حاشية فرائد الأصول - ج ١

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-015-2
الصفحات: ٦٩٤

وإن أريد منه العسر النوعي وأنّ الصوم في السفر مثلا عسر على نوع المكلفين فيجب ارتفاعه حتى بالنسبة إلى من لا عسر عليه بالصوم ، ففيه : أنّه يلزم بمقتضى العلية أن كل تكليف يكون شاقا على نوع المكلفين بمقدار الصوم في السفر كالصوم في شدة الحر والوضوء في شدة البرد ونحوه مرفوعا ولا يلتزم أحد بذلك ، والقول بخروجها عن القاعدة بالإجماع يلزمه التخصيص الأكثر.

ومنها : قوله تعالى في سورة المائدة : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(١) قيل في تفسيرها : إنّ الله سبحانه رفع حكم الوضوء حال عدم القدرة على الماء ، كما أنه رفع حكم التيمم أيضا حال عدم القدرة على الصعيد لأنّه ما يريد الله ليجعل ، إلى آخره.

وقيل أيضا إنه تعالى أبدل حكم الوضوء بالتيمم ورفع حكم الوضوء حين عدم وجدان الماء لأنّه ما يريد الله ، إلى آخره.

ولا يخفى أنّ الاستدلال إنما يصح على الثاني كما هو ظاهر الآية أيضا ، وعلى الأول يكون مساوقا لرفع تكليف ما لا يطاق ، وإن حمل عدم وجدان الماء على عدم التمكن منه على ما اختاره جملة من الفقهاء يكون كذلك أيضا ، نعم إن حمل عدم الوجدان على ما دون ذلك وهو ما إذا كان تحصيل الماء عسرا فإبدال حكم الوضوء حينئذ بالتيمم معللا بالحرج يصحح حمل قضية التعليل على المقصود من رفع التكليف الشاق العسر كما هو ظاهر القضية ، فقد أخبر

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦.

٥٤١

سبحانه بأنّ كل تكليف يكون حرجا على المكلف لم يجعله.

والجواب : أنّ الآية بصدد بيان أنّ التكاليف المجعولة في الشريعة لا حرج فيها كما كان في الشرائع السابقة من صوم الوصال وقرض اللحوم بالمقاريض إذا أصابتهم قطرة بول وكون التوبة بمقابلتهم بالسيف وأمثالها ، وبعبارة أخرى لم يكلف التكاليف الحرجية العظيمة مثل ما كلف في الأمم السابقة منة على هذه الأمة المرحومة ، لا أنّ هذه التكاليف الثابتة بعموم أدلتها كالصلاة والصوم والزكاة لم يجعل أفرادها الحرجية.

لا يقال : مقتضى وقوع النكرة يعني لفظ الحرج في سياق النفي ارتفاع جميع أفراد الحرج لا خصوص ما ذكر وبقاء جملة من التكاليف الحرجية ، فإنّ ذلك يحتاج إلى مخصص مفقود.

لأنّا نقول : وجود التكاليف الحرجية في الشريعة في الجملة ولو في مثل الجهاد مما لا ينكر ، وهذا مناف لعموم رفع الحرج على أيّ معنى حملت الآية ، فالإشكال مشترك والأجوبة عنها على ما سيأتي أيضا مشتركة ، والمعنى الذي حملنا الآية عليها لأجل السياق وأنه سبحانه بصدد بيان حكمة الجعل لا علة الحكم يدور مدارها كما ذكرنا في الآية السابقة (١).

__________________

(١) أقول : الانصاف أنّ ما ذكر في الآية السابقة من عدم جواز حمل قضية رفع العسر على العلة لا يجري هنا ، إذ يمكن أن نلتزم هنا بأنّ المراد الحرج الشخصي وينطبق على المورد أعني تبدل حكم الوضوء بالتيمم إذا كان تحصيل الماء للوضوء حرجا من غير نقض ، أو نلتزم بالحرج النوعي ونقول بارتفاع كل حكم بلغ عسر امتثاله إلى هذا الحد أي حدّ العسر الذي نحكم فيه بارتفاع حكم الوضوء وانتقاله إلى التيمم ، ولا محذور فيه كما كان في الآية السابقة.

٥٤٢

ومنها : قوله تعالى في أواخر سورة الحج : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ)(١) وهذه أظهر الآيات دلالة وجوابها كما في الآية السابقة بعينه (٢).

