درر الفوائد - ج ١ و ٢

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي

درر الفوائد - ج ١ و ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٥

على العام ، سواء كان مقطوعا من ساير الجهات ، او مظنونا ، او مختلفا ، وسواء كان العام قطعى الصدور ، ام لا.

فيبقى الكلام في الخاص الظني بحسب الدلالة اللفظية ، فنقول : ان كانا متساويين في الظهور فلا اشكال في التوقف ، لان اصالة ظهور كل منهما معارضة بمثلها ، وان كان احدهما اظهر ففي تقديم الاظهر وجعله قرينة على صرف الظاهر او التوقف كالمتساويين اشكال ، وما يمكن ان يكون وجها للاول احد امرين على سبيل منع الخلو :

احدهما ان يدعى ان بناء العرف على تقديم الاقوى عند التعارض ، فلا يكون متحيرا عند تعارض الامارتين بعد اقوائية احداهما ، خصوصا اذا كان منشأ الاقوائية ما يكون بنفسه حجة ، كما فيما نحن فيه ، فان منشأ الاقوائية اضافة ظهور هو حجة الى ظهور آخر ، وليس ذلك ببعيد ، ولكنه يحتاج الى التامل.

الثاني : ان يقال : ان المتكلم اذا احرزنا انه من عادته ذكر القرائن منفصلة عن كلامه ، بمعنى انه كثيرا ما يفعل كذلك كما هو كذلك في كلمات الائمة عليهم‌السلام ، تصير كلماته المنفصلة المنافي بعضها مع بعض بمنزلة المتصل ، فكما ان اللفظ الذي يكون اظهر دلالة على معناه من لفظ آخر اذا وقع متصلا بالكلام يكون قرينة صارفة ، كما في لفظ يرمى بالنسبة الى الاسد ، كذلك هذا اللفظ اذا وقع منفصلا ، إذ فهمنا بالفرض أن من عادته ان يؤخر ما يكون صالحا للقرينية في الكلام ، نعم فرق بين القرائن المتصلة والمنفصلة من جهة اخرى ، وهي ان الاولى تمنع عن انعقاد الظهور ويسرى اجمالها لو كان في الكلام ، بخلاف الثانية ، هذا.

واما الدليلان المتباينان بحسب المدلول فهما على اقسام : احدها ان يكونا نصين في تمام مدلوليهما ، والثاني ان يكونا ظاهرين وهو على قسمين : احدهما ان يكون لهما قدر متيقن بحيث لو فرض صدورهما تعين الاخذ به ، والثاني ان لا يكون لهما قدر متيقن في البين اصلا ، والاول منهما على قسمين : احدهما ان القدر

٦٤١

المتيقن المفروض انما فهم من نفس الدليلين ، والثاني انه علم من الخارج ، فهذه اربعة اقسام :

لا اشكال في عدم امكان الجمع اذا كانا نصين ، كما انه لا اشكال في عدم امكان الجمع ايضا اذا كانا ظاهرين في تمام مدلولهما ، فهذان القسمان داخلان في الخبرين المتعارضين ويعامل معهما معاملة التعارض ، من ملاحظة الترجيح في السند ، او التخيير ، على التفصيل الذي ياتى ان شاء الله.

ولو كان كل منهما نصا في مقدار من مدلولهما وظاهرا في الآخر فمقتضى ما ذكرنا في وجه تقديم الخاص المظنون السند على العام الاخذ بالنص في كلا الدليلين هنا والغاء الظاهر فيهما ، تحكيما للنص في كل منهما على الظاهر في الآخر.

ولا فرق في ذلك بين كونهما مقطوعى السند ، او مظنونى السند بالظن المعتبر ، او كان احدهما مقطوع السند والآخر مظنونا بالظن المعتبر ، اما في الاول فظاهر ، واما في الثالث فلوقوع التعارض بين ظهور الخبر المقطوع الصدور وسند الآخر ، وما ذكرنا من الوجه في تقديم الخاص المعتبر على العام جار هنا بعينه ، واما في الثاني فلعدم كون المدلول مشمولا لدليل الاعتبار الا بعد الفراغ عن اعتبار السند ، فيشمل دليل الاعتبار كلا السندين من دون معارض ، لان ما يتوهم ان يكون معارضا للسند دليل اعتبار الظهور في الآخر ، وظاهر انه غير مشمول لدليل الحجية قبل الفراغ من اعتبار سنده ، فالواجب ان يفرض السندان مقطوعى الصدور بمقتضى دليل الاعتبار الخالي عن المعارض ، كما عرفت ، ثم الاخذ بنص كل منهما وتحكيمه على ظاهر الآخر ، وبعبارة اخرى : قبل الاخذ بالسندين ليس المدلولان مشمولين لدليل الاعتبار ، وبعد الاخذ بهما لا مناص لاخذ نص كل منهما وطرح ظاهر الآخر.

وبهذا البيان تعرف الحال في القسم الأخير ايضا ، وهو ما اذا كان لكل منهما على فرض الصدور قدر متيقن علم من الخارج لا بحسب مدلول القضية ،

٦٤٢

فان ما ذكرنا في السابق جار هنا ايضا.

والحاصل ان ميزان الجمع ان يكون الدليلان بحيث لو فرض صدورهما لم يكن تحير في مدلولهما.

وقد يقال : بالفرق بين القسمين الاخيرين ، بالالتزام بالجمع بين المدلولين في الاول ومعاملة المتعارضين في الثاني ، بملاحظة ان ثبوت المتيقن في كل من الدليلين من الخارج لا يخرجهما عن المتعارضين عرفا ، اذ ليس هذا الجمع هو الجمع المقبول عند العرف.

وفيه : ان المراد من الجمع العرفى ان كان ارتفاع التعارض بينهما عرفا على فرض الصدور ، كما هو الحال في المخصص المتصل ، فظاهر ان هذا المعنى في القسم الاول ايضا مفقود ، بل ليس ذلك في العموم والخصوص المطلق المنفصل ايضا ، اذ ليس حال المخصص المنفصل كالمتصل ، في كونه موجبا لانعقاد ظهور آخر للكلام ، وان كان المراد ان العرف بعد فرض صدور الدليلين لم يكن متخيرا في الاخذ بمدلولهما فالقسمان متساويان في ذلك.

