعناوين عديدة فكلّ عنوان منها وقع في حيز التكليف كان المكلّف مأخوذا بذلك العنوان ، والعناوين الأخر وان كانت متحققة مع العنوان الواقع في حيز التكليف ولكن ليس لوجودها ولا لعدمها دخل في براءة ذمة المكلف واشتغاله ، وهذا واضح جدا ، فحينئذ ان قلنا بان الواقع في حيز التكليف هو هذا المركب من التكبيرة والحمد وكذا وكذا يصح للقائل بالبراءة ان يقول : ان ما علم انه متعلق للتكليف من هذه الاجزاء يؤتى به وما يشك فيه يدفع بالبراءة ، وأمّا ان قلنا بان ما وقع في حيز التكليف ليس هذا المركب بهذا العنوان ، بل هو عنوان بسيط ينطبق على قسم من هذا المركب في بعض

__________________

للاعمى مع قيد كون هذا الواحد الاعتباري بحد مفيد لذلك المعنى البسيط بحيث يكون الحد خارجا عن الموضوع له رافع لهذا الاشكال ، وان كان الاشكال الثاني اعنى لزوم القول بالاشتغال في العبادات باقيا بحاله فينحصر القول بالبراءة فيها في اختيار القول بالاعم كما هو الصحيح «منه» دام ظلّه.

(١) الكفاية ، الامر العاشر «مبحث الصحيح والاعم» ، ج ١ ، ص ٣٧.

٤٩

الحالات فلا يتصور معلوم ومشكوك حتى يقال : ان المعلوم قد أتى به والمشكوك يدفع بالاصل ، بل في ما نحن فيه معلوم شك في وقوعه ، ولا شبهة في انه مورد للاشتغال.

الثاني : قد يستشكل في تصوير القدر الجامع بين افراد الصلاة الصحيحة والفاسدة بحيث ينطبق عليها انطباق الكلى على الافراد.

وحاصل الاشكال ان اجزاء الصلاة ان كان لكل منها دخل في الموضوع له فلا يطلق تلك اللفظة الا على ما اشتمل على الكل ، وان كان لبعضها دخل دون الآخر فيلزم ان لا يحمل مفهوم لفظ الصلاة إلا على الأبعاض المأخوذة في الموضوع له ، فيكون المركب من تلك الأبعاض وغيرها بعضها صلاة وبعضها خارجا عنها ، وكل منهما مما لا يقول به المدعى للاعم.

وقد قيل في تصوير الجامع وجوه لا يهمنا ذكرها.

والحق ان يقال : ان القدر المشترك بين افراد الصلاة الموجودة في الخارج امر متعقل.

بيان ذلك أن الوحدة كما انها قد تكون لشيء حقيقة كذلك قد تكون لشيء اعتبارا : مثال الاول مفاد الأعلام الشخصية ، فانه لا ينثلم وحدة معانيها على اختلاف حالاتها المختلفة العارضة لها ، ومثال الثاني الاشياء العديدة التي يوجدها الموجد بقصد واحد ، فان تلك الاشياء وان كانت وجودات مختلفة متعددة ، لكن عرضت لها وحدة اعتبارية بملاحظة وحدة الغرض والقصد يطلق على كل منها عنوان الجزء بتلك الملاحظة.

اذا عرفت هذا فنقول : يصح للاعمى ان يقول : ان الواضع لاحظ جميع اجزاء الصلاة المأتى بها بقصد واحد ، وقد قلنا بان الاشياء المتعددة بهذه الملاحظة واحدة اعتبارا ، وبعد طرو الوحدة الاعتبارية حال تلك الاشياء باجمعها حال الواحد الحقيقي ، فكما ان الواحد الحقيقي يمكن اخذه في الموضوع له على نحو لا ينثلم وحدته باختلاف الحالات الطارية عليه ، كذلك الواحد الاعتباري قد يعتبر على نحو ليس فيه حد خاص ، ولازم ذلك انه متى يوجد