وأما السنة فيستدل أيضا بأخبار :

الأول : الخبر العلوي المروي عن عوالي اللئالي «الميسور لا يسقط بالمعسور» (٣) فإنه بالتقريب الذي استدلوا به على قاعدة الميسور يدل التزاما على أنّ سقوط المعسور بالعسر مفروغ عنه ، وهو في هذا الكلام بصدد بيان عدم سقوط الميسور بعد سقوط المعسور بل يجب الاتيان بالميسور. لكن الكلام يبقى في سند الرواية فإنّه ضعيف ، وما قيل من انجباره بالشهرة مدخول بعدم الشهرة في الرواية فإنّه لم توجد روايته في غير عوالي اللئالي ، ومنع الشهرة

__________________

نعم لو قيل إنّ معنى قوله : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) لم تقدروا على الماء أو لم تتمكنوا من استعمال الماء سقط الاستدلال بالآية ، لأنّ قوله : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) في حكم الكبرى لقضية تبدل حكم الوضوء بالتيمم لأجل ضرر الوضوء ، فلا بدّ أن يراد بالحرج المتعذّر لينطبق الكبرى على الصغرى ، لكنا نقول إنّ معنى (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) لم يكن تحصيل الماء عليكم حرجا بقرينة التعليل برفع الحرج.

فإن قلت : صريح القضية عدم جعل الحرج في الحكم وهذا المعنى يناسب أن يكون بيانا للحكمة الباعثة على عدم جعل الأحكام الحرجية ، وأين هذا من رفع الأحكام الثابتة في الشريعة إذا بلغت حدّ الحرج كما هو المقصود في الاستدلال.

قلت : المراد من رفع الأحكام الثابتة أيضا هو الرفع الصوري وإلّا لم يعقل رفع الحكم الثابت إلّا بالنسخ ، ففي الحقيقة يرجع الرفع أيضا إلى عدم الجعل.

(١) الحج ٢٢ : ٧٨.

(٢) أقول : قد مر ضعف الجواب وأنّ المعنى الذي حملت الآية عليه خلاف الظاهر من غير قرينة توجبه.

(٣) عوالي اللئالي ٤ : ٥٨ / ح ٢٠٥ (باختلاف يسير).

٥٤٣

الفتوائية أيضا بحيث يكون جابرا.

نعم اشتهر التمسك به في ألسنة متأخري المتأخرين على قاعدة الميسور ، وقد بالغ المحقق النراقي في عوائده (١) في المناقشة على سند الرواية ودلالتها أيضا بما لا مزيد عليه ، ومن شاء فليراجع إليها.

الثاني : ما عن قرب الإسناد عن الصادق (عليه‌السلام) عن أبيه (عليه‌السلام) عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : «أعطى الله أمتي وفضّلهم به على سائر الأمم ، أعطاهم ثلاث خصال لم يعطها الأنبياء وذلك أنّ الله تعالى كان إذا بعث نبيا قال له اجتهد في دينك ولا حرج عليك وأنّ الله تعالى أعطى أمتي ذلك حيث يقول : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) يقول من ضيق» الحديث (٢) ، والمراد والله أعلم أنه تعالى رفع الحكم الحرجي عن الأنبياء الماضين عن أنفسهم ورفعه عن آحاد أمتي امتنانا على أمتي وعليّ ، ولو لا استشهاده في آخر الحديث بالآية لأمكن أن يكون المراد من قوله : «لا حرج عليك» أنّه لا حرج عليك من أعدائك أعداء الله فانا نحفظك من كيدهم وأذيّتهم.

وكيف كان فالرواية ظاهرة في رفع الحرج في الأحكام عن الأمة ، ويبقى الكلام في السند.

الثالث : صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) وهي طويلة وفيها «فلمّا وضع الوضوء عمن لم يجد الماء أثبت لبعض الغسل مسحا لأنه قال (بِوُجُوهِكُمْ) ثم وصل بها (وَأَيْدِيَكُمْ) ثم قال (مِنْهُ) أي من ذلك التيمم ، لأنه علم أنّ ذلك لم يجر على الوجه لأنّه يعلق من ذلك الصعيد ببعض الكف ولا

__________________

(١) عوائد الأيام : ٢٦١ ـ ٢٦٥.

(٢) قرب الاسناد : ٨٤ ، بحار الأنوار ٢٢ : ٤٤٣.

٥٤٤

يعلق ببعضها ، ثم قال : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) والحرج الضيق» (١) ولا يخفى أن الرواية ظاهرة في أنّ حكمة جعل التيمم بالكيفية المخصوصة بدلا عن الوضوء هو الحرج ، ونحن لا نعرف معنى الحرج في المقام ، لأنّه لو أوجب تعالى مسح جميع أعضاء الوضوء بالصعيد أو أوجب تكرار الضرب إلى أن يصل العلوق بكل الوجه لم يكن حرجا عرفا. وبالجملة لا دلالة في الرواية على ما أردنا.

الرابع : صحيحة الفضيل بن يسار عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «في الرجل الجنب يغتسل فينضح من الماء في الإناء ، فقال : لا بأس (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)» (٢).

الخامس : صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) «قال : سألته عن الجنب يجعل الركوة أو التور فيدخل إصبعه فيه ، قال إن كانت يده قذرة فليهرقه وإن كان لم يصبها قذر فليغتسل منه ، هذا مما قال الله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(٣).

وفيهما معا ما في سابقهما وأنه في مقام بيان حكمة عدم جعل بدن الجنب نجسا.