فثبت مما ذكرنا ان المتباينين لو كان لكل منهما على فرض الصدور مقدار متيقن ولو علم ذلك من خارج اللفظ لزم الاخذ بهما (١) باتباع المتيقن منهما

__________________

(١) يمكن ان يقال مجرد عدم التحيّر عند القطع بصدورهما غير كاف في الجمع ما لم يكن في البين محمل يندرج به الدليلان تحت قانون المحاورة العرفية ، ولا يخفى عدم تحقق ذلك في مثل اكرم العلماء ولا تكرم العلماء ، فانه يعدّان عند العرف من التناقض في المقال ، وان فرض كون المتيقن من احدهما بحسب مقام التخاطب صنفا خاصا مغايرا لما هو المتيقن كذلك من الآخر ، إلّا ان يقال : ان ذلك غير خارج عن قانون المحاورة بالنسبة الى من جرى عادته على جعل بعض قوانينه واقعيا وبعضها ظاهريا ، فيكون كل من الدليلين بالنسبة الى الصنف المتيقن حكما واقعيا ، وبالنسبة الى غيره حكما ظاهريا يعمل على طبقه ما لم يقم طريق معتبر على خلافه ، فاذا لم يصل المكلف الا الى احدهما فهو مورد للحكم الظاهري ، وان وصل الى كليهما خرج عن موضوع الحكم الظاهري ، لقيام الطريق على الحكم الواقعي. (م. ع. مدّ ظلّه).

٦٤٣

وطرح غيره في كليهما.

وقال شيخ اساتيذنا العظام شيخنا المرتضى «قدس‌سره» في رسالة التعادل والتراجيح (١) بانحصار الجمع بين الدليلين فيما اذا كان الجمع مستلزما للتصرف في احدهما كالعام والخاص والمطلق والمقيد دون ما كان مستلزما للتصرف في كليهما ، وحاصل ما افاده «قدس‌سره» في وجه ذلك : ان احد الدليلين مقطوع الاعتبار ، فيقع التعارض بين ظاهره وبين سند الآخر ، ولا ترجيح لاخذ السند وطرح الظاهر.

اقول : بعد تسليم كون احد السندين مقطوع الاعتبار ، فالوجه في تقديم سند الآخر على ظاهر ما فرض القطع باعتباره ما قلنا في تقديم سند الخاص على ظهور العام ، مضافا الى منع حجية احد السندين ، لان حجيته في المدلول التعيني ترجيح بلا مرجح ، وحجية الاحد المبهم لا معنى لها فيما لم يكن هناك ثالث ، كما اذا قام الخبران على طرفى النقيضين.

فان قلت : ان احد الخبرين حجة بالاجماع ، لعدم القول بجواز طرحهما بين العلماء «قدس‌سرهم» لانهم بين من يجمع بين المدلولين ، ومن يأخذ بالترجيح لو كان وإلّا فالتخيير ، ومن يحكم بالتخيير مطلقا.

قلت : مدارك الاقوال المذكورة معلومة ، فمن اختار احد المدارك المذكورة يلزمه حكمه ، فلم يبق له مجال للقول بحجية احد الخبرين على سبيل الابهام وتعارض ظهوره مع سند الآخر ، ومن لم يختر احد المدارك المذكورة فلا دليل له على حجية احد الخبرين في مقام التعارض ، لا تعيينا ، ولا تخييرا ، ولا على سبيل الابهام.

فان قلت : اذا منعت حجية الواحد على سبيل الابهام فبم تحكم بانتفاء الثالث فيما اذا كان لهما ثالث؟

__________________

(١) عند البحث عن قاعدة : «الجمع مهما امكن اولى من الطرح» ص ٣٥ ـ ٤٣٤.

٦٤٤

قلت : نفى الثالث لا يتوقف على حجية احد الخبرين في المدلول المطابقى ، اذ كون دلالة اللفظ على اللازم متفرعة على دلالته على الملزوم لا يلازم كون حجية حكاية اللفظ عن اللازم متفرعة على حجية حكايته عن الملزوم ، اذ هما فردان من الكشف الحاصل من نقل الثقة ، فيشملهما دليل الاعتبار في عرض واحد ، ولو منع احدهما مانع ليس في الآخر فلا وجه لسقوط دليل الاعتبار بالنسبة الى ما ليس له مانع.

ومما ذكرنا يظهر ان ما اشتهر بينهم من «ان الجمع بين الدليلين مهما امكن اولى من الطرح» ان كان المراد الامكان العرفى فهو صحيح ، وينحصر مورده فيما اذا لو فرض صدور كلا الدليلين لم يتحير العرف في المراد ، سواء كانا من قبيل العموم والخصوص ام غيره ، كما عرفت ، وان كان المراد غير ذلك فلا دليل عليه.

ثم ان الشهيد الثاني «قدس‌سره» على ما حكى عنه في تمهيده فرّع على قضية اولوية الجمع الحكم بتنصيف دار تداعياها وهي في يدهما اولا يد لاحدهما وأقاما بينة «انتهى».

وفي كون اول المثالين من فروع القاعدة ما لا يخفى ، لان بينة كل منهما انما هي معتبرة في النصف ، سواء حكمنا بتقديم بينة الداخل او الخارج ، فالحكم بالتنصيف مقتضى حجية بينة كل منهما في النصف ، لا مقتضى الجمع ، نعم يمكن ان يكون الثاني متفرعا على القاعدة ، وان كان للنظر فيه ايضا مجال ، حيث انه يمكن ان يقال : ان الحكم بالتنصيف من جهة تساقط البيّنتين من الطرفين ، كما اذا لم يكن بينة في البين وتحالفا او تناكلا.

وكيف كان : فالذي ينبغى ان يقال في المقام ان الجمع بين الدليلين في الاخبار الحاكية عن قول الامام عليه‌السلام يتصور على وجهين : احدهما التصرف في احد الدليلين او في كليهما على وجه يرتفع التنافي ، والثاني الاخذ ببعض المفاد من كل منهما او من احدهما ، وذلك فيما لم يتطرق فيه التوجيه والحمل كالنصين.

