درر الفوائد - ج ١ و ٢

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي

درر الفوائد - ج ١ و ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٥

بالفاعل على نحو المضى بالنسبة الى حال الاطلاق ، والمضارع يدل على انتسابه به بعد حال الاطلاق.

ومما ذكرنا يعلم ان نسبة بعض الصيغ الماضية الى البارى «جلّ ذكره» من قبيل علم الله او الى نفس الزمان ليس فيه تجوز وتجريد فليتدبر.

الثالث : المراد بالحال في عنوان المسألة هو حال الاطلاق والاجراء لا حال النطق ، ضرورة عدم تطرق التوهم الى ان مثل زيد كان ضاربا بالامس او يكون ضاربا غدا مجاز ، وما قيل من الاتفاق على أن مثل زيد ضارب غدا مجاز لعله فيما اذا كان الغد قيدا للتلبس بالمبدإ مع فعلية الاطلاق ، لا فيما اذا كان ظرفا للاطلاق.

وبالجملة لا ينبغى الاشكال في كون المشتق حقيقة فيما تلبس بالمبدإ في ظرف الحمل والاطلاق ، وان كان ماضيا او مستقبلا بالنسبة الى زمان النطق ، وانما الاشكال في انه هل يختص معناه بذلك؟ او يعمه وما انقضى عنه المبدا في ظرف الحمل والاطلاق؟.

الرابع : المشتقات الدالة على الحرفة والملكة والصنعة كسائر المشتقات في مفاد الهيئة من دون تفاوت أصلا ، وصحة اطلاقها على من ليس متلبسا بالمبدإ فعلا بل كان متلبسا قبل ذلك من دون اشكال من جهة احد امرين : إما استعمال اللفظ الدال على المبدأ في ملكة ذلك او حرفته او صنعته ، وإمّا من جهة تنزيل الشخص منزلة المتصف بالمبدإ دائما ، لاشتغاله به غالبا بحيث يعد زمان فراغه كالعدم ، او لكونه ذا قوة قريبة بالفعل بحيث يتمكن من تحصيله عن سهولة ، فيصح ان يدعى انه واجد له ، والظاهر هو الثاني ، وعلى اى حال هيئة المشتق استعملت في المعنى الذي استعملت فيه في باقي الموارد.

الخامس : انه لا أصل في المسألة يرجع اليه في تعيين المعنى الموضوع له ، كما هو واضح ، بل المعين الرجوع الى الاصل العملى ، وهو يختلف باختلاف المقامات فاذا وجب اكرام العالم في حال اتصاف زيد بالعلم ثم زالت عنه تلك

٦١

الصفة فمقتضى الاستصحاب بقاء الوجوب ، واذا وجب في حال زوال تلك الصفة فمقتضى الاصل البراءة عن التكليف.

اذا عرفت ما ذكرنا فنقول : اختلف في المسألة وقيل فيها اقوال عديدة لا يهمنا ذكرها خوفا عن التطويل.

والحق انها موضوعة لمعنى يعتبر فيه التلبس الفعلى ، ولا يطلق حقيقة الا على من كان متصفا بالمبدإ فعلا.

والدليل على ذلك : أنك عرفت عدم اعتبار المضى والاستقبال والحال في معاني الاسماء ، وبعد ما فرضنا عدم اعتبار ما ذكر في مثل ضارب وامثاله من المشتقات فلم يكن مفاهيمها الا ما اخذ من الذوات مع اعتبار تلبسها بالمبادي الخاصة ، إمّا على نحو التقييد والتركيب ، وإمّا على نحو انتزاع المعنى البسيط كما سيأتي ، وعلى أي حال المعنى المتحقق بالذات والمبدأ من دون اعتبار امر زائد لا يصدق إلّا على الذات مع المبدأ ، لدخالة المبدا في تحقق المعنى بنحو من الدخالة.

وبعبارة اخرى : فكما أن العناوين الماخوذة من الذاتيات لا تصدق الاعلى ما كان واجدا لها ، كالانسان والحجر والماء والنار ، كذلك العناوين التى تتحقق بواسطة عروض العوارض ، اذ وجه عدم صدق العناوين المأخوذة من الذاتيات الا على ما كان واجدا لها أنها ما اخذت الا من الوجودات الخاصة من جهة كيفياتها الفعلية من دون اعتبار المضى والاستقبال ، وإلّا كان من الممكن ان يوضع لفظ الانسان لمفهوم يصدق حتى بعد صيرورته ترابا ، كأن يوضع لمن كان له الحيوانية والنطق في زمان ما مثلا ، او يوضع لفظ الماء لما كان جسما سيالا في زمن ما ، والحاصل ان العناوين المأخوذة من الموجودات بملاحظة بعض الخصوصيات اذا لم يلاحظ شيء زائد عليها لا تطلق الا على تلك الموجودات مع تلك الخصوصيات ، سواء كانت تلك الخصوصيات من ذاتيات الشيء او من العوارض ، ولعل هذا بمكان من الوضوح ، ولعمرى أن

٦٢

ملاحظة ما ذكرنا في المقام تكفى المتامل.

حجة من ذهب الى ان المشتق موضوع للاعم من المتلبس ومن انقضى عنه المبدأ امور مذكورة في الكتب المفصلة ، والجواب عنها يظهر لك بادنى تامل.

ومن جملتها : استدلال الامام عليه‌السلام بقوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) على عدم لياقة من عبد الصنم لمنصب الامامة ، تعريضا بمن تصدى لها بعد عبادته الاوثان مدة (١) ومن المعلوم ان صحة الاستدلال المذكور تتوقف على كون المشتق موضوعا للاعم ، اذ الظاهر ان حال الاطلاق متحد مع حال عدم نيل العهد ، فلو لم يكن حقيقة فيما يصح اطلاقه حال الانقضاء لما صح التمسك بالآية لعدم قابلية الجماعة المعهودين الذين تصدوا الامامة.