السادس : موثقة أبي بصير قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) إنا نسافر فربما بلينا بالغدير من المطر يكون إلى جانب القرية فتكون فيه العذرة ويبول فيه الصبي وتبول فيه الدابة وتروث ، فقال : إن عرض في قلبك منه شيء

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٠ / ٤ ، التهذيب ١ : ٦١ / ١٦٨ ، وفيه : «أثبت بعوض الغسل مسحا».

(٢) الوسائل ١ : ٢١٢ / أبواب الماء المضاف ب ٩ ح ٥.

(٣) الوسائل ١ : ١٥٤ / أبواب الماء المطلق ب ٨ ح ١١.

٥٤٥

فقل هكذا يعني أفرج الماء بيدك ثم توضأ فإنّ الدين ليس بمضيق فإنّ الله يقول : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(١) وفيه ما في سوابقه من أنّه بيان لحكمة عدم جعل انفعال الماء الكثير بوقوع النجاسات المذكورة فيه.

السابع : حسنة محمد بن الميسر قال «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق ويريد أن يغتسل منه وليس معه إناء يغرف به ويداه قذرتان : قال (عليه‌السلام) : يضع يده ويتوضأ ثم يغتسل ، هذا مما قال الله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)» (٢) فإن أراد من الماء القليل ما كان بقدر الكر وأنه قليل بالنسبة إلى الغدران والحياض الكبار لينطبق على مذهب المشهور من انفعال الماء القليل بالملاقاة فهو كسابقه في مقام بيان حكمة عدم انفعال الكر ، وإن أراد القليل المصطلح أي ما دون الكر ، فإن أريد أن الماء لم ينفعل بغسل اليد القذرة فيه لأجل طهارة الغسالة فكذلك ولا دلالة فيه على ما نحن فيه ، وإن أريد رفع حكم نجاسة الماء بالملاقاة في حال انحصار الماء في مثله وعدم الإناء ليغرف به فهو دليل على المطلب لو قلنا بمضمونه ولا نقول.

الثامن : وهو أوضح أخبار الباب دلالة وهي رواية عبد الأعلى مولى آل سام «قال : قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة فكيف أصنع بالوضوء؟ فقال : يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله ، قال الله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) امسح عليه» (٣) الظاهر أنّ المراد امسح على المرارة ، وإرجاع ضمير المذكر إليها باعتبار الإصبع فكأنه

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٦٣ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ١٤.

(٢) الوسائل ١ : ١٥٢ / أبواب الماء المطلق ب ٨ ح ٥.

(٣) الوسائل ١ : ٤٦٤ / أبواب الوضوء ب ٣٩ ح ٤.

٥٤٦

قال : امسح على الاصبع المغطى بالمرارة أو بتأويل ما ذكر.

وبالجملة : الأمر في التذكير والتأنيث سهل فلا يرفع اليد عن الظاهر لذلك ، ولا لما قيل من إجمال الرواية من جهة أنّ عدم إمكان مباشرة المسح ببعض الأصابع لا يسقط به أصل المباشرة فيجب المسح حينئذ مباشرة ببعض الأصابع الباقية ، إذ لا يتعين المسح في إصبع خاص ، فلا بدّ من حمل الرواية على أنّه جعل المرارة على جميع الأصابع وهو خلاف ظاهر قوله «فجعلت على اصبعي» أو على أنّ المراد إصبع اليد لا الرجل وهو لا يناسب انقطاع الظفر بالعثرة ، أو نقول بوجوب المسح على جميع ظهر القدم ولا نقول به ، وذلك لأنّ استحباب استيعاب ظهر القدم بالمسح يكفي في تصحيح الأمر بالمسح على المرارة وأنه لم يرتفع أصل الاستحباب بتعذّر المباشرة.

وكيف ما كان ظهور الرواية في رفع مطلق الحكم بالحرج مما لا ينكر ، وإنّما الكلام في سندها ، ولا يبعد دعوى انجباره بالشهرة ، وقد ظهر مما ذكرنا تمامية الخبرين الأولين والأخير (١).

المطلب الثالث : في تعيين مقدار الحرج المرفوع فإنّ له مراتب كثيرة ، والقدر المتيقّن هو الفرد الأعلى وهو ما يكون بقدر الطاقة دون التعذّر بمرتبة واحدة ، وإطلاق اللفظ يشمل جميع المراتب وهو ما فوق اليسر.

والتحقيق أن يقال إنّه يستفاد من موارد الأخبار الواردة في المقام التي علل نفي الحكم فيها بآية الحرج أنّ ميزان الحرج المرفوع ما اشتمل عليه مورد هذه الأخبار.

__________________

(١) أقول : وظاهر الآية كما عرفت.

٥٤٧

لا يقال : إنّ هذه الأخبار ما سوى خبر عبد الأعلى والرواية الثانية كانت ظاهرة في بيان حكمة عدم جعل الحكم الحرجي رأسا لا رفع الحكم المجعول عن أفراده الحرجية كما هو المدعى فكيف يؤخذ الميزان عن موردها.