٦٤٥

وأما الجمع بين مفاد قولى الشاهدين فينحصر في الثاني ، اما اذا كان القولان نصين فواضح ، واما اذا كانا ظاهرين ، او احدهما ظاهرا والآخر نصا ، فلأن الجمع بهذا المعنى يتجه فيما اذا كان المتكلم واحدا او في حكم الواحد ، واما في صورة تعدد المتكلم فلا وجه للتصرف في ظاهر كلام احدهما لنصوصية كلام الآخر او اظهريته.

اذا عرفت هذا فنقول : ان سلمنا كون القاعدة المعروفة موردا للاجماع فلا محيص في امثال المقام من الاخذ بمفاد بعض قول كل منهما وطرح البعض الآخر ، لان طريق الجمع منحصر في ذلك ، ولا بد من الجمع بحكم القاعدة المفروض كونها اجماعية ، وان لم نقل بذلك كما هو الحق وقلنا بعدم الدليل على ذلك الا في الدليلين اللذين لم يتحير العرف في استكشاف المراد منهما بعد فرض صدورهما فاللازم التمسك بدليل آخر في امثال المقام.

والذي يمكن ان يكون وجها للحكم بالتنصيف في المسألة المذكورة ونظائرها انا نعلم بوجوب فصل الخصومة على الحاكم ، ولا وجه لان يحكم لاحدهما على الآخر ، فالحكم بالعدل عرفا ان يحكم بالتنصيف ، ويمكن ان يستظهر ذلك ايضا من الرواية الواردة في الدرهم (١) إلّا ان يقال : ان الحكم الوارد في الدرهم قضية في واقعة ، ولا يستكشف منها عموم الحكم لكل مال مردد بين اثنين ، والوجه الاول لا بأس به اذا لم يكن في البين طريق شرعي لتعيين الواقع ، وقد جعل الشارع القرعة لكل امر مشكل ، والمسألة محتاجة الى مزيد تامل.

ثم انك قد عرفت مما مضى ان الجمع بين الدليلين فيما اذا لم يكن العرف متحيرا في المراد بعد فرض صدور كليهما اولى من طرح احدهما والتخيير بينهما ، واما فيما اذا كان متحيرا على فرض الصدور فلا دليل على الجمع ولا يصح ،

__________________

(١) الوسائل ، الباب ٩ من ابواب كتاب الصلح.

٦٤٦

وعلى هذا لا بد من التكلم فيما اذا تعارض الخبران ولا يمكن الجمع بينهما عرفا على نحو ما ذكرنا.

والكلام فيه يقع في مقامين : المقام الاول فيما اذا كان الخبران متكافئين ولا يكون لاحدهما ترجيح على الآخر ، والثاني فيما اذا كان لاحدهما ترجيح على الآخر.

[المقام الاول ، في الخبرين المتكافئين]

اما الكلام في المقام الاول فيقع في مقامين ايضا : احدهما فيما تقتضيه القاعدة مع قطع النظر عن الاخبار الواردة في الباب ، والثاني فيما يقتضيه الاخبار.

اما الكلام في الخبرين المتكافئين على حسب ما يقتضيه القاعدة فمحصله ان حجية الخبر إمّا ان تكون من باب السببية ، وامّا من باب الطريقية ، فان قلنا بالثاني فمقتضى القاعدة التوقف فيما يختص كل من الخبرين به من المضمون والاخذ بما يشتركان فيه ، مثلا لو قام دليل على وجوب صلاة الظهر ، ودليل آخر على وجوب صلاة الجمعة ، فمقتضى القاعدة التوقف في الحكم الخاص المدلول لكل منهما بالخصوص والحكم بثبوت احد المدلولين واقعا وفائدته نفي الثالث.

فهنا دعويان : احداهما لزوم التوقف في المدلول المختص لكل منهما ، والثانية لزوم الحكم باحد المدلولين اللازم منه نفي الثالث.

والدليل على الاولى منهما امران : احدهما بناء العرف والعقلاء ، فانا نراهم متوقفين عند تعارض طرقهم المعمول بها عندهم ، فان من اراد الذهاب الى بغداد مثلا واختلف قول الثقات في تعيين الطريق اليه يتوقف عند ذلك حتى يتبين له الامر ، وهذا واضح من طريقتهم ، الثاني انه قد تحقق ان فائدة سلوك الطرق المجعولة تنجيز الواقع فيما لو كان هناك واقع مطابق لمؤداها واسقاطه فيما لو كان واقع هناك على خلاف مؤداها ، ففيما تعارض الخبران الخبر الدال على

٦٤٧

الوجوب يقتضى تنجيزه لو كان والخبر الدال على الاباحة يقتضى اسقاطه كذلك ، وهكذا ، ومقتضى ذلك سقوط كليهما عن الاثر ، وهذا معنى سقوطهما عن الحجية.

هذا على تقدير القول بان ادلة حجية الخبر تدل على حجيته من حيث هو ، مع قطع النظر عن حال التعارض ، لا بمعنى تقييده بعدم التعارض حتى يخرج المقام عن تعارض الحجتين ، بل بمعنى عدم ملاحظة حال التعارض ، لا اطلاقا ولا تقييدا ، كما هو الظاهر من الادلة.

واما ان قلنا باطلاق دليل الحجية لحال التعارض فلا وجه للتوقف ، بل الوجه على هذا التخيير (١) لان جعل الخبرين حجة في حال التعارض لا معنى له إلّا التخيير ، ولا يتوهم أنه على هذا يلزم استعمال اللفظ في معنيين : حجية الخبر تعيينا في غير مورد التعارض وتخييرا فيه ، لان استفادة التخيير هنا ليست من المدلول اللفظى ، بل هي من القرينة الخارجية ، فلا تغفل ، هذا. ولكن الذي اسهل الخطب عدم ظهور ادلة حجية الخبر في هذا الاطلاق ، كما لا يخفى.