والجواب : أن الظلم على قسمين : قسم له دوام واستمرار مثل الكفر والشرك ، وقسم ليس له إلّا وجود آنى ، من قبيل الضرب والقتل وامثال ذلك ، وهو بمقتضى الاطلاق بكلا قسميه موضوع للقضية ، والحكم المرتب على ذلك الموضوع امر له استمرار ، اذ لا معنى لعدم نيل الخلافة في الآن العقلى ، فاذا جعل الموضوع الذي ليس له إلّا وجود آنى موضوعا لامر مستمر يعلم ان الموضوع لذلك الامر ليس إلّا نفس ذلك الوجود الآني ، وليس لبقائه دخل اذ لا بقاء له بمقتضى الفرض ، فمقتضى الآية ـ والله أعلم ـ أن من تصدى للظلم في زمن غير قابل لمنصب الامامة وان انقضى عنه الظلم ، ولا يتفاوت في حمل الآية الشريفة على المعنى الذي ذكرنا بين ان نقول بان المشتق حقيقة في الاخص او في الاعم ، اذ الحكم المذكور في القضية ليس قابلا لان يترتب الا على من انقضى عنه المبدأ ، فاختلاف المبنى في المشتق لا يوجب اختلاف معنى الآية ، فلا يصير احتجاج الامام عليه‌السلام بها دليلا لاحدى الطائفتين (٢) كما لا يخفى.

__________________

(١) اصول الكافي : باب طبقات الانبياء والرسل ، ج ١ ، ص ٧٥.

(٢) لا يقال : بل يصير دليلا للقائل بالاعم ، لعدم تمامية الاحتجاج على القول الآخر ،

٦٣

[في بساطة مفهوم المشتق او تركبه]

تتمة : هل المشتقات موضوعة لمفاهيم بسيطة تنطبق على الذوات؟ او هي موضوعة للمعاني المركبة؟ وعلى الاول : هل يكون ذلك المفهوم البسيط الذي فرضناه معنى للمشتق قابلا للانحلال الى الاجزاء؟ او لا يكون كذلك؟

قد يقال : انها موضوعة للمعاني البسيطة التى لا يكون لها جزء حتى عند التحليل ، نظرا الى ما يستفاد مما نقل من اهل المعقول من ان الفرق بين المشتق ومبدئه هو الفرق بين الشيء لا بشرط والشيء بشرط لا ، وظاهر هذا الكلام بل صريحه أن المشتق والمبدأ يشتركان في اصل المعنى ويختلفان بملاحظة الاعتبار.

وتحقيق المقام أن الاعراض وان كان لها وجود ولكن ليس وجودها الا مندكا في وجود المحل بحيث يعد من اطوار المحل وكيفياته ، وهذا النحو من الوجود التبعى الاندكاكى قابل لان يلاحظ في الذهن على قسمين : تارة يلاحظ على نحو يحكى عن الوجود التبعى المندك في الغير ، وهو المراد من قولهم : «ملاحظته على نحو اللابشرط» واخرى يلاحظ على نحو الاستقلال ويتصور بحياله في قبال وجود المحل ، وهو المراد من قولهم «ملاحظته على نحو بشرط لا» فاذا لوحظ على النحو الاول يكون عين المحل ، لانه من كيفيات وجود المحل واطواره ، وليس وجودا مستقلا في قباله ، واذا لوحظ على النحو الثاني فهو وجود مستقل

__________________

لحصول الاجمال بواسطة تعارض ظهور مادة الظلم في شمول القسمين مع ظهور هيئة القضية في وحدة زمان عدم النيل مع زمان جرى الظلم ، ولا ترجيح.

لانا نقول : ظهور المادة اقوى ، فانا وان لم نقل بانصرافها الى الافراد الآنية من قبيل القتل والضرب وشبههما ولكن دعوى قوة ظهور هذه الافراد منها بحيث تابى عن التخصيص بغيرها واخراج هذه عنها غير بعيدة ، بل قريبة جدا (منه).

٦٤

في قبال المحل ، وعلى النحو الاول يصح ان يقال : باتحاده مع المحل وهو مفاد هيئة المشتق كضارب وقاتل وقاعد وامثالها ، مما يحمل على الذوات ، وعلى النحو الثاني هو مفاد الالفاظ الدالة على المواد كضرب وقعود ونحوهما ، ونظير ما ذكرنا هنا من الاعتبارين ذكروا في اجزاء المركب ، من انها بملاحظتها لا بشرط هي عين الكل ، وبملاحظتها بشرط لا هي غيره ومقدمة لوجوده. هذا

والانصاف ان الاتحاد المستفاد من هيئة المشتقات مع الذوات غير الاتحاد الملحوظ في العرض باعتبار قيامه بالمحل ، فان معنى اتحاد العرض مع المحل عدم كونه محدودا بحد مستقل ، لا انه متحد بحيث لم يكن له ميز بنحو من الانحاء ، كيف وقد يشار الى العرض في حال قيامه بالمحل في الخارج ، ويحكم عليه بحكم يخصه ولا يعم المحل ، كقولك مشيرا الى السواد القائم بجسم بان هذا لون ، والحاصل ان هذا الاتحاد نظير اتحاد اجزاء المركب ، فان معنى اتحادها انها محدودة بحد واحد وان كان كل منها ممتازا عن الآخر من وجوه أخر ، بل يمكن ان يكون كل منها معروضا لعرض مضاد لعرض الآخر ، والمعنى المستفاد من لفظ ضارب مثلا الذي يحمل على الذات في الخارج هو معنى يتحد مع الذات ، بحيث لا يكون بينهما ميز في الخارج بوجه ، ولعل هذا واضح بعد ادنى تأمل.