لأنا نقول : بعد استشهاد الإمام (عليه‌السلام) في مقام الدفع والرفع كليهما بآية الحرج نعلم أنّ رفع الحرج في الآية أعم من الدفع والرفع ، لكنه وارد على موضوع واحد ، فإذا تعيّن مرتبة الموضوع في موارد الدفع يعلم أنّ ذلك مرتبة الموضوع في مورد الرفع أيضا ، هذا.

وهاهنا إشكالان أشار إليهما في العوائد (١) :

الأول : أنا نرى ثبوت التكاليف الكثيرة في الشريعة البالغة حدّ الحرج الذي استظهرنا من موارد الأخبار أنه ميزان حدّ الحرج المرفوع فيكشف ذلك عن بطلان ذلك الميزان.

الثاني : وقوع التكاليف الحرجية الصعبة غاية الصعوبة في الشريعة وعدم ارتفاعها كالتكليف بالصيام في الأيام الحارة الطويلة والحج والجهاد ونحوها.

وأجاب عن الثاني : بأنّ عموم أدلة رفع الحرج كسائر العمومات قابل للتخصيص يخصص بالمذكورات ، ولا يتوهم أنّه من تخصيص الأكثر لأنّ التكاليف الحرجية غير المجعولة نوعها أكثر من أن تحصى بعد ما عرفت أنّ عموم الآية شامل للدفع والرفع.

وعن الأول : تارة بالتزام التخصيص كالأول ، وأخرى بأنّ نفي الإمام (عليه‌السلام) للحكم في بعض الأحاديث محتجا بكونه حرجا ليس

__________________

(١) عوائد الأيام : ١٨٧ ـ ١٩٤.

٥٤٨

غرضه أنّه منفي لكونه حرجا ولا يمكن تحقق الحرج في الحكم ، بل المراد أنه حرج فيكون داخلا تحت عموم قوله سبحانه : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(١) فلا يحكم بخلافه إلّا أن يوجد له مخصص ولا مخصّص لهذا الحكم ، وأكثر تلك الاحتجاجات عنهم إنّما وقع في مقام الرد على العامة العمياء.

وفي كلا الجوابين نظر : أما التخصيص فلأنّ عمومات رفع الحرج آبية عن التخصيص بحسب سياقها.

وأما الجواب الثاني عن الإشكال الأول فلا نفهم منه معنى محصل إلّا أن يريد أنه تعليل صوري وقع في مقابل العامة إلزاما عليهم ، ووجه رفع الحكم شيء آخر غير الحرج لا نعلمه ولم ينبه الإمام (عليه‌السلام) أيضا.

وأجاب المحقق القمي (٢) عن الإشكال الثاني في آخر أصل البراءة بأنّ المراد بنفي العسر والحرج نفي ما هو زائد على ما هو لازم لطبائع التكاليف الثابتة بالنسبة إلى طاقة أوساط الناس الخالين عن المرض والعجز والعذر ، بل هي منفية من الأصل إلّا فيما ثبت وبقدر ما ثبت.

والحاصل : أنّا نقول إنّ المراد أنّ الله سبحانه لا يريد بعباده العسر والحرج والضرر إلّا من جهة التكاليف الثابتة بحسب أحوال متعارف الأوساط وهم الأغلبون ، فالباقي منفي سواء لم يثبت أصله أصلا أو ثبت ولكن على نهج لا يستلزم هذه الزيادة.

وفيه : أنّ حمل الآيات على رفع الحرج الزائد على ما تقتضيه طبيعة التكاليف ينافي ما استشهد فيه الإمام (عليه‌السلام) من الأخبار في رفع أصل

__________________

(١) الحج ٢٢ : ٧٨.

(٢) قوانين الأصول ٢ : ٤٩ ـ ٥٠.

٥٤٩

الحكم بالحرج ، فإنّه في مقام عدم جعل الحكم نوعا لكونه حرجا في أصله ، فلا بدّ أن يراد عدم جعل الحكم الذي في أصله حرج حتى بالنسبة إلى ما يقتضيه طبيعة ذلك الحكم كما اعترف به في شمولها في مقام الدفع أيضا.

والحاصل : أنّه إن أريد من عدم جعل الحرج في الدين الحرج الزائد عن طبيعة التكليف فلا يشمل مقام الدفع ، وإن أريد رفع مطلق الحكم الحرجي لشمول مقام الدفع لم يتم الجواب وبقي الإشكال بحاله ، ولم يمكن إرادة كلا المعنيين معا كما هو واضح.

وأجاب عن الإشكال السيد بحر العلوم في فوائده بعدم كون التكاليف الواردة في الشريعة من مثل الحج والجهاد والزكاة من الحرج ، فإنّ العادة قاضية بوقوع مثلها والناس يرتكبون مثل ذلك من دون تكليف ومن دون عوض كالمحارب للحمية أو بعوض يسير كما إذا أعطي على ذلك أجرة فإنا نرى أنّ كثيرا يفعلون ذلك بشيء يسير.