فان قلت : على تقدير تسليم عموم دليل الحجية لكل منهما يستكشف منه وجود المصلحة الطريقية في كل منهما تعيينا ، وعلى هذا مقتضى القاعدة التخيير لا التوقف ، كما هو الحال في الواجبين المتزاحمين الذين استكشف وجود المصلحة التامة في كل منهما تعيينا.

قلت : فرق بين المقام وبين تزاحم الواجبين ، اذ في الثاني قد علمنا باشتمال كل منهما على غرض من الشارع لازم الحصول ، وحيث لا يمكن الجمع فالعقل يحكم بوجوب تحصيل احدهما ، لانه مقدور ، وفيما نحن فيه ليس كل من

__________________

(١) إلّا ان يقال بعدم امكان الاخذ باطلاقها في مقابل ارتكازية التوقف عند العقلاء ، لعدم صلاحية العموم والاطلاق لرادعيّة العرف عن الارتكازيات ، كما تقرر في محله. (م. ع. مدّ ظلّه).

٦٤٨

الطريقين مشتملا على غرض مستقل للشارع ، بل المقصود الاصلى هو الواقع ، ونعلم بمخالفة احدهما للواقع الذي هو مقصود اصلى للآمر ، فما هو مخالف للواقع قطعا ليس فيه المصلحة الطريقية اصلا ، وحيث ان احدهما المقطوع مخالفته للواقع ليس فيه المصلحة الطريقية فلا سبيل الى الحكم بالحجية في المقام ، لا تعيينا ولا تخييرا ، مع قطع النظر عن الادلة الأخر المتكفلة لحال الخبرين المتعارضين ، اما الاول فواضح ، لان حجية كليهما غير ممكن ، وحجية احدهما المعين دون الآخر ترجيح من غير مرجح ، اذ المفروض اجتماع شرائط الحجية في كليهما من دون تفاوت ، وحجية احدهما على التخيير تحتاج الى دليل نقلى او عقلى ، اما العقل فحكمه بالتخيير موقوف على وجود المصلحة في كل واحد منهما تعيينا حتى في حال التعارض ، وقد عرفت عدم قابلية ما هو معلوم المخالفة للحجية ، واما النقل فلا يدل على التخيير ايضا ، لما عرفت من ان دليل حجية الاخبار متكفل لحجيتها على التعيين في حد ذاته ، واما الادلة الواردة لعلاج المتعارضين فهي وان كانت تدل على التخيير ، لكن الكلام هنا مع قطع النظر عنها.

واما الدليل على الثانية : فهو ان حجية الخبر انما هي من باب كشفه نوعا عن الواقع ، فالدليل المثبت لحجيته يوجب الاخذ بالكشف الحاصل منه ، لا ان معناه وجوب الاخذ بمؤدى قول العادل مثلا ، ولو لم يكن كذلك لكان الواجب الاقتصار على ما كان مدلولا لفظيا له ، ولم يكن وجه للاخذ بلوازمه وملزوماته وملازماته ، كما كان الامر كذلك في الاصول العملية والوجه في الاخذ بها ليس إلّا ما ذكرنا وهو ان معنى حجية الطريق جعل الكشف الحاصل منه بمنزلة العلم ، ولا ريب انه اذا قام طريق على ثبوت الملزوم يحصل به الكشف عن اللازم ، كما حصل به الكشف عن ثبوت الملزوم ، وكذا بالعكس ، وهكذا اذا قام طريق على احد المتلازمين فالدليل الدال على حجية ذلك الكشف يدل على حجية الجميع في عرض واحد وان كان بعضه مرتبا على بعض في مرحلة

٦٤٩

الوجود.

اذا عرفت ذلك فنقول : ان قام خبر على وجوب الظهر مثلا فقد حصل منه الكشف عما دل عليه بالمطابقة ، وهو وجوب صلاة الظهر ، وحصل منه الكشف ايضا عن لازمه الاعم ، اعنى عدم براءة ذمة المكلف عن تكليف الزامى ، وكذا إن قام خبر آخر على وجوب الجمعة فقد حصل منه كشفان : احدهما عن مدلوله المطابقي ، والثاني عن اللازم الذي ذكرنا ، وهما وان تعارضا في مدلولهما الخاص وسقطا عن الحجية ولكن بقي كشفهما عن اللازم المشترك ، وهو ايضا كشف حاصل من خبر العادل ، وهو وان كان تابعا للكشف الاول في الوجود ولكنه ليس تابعا له في الحجية ، لان دليل حجية الانكشاف الحاصل من خبر العادل يشمل تمام افراد الانكشاف الحاصل منه القابل للاعتبار في عرض واحد ، وليس حجية انكشاف المعلول تابعة لحجية انكشاف العلة ، كما مر في محله من وجوب الاخذ بالانكشاف الحاصل من الطرق وان كان بواسطة وسائط لم تكن قابلة للاعتبار ، لخروجها عن وظيفة الشارع.

وان شئت قلت في تعارض الخبرين : كشف احدهما عن الواقع مقطوع الخلاف ، أما كشف احدهما بلا عنوان فليس بمقطوع الخلاف ، فلا مانع من حجيته بعد كونه كشفا حاصلا من الخبر الجامع للشرائط المعتبرة في الحجية ، ولازم ذلك نفي الثالث ، وحينئذ فلو اقتضى الاصل خلاف مقتضى الخبرين يطرح لانه في مقابل الدليل ، لكن احدهما بلا عنوان ليس قابلا للحجية ، لعدم مدلول خاص له حتى يؤخذ به ، وحجية مدلوله الالتزامى غير موقوفة على حجيته ، لانه من مصاديق الكشف الحاصل من الخبر ، فيشمله دليل الحجية من دون البناء على شموله للمدلول المطابقى. وان كان هذا الكشف مرتبا على الكشف من المدلول المطابقى وجودا فليتدبر في المقام فانه من مزال الاقدام.

هذا ما يقتضيه القاعدة مع قطع النظر عن الاخبار الواردة في الباب واما بالنظر اليها فسيجيء الكلام في مدلول الاخبار العلاجية والنقض والابرام فيها

٦٥٠

بعد ذلك ان شاء الله.