٥٠

مقدار من ذلك المركب مقيدا بما يوجب وحدة الاجزاء اعتبارا ـ وهو وحدة القصد ـ يصدق عليه ذلك المعنى ، سواء وجد في حد التام او الناقص ، فالذي وضع له اللفظ هو مقدار من تلك الاشياء الملحوظة على سبيل الاهمال او تعيين ما ، مثل ان لاحظ عدم كونه اقل من ثلاثة اجزاء او اربعة اجزاء ، وهكذا ، على اختلاف نظر الواضع ، فاذا وجد في الخارج غير زائد على مقدار ما وضع له فلا اشكال في صدق معنى اللفظ عليه ، واذا وجد زائدا على ذلك المقدار فلكون الزائد جزء ومتحدا مع ما يقوم به المعنى يصدق عليه المعنى ايضا ، فالزائد في الفرض الثاني جزء للفرد ، لا جزء لمقوم المعنى ، ولا خارج عنه. فافهم وتدبر.

الثالث : بعد ما عرفت ما ذكرنا من تصور الجامع على كلا القولين ، فاعلم : ان طريق احراز المعنى وتصديق احد القائلين ليس إلّا التبادر وصحة السلب وعدمهما ، فان قطعنا بالمعنى بالتبادر القطعى فهو ، وإلّا فمقتضى القاعدة التوقف ، والوجوه الأخر التى استدل بها كل من الفريقين لا تخلو عن شيء كما سننبه عليه.

والانصاف انا لا نفهم من الصلاة ونظائرها الا الحقيقة التي تنطبق على الصحيح والفاسد ، ونرى ان لفظ الصلاة في قولنا : الصلاة اما صحيحة او فاسدة ، ليس فيه تجوز وملاحظة علاقة صورية بين ما اردنا من اللفظ وبين المعنى الحقيقي له ، وهذا ظاهر عند من راجع وجدانه وانصف ، وكذا نرى من انفسنا ان من صلى صلاة فاسدة لا يصح سلب معنى لفظ الصلاة عما فعله في الخارج ولو قلنا احيانا بان ما فعله ليس بصلاة فليس نفى الصلاة عن فعله كنفى الصلاة عن الصوم وغيره من موضوع آخر كالحجر والانسان ، اذ يصح الثاني بلا عناية اصلا ، بخلاف الاول.

واستدل ايضا لمذهب الاعمى بان الصلاة استعملت في غير واحد من الاخبار في الفاسدة ، كقوله عليه‌السلام : بنى الاسلام على الخمس : الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية ، ولم يناد احد بشيء كما نودى بالولاية ، فاخذ الناس بالاربع وتركوا هذه ، فلو أن احدا صام نهاره وقام ليله ومات بغير ولاية لم

٥١

يقبل له صوم ولا صلاة» (١) ومحل الاستشهاد قوله عليه‌السلام : «فاخذ الناس بالاربع» وقوله : «فلو ان احدا صام نهاره وقام ليله الخ» وكقوله عليه‌السلام : «دعى الصلاة ايام اقرائك» (٢) حيث ان المراد لو كان الصحيحة لم تكن بقادرة عليها ، فلا يجوز نهيها عنها.

والجواب ان الاطلاق اعم من الحقيقة ، مضافا الى ان لفظ الصلاة في الخبر الثاني استعمل في المعنى المجازى حتى على مذهب الاعمى ، لان المنهى عنه من الحائض ليس كلما يطلق عليه معنى لفظ الصلاة ، فان الحائض لو أتت بالصلاة فاقدة لبعض الشرائط او الاجزاء المعتبرة فيها من غير جهة الحيض لم يكن ما فعلته محرما ، فالصلاة في قوله عليه‌السلام : «دعى الصلاة» استعملت في الفرد الخاص اعنى المستجمع لجميع الاجزاء والشرائط ما عدا كونها حائضا ، واستعمال العام في الخاص مجاز إلّا ان يقول بارادة الخاص هنا من غير اللفظ. هذا.

واستدل لهم ايضا بانه لا شبهة في صحة تعلق النذر وشبهه بترك الصلاة في مكان تكره فيه ، وحصول الحنث بفعلها ، ولو كانت الصلاة المنذور تركها خصوص الصحيحة لا يحصل بها الحنث ، لان الصلاة الماتى بها فاسدة لاجل النهى عنها ، بل يلزم ان يكون فسادها موجبا لصحتها ، لانها لو كانت فاسدة لم تكن مخالفة للنهى ، ولا وجه لعدم كونها صحيحة الا كونها مخالفة للنهى ، هذا بخلاف ما لو كانت الصحة خارجة عن معناها فانه على هذا لا يلزم محذور.