وبالجملة : فيما جرت العادة بالاتيان بمثله والمسامحة وإن كان عظيما في نفسه كبذل النفس والمال فليس ذلك من الحرج في شيء ، نعم تعذيب النفس وتحريم المباحات والمنع عن جميع المشتهيات أو نوع منها على الدوام حرج وضيق ومثله منتف في الشرع.

وفيه : أنّ منع تحقق الحرج في مثل الحج والزكاة سيما الجهاد في غير المحل قطعا بأيّ معنى حمل الحرج ، وارتكاب الناس مثلها لملاحظة الأهم في نظرهم لا يخرجها عن موضوع الحرج فإن تحمل الناس أقوى أفراد الحرج كقطع بعض أعضائهم أحيانا إبقاء للحياة وتوقفه عليه مما لا ينكر ، ومع ذلك عسر وحرج عليهم أيّ حرج.

٥٥٠

وقريب من الجواب الأخير ما قيل من أنّ العسر والحرج في الأمور إنما يختلف باختلاف العوارض الخارجية ، فقد يكون شيء عسرا وحرجا ويصير باعتبار أمر خارجي سهلا وسعة ، ومن الأمور الموجبة لسهولة كل عسر وضيق مقابلته بالعوض الكثير والأجر الجزيل ، ولا شك أنّ ما كلف به الله سبحانه يقابله ما لا يحصى من الأجر (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها)(١) وعلى هذا لا يكون شيء من التكاليف عسرا وحرجا ، وما لم يرض الله سبحانه فيه بأدنى مشقة يكون من الأمور التي لا يقابلها أجر ، وما كلف به من الأمور الشاقة ظاهرا فقد ارتفعت مشقتها بما وعد لها من الأجر الجميل والثواب الجزيل.

وفيه أوّلا : ما في سابقه من تحقق موضوع الحرج جزما ومنعه مكابرة.

وثانيا : يلزم سقوط قاعدة الحرج رأسا ، إذ كل مورد من موارد الحرج إن ورد فيه عموم أو إطلاق يقتضي الحكم كشف عن وجود مصلحة بالغة فيلزم أن لا يكون التكليف حرجا ، وإن لم يرد ما يثبت الحكم فالحكم منفي بالأصل ولا حاجة في رفعه إلى قاعدة الحرج.

وكيف ما كان فالإشكالان باقيان بحالهما ، والأقرب في جواب الإشكال الأول ما اختاره النراقي من التزام التخصيص في القاعدة ، وما ذكرنا في ردّه من أنّ عمومات رفع الحرج آبية عن التخصيص باعتبار كونها في مقام الامتنان يمكن دفعه بأنها مع ذلك مما يقبل التخصيص بالدليل القطعي. وأما الإشكال الثاني فلا مدفع له ظاهرا (٢).

__________________

(١) الأنعام ٦ : ١٦٠.

(٢) أقول : يمكن دفعه بأنا نرجع في موضع الحرج إلى العرف ونمنع الميزان الذي قد سبق استفادته من الأخبار المعلّلة بآية الحرج ، ونقول إن ما اشتمل عليه الأخبار ما عدا خبر

٥٥١

المطلب الرابع : في بيان نسبة قاعدة الحرج مع سائر الأدلة المثبتة للتكاليف. فاعلم أنّه يظهر من جماعة على ما حكي كما هو صريح العوائد أنّه يلاحظ نسبتها مع الأدلة كنسبة باقي الأدلة بعضها إلى بعض بالتعارض ، فما كان أخص مطلقا من القاعدة يقدم عليها وما كان أخص من وجه يقدم ما كان أظهر دلالة منه ومن القاعدة ، وإن تساويا فيرجع إلى المرجحات السندية إن وجدت وإلّا فالتخيير أو التوقف ، لكن المصنف (رحمه‌الله) يقول بحكومة القاعدة كقاعدة الضرر على سائر الأدلة ولا يلاحظ النسبة أصلا ، فأدلة الحرج والضرر مقدمة على أدلة الأحكام طرا سواء كانت النسبة بينها وبينها عموما مطلقا أو من وجه.

ومعنى الحكومة على ما حققه في غير موضع أن يكون الحاكم بمدلوله اللفظي مفسرا للمحكوم وناظرا إليه ، مثاله الواضح أن يقول أكرم العلماء ثم يقول أعني من ذلك عدولهم ، وترجع الحكومة في الحقيقة إلى التخصيص لكن بلا ملاحظة النسبة ، وفرق بينها وبين التخصيص بأنّ وجه التخصيص حكم العقل بتقديم الخاص على العام بسبب قوة دلالة الخاص من العام على مورد الخاص ، ووجه الحكومة انفهام تقدم الحاكم على المحكوم من دليل الحاكم بمدلوله اللفظي ، ولازم ذلك تقديم الحاكم وإن كان المحكوم أقوى دلالة بمراتب وكان الدليل الحاكم في أول مراتب الظهور.