هذا كله على تقدير القول بحجية الاخبار من باب الطريقية.

واما على تقدير اعتبارها من باب السببية فالذي صرح به شيخنا المرتضى «قدس‌سره» ان مقتضى الاصل التخيير ، لان المطلوبية المانعة عن النقيض في كل منهما موجودة ، فيجب الامتثال بقدر الامكان ، وحيث لا يمكن الجمع يجب امتثال احد التكليفين بحكم العقل على نحو التخيير ، لعدم الاهمية في احدهما ، كما هو المفروض (١) واليه ذهب شيخنا الاستاذ «دام بقاه» حيث قال في تعليقته على رسالة التعادل والتراجيح ما هذا لفظه فاعلم انه ان قلنا بحجية الاخبار من باب السببية فيكون حال المتعارضين من قبيل الواجبين المتزاحمين في ان الاصل فيهما هو التخيير ، حيث ان كل واحد منهما حال التزاحم ايضا على ما كان عليه من المصلحة التامة المقتضية للطلب الحتمى ، ولا يصلح التزاحم الا للمنع عن تنجزهما جميعا ، لامتناع الجمع ، لا عن احدهما ، لا مكانه ، وحيث كان تعينه بلا معين ترجيحا بلا مرجح كان التخيير متعينا ، نعم لو كان اهم او محتمل الاهميّة يتعين على ما سنفصله «انتهى ما اردنا من نقل كلامه دام بقاه» (٢).

وعندى في ذلك نظر : توضيحه أن جعل الامارات من باب السببية كما اوضح ذلك شيخنا المرتضى «قدس‌سره» في مبحث حجية الظن يتصور على وجوه : بعضها باطل عقلا ، وبعضها باطل شرعا ، والذي يمكن من الوجوه المذكورة وجهان :

احدهما ان يكون الحكم الفعلى تابعا للامارة ، بمعنى ان لله تعالى في كل واقعة حكما يشترك فيه العالم والجاهل لو لا قيام الامارة على خلافه ، بحيث يكون

__________________

(١) الفرائد ، في البحث عن الاصل في المتكافئين ، ص ٤٣٨.

(٢) تعليقة الفرائد هنا ، ص ٢٥٦.

٦٥١

قيام الامارة المخالفة مانعا عن فعلية ذلك الحكم ، لكون مصلحة سلوك هذه الامارة غالبة على مصلحة الواقع ، فالحكم الواقعي فعلى في حق غير الظان بخلافه ، وشأنى في حقه بمعنى وجود المقتضى لذلك الحكم لو لا الظن على خلافه.

والوجه الثاني ان لا يكون للامارة القائمة على الواقعة تأثير في الفعل الذي تضمنت الامارة حكمه ، ولا تحدث فيه مصلحة ، إلّا ان العمل على طبق تلك الامارة والالتزام به في مقام العمل على انه هو الواقع وترتيب الآثار الشرعية المرتبة عليه واقعا يشتمل على مصلحة فاوجبه الشارع ، ومعنى ايجاب العمل على الامارة وجوب تطبيق العمل عليها لا وجوب ايجاد العمل على طبقها.

اذا عرفت ذلك فنقول : ان مقتضى السببية بالمعنى الاول انه اذا تعارض الخبران وعلم مطابقة احدهما للواقع لم يكن للخبر المطابق تأثير اصلا ، لما عرفت في الوجه الاول من ان المانع من الحكم الواقعي انما هو الظن بالخلاف دون ما يكون مطابقا للواقع ، فالخبر الموافق لم يؤثر شيئا ، والمخالف صار سببا لانقلاب الحكم الواقعي ، فالواجب الاخذ بمؤدى احدى الامارتين في الواقع ، وهي الامارة المخالفة للواقع دون ما هو مطابق له ، وحيث لم يتميز المخالف من الموافق يلزم التوقف والرجوع الى مقتضى الاصل ، وهو يختلف بحسب المقامات ، لان الخبرين ان كانا مثبتين للتكليف فان امكن الاختيار يجب ، لان مضمون احدهما مجعول في حقه بمقتضى سببية الخبر المخالف للواقع ، وإلّا فالتخيير ، وان لم يكونا مثبتين بل يكون احدهما مثبتا والآخر نافيا فمقتضى الاصل البراءة ، لاحتمال كون النافي مخالفا للواقع ، وصار موجبا لانقلاب الواقع الى مؤداه ، هذا في صورة العلم بمطابقة احد الخبرين المتعارضين للواقع.

وأما في صورة الجهل فالواقع لا يخلو إمّا ان يكون كذلك فالحكم ما عرفت ، وإمّا ان يكون كلاهما مخالفا للواقع فاللازم سقوط كليهما عن الاثر ، مثلا لو كان حكم الواقعة الاباحة ، فدل احد الخبرين على الوجوب والآخر على

٦٥٢

الحرمة ، فما دل على الوجوب يقتضى احداث مصلحة تامة في فعل ذلك الشيء ، وما دل على الحرمة يقتضى ذلك في تركه ، وحيث لا يمكن الجمع بين ايجاب شيء وتحريمه يلغو السببان ، هذا بناء على السببية بالمعنى الاول.

نعم على الوجه الثاني فالامر كما افاده «قدس‌سره» لان الواقع على هذا لا يتغير عما هو عليه ، سواء كانت الامارة مطابقة له ام لا ، بل المصلحة في الالتزام والتدين بما دلت عليه ، ولما كانت الامارتان في محل الفرض متعارضتين ولم يمكن الالتزام بمؤدى كلتيهما وجب ذلك في احداهما على سبيل التخيير لعدم الاهمية كما هو المفروض.

فان قلت : ليس الامر كذلك على الاطلاق في هذا الفرض ايضا ، لجواز التدين بمدلول الامارتين في بعض فروض التعارض ، كما اذا دل الدليل على وجوب الظهر والآخر على وجوب الجمعة مع العلم بعدم كليهما ، فان الدليلين متعارضان ، لعدم جواز صدق كليهما مع العلم المفروض ، مع انه يمكن الالتزام بمدلول كلا الدليلين ، وحينئذ لا سبيل الى التخيير ، لانه متفرع على عدم امكان الجمع ، والمفروض خلافه.