وتظهر الثمرة بين هذا المعنى الذي ادعيناه للفظ المشتقات وبين ما يقوله اهل المعقول أنه لو قال الآمر : «جئنى بالضارب ولا تجئنى بالقاعد» فلا بد من تعيين احد الخطا بين في مورد الاجتماع ، بناء على عدم جواز اجتماع الامر والنهى بناء على ما ذكرنا للمشتق من المدلول ، فان معنى القائم والضارب انطبقا في الخارج على الوجود الشخصى ، واما بناء على ما ذكره اهل المعقول فلا تنافي بينهما ، لان مورد الامر هو الهيئة الخاصة المرتبطة بالمحل ، ومورد النهى هيئة اخرى كذلك ، ونفس المحل خارج عن مورد الامر والنهى ، والحاصل ان مقتضى ما ذكرنا أن مفهوم المشتق هو مفهوم آخر مباين لمفهوم المبدأ لا انهما متحدان ذاتا مختلفان بالاعتبار.

٦٥

وهل يكون هذا المفهوم مركبا من الذات وغيرها كما اشتهر في السنتهم من ان معنى الضارب مثلا ذات ثبت له الضرب ، وكذا باقى المشتقات ، أو لا يكون كذلك ، بل هو مفهوم واحد من دون اعتبار تركيب فيه ، وان جاز التحليل في مقام شرح المفهوم ، كما يصح ان يقال في مقام شرح مفهوم الحجر أنه شيء او ذات ثبت له الحجريّة.

الحق هو الثاني لانا بعد المراجعة الى انفسنا لا نفهم من لفظ ضارب مثلا الا معنى يعبر عنه بالفارسية ب «زننده» وبعبارة اخرى «داراى ضرب» ولا اشكال في وحدة هذا المفهوم الذي ذكرنا ، وان جاز في مقام الشرح ان يقال : اي شيء او ذات ثبت له الضرب ، وليس في باب فهم معاني الالفاظ شيء امتن من الرجوع الى الوجدان.

وقد استدل على عدم اعتبار الذات في مفهوم المشتق بما لا يخلو عن الاشكال :

قال السيد الشريف (١) في وجه عدم اعتبار الذات في مفهوم المشتقات على ما حكى عنه : إنها لو كانت ماخوذة فيها بمفهومها لزم دخول العرض العام في الفصل ، فان لفظ الناطق الذي يؤتى به في مقام ذكر فصل الانسان من المشتقات ، فلو اعتبر فيه مفهوم الذات لزم ما ذكر ، من دخول العرض العام في الفصل ، ولو كانت معتبرة بمصداقها لزم انقلاب مادة الامكان الخاص ضرورة ، فان الشيء الذي له الضحك هو الانسان وثبوت الشيء لنفسه ضروري. «هذا ملخّص ما افاده».

وفيه امكان اختيار الشق الاول والالتزام بان ما هو مفهوم لفظ الناطق ليس بفصل حقيقة ، إمّا بتجريد المفهوم عن الذات ثم جعله فصلا للانسان ، وإمّا بان ما هو فصل حقيقة غير معلوم ، وانما جعل هذا مكان الفصل لكونه من

__________________

(١) في حواشيه على شرح المطالع.

٦٦

خواص الانسان ، فعلى هذا فلا بأس باخذ مفهوم الشيء او الذات في الناطق ، فانه وان كان عرضا عاما للانسان ولكنه بعد تقييده بالنطق يصير من خواصّه ، وكذا امكان اختيار الشق الثاني ويجاب بان المحمول ليس مصداق الذات او الشيء مجردا عن الوصف ، بل هو مقيد بالوصف ، وعليه فلا يلزم انقلاب مادة الامكان الخاص ضرورة ، ضرورة ان كون زيد زيدا المتصف بالضرب ليس ضروريّا.

غاية ما يمكن ان يقال في توجيه هذا الكلام ان القضايا المشتملة على الاوصاف تدل على الاخبار بوقوع تلك الاوصاف وان لم تكن الاوصاف المذكورة محمولة في القضية ، مثلا لو قلت : اكرمت اليوم زيدا العالم تدل القضية على حكايتين : احداهما حكاية ان زيدا عالم ، وأخرى حكاية اكرامك اياه ، وعلى هذا فقولك : زيد ضارب لو كان معناه زيد زيد المتصف بالضرب فيدل هذا القول على اخبار اتصاف زيد بالضرب وعلى ان زيدا المتصف بالضرب زيد ، ولا اشكال في ان الاخبار الثاني بديهي وان كان الاول ليس كذلك ، فالقضية بناء على هذا تشتمل على قضية ضرورية وقضية ممكنة ، مع انه لا شبهة لاحد في ان قولنا زيد ضارب لا يفيد امرا ضروريا.

وفيه ان اشتمال القضية المشتملة على الاوصاف على حكايتها انما هو بانحلال النسبة التامة الموجودة فيها ، لا انها مركبة من قضيتين او القضايا وتلك النسبة الواحدة ينظر فيها فان كانت مثبتة لامر ضروري تعد القضية من الضرورية ، وان كانت مثبتة لامر ممكن تعد من الممكنة ، ولا شبهة في ان النسبة التامة الواقعة بين الذات المقيدة بقيد ممكن والذات المجردة لا تحكى امرا ضروريا ، وهذا واضح.

فائدة

لا اشكال في الفاظ المشتقات الجارية عليه سبحانه ، ولا حاجة الى ارتكاب النقل او التجوز فيها ، بملاحظة أن المعتبر في معنى المشتق ذات ثبت له

٦٧

المبدا فلا يتمشى في صفاته تعالى ، بناء على المذهب الحق من عينيتها مع ذاته سبحانه.