__________________

عبد الأعلى لا يصدق عليه الحرج عرفا حتى يراد من الآية ما هو بمرتبته حتى يرد الإشكال ، غاية الأمر خفاء وجه التعليل علينا وكم له من نظير ، ومن راجع علل الأحكام الواردة عنهم (عليهم‌السلام) يجد صدق ما ذكرنا وأنه لا تنطبق العلة على المعلل غالبا بحسب عقولنا ، فليكن هذا من ذاك.

٥٥٢

ثم اعلم أنّ المصنف (رحمه‌الله) يرى أنّ الأدلة الاجتهادية كخبر الواحد وظاهر الكتاب ونحوهما أيضا حاكمة على الأصول التعبدية كالاستصحاب وأصالة البراءة الشرعية ، كما أنّها واردة على الأصول العقلية كالبراءة العقلية والتخيير على ما بيّنه في أول رسالة التعادل والترجيح.

وتوجيهه : أنّ الأدلة حاكمة على الأصول وناظرة إليها بالنظر القهري بمعنى جعل الأدلة بحيث تكون لازمها رفع اليد عن مقتضيات الأصول الشرعية وإن لم يقصد ذلك حين الجعل ، لا مثل قوله (عليه‌السلام) : «لا سهو في السهو» (١) و «لا سهو في النافلة» (٢) ونحوهما ، فإنّها ناظرة إلى الأحكام المجعولة للسهو بالنظر القصدي ، ولعله يظهر من المصنف أنّ القسم الأول أيضا من النظر القصدي ولا نعرف له وجها ، مع أنّ لنا كلاما في أن يكون تقديم الأدلة على الأصول من باب الحكومة ، وتحقيق ذلك كله موكول إلى محله ، فلنرجع إلى ما كنا فيه من حكومة أدلة الحرج وتقدمها على سائر الأدلة.

فنقول : لا نسلّم أنه على تقدير حكومة أدلة الحرج على أدلة التكاليف كان اللازم تقديمها عليها مطلقا ولو كان دليل المحكوم أقوى ظهورا عن الحاكم بمراتب على ما حققه ، وبيان ذلك موقوف على تمهيد مقدمة وهي أنّ الدليل الحاكم له ظهوران :

أحدهما : ظهوره في أفراد مدلوله التي منها الفرد الذي هو مادة اجتماعه مع دليل ثبوت أصل التكليف.

وثانيهما : ظهوره في تفسير سائر الأدلة وشرحها ، ولا شكّ أنّ الظهور

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٢٤٣ / أبواب الخلل ب ٢٥.

(٢) المستدرك ٦ : ٤١٤ / أبواب الخلل ب ١٦ ح ٢.

٥٥٣

الثاني تابع للظهور الأول بحيث لو فرض سقوط الظهور الأول لم يبق الظهور الثاني ولا محل له ، فلو فرض أنه ورد مخصص قطعي للدليل الحاكم لم يبق له ظهور في التفسير والشرح بالنسبة إلى مورد المخصص ، ولذا لا يمكن أن يقال إنّا نرفع اليد بهذا المخصص عن ظهورين ظهور عموم المدلول وظهور كونه شرحا وتفسيرا ، بل يرفع بالمخصص ظهور عموم المدلول ولم يبق ظهور آخر بالنسبة إلى مورد المخصص ، ونظير هذا الكلام ما نقول في بيان بعض ما يرد على المصنف في باب التراجيح من أنّ اعتبار ظهور متن الخبر تابع لاعتبار سنده ، فإن سقط المتن عن الاعتبار لم يبق ظاهر ، ولا يمكن أن يقال حينئذ سقط السند وسقط ظهور المتن أيضا كما بنى المصنف عليه وجه الترجيح في رسالة التراجيح ، هذا.

ثم من المعلوم أنّ أدلة الحرج نسبتها مع أدلة سائر التكاليف عموم من وجه ، وشمولها للفرد المجمع بالظهور لا بالنصوصية ، وأيضا لسان حكومتها على الأدلة أيضا بالظهور لا بالنصوصية لأنّه تابع لنفس المدلول.

إذا تمهّد ذلك فنقول : لا وجه لإلغاء قوة الدلالة بالمرة في الدليل المحكوم وتقديم الحاكم مطلقا ولو كان أضعف دلالة بمراتب بملاحظة ظهور الحاكم في التفسير والشرح ، لما قد عرفت من أن ظهوره في التفسير والشرح تابع لظهوره في أصل المدلول ، إذ لو كان ظهوره في أصل المدلول ضعيفا بمراتب بالنسبة إلى الدليل المحكوم يقدّم ظهور المحكوم في محل التعارض لقوته ولم يبق ظهور كونه شارحا ومفسّرا أيضا ، بل حق المطلب التفصيل ، فإن كان ظهور الدليل المحكوم في الفرد المجمع أقوى من مجموع ظهور الدليل الحاكم في المجمع وظهور كونه شارحا ومفسرا يقدّم المحكوم البتة ، وإن كان ظهور الحاكم والمحكوم متساويين في المجمع كان الترجيح للحاكم لأنّه أظهر بملاحظة جهة

٥٥٤

كونه ناظرا إلى المحكوم ومفسرا له ، وكذا لو كان الحاكم في نفسه أضعف من المحكوم لكن يكون أقوى بملاحظة جهة التفسير ، ولو كان الحاكم أقوى دلالة حتى مع قطع النظر عن جهة التفسير فالأمر أوضح.