قلت : قد حقق في محله أن اعتبار الامارات ليس مخصوصا بمداليلها المطابقية ، بل يؤخذ بها وبما يلازمها ، سواء كانت الملازمة بين الشيء ومداليلها بحسب الواقع ام لا ، بل كانت بملاحظة علم المكلف ، ولا يفرق في ذلك بين القول باعتبارها من باب الطريقية والسببية ، كما هو واضح ، وحينئذ نقول : بعد العلم بانحصار الواجب في احد الفعلين : إمّا الظهر وإمّا الجمعة فالخبر الدال على وجوب الظهر مثلا يدل على عدم وجوب الجمعة ، وكذا الخبر الدال على وجوب الجمعة ، ومقتضى التدين بالاول الالتزام بوجوب الظهر وعدم وجوب الجمعة ، ومقتضى التدين بالثاني عكس ذلك ، ولا يمكن الجمع بينهما فمقتضاه التخيير فافهم.

هذا تمام الكلام في مقتضى الاصل مع قطع النظر عن الاخبار الواردة في

٦٥٣

المقام.

واما بالنظر اليها فهل يحكم بالتخيير ، او التوقف ، او الاخذ بما يوافق الاحتياط ، او التفصيل بين ما لا بد فيه من العمل فالتخيير وبين غيره فالتوقف ، كما حكى عن غوالى اللئالى ، او التفصيل بين دوران الامر بين محذورين فالتخيير وغيره فالتوقف ، او التفصيل بين حق الله فالتخيير وحق الناس فالتوقف ، كما نسب الى الوسائل؟ وجوه ناشية من اختلاف الاخبار واختلاف الانظار في الجمع بينها.

فنقول : المشهور الذي عليه جمهور المجتهدين الاول ، للاخبار المستفيضة الدالة عليه ، ولكن يعارضها الاخبار الدالة على التوقف ، وهي ايضا في الكثرة لا تقصر من الاخبار الدالة على التخيير ، وكذا يعارضها مرفوعة زرارة المحكية عن غوالى اللئالى الآمرة بالاخذ بما فيه الاحتياط بعد فرض السائل تساوى الخبرين في جميع ما ذكر فيها من المرجحات (١).

اما معارضتها مع المرفوعة فقد اجاب عنها شيخنا المرتضى «قدس‌سره» (٢) بضعف سند المرفوعة فانه قد طعن في ذلك التأليف وفي مؤلفه المحدث البحراني «قدس‌سره» في مقدمات الحدائق (٣).

وفي ما افاده نظر ، لان المرفوعة وان كانت ضعيفة السند إلّا ان ضعفها مجبور بعمل الاصحاب ، حيث استقرت سيرتهم في باب الترجيح على العمل بها ، كما اعترف به «قدس‌سره» في موضع آخر من الرسالة (٤).

فالاولى ان يقال ، ان الاخذ بما يوافق الاحتياط في المرفوعة انما جعل في

__________________

(١) المستدرك ، الباب ٩ من ابواب صفات القاضى ، الحديث ٢.

(٢) الفرائد ، المسألة الثالثة من الشك في الحرمة ، ص ٢٢٠. وفي بحث التعادل والترجيح ، ص ٤٣٩

(٣) الحدائق الناضرة ، المقدمة السادسة ، ج ١ ، ص ٩٩.

(٤) الفرائد ، بحث التعادل والترجيح ، المقام الثاني ، الموضع الاول من البحث عن تعارض اخبار العلاج ص ٤٤٧.

٦٥٤

عداد المرجحات ، وحينئذ ان حملنا الادلة الدالة على الاخذ بالمرجحات على الاستحباب فالامر سهل ، وإلّا فالمتعين حمل تلك الفقرة على الاستحباب ، لعدم قائل بوجوب الترجيح بالموافقة للاحتياط ظاهرا ، فانهم بين قائل بالتوقف مطلقا ، وقائل بالتخيير كذلك ومفصل بين الموارد المذكورة ، ولا ينافي ذلك كون المراد في باقي الفقرات الوجوب كما لا يخفى.

واما معارضتها مع أخبار التوقف فقد اجاب عنها شيخنا المرتضى «قدس‌سره» ايضا بانها محمولة على صورة التمكن عن الوصول الى الامام عليه‌السلام ، كما يظهر من بعضها ، فيظهر منها ان المراد ترك العمل وارجاع الواقعة اليه عليه‌السلام (١).

وفيه نظر : أما او لا فلانه كما يوجد في الاخبار الدالة على التوقف ما يظهر منه التمكن من الوصول الى الامام عليه‌السلام ، من جهة كون الامر بالتوقف فيها مغيا بلقائه عليه‌السلام ، كذلك في الاخبار الدالة على التخيير ما يظهر منه ذلك لعين تلك الجهة ، كرواية حارث بن المغيرة عن الصادق عليه‌السلام : «اذا سمعت من اصحابك الحديث ، وكلهم ثقة ، فموسع عليك حتى ترى القائم عليه‌السلام (٢).

واما ثانيا فلان مجرد دلالة بعض اخبار التوقف على التمكن من الوصول الى الامام عليه‌السلام لا يوجب تقييد ساير الاخبار المطلقة ، اذ لا منافاة بين وجوب التوقف مطلقا سواء تمكن من الوصول الى الامام عليه‌السلام ام لا كما هو مفاد الاخبار المطلقة ، وبين كون غاية التوقف الوصول اليه عليه‌السلام كما هو مفاد بعض الاخبار الأخر ، فلا وجه للحمل كما لا يخفى.

وقد يقال : ان التحديد بلقاء الامام عليه‌السلام اعم من صورة التمكن ،

__________________

(١) الفرائد ، بحث التعادل والترجيح ، المقام الاول ، ص ٤٣٩.

(٢) الوسائل ، الباب ٩ من ابواب صفات القاضى ، الحديث ٤١.