وجه عدم الاشكال انه كما أن الذهن يلاحظ القطرة تارة بحد ماء الحوض مثلا ، واخرى بحد مستقل ، وفي كل منهما يعتبر الملحوظ امرا خارجيا ، كذلك لا مانع في صفاته تعالى من ان يعتبر الذهن ذاتا ومبدأ وعروضا للثاني على الاول ، وينتزع من الذات المعروضة مفهوما يعبر عنه بالمشتق ، ومن المبدأ العارض مفهوما آخر يعبر عنه بالمبدإ ، ولا ينافي ذلك مع اعتقاد العينية ، كما أن ملاحظة القطرة بحد الاستقلال لا ينافي اعتقاد عينيتها مع ماء الحوض.

ومن هنا يظهر الخدشة فيما تفصى به الكفاية عن الاشكال ، من كفاية التعدد المفهومي بين الذات والمبدأ مع وجود العينية الخارجية في صحة الحمل ، فان هذا المعنى موجود بعينه في مبدأ المشتقات المذكورة مع ذاته سبحانه مع عدم صحة الحمل.

هنا تمت المقدمات ، فلنشرع في المقاصد :

٦٨

المقصد الأوّل

فيما يتعلق بالاوامر

وتمام الكلام فيه في طي فصول :

الفصل الأوّل :

في تحقيق معنى صيغة افعل وما في معناها ، وتميز معناها عن معنى الجملة الخبرية.

فنقول قد يقال في الفرق بينهما : إن الجمل الخبرية موضوعة للحكاية عن مداليلها في نفس الامر وفي ظرف ثبوتها ، سواء كان المحكى بها مما كان موطنه في الخارج كقيام زيد ، ام كان موطنه في النفس كعلمه ، والمستفاد من هيئة افعل ليس حكاية عن تحقق الطلب في موطنه ، بل هو معنى يوجد بنفس القول ، بعد ما لم يكن قبل هذا القول له عين ولا أثر.

وقيل في توضيح ذلك : ان مفهوم الطلب له مصداق واقعي يوجد في النفس ويحمل عليه ذلك المفهوم بالحمل الشائع الصناعى ، وله مصداق اعتباري وهو ان يقصد المتكلم بقوله : «اضرب» ايقاعه بهذا الكلام ، وهذا نحو من الوجود وربما يكون منشأ لانتزاع اعتبار يترتّب عليه شرعا وعرفا آثار ، وهكذا الحال في ساير الالفاظ الدالة على المعاني الانشائية كليت ولعل وامثال ذلك.

والحاصل في الفرق بين الجمل الخبرية والانشائية على ما ذهب اليه بعض أن مداليل تلك الالفاظ توجد بنفس تلك الالفاظ اعتبارا ، ولا يعتبر في تحقق مداليلها سوى قصد وقوعها بتلك الالفاظ ، سواء كان مع تلك المداليل ما يعد

٦٩

مصداقا واقعيا وفردا حقيقيا ام لا ، نعم الغالب كون انشاء تلك المداليل ملازما مع المصاديق الواقعية بمعنى أن الغالب أن المريد لضرب زيد واقعا يبعث المخاطب نحوه ، وكذا المتمنى واقعا ، وكذا المترجى كذا يتكلم بكلمة ليت ولعل. هذا

ولي فيما ذكر نظر : اما كون الجمل الخبرية موضوعة لان تحكى عن مداليلها في موطنها ، ففيه ، أن مجرد حكاية اللفظ عن المعنى في الموطن لا يوجب اطلاق الجمل الخبرية عليه ، ولا يصير بذلك قابلا للصدق والكذب ، فان قولنا : «قيام زيد في الخارج» يحكى عن معنى قيام زيد في الخارج ، ضرورة كونه معنى اللفظ المذكور ، واللفظ يحكى عن معناه بالضرورة ، ومع ذلك لا يكون جملة خبرية.

فالتحقيق : انه لا بد من اعتبار امر زائد على ما ذكر حتى يصير الجملة به جملة يصح السكوت عندها ، وهو وجود النسبة التامة ، ولا شبهة في أن النسب المتحققة في الخارج ليست على قسمين : قسم منها تامة ، وقسم منها ناقصة ، بل النقص والتمام انما هما باعتبار الذهن ، فكل نسبة ليس فيها إلّا مجرد التصور تسمى نسبة ناقصة ، وكل نسبة تشتمل على الاذعان بالوقوع تسمى نسبة تامة. ثم ان الاذعان بالوقوع المأخوذ في الجمل الخبرية ليس هو العلم الواقعى بوقوع النسبة ، ضرورة انه قد يخبر المتكلم وهو شاك ، بل قد يخبر وهو عالم بعدم الوقوع ، بل المراد منه هو عقد القلب على الوقوع جعلا ، على نحو ما يكون القاطع معتقدا ، وكان سيدنا الاستاذ «نور الله ضريحه» يعبر عن هذا المعنى بالتجزم.

وحاصل الكلام انه كما ان العلم قد يتحقق في النفس بوجود أسبابه كذلك قد يخلق النفس حالة وصفة على نحو العلم حاكية عن الخارج ، فاذا تحقق هذا المعنى في الكلام يصير جملة يصح السكوت عليها ، لان تلك الصفة الموجودة تحكى جزما عن تحقق النسبة في الخارج ، ويتصف الكلام بالقابلية

٧٠

للصدق والكذب بالمطابقة والمخالفة. هذا في الجمل الخبرية (*١٥).

وأمّا الانشائيات فكون الالفاظ فيها علة لتحقق معانيها مما لم أفهم له معنى محصلا ، ضرورة عدم كون تلك العلية من ذاتيات اللفظ ، وما ليس علة ذاتا لا يمكن جعله علة ، لما تقرر في محله من عدم قابلية العلية وامثالها للجعل.