والجواب أن مدعى الوضع للصحيح لا يدعى انها موضوعة للصحيح من جميع الجهات ، حتى من الجهات الطارية كالنذر وشبهه ، بل يدعى أنها موضوعة

__________________

(١) الظاهر ان الحديث منقول بالمعنى ، فراجع : باب دعائم الاسلام من اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٨.

(٢) الوسائل ، الباب ٧ من ابواب الحيض ، الحديث ٢

٥٢

للصحيح من حيث الجهات الراجعة الى نفسها ، ولو فرض انه يدعى ان الموضوع هو الصحيح الفعلى حتى من الجهات الطارية فله ان يجيب بان نذر الناذر في المقام قرينة على عدم ارادة هذا المعنى ، اذ ليس المعنى الماخوذ فيه الصحة من جميع الجهات قابلا للنهى ، ولو فرضنا ان الناذر قصد هذا المعنى في نذره نلتزم بعدم انعقاده لعدم صحة تعلق النهي بالفعل المذكور.

واستدل للصحيحي مضافا الى دعوى التبادر ، وصحة السلب من الفاسد ، بالأخبار الظاهرة في اثبات بعض الخواص والآثار لحقيقة الصلاة والصوم ، مثل قوله عليه‌السلام : الصلاة عمود الدين (١) وانها معراج المؤمن (٢) وان الصوم جنة من النار (٣) او نفى الطبيعة بفقدان بعض الشروط والاجزاء مثل قوله عليه‌السلام : «لا صلاة إلّا بطهور» (٤) وكذا لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب (٥) وامثال ذلك.

والجواب عن الاول : أن الاستدلال بها مبنى على إفادة تلك الاخبار ان الآثار المذكورة لتلك الطبائع على اطلاقها ، اذ بذلك يستكشف ان الفرد الذى ليس فيه تلك الخواص ليس فردا لتلك الطبائع ، لكن الاخبار المذكورة واردة في بيان خاصية تلك الطبائع من حيث نفسها في مقابل اشياء أخر ، ولا ينافي ان تكون لظهور تلك الخواص في تلك الطبائع شرائط أخر زائدة عليها ، كما يظهر من المراجعة الى امثال هذه العبارات.

__________________

(١) بحار الانوار : ج ٨٢ ص ٢١٨ ح ٣٦.

(٢) الظاهر أنّ هذا مستفاد من الخبر لا أنه بنفسه خبر مستقل ، راجع بحار الأنوار ج ٨٢ ، ص ٢٤٨.

(٣) بحار الأنوار ، ج ٩٦ ، ص ٢٥٥ و ٢٥٦ ، الحديث ٣٥.

(٤) الوسائل ، الباب ١ من ابواب الوضوء ، الحديث ١

(٥) الوسائل ، الباب ٢٧ من ابواب القراءة في الصلاة ، الحديث ٤. فيه : سألته عن الذي لا يقرأ بفاتحة الكتاب في صلاته ، قال : لا صلاة له إلّا ان يقرأ بها.

٥٣

وعن الثاني : أن استعمال هذا التركيب في نفى الصحة شايع في الشرع ، بحيث لم يبق له ظهور عرفى في نفى الماهية.

واستدلوا ايضا : بان طريقة الواضعين وديدنهم وضع الالفاظ للمركبات التامة ، كما هو قضية الحكمة الداعية اليه ، وان مست الحاجة الى استعمالها في غيرها فلا يقتضى ان يكون على نحو الحقيقة بل ولو كان مسامحة ، تنزيلا للفاقد منزلة الواجد ، والظاهر عدم التخطى من الشارع عن هذه الطريقة هذا.

ولا يخفى ما فيه ، لان دعوى القطع مجازفة ، والظن ـ بعد امكان المنع ـ لا يغنى من الحق شيئا.