٦٥٥

لان كلمة حتى كما تدخل على الغاية الممكنة كذلك تدخل على الغاية الممتنعة ، كما في قوله تعالى : (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) (١) فالاخبار المحدودة بلقائه مطلقة من حيث التمكن من الوصول الى خدمته عليه‌السلام كما ان اخبار التخيير ايضا مطلقة ، فتكونان متباينتين ، فيحتاج الجمع بينهما بحمل كل منهما على صورة معينة الى شاهد خارجي.

وفيه : ان كلمة حتى وان كانت كذلك بحسب وضعها اللغوى لكنها تنصرف عند الاطلاق الى ان الغاية التى جعلت تلوها من الممكنات.

وكيف كان فالذى اظن في الجمع بين الأخبار أن اخبار التوقف ليست ناظرة الى ما يقابل الاخذ باحدهما على سبيل التخيير ولا على سبيل التعيين ، بل هي ناظرة الى تعيين مدلول الخبرين المتعارضين بالمناسبات الظنية التى لا اعتبار بها شرعا ولا عقلا ، فيكون المعنى على هذا انه ليس له استكشاف الواقع والحكم بان الواقع كذا كما كان له ذلك فيما كان في البين ترجيح ، ولا اشكال في ان المتحير من جهة الواقع لا بد له من قاعدة يرجع اليها في مقام العمل ، فلو جعل التخيير مرجعا له في مقام العمل لا ينافي وجوب التوقف ، كما انه لو جعل المرجع في مقام العمل الاصل الموافق لاحد الخبرين لم يكن منافيا لذلك.

والشاهد على ذلك في اخبار التوقف امران : احدهما أن التوقف من غير جهة المدلول امر مركوز في اذهان العرف ، أترى ان احدا من العقلاء يبنى في صورة تعارض الخبرين المتساويين من جميع الجهات على حجية احدهما المعين او على حجية احدهما على سبيل التخيير من دون دليل؟! وحيث ان التوقف من هاتين الجهتين مرتكز في اذهانهم فلا يحتاج الى تلك الاوامر الكثيرة ، وهذا بخلاف تعيين مدلول الخبرين المتعارضين ، بل مدلول كل خبر متشابه بالظنون والاعتبار ، فان هذا امر مرسوم عندهم متعارف بينهم ، وقد تصدى الشارع لسد

__________________

(١) سورة الاعراف ، الآية ٤٠.

٦٥٦

هذا الامر بحكمه بلزوم التوقف عند اشتباه مدلول الخبر إما بالتعارض او بغيره ، والحاصل انا ندعى ان اخبار التوقف بملاحظة ما قلنا منصرفة الى حرمة القول بالرأى في تعيين مدلول كلام الشارع ، فاذا ورد دليل دال على التخيير في مقام العمل فلا منافاة بينه وبين تلك الاخبار ، والشاهد على ذلك ايضا قولهم عليهم‌السلام بعد الامر بالتوقف في بعض الاخبار ، «ولا تقولوا فيه بآرائكم» (١).

وان ابيت عن الانصراف المذكور يمكن ان يقال : ان مدلول اخبار التوقف اعم مطلقا من مدلول اخبار التخيير ، لان الاول يرجع الى النهى عن امور ، منها القول بغير العلم في مدلول الخبرين ، ومنها الاخذ بخبر خاص حجة على انه هو الحجة لا غير ، ومنها اخذ احدهما حجة على سبيل التخيير ، واخبار التخيير تدل على جواز الاخير ، فيجب تقييد تلك الادلة بها.

ومما ذكرنا ظهر ما فيما افاده شيخنا المرتضى «قدس‌سره» في الرسالة من دلالة اخبار التوقف على الاحتياط في العمل بالاستلزام (٢) ووجّه ذلك شيخنا الاستاذ «دام بقاه» بان الاحتياط في العمل لا يحتاج الى فتوى بشيء اصلا بخلاف العمل على البراءة ، فانه لا بد من الفتوى بها ثم ناقش في ذاك ، بمنع الاستلزام ، اذ يكفى في العمل بالبراءة حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان بلا افتاء بالاباحة شرعا ، لا ظاهرا ، ولا واقعا ، ثم قال «دام بقاه» : فالاولى التمسك للاحتياط باطلاق اخبار التوقف ، اذ باطلاقها تدل على وجوب التوقف عن ارتكاب الشبهة مطلقا وعدم جواز الاقتحام فيها اصلا ، عملا كان ، او فتوى ، بل دلالتها على وجوب التوقف في الفتوى ليست إلّا لانها عمل ايضا لا بما هي فتوى «انتهى» (٣).

__________________

(١) الوسائل ، الباب ١٢ من ابواب صفات القاضى ، الحديث ٣١.

(٢) الفرائد ، المقام الاول في المتكافئين ، ص ٤٣٩.

(٣) تعليقة الفرائد ، هنا ، ص ٢٥٨.

٦٥٧

اقول : ومما ذكرنا يظهر النظر فيما افاده بقوله «فالاولى الخ» لان التعبير عن الاحتياط في العمل بالتوقف انما يحسن في خصوص الشبهة التحريمية ، لانها هي التى يحسن فيها التوقف ، اعنى السكون وعدم الحركة الى الفعل ، دون غيرها كما لا يخفى.

وهنا امور يجب التنبيه عليها

احدها : ان التعارض ان وقع للحاكم في مدرك حكمه فهو يتخير احد الخبرين ويحكم على طبقه ، لان فصل الخصومة عمل القاضى ، فالتخيير له لا للمترافعين ، وان وقع للمفتى ففى عمل نفسه ايضا يختار احدهما ويعمل على طبقه ، واما في عمل المقلد فهل يختار احدهما ايضا او يجب الافتاء بالتخيير وجهان :

الاقوى الثاني ، لان الاحكام الظاهرية كالواقعية مجعولة للمجتهدين والمقلدين ، وليس في ادلة الاحكام الظاهرية ما يظهر منه اختصاصها بالمجتهدين ، والقول بان العمل باحد الخبرين عند التعارض او بأقواهما ليس إلّا وظيفة للمستنبط ، ولا معنى لثبوت ما يتعلق بالاستنباط من الاحكام للعامى الغير القادر على الاستنباط ، مدفوع ، بان ما هو وظيفة المستنبط فهم التعارض بين الخبرين ، وتساويهما ، او كون احدهما اقوى ، واما العمل على طبق الاقوى او احدهما فليس بشيء يختص بالمجتهد ، لان هذا العمل ليس إلّا كالعمل باصل الواقعيات الاولية التي يشترك فيها جميع العباد ، وان لم يكن للمقلد طريق اليها إلّا فهم مجتهده.