وبالجملة : لا نحكم بتقديم الدليل الحاكم مطلقا بمجرد كونه حاكما بل يرجع إلى التفصيل المذكور ، مثلا لو كان ظهور دليل وجوب المسح على البشرة في الوضوء أقوى من ظهور أدلة الحرج بالنسبة إلى الوضوء الحرجي بأن كان أغلب أفراد الوضوء فردا حرجيا نأخذ بأقوى الظهورين ونخصص به أدلة الحرج ، ولا ينافي ذلك كون أدلة الحرج حاكما بالفرض ، لأنّ حكومتها باعتبار ما يبقى من مدلوله بعد التخصيص ، إذ قد عرفت أنّ جهة الحكومة تابعة لنفس المدلول.

لا يقال : إنّ عموم أدلة الحرج نسبتها إلى جميع أفرادها بالسوية ولا نجد فرقا بين أفرادها في القوة والضعف بحسب الدلالة ، فالتفصيل المذكور غير متوجه في فرض مسألتنا.

لأنّا نقول : يكون التفاوت في قوة الدلالة وضعفها في الدليل المحكوم في مفروض المسألة أي أدلة إثبات التكاليف عموما ، فيلاحظ نسبة كل دليل دليل بحسب القوة والضعف مع دليل رفع الحرج ويجري التفصيل المذكور.

بقي الكلام في تشخيص الصغرى وأنّ قاعدة الحرج حاكمة على سائر الأدلة أو معارضة ، والأقوى الأول ، إما بدعوى أنّ أدلة الحرج بصدد نفي الحكم الحرجي في الأحكام المعهودة سيّما بقرينة (فِي الدِّينِ) الظاهر في الأحكام المجعولة ، فيكون معنى قوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(١) أنّه

__________________

(١) الحج ٢٢ : ٧٨.

٥٥٥

تعالى ما جعل في هذه الأحكام المجعولة نوعها ما بلغ حدّ الحرج أعني الأفراد الحرجية منها ، أو يقال وهو الأظهر أنه يستفاد من عمومات الحرج نفي طبيعة الحرج في الدين سواء في الأحكام المجعولة أو غيرها ، يعني أنّ الحرج مرفوع مطلقا فبالنسبة إلى الأحكام المجعولة أفرادها الحرجية وبالنسبة إلى غيرها مطلق التكاليف الحرجية التي أمكن جعلها ولكن لم يجعلها لمكان الحرج.

ونظير ما نحن فيه في جريان الوجهين قوله (عليه‌السلام) : «لا سهو في النافلة» فإما أن يحمل على أنّ الأحكام المجعولة للسهو فعلا مطلقا أو في خصوص الفريضة ليست في النافلة ، أو على أنّه لم يجعل حكم في سهو النافلة أصلا ، لا تلك الأحكام المجعولة للسهو في الجملة ولا غيرها.

نعم لو كان مفاد الأدلة أنّ الأفعال الحرجية مطلقا ليست ممّا تعلّق به وجوب أو تحريم في الشريعة بل هي مباحة كانت معارضة لسائر أدلة التكاليف في أفرادها الحرجية ، إلّا أنّ هذا المعنى خلاف ظاهر الأدلة.

ويؤيد ما ذكرنا من الحكومة ما في رواية عبد الأعلى من قوله (عليه‌السلام) : «يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله ما جعل» إلى آخره (١) حيث أحال رفع حكم المسح على البشرة على انفهامه من الكتاب ، مع أنّ النسبة بين ظاهر الآية وظاهر دليل المسح على البشرة عموم من وجه ، ولا وجه لتقديم ظاهر الآية سوى حكومته على دليل المسح كما سيأتي ذلك في المتن ، اللهمّ إلّا أن يقال إنّ نظر المتن إلى أنّ عمومات الحرج آبية عن التخصيص لورودها في مقام الامتنان على العباد وذلك وجه التقديم ، ولعله أشار إلى ذلك في قوله فافهم.

المطلب الخامس : أنّك قد عرفت سابقا أنّ القدر المتيقّن من رفع الحرج

__________________

(١) الوسائل : ١ : ٤٦٤ / أبواب الوضوء ب ٣٩ ح ٤.

٥٥٦

على تقدير تمامية أدلته الحرج الشخصي ، بل ذلك مقتضى ظاهر علية الحرج لرفع الحكم على ما هو مبنى الاستدلال ، وقد عرفت أنّ استفادة رفع الحرج النوعي من الأدلة في غاية الإشكال ، ولا نعرف من استدل في الفقه بالقاعدة على رفع حكم ما كان حرجا نوعا بحيث كان مستندا إليه في مورد خال عن دليل الرفع ما خلا قاعدة الحرج ، وإن كان ربما يتمسكون بالحرج في الجبائر وغيرها فيما يكون الحكم ثابتا فيها بالنص.