الرابع : تظهر الثمرة بين القولين في صحة الأخذ بالاطلاق وعدمه ، اذ على القول بكون الفاظ العبادات موضوعة للصحيح لا يمكن الاخذ بالاطلاق فيها ، اذ مورده بعد الاخذ بمدلول اللفظ الموجود في القضية والشك في القيود الزائدة ، والمفروض اجمال مدلول اللفظ ، وكلّ ما احتمل اعتباره قيدا يرجع الى مدخليته في مفهوم اللفظ ، وأمّا بناء على القول الآخر فيصح التمسك بالاطلاق على تقدير تمامية باقي المقدمات ، اذ القيد المشكوك مما لا مدخلية له في تحقق الحقيقة التي جعلت موضوعة في القضية.

وكذا تظهر الثمرة بين القولين في الاصل العملى : اذ على القول بالصحيح على نحو ما بيناه في اول البحث لا محيص عن القول بالاحتياط ظاهرا ، لكن على القول الآخر يبتنى القول بالبراءة والاحتياط فيه على مسألة الشك في الاقل والاكثر.

الخامس : أن اسامى المعاملات ان قلنا بانها موضوعة للمسبّبات فلا مجال للنزاع في كونها أسامى للصحيحة منها او الأعمّ ، لأنّ الامر فيها دائر بين الوجود والعدم ، لا الصحة والفساد ، كما لا يخفى ، وإن قلنا بأنها موضوعة للاسباب فيأتي النزاع في أنها موضوعة للاعم مما يترتب عليه الاثر او لخصوص الصحيح ، اعنى ما يترتب عليه الاثر.

٥٤

وعلى كل حال فلا مانع من الاخذ بالاطلاق فيها : أمّا بناء على كونها موضوعة للاسباب من دون ملاحظة حصول الاثر فواضح ، وأمّا على القول بكونها موضوعة لخصوص الاسباب المؤثّرة للاثر او موضوعة لنفس المسبب فلان لمفاهيمها مصاديق عرفية ، والاحكام المتعلقة بالعناوين في القضية اللفظية التى وردت لبيان تفهيم المراد تحمل على المصاديق العرفية لها ، وبعد تعلق الحكم في القضية اللفظية بالمصاديق العرفية يستكشف ان الشيء الذي يحكم العرف بانه مصداق يراه الشارع مصداقا ايضا ، ولذا تراهم يتمسكون في ابواب المعاملات باطلاقات ادلتها ، مع ذهابهم الى كونها موضوعة للصحيح ، نعم لو شك في الصدق العرفي فلا مجال للاخذ بالاطلاق ، فليتدبر في المقام.

[في استعمال اللّفظ في اكثر من معنى واحد]

ومنها : أنه اختلف في جواز استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد ، بان يراد كل واحد مستقلا كما اذا استعمل فيه وحده على اقوال لا يهمنا ذكرها بعد ما تطلع على ما هو الحق في هذا الباب.

والحق الجواز ، بل لعله يعد في بعض الاوقات من محسنات الكلام ، لان ما وضع له اللفظ هو ذوات المعاني باوضاع عديدة ، وليس في كل وضع تقييد المعنى بكونه مع قيد الوحدة بالوجدان ، ولا يكون منع من جهة الواضع ايضا ، ضرورة ان كل احد لو راجع نفسه حين كونه واضعا للفظ زيد بازاء ولده ليس مانعا من استعمال ذلك اللفظ في غيره ، ولا يتصور مانع عقلى في المقام ، فالمجوز للاستعمال موجود ، وهو الوضع ، وليس هناك ما يقبل المنع.

وذهب شيخنا الاستاذ «دام بقاه» إلى الاستحالة العقلية ، قال في الكفاية : ان حقيقة الاستعمال ليس مجرد جعل اللفظ علامة لارادة المعنى بل وجها وعنوانا له ، كانه يلقى اليه نفس المعنى ، ولذا يسرى اليه قبحه وحسنه ، ولا يمكن جعل اللفظ كذلك الا لمعنى واحد ، ضرورة ان لحاظه هكذا في ارادة معنى ينافي

٥٥

لحاظه كذلك في ارادة الآخر ، حيث ان لحاظه كذلك لا يكاد يكون إلّا بتبع لحاظ المعنى فانيا فيه ، فناء الوجه في ذي الوجه ، والعنوان في المعنون ، ومعه كيف يمكن ارادة معنى آخر معه كذلك في استعمال واحد ، مع استلزامه للحاظ آخر غير لحاظه كذلك في هذه الحال «انتهى» (١).