والحاصل ان الاحكام المتعلقة بالموضوعات سواء كانت واقعية ام ظاهرية حال المجتهد والمقلد بالنسبة اليها سواء ، والذي يختص بالمجتهد ولا حظّ للمقلد فيه فهم تلك الاحكام وتشخيص مواردها من طريق النظر (١) ، فلا تغفل.

__________________

(١) نعم يمكن ان يقال بالخيار للمجتهد بين ان يأخذ بنفسه احد الخبرين ويفتي بمضمونه ـ

٦٥٨

الثاني : ان التخيير هل هو على سبيل الاستمرار ، بمعنى انه هل يجوز للحاكم ان يحكم على طبق أمارة في واقعة ثم يحكم على طبق أمارة اخرى في واقعة اخرى ام لا ، وكذا يجوز للمفتى ان يختار في عمل نفسه أمارة ويعمل على طبقها ثم يختار اخرى ويعمل عليها ، وكذا يفتى للمقلد هذا النحو من الاختيار ام لا؟

الاقوى هو الاول ، لاطلاق ادلة التخيير (١) خصوصا بعد ملاحظة ما ورد في بعض الاخبار من ان الاخذ باحد الخبرين انما هو من باب التسليم ، ومن المعلوم أن مصلحة ذلك لا تختص بابتداء الحال ، وان أبيت عن ذلك وقلت : ان الاخبار لم يكن لها تعرض إلّا لبيان وظيفة المتحير في اول الامر ، يكفى في اثبات

__________________

للمقلّد ، فان الافتاء ايضا عمل للمجتهد مشمول للخطاب بالتخيير ، ولهذا لو كان الخبران في احكام الحيض مثلا يشمله الخطاب بالتخيير بملاحظة عمل الافتاء ، وبين ان يحدث الموضوع في حق المقلد بعرض الخبرين ثم افتائه بالمسألة الاصولية ، وهو يأخذ بايهما شاء ويعمل بمضمونه ، وهكذا الحال في الاستصحاب ، فللمجتهدان يوجد في حق المقلد اليقين السابق ويفتيه بعدم نقض اليقين بالشك ، كما ان له الافتاء بالمسألة الفرعية ايضا ، بملاحظة ان نفس الافتاء من الآثار العملية المشمولة لخطاب لا تنقض ، فكما كان يفتي في السابق بمقتضى يقينه بالحكم العام لكل احد ، فكذلك له ان يفتى بهذا العموم في الحال اللاحق. (م. ع. مدّ ظلّه).

(١) بل الاقوى هو الثاني ، لمنع الاطلاق اوّلا ، ومنع الاستصحاب ثانيا ، اما منع الاطلاق فلاستلزامه اجتماع اللحاظين ، لان ظاهر قوله : «خذ باحد الخبرين» هو احداث الأخذ ، ألا ترى انه لا يقال في حق من كان قائما من السابق : «قم» مثلا الا على سبيل التجوز ، فكذا بالنسبة الى من كان آخذا بخبر من السابق لا يقال : «خذ» الظاهر في امره باحداث الاخذ ، ومن المعلوم انه بعد ارادة التخيير في خصوص الاحداث لو اريد التخيير في الابقاء ايضا كان مستلزما للجمع بين اللحاظين المتنافيين ، ومن هنا يظهر منع الاستصحاب ايضا لتعدد القضية المتيقنة والمشكوكة ، اذ الاولى هو التخيير في الاحداث ، والثانية هو التخيير في الابقاء ، واما استصحاب الجامع بين التخييرين فمعارض باستصحاب نفي الفرد الثاني او محكوم له ، على اختلاف القولين في تسبب الكلي من الفرد وعدمه. (م. ع. مدّ ظلّه).

٦٥٩

استمرار التخيير استصحاب ذلك الحاكم على استصحاب الحكم المختار ، والقول باختلاف الموضوع مدفوع بما مر في محله ، من كفاية الوحدة العرفية.

الثالث : أنك عرفت ان الحكم بالتخيير في الخبرين المتعارضين انما هو من باب التعبد بالاخبار الواردة في الباب ، وان مقتضى القاعدة بناء على اعتبار الاخبار من باب الطريقية التوقف ، وحينئذ فاللازم الاقتصار في ذلك على مورد الأخبار العلاجية ، وهو صورة تعارض الخبرين ، وحكم تعارض الامارتين القائمتين في غير الاحكام التوقف على حسب ما تقتضيه القاعدة ، كما هو الظاهر.

المقام الثاني

فيما اذا كان لاحد الخبرين مزية على الآخر

والتكلم فيه يقع في امرين :

احدهما هل يجب الترجيح بواسطة وجود المزية في احد الخبرين ام لا ، الثاني على فرض ذلك هل يقتصر على مزايا مخصوصة ام يتعدى الى كل مزية.

اما الامر الاول : فالمشهور وجوب الترجيح ، وقبل الشروع في الاستدلال لا بد من تأسيس الاصل في المسألة.

فنقول : قد عرفت مقتضى الاصل الأولي في الخبرين المتعارضين بناء على الطريقية والسببية ، وانه على الاول التوقف ، وان كان لاحدهما مزية على الآخر ، اذ مجرد المزية لاحدهما على الآخر لا يصلح دليلا على الخروج عن مقتضى أصالة عدم الحجية ، كما لا يخفى ، لكن كلامنا في هذا المقام بعد فرض حجية احد الخبرين من جهة التعبد بالاخبار ، انما الاشكال في ان الحجة خصوص ذي المزية او احد الخبرين على سبيل التخيير ، فالمقام من دوران الامر بين التخيير والتعيين.

فنقول : بناء على اعتبار الاخبار من باب الطريقية مقتضى الاصل التعيين ،

٦٦٠