والذي اتعقل من الانشائيات أنها موضوعة لان تحكى عن حقائق موجودة في النفس ، مثلا ، هيئة افعل موضوعة لان تحكى عن حقيقة الارادة الموجودة في النفس ، فاذا قال المتكلم : اضرب زيدا وكان في النفس مريدا لذلك فقد اعطت الهيئة المذكورة معناها ، واذا قال ذلك ولم يكن مريدا واقعا فالهيئة المذكورة ما استعملت في معناها ، نعم بملاحظة حكايتها عن معناها ينتزع عنوان آخر لم يكن متحققا قبل ذلك ، وهو عنوان يسمى بالوجوب ، وليس هذا العنوان المتاخر معنى الهيئة ، اذ هو منتزع من كشف اللفظ عن معناه ولا يعقل ان يكون عين معناه.

فان قلت : قد يؤتى بالالفاظ الدالة على المعاني الانشائية ، وليس في نفس المريد معانيها ، مثلا ، قد يصدر من المتكلم صيغة افعل كذا في مقام امتحان العبد او في مقام التعجيز وامثال ذلك ، وقد يتكلم بلفظة ليت ولعل ولا معنى في النفس يطلق عليه التمنى او الترجى ، فيلزم مما ذكرت أن تكون الالفاظ في الموارد المذكورة غير مستعملة اصلا او مستعملة في غير ما وضعت له ، والالتزام بكل منهما لا سيما الاول خلاف الوجدان.

قلت : تحقق صفة الارادة او التمنى او الترجى في النفس قد يكون لتحقق مباديها في متعلقاتها ، كمن اعتقد المنفعة في ضرب زيد فتحققت في نفسه ارادته ، او اعتقد المنفعة في شيء مع الاعتقاد بعدم وقوعه فتحقّقت في نفسه حالة تسمى بالتمنى ، او اعتقد النفع في شيء مع احتمال وقوعه فتحققت في نفسه حالة تسمى بالترجى ، وقد يكون تحقق تلك الصفات في النفس لا من جهة متعلقاتها بل توجد النفس تلك الصفات من جهة مصلحة في نفسها ، كما

٧١

نشاهد ذلك وجدانا في الإرادة التكوينية قد توجدها النفس لمنفعة فيها مع القطع بعدم منفعة في متعلقها ويترتب عليها الاثر ، مثال ذلك : ان اتمام الصلاة من المسافر يتوقف على قصد الاقامة عشرة ايام في بلد من دون مدخلية لبقائه في ذلك البلد بذلك المقدار وجودا وعدما ، ولذا لو بقى في بلد بالمقدار المذكور من دون القصد لا يتم ، وكذا لو لم يبق بذلك المقدار ولكن قصد من اول الامر بقائه بذلك المقدار يتم ، ومع ذلك يتمشى قصد البقاء من المكلف مع علمه بان ما هو المقصود ليس منشأ للاثر المهم ، وانما يترتب الاثر على نفس القصد ، ومنع تمشى القصد منه مع هذا الحال خلاف ما نشاهد من الوجدان ، كما هو واضح ، فتعين ان الإرادة قد توجدها النفس لمنفعة فيها لا في المراد ، فاذا صح ذلك في الإرادة التكوينية صح في التشريعية ايضا ، لانها ليست بازيد مئونة منها ، وكذا الحال في باقى الصفات من قبيل التمنى والترجى.

اذا عرفت هذا فنقول : ان المتكلم بالالفاظ الدالة على الصفات المخصوصة الموجودة في النفس لو تكلم بها ولم تكن مقارنة مع وجود تلك الصفات اصلا نلتزم بعدم كونها مستعملة في معانيها ، واما ان كانت مقارنة مع وجود تلك الصفات فهذا استعمال في معانيها ، وان لم يكن تحقق تلك الصفات بواسطة تحقق المبدأ في متعلقاتها ، فتأمل جيدا.

[في الطلب والارادة]

الفصل الثاني : قد اشتهر النزاع في ان الطلب هل هو عين الإرادة او غيرها؟ بين العدلية والاشاعرة ، وذهب الاول الى الاول ، والثاني الى الثاني.

وملخص الكلام في المقام ان يقال : ان اراد الاشاعرة انه في النفس صفة اخرى غير الإرادة تسمى بالطلب فهو واضح الفساد ، ضرورة انا اذا نطلب شيئا لم نجد في انفسنا غير الإرادة ومباديها ، وان اراد ان الطلب معنى ينتزع من الإرادة في مرتبة الإظهار والكشف دون الإرادة المجردة ، فهما متغايران مفهوما

٧٢

وان اتحدا ذاتا ، فهو كلام معقول ، ولكن لا ينبغى ان يذكر في عداد المسائل العقلية ، فان انتزاع مفهوم آخر من مرتبة ظهور الإرادة مما لا ينكر ، كما اشرنا اليه سابقا ، فالكلام المذكور يرجع الى دعوى ان لفظ الطلب موضوع لهذا المعنى ، بخلاف لفظ الإرادة ، فانه موضوع للصفة المخصوصة النفسانية ، سواء تحقق لها كاشف ام لا.

قال شيخنا الاستاذ «دام بقاه» في الكفاية في توضيح عينية الطلب مع الارادة ما لفظه : إن الحق كما عليه اهله وفاقا للمعتزلة وخلافا للاشاعرة هو اتحاد الطلب والإرادة ، بمعنى ان لفظهما موضوعان بازاء مفهوم واحد ، وما بإزاء احدهما في الخارج يكون بإزاء الآخر ، والطلب المنشأ بلفظه او بغيره عين الإرادة الانشائية ، وبالجملة هما متحدان مفهوما وانشاء وخارجا ، لا ان الطلب الانشائى الذي هو المنصرف اليه اطلاقه كما عرفت متحد مع الإرادة الحقيقية التي ينصرف اليها اطلاقها ايضا ، ضرورة ان المغايرة بينهما اظهر من الشمس وابين من الامس ، اذا عرفت المراد من حديث العينية والاتحاد ففي مراجعة الوجدان عند طلب شيء والامر به كفاية ، فلا يحتاج الى مزيد بيان واقامة برهان ، فان الانسان لا يجد غير الارادة القائمة بالنفس صفة اخرى قائمة بها تكون هو الطلب غيرها «انتهى» (١).