اقول : يمكن ان يكون حاصل مرامه «دام بقاه» انه بعد ما يكون اللفظ وجها واشارة الى ذات المعنى فاللفظ من حيث كونه إشارة الى معناه ليس إشارة الى آخر ، لتباين المعنيين ، وبالعكس ، ولو جعل اشارة واحدة ووجها واحدا لكلا المعنيين فهو من باب استعمال واحد في معنى واحد ، لان المعنيين بهذا اللحاظ يكونان معنى واحدا في هذا الاستعمال ، نظير استعمال لفظ اثنين في معناه ، فاستعمال اللفظ في المعنيين غير معقول.

قلت : لا اشكال في امكان ارادة الشيئين من لفظ واحد على نحو بقائهما على صفة التعدد ، كما انه لا إشكال في امكان إرادتهما على نحو الوحدة الاعتبارية ، فلو استعمل لفظ في المتعدد على النحو الثاني فلا اشكال في انه من باب استعمال اللفظ في المعنى الواحد ، فان كان ذلك المعنى موضوعا له اللفظ يكون الاستعمال حقيقيا وإلّا يكون مجازيا ، وان استعمل في المتعدد على النحو الاول يكون من باب استعمال اللفظ الواحد في المعنيين ، وحينئذ ان كان الملحوظ في هذا الاستعمال هو الوضعين فيكون من باب استعمال اللفظ في المعنيين الحقيقيين ، وان كان الملحوظ ثبوت العلاقة في كل منهما فيكون من باب استعمال اللفظ في المجازيين ، وان كان الملحوظ ثبوت العلاقة في احدهما والوضع في الآخر فيكون من باب استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي والمجازي.

وليت شعرى أن دعوى الاستحالة هل هي راجعة الى ارادة الانسان الذوات المتعددة من دون ملاحظة عنوان الاجتماع؟ او راجعة الى امر آخر؟

__________________

(١) الكفاية ، الامر الثاني عشر من المقدّمة ، ج ١ ، ص ٥٤.

٥٦

فان كانت راجعة إلى الاول فيرده وقوع هذا الامر في العام الاستغراقى ، فانه انما صار كذلك لعدم ملاحظة الآمر هيئة الاجتماع في مرتبة تعلق الحكم ، بل لاحظ الآحاد كلا منها اجمالا على انفرادها ، غاية الامر هذه الملاحظة في العام الاستغراقى انما هي في مرتبة تعلق الحكم دون الاستعمال ، فاذا صار هذا النحو من الملاحظة اعنى ملاحظة الآحاد على انفرادها ممكنا في مرتبة تعلق الحكم فليكن ممكنا في مرحلة الاستعمال ، فكما ان كل واحد في الاول يكون موردا للحكم مستقلا كذلك في الثاني يصير مستعملا فيه ، وليت شعرى أيّ فرق بين ملاحظة الآحاد بذواتها في مرتبة تعلق الحكم؟ وملاحظتها كذلك في مرتبة الاستعمال؟ وايضا من المعلوم امكان الوضع عاما والموضوع له خاصا ، وهو بان يلاحظ الواضع معنى عاما ويوضع اللفظ بازاء خصوصياته فيكون كل من الجزئيات موضوعا له ، ولو عمل الشخص هذه المعاملة في مرحلة الاستعمال بان يلاحظ معنى عاما مرآة للخصوصيات ، واستعمل اللفظ في تلك الخصوصيات ، يصير كل واحد منها مستعملا فيه ، كما انه صار في الصورة الاولى موضوعا له.

وان كانت الدعوى راجعة الى امر آخر فلا نعقل وجها آخر للاستحالة ، ولا أستبعد كون ذلك من قصورى لادراكها.