اقول : ما افاده من ان الانسان لا يجد من نفسه غير الإرادة القائمة بالنفس صفة اخرى قائمة بها عند طلبه شيئا هو حق لا محيص عنه ، واما التزامه بان المفهوم الذي هو ما بإزاء لفظ الإرادة او الطلب له نحو ان من التحقق : احدهما التحقق الخارجى والآخر التحقق الاعتباري فهو مبنى على ما حققه من أن معاني الهيئة امور اعتبارية توجد باللفظ بقصد الايقاع ، وفيه ، مضافا الى ما عرفت سابقا من عدم تعقل كون اللفظ موجدا لمعناه ، أن الامور الاعتبارية التى

__________________

(١) الكفاية ، الجهة الرابعة من مباحث مادّة الامر ، ص ٩٥.

٧٣

فرضناها متحققة بواسطة الهيئة في الموارد الجزئيّة يؤخذ منها جامع تكون تلك الجزئيات مصداقا حقيقيا له ، وهذا كما في الفوقية ، فانها وان كانت من الامور الاعتبارية ولكن يؤخذ من جزئياتها جامع يحمل على تلك الجزئيات كحمل باقى المفاهيم على مصاديقها ، ولا معنى لجعل تلك الامور مصاديق اعتبارية لمفهوم آخر لا ينطبق عليها ، والحاصل انه ليس للمفهوم سوى الوجود الذهني والخارجي نحو آخر من التحقق يسمى وجودا اعتباريا له.

[في معنى الصيغة]

الفصل الثالث : هل الصيغة حقيقة في الوجوب او فى الندب او فيهما على سبيل الاشتراك اللفظي او المعنوى؟ وجوه.

اقواها الاخير ، ولكنها عند الاطلاق تحمل على الأوّل.

ولعل السر في ذلك ان الإرادة المتوجهة الى الفعل تقتضى وجوده ليس إلّا ، والندب انما يأتى من قبل الاذن في الترك منضما الى الإرادة المذكورة ، فاحتاج الندب الى قيد زائد بخلاف الوجوب ، فانه يكفى فيه تحقق الارادة وعدم انضمام الرخصة في الترك اليها.

وهل الحمل على الوجوب عند الاطلاق يحتاج الى مقدمات الحكمة ، وحيثما اختلت لزم التوقف ام لا؟ بل يحمل على الوجوب عند تجرد القضية اللفظية من القيد المذكور ، الاقوى الثاني : لشهادة العرف بعدم صحة اعتذار العبد عن المخالفة باحتمال الندب وعدم كون الامر في مقام بيان القيد الدال على الرخصة في الترك.

ونظير ما ذكرنا هنا من استقرار الظهور العرفي بمجرد عدم ذكر القيد في الكلام وان لم يحرز كون المتكلم في مقام البيان القضايا المسوّرة بلفظ الكل وامثاله ، فان تلك الالفاظ موضوعة لبيان عموم افراد مدخولها ، سواء كان مطلقا ام مقيدا ، ففي قضية اكرم كل رجل عالم ، واكرم كل رجل ، لفظ الكل مفيد لمعنى واحد وهو عموم أفراد ما تعلّق به وما دخل عليه ، غاية الأمر مدخوله في الاولى

٧٤

الطبيعة المقيدة وفي الثانية المطلقة ، فالتقيد في الرجل الذي هو مدخول الكل ليس تصرفا في لفظ الكل ، وهذا واضح ، ولكنه مع ذلك لو سمعنا من المتكلم اكرم كل رجل لا نرى من انفسنا في الحكم بالعموم في افراد الرجل الاحتياج الى مقدمات الحكمة في لفظ الرجل ، بحيث لولاها نتوقف في ان المراد من القضية المذكورة اكرام جميع أفراد الرجل او جميع افراد الصنف الخاص منه.

ولا يبعد ان يكون نظير ذلك حمل الوجوب على النفسي والتعيينى عند احتمال كونه غيريا او تخييريا ، فان عدم اشتمال القضية على ما يفيد كون وجوبه لملاحظة الغير وكذا على ما يكون طرفا للفعل الواجب يوجب استقرار ظهورها في كون الوجوب نفسيا تعيينيا ، فلا يحتاج الى احراز مقدمات الحكمة.

والشاهد على ذلك كله المراجعة الى فهم العرف ، اذ لا دليل في امثال ذلك امتن مما ذكر.

ويحتمل ان يكون حمل الإرادة على الوجوب التعييني النفسي عند عدم الدليل على الخلاف من باب كونها حجة على ذلك عند العقلاء لو كان الواقع كذلك ، نظير حجية الاوامر الظاهرية على الواقعيات على تقدير التطابق ، من دون ان يستقر الظهور اللفظي فيما ذكرنا. فافهم

[في الجمل الخبرية المستعملة في مقام الطلب]

الفصل الرابع : الجمل الخبرية التي يؤتى بها في مقام الطلب ظاهرة في الوجوب ، سواء قلنا بانها مستعملة في الطلب مجازا ام قلنا بانها مستعملة في معانيها من الحكاية الجزمية عن الواقع بداعي الطلب ، كما هو الظاهر ، أمّا على الاول فلما مر من ان الندب يحتاج الى مئونة زائدة ، واما على الثاني فلان الاخبار بوقوع المطلوب في الخارج يدل على عدم تطرق نقيضه عند الآمر ، فيكون هذا ابلغ في افادة الوجوب من صيغة افعل وامثالها.