واما ادلة القائلين بالمنع من قبل الوضع فموهونة جدا ، فإن اعتبار قيد الوحدة في المعنى مما يقطع بخلافه ، وكون الموضوع له في حال الوحدة لا يقتضى إلّا عدم كون المعنى الآخر موضوعا له بهذا الوضع ، ويتبعه عدم صحة الاستعمال فيه بملاحظة هذا الوضع ، ولا يوجب ذلك عدم وضع آخر له ولا عدم صحة استعماله بملاحظة ذلك الوضع الآخر فيه.

واما تجويز البعض ذلك في التثنية والجمع بملاحظة وضعهما لافادة التعدد ، بخلاف المفرد ، فمدفوع ، بان علامة التثنية والجمع تدل على تكرار ما افاده المفرد ، لا على حقيقة اخرى في قبال الحقيقة التى دل عليها المفرد ، كيف ولو كانت كذلك لما دلت علامة التثنية على التعدد ، لان المفرد الذي دخل عليه

٥٧

تلك العلامة افاد معنى واحدا ، والعلامة أيضا افادت معنى واحدا فاين التعدد المستفاد من علامة التثنية. هذا

[في المشتق]

ومنها : اختلفوا في معاني بعض المشتقات ، من قبيل اسم الفاعل والمفعول والصفة المشبهة وامثال ذلك مما يجرى على الذوات ويحمل عليها على نحو من الحمل ، هل هي ما يطلق على الذوات في خصوص حال التلبس؟ او معانيها اعم من ذلك بمعنى انها موضوعة لمعان تحمل على الذوات وان انقضى عنها التلبس؟ بعد الاتفاق على ان اطلاقها على الذوات التي لم تتلبس بعد بملاحظة الزمن الآتي مجاز.

وتنقيح المرام يستدعى رسم امور :

احدها : أن النزاع ليس في جميع المشتقات ، لان الماضي والمضارع والأمر والنهى خارجة عن محل النزاع قطعا ، وكذا المصادر وان قلنا بانها مشتقات ايضا ، وكذا ليس النزاع مختصا بالمشتقات الجارية على الذوات ، من قبيل اسم الفاعل والمفعول والصفة المشبهة وامثال ذلك ، بل يجرى في كل لفظ موضوع بازاء مفهوم منتزع من الذوات باعتبار عروض أمر خارج عنها ، مثل الزوج والعبد والحر وامثال ذلك ، وان كان من الجوامد ، فالنزاع في المقام راجع الى ان الالفاظ الموضوعة بازاء المفاهيم المنتزعة من الذوات باعتبار الامور الخارجة عنها هل هي موضوعة للمتلبس الفعلي بذلك العارض او ما يعمه وما انقضى عنه ذلك العارض ، سواء كان من المشتقات ام من الجوامد.

نعم الالفاظ الموضوعة بازاء المفاهيم المنتزعة من الذاتيات من دون ملاحظة امر خارج عنها ليست محلا للنزاع ، اذ لا شبهة لاحد ان لفظ الانسان والحجر والماء والنار وامثالها لا تطلق على ما كان كذلك ثم انخلعت عنه تلك الصور النوعية.

٥٨

والدليل على ما ذكرنا من دخول مثل الزوج وامثاله في محل النزاع ما عن الايضاح في باب الرضاع في مسألة من كانت له زوجتان كبيرتان ارضعتا زوجته الصغيرة قال : تحرم (١) المرضعة الاولى والصغيرة مع الدخول بالكبيرتين ، واما المرضعة الآخرة ففي تحريمها خلاف ، فاختار والدى المصنف وابن ادريس تحريمها ، لان هذه يصدق عليها ام زوجته ، لانه لا يشترط في صدق المشتق بقاء المعنى المشتق منه (٢) وعن المسالك في هذه المسألة ابتناء الحكم على الخلاف في مسألة المشتق (٣).

الثاني : اتفق اهل العربية على عدم دلالة الاسم على الزمان ، ومنه الصفات الجارية على الذوات ، بخلاف الافعال ، فقد اشتهر بينهم دلالتها على الزمان حتى جعلوا الاقتران باحد الازمنة من اجزاء معرّفها.