لا يقال : لازم حمل الجمل الخبرية في مقام الطلب على الاخبار وقوع الكذب

٧٥

فيما لم يات المكلف بالمطلوب.

لانا نقول : الصدق والكذب يلاحظان بالنسبة الى النسبة الحكمية المقصودة بالاصالة ، دون النسبة التي جىء بها توطئة لافادة امر آخر ، ولذا لا يسند الكذب الى القائل بان زيدا كثير الرماد توطئة لافادة جوده وان لم يكن له رماد او كان ولم يكن كثيرا ، وانما يسند اليه الكذب لو لم يكن زيد جوادا.

[في المرة والتكرار والفور والتراخى]

الفصل الخامس : هيئة افعل تدل بوضع المادة على الطبيعة اللابشرط من جميع الاعتبارات حتى الوجود والعدم وحتى الاعتبار الذي به صار مفادا للمصدر ، ضرورة ان المعنى المذكور آب عن الحمل على الذات فيمتنع وجوده في الهيئة التى تحمل على الذات ، هذا وضع المادة ، وتدل بواسطة وضع الهيئة على الطلب القائم بالنفس ، فالمركب من الوضعين يفيد الطلب المتعلق بتلك الطبيعة اللابشرط ، وحيث ان الطبيعة اللابشرط حتى من حيث الوجود والعدم لا يمكن ان تكون محلا للإرادة عقلا يجب اعتبار وجود ما (١) زائدا على ما يقتضيه وضع المادة والهيئة.

والوجود المذكور الذي يجب اعتباره عقلا على انحاء : احدها الوجود السارى في كل فرد كما في قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(٢) ، الثاني الوجود المقيد بقيد خاص ، ومن القيود المرة والتكرار والفور او الوجود الاول وامثال ذلك ، الثالث ان يعتبر صرف الوجود في مقابل العدم الازلى من دون امر آخر وراء ذلك ، وبعبارة اخرى كان المطلوب انتقاض العدم الازلى بالوجود من دون ملاحظة

__________________

(١) بل يمكن القول باعتباره وضعا ايضا ، فان الهيئة موضوعة بازاء الارادة المتعلقة بالطبيعة بلحاظ الوجود «منه».

(٢) سورة البقرة ، الآية ٢٧٥.

٧٦

شيء آخر ، وحيثما لا يدل الدليل على احد الاعتبارات يتعين الثالث لانه المتيقن من بينها (١) وغيره يشتمل على هذا المعنى وامر زائد فيحتاج الى مئونة اخرى زائدة مدفوعة بمقتضى الاطلاق.

ومما ذكرنا يظهر ان الفور والتراخى والمرة والتكرار وغيرها كلها خارجة عن متفاهم اللفظ نعم لو دل الدليل على احدها لم يكن منافيا لوضع الصيغة لا بمادتها ولا بهيئتها ، ولازم ما ذكرنا الاكتفاء بالمرة سواء أتى بفرد واحد من الطبيعة ام ازيد منه ، لانطباق الطبيعة المعتبرة فيها حقيقة الوجود من دون اعتبار شيء آخر على ما وجد او لا ، فيسقط الامر ، اذ بعد وجود مقتضاه في الخارج لو بقى على حاله لزم طلب الحاصل ، وهو محال ، نعم يمكن ان يقال في بعض الموارد بجواز ابطال ما اتى به اوّلا وتبديله بالفرد الذي ياتي به ثانيا كما ياتي بيانه في محله. هذا

[في الاجزاء]

الفصل السادس : لا اشكال في ان الاتيان بالمامور به بجميع ما اعتبر فيه شرطا وشطرا يوجب الاجزاء عنه ، بمعنى عدم وجوب الاتيان به ثانيا باقتضاء ذلك الامر لا اداء ولا قضاء ، لسقوط الامر بايجاد متعلقه ، ضرورة انه لو كان باقيا بعد فرض حصول متعلقه ، لزم طلب الحاصل وهو محال ، ولا فرق في ذلك بين الواجبات التعبدية والتوصلية ، وما قد يتوهم في التعبديات (*١٦) من انه قد يؤتى بالواجب بجميع ما اعتبر فيه ومع ذلك لم يسقط الامر لفقد التقرب الذي اعتبر في الغرض فهو بمعزل عن الصواب ، لما ذكرنا من استحالة بقاء الامر

__________________

(١) لا يخفى ان اعتبار صرف الوجود ايضا قيد زائد ويحتاج الى مئونة زائدة ، فالقدر المتيقن هو مطلق الوجود المعرى حتى من هذا القيد ، ولا يلزم من ذلك القول بالتكرار لان العلة الواحدة لا تقتضى الا معلولا واحدا «منه».

٧٧

مع وجود عين ما اقتضاه في الخارج ، واما وجوب الاتيان ثانيا في التعبديات لو اخل بقصد القربة فاما من جهة اعتبار ذلك في المامور به واما من جهة تعلق الامر بالاتيان بالفعل ثانيا بعد سقوط الامر الاول لعدم حصول الغرض الاصلى ، وستطلع على تفصيل ذلك عند البحث عن وجوب مقدمة الواجب ان شاء الله.

والحاصل ان الامر اذا اتى بما اقتضاه بجميع ما اعتبر فيه لا اقتضاء له ثانيا نعم يتصور امر آخر يتعلق بايجاد الفعل ثانيا وهذا غير عدم الاجزاء عن الامر الاول ، ولعمرى ان هذا من الوضوح بمكان.

وكذا لا فرق فيما ذكرنا بين الاوامر المتعلقة بالعناوين الاولية والاوامر الملحوظ فيها الحالات الطارية من قبيل العجز والاضطرار والشك وامثال ذلك ، لوجود الملاك الذي ذكرنا في الجميع.

وانما الاشكال والكلام في ان الاوامر المتعلقة بالمكلف بملاحظة العناوين الطارية لو اتى المكلف بمتعلقاتها هل تجزى عن الواقعيات الاولية بحيث لو ارتفعت تلك الحالة الطارية في الوقت او خارجه لا يجب عليه الاتيان بما اقتضت الاوامر الواقعية الاولية او لا يكون كذلك؟

اذا عرفت ذلك فنقول : ان العناوين الطارية التى توجب التكليف على قسمين : احدهما ما يوجب حكما واقعيا في تلك الحالة مثل الاضطرار ، والثاني ما يوجب حكما ظاهر يا مثل الشك.

فهاهنا مقامان يجب التكلم في كل منهما.

[اجزاء الاضطراري عن الاختياري]

اما القسم الأوّل : فينبغي التكلم فيه تارة في انحاء ما يمكن ان يقع عليه واخرى فيما وقع عليه.

اما الأوّل فنقول يمكن ان يكون التكليف بشيء في حال عدم التمكن من

٧٨

شيء آخر او الاضطرار العرفى بتركه ، من جهة ان ذلك الشيء مشتمل على عين المصلحة التي تقوم بالفعل الاختياري (*١٧) ، من دون تفاوت اصلا ، مثلا الصلاة مع الطهارة المائية في حق واجد الماء والترابية في حق فاقده سيان في ترتب الاثر الواحد المطلوب الموجب للأمر ، ويمكن ان يكون الفعل في حق المضطر مشتملا على مصلحة وجوبية لكن من غير سنخ تلك المصلحة القائمة بالفعل الاختياري (*١٨) وان كانت مثلها في كونها متعلقة لغرض الآمر في الحال التى يكون المكلف عليها ، ويمكن ان يكون مشتملا على مرتبة نازلة من المصلحة القائمة بالفعل الاختياري ، وعلى هذا يمكن بلوغ الزائد حدا يجب استيفائه ويمكن عدم بلوغه بهذه المرتبة ، وعلى الأول يمكن كون الزائد مما يمكن استيفائه بعد زوال العذر ويمكن عدم كونه كذلك ، هذه انحاء الصور في التكاليف الاضطرارية.

ولازم الاول من الاقسام المذكورة الاجزاء بداهة مساواة الفعل الاضطراري مع الفعل الاختياري في تحصيل الغرض على الفرض المذكور فكما ان الفعل الاختياري يوجب الاجزاء كذلك الاضطراري.

ولازم الثاني منها عدم الاجزاء اذ الفعل الاضطراري وان كان مشتملا على المصلحة التامة كالاختياري لكن المصلحة القائمة بكل منهما تغاير الاخرى ، فلا يكون احد الفعلين مجزيا عن الآخر ، نعم يمكن ان يكون احد الفعلين في الخارج موجبا لعدم امكان استيفاء مصلحة الآخر.

ولا يخفى ان لازم كلا القسمين المذكورين جواز تحصيل الاضطرار اختيارا.

ولازم الثالث عدم الاجزاء مع اتصاف الزائد بوجوب الاستيفاء وامكانه معا وفي غيره الاجزاء ، ثم انه ان كانت المصلحة الزائدة بمرتبة اللزوم ولا يمكن الاستيفاء بعد اتيان الفعل الاضطراري لا يجوز للآمر الايجاب والبعث الى الاضطراريّ في الوقت ان علم بزوال عذره قبل زوال الوقت ، لانه تفويت للمصلحة اللازمة ، وفي غير الصورة المذكورة يجوز الايجاب وان علم بزوال عذره

٧٩

في الوقت ، ووجهه ظاهر.

ولازم الصورة الاولى عدم جواز البدار الى الفعل الاضطراري إلّا اذا علم باستيعاب العذر لتمام الوقت ، كما ان لازم الثانية جواز ذلك وان علم بانقطاع العذر ، والقول بعدم جواز البعث للآمر والبدار للمكلف في الصورة الاولى انما هو فيما لم يكن للتكليف مصلحة يتدارك بها المصلحة الزائدة الفائتة ، وإلّا يجوز وتنتفى الثمرة بين الصورتين.

هذه انحاء التصور في التكاليف الاضطراريّة.

واما ما وقع بمقتضى النظر في ادلتها (*١٩) فالظاهر ان الماتى به في حال الاضطرار لو وقع مطابقا لمقتضى الامر يسقط الاعادة ثانيا ، فان ظاهر ادلتها ان المعنى الواحد يحصل من المختار باتيان التام ومن المضطر باتيان الناقص ، نعم في كون موضوع تكليف المضطر هو الاضطرار الحالى او الاضطرار المستوعب لتمام الوقت كلام لا بد في تنقيح ذلك من النظر في الادلة ، وللكلام فيه محل آخر ، ويتفرع على الاول سقوط الاعادة لو انقطع العذر في الاثناء وعلى الثاني عدم السقوط ، لا لعدم اجزاء امتثال الامر في حال الاضطرار ، بل لكشف انقطاع العذر عن عدم كون الماتي به متعلقا للامر.

واما القضاء فيما اذا استوعب العذر مجموع الوقت وانقطع بعده فيسقط عنه على كلا التقديرين.

ثم انه لو فرضنا الشك في ظواهر الادلة فاصالة البراءة محكمة ، لرجوع المقام الى الشك في التكليف ، ولا فرق في ذلك بين الاعادة والقضاء.

لا يقال : مقتضى وجوب قضاء ما فات وجوب العمل التام عليه لصدق فوت العمل التام عنه.

لانا نقول : يعتبر في صدق الفوت اشتمال العمل على المصلحة المقتضية للايجاب عليه ولم يستوفها المكلف ، والمفروض احتمال استيفاء المكلف العاجز تلك المصلحة باتيان الناقص ، ومع هذا الاحتمال يشك في صدق الفوت الذي

٨٠