والحق في المقام ان يقال : ان الامر والنهى لا يدلان على الزمان اصلا ، بداهة أن قول القائل «اضرب» لا تدل الا على ارادة وقوع الفعل من الفاعل إمّا في الآن الحاضر او المتأخر ، فلا دلالة له على واحد منهما ، نعم زمان الحال ظرف لانشاء المنشى كما انه ظرف لاخبار المخبر في القضية الخبرية ، وكذا الكلام في النهى.

__________________

(١) وقد يتوهم جريان النزاع في المرضعة الاولى ايضا ، اذ بعد تحقق الرضاع الكامل كما يحدث عنوان الامومة يزول عنوان الزوجيّة ، فلا يتحقق عنوان ام الزوجة على القول بالاخص ، ويجاب بتعيّن القول بحرمتها على القول بالاخص ايضا ، لان بقاء كلتا الزوجتين مناف لادلة حرمة ام الزوجة والربيبة ، وارتفاع احداهما معينا ترجيح بلا مرجح ، فتعين ارتفاع كلتيهما (منه) دامت ايام افاضاته.

(٢) ايضاح الفوائد ، ذيل البحث عن احكام الرضاع ، ج ٣ ، ص ٥٢ ، إلّا ان فيه بعد العبارة المنقولة في المتن : «فكذا هنا». وهو يمنع دلالته.

(٣) مسالك الافهام ، ذيل المسألة الرابعة من احكام الرضاع ، وقد اختار الحرمة قال : لان الاصح انه لا يشترط في صدق المشتق بقاء المعنى ، فتدخل تحت قوله : وامهات نسائكم.

٥٩

وأمّا فعل الماضي فالظاهر ان دلالته على مضى صدور الفعل عن الفاعل مما ليس قابلا للانكار ، والمقصود من المضى المضى بالنسبة الى حال الاطلاق حتى يشمل مثل يجىء زيد غدا وقد ضرب غلامه في الساعة التي قبل مجيئه ، ولا يخفى ان المعنى الذي ذكرنا غير اعتبار الزمان في الفعل ، لان المضى قد ينسب الى نفس الزمان ويقال : مضى الزمان ، فمن انكر اعتبار الزمان في الفعل الماضي فان كان مقصوده ما ذكرنا فمرحبا بالوفاق ، وان انكر دلالته على المضى الذي ذكرنا فالتبادر حجة عليه.

واما المضارع فقد اشتهر انه يدل على نسبة الفعل الى الفاعل في زمان اعم من الحال والاستقبال.

فان اريد من الحال الحال الذي يعتبر في مثل قائم وقاعد وامثالهما عند من اعتبره فالوجدان شاهد على خلافه ، لظهور عدم صحة اطلاق قولك : «يقوم» على من كان متلبسا بالقيام فعلا ، وكذلك قولك «يقعد» على من كان متلبسا بالقعود ، واما اطلاق يصلى ويذكر ويقرأ ويتكلم وامثال ما ذكر على المتلبس بتلك المبادى فانما هو بملاحظة الاجزاء اللاحقة التى لم توجد بعد ، كما انه يصح الاطلاق بنحو المضى بملاحظة الاجزاء الماضية السابقة ، وكذا يصح التعبير بنحو الوصف نحو ذاكر ومصلّى وقارئ ومتكلم بلحاظ أن المجموع وجود واحد متلبس به فعلا والحاصل ان اطلاق صيغ المضارع يصح فيما لم يكن الفاعل حين الاطلاق متلبسا بالفعل.

وان أراد من الحال الحال العرفى اعنى الزمان المتصل بحال الاطلاق فهو مرتبة من مراتب الاستقبال ، وليس فعل المضارع دالا الا على الاستقبال ، نعم لما لا يدل على مرتبة خاصة من الاستقبال يصح اطلاقه على أيّ مرتبة منه ، ولو اطلق الحال على هذه المرتبة من الاستقبال يمكن اطلاقه على هذه المرتبة من الماضى ايضا ، فهلا قيل بان فعل الماضي يدل على الماضي والحال.

وكيف كان تحصل من جميع ما ذكرنا ان الماضي يدل على انتساب المبدأ

٦٠