نعم تمسك المصنف في آخر رسالته المعمولة في قاعدة الضرر (١) بقاعدة الحرج في رفع ما يكون نوعه حرجا حيث استدل على جواز تصرف المالك في ملكه إذا استلزم تضرر جاره مع فرض عدم تضرر المالك بترك التصرف ، بل كان تصرفه لجلب النفع بأنّ حبس المالك عن الانتفاع بملكه وجعل الجواز تابعا لتضرر الجار حرج عظيم لا يخفى على من تصور ذلك انتهى. ولا يخفى أنّ الحرج في المسألة نوعي.

وكذا صاحب الجواهر في كتاب المفلس في الاستدلال على استثناء ما سوى الدار والخادم المنصوصين من اللباس وغيره من أمتعة البيت قال : لعل المدار في ذلك وغيره مما تسمعه من ثياب التجمل ونحوها عدم الحرج في الدين وإرادة الله بناء اليسر دون العسر ، ونحو ذلك مما دل على هذا الأصل انتهى (٢).

وبالجملة من استظهر من أدلة الحرج رفع الحرج النوعي جاز له التمسك في مثل ما ذكره الشيخان (قدس سرّهما) وغيره كأن يقال بجواز فسخ النكاح

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٤٦٧.

(٢) جواهر الكلام ٢٥ : ٣٣٨.

٥٥٧

للزوجة ببعض عيوب الزوج غير المنصوصة الذي وقع الخلاف فيه ، وكالقول بثبوت الخيار في البيع ونحوه إذا كان لزوم العقد حرجا نوعا كما يحكم بالخيار بقاعدة الضرر ، بل جملة ما حكموا فيه بثبوت الخيار لأجل الضرر يرجع في الحقيقة إلى الحرج ، وتمام الكلام في محله.

المطلب السادس : في أنّ قاعدة الحرج كما أنّها حاكمة على الأدلة الشرعية كذلك حاكمة على الأدلة العقلية التي أمضاها الشارع كما في حكم العقل بالاحتياط في مسألتنا هذه بعد انسداد باب العلم ، وكما في حكم العقل بالاحتياط في الشبهة غير المحصورة ، وستعرف في محله أنّ أحد وجوه عدم وجوب الاحتياط هناك قاعدة الحرج ، لكن حكومة أدلة الحرج على الدليل العقلي أعني حكم العقل بوجوب الاحتياط راجعة إلى التخصص لا التخصيص ، بمعنى أن العقل بحكم بوجوب الاحتياط لو لم يرخص الشارع في تركه ، وبعبارة أخرى يجب الاحتياط فيما لم يأذن الشارع بخلافه.

لكن يشكل ذلك على مذاق المصنف حيث يقول بعدم جواز ترخيص الشارع عدم العمل بحكم العقل القطعي لأنّه موجب للتناقض كما مرّ بيانه في أول رسالة القطع ، وقد بيّنا ما فيه هناك بما لا مزيد عليه.

المطلب السابع : أنّ أدلة الحرج هل هي تشمل المستحبات أيضا حتى إذا بلغ المأمور به الندبي إلى حد الحرج نحكم برفعه أم لا؟ قد يقال بالثاني نظرا إلى أنّه لا يلزم من الأحكام الندبية حرج أصلا لمكان الرخصة في الترك ، فليس في تلك الأحكام ضيق على المكلف بخلاف الأحكام الإلزامية ، وقد يقال بالأول نظرا إلى أنّ أدلة الحرج ترفع بعمومها كل حكم يكون في امتثاله حرج ، ولعل الثاني أظهر.

٥٥٨

ويمكن أن يقال : إنّ ذلك مبني على أن يكون معنى قوله لا حرج في الدين أنّ الموضوعات الحرجية مرفوعة الحكم ، فيجري بالنسبة إلى الحكم الاستحبابي أيضا ، أو أنّ الأحكام التي يلزم من ثبوتها الحرج مرفوعة ، فلا يجري في المندوب لما مر في الوجه الأول من أنّ الحكم الندبي لا يستلزم الحرج والضيق ، ولو رجحنا في السابق الوجه الثاني فلا يتفاوت الحال بالنظر إلى كل واحد من المبنيين ، لكن الأظهر في المبنى هو الوجه الثاني فتدبّر.

المطلب الثامن : في أنّ قاعدة الحرج كما أنّها رافعة للحكم إذا بلغ حد الحرج بالنسبة إلى كل تكليف تكليف ، كذلك رافعة لمجموع الأحكام التي بلغت حدّ الحرج لأجل انضمام بعضها إلى بعض كما في مسألتنا هذه ، فإنّ الاحتياط في كل مسألة مسألة بعد انسداد باب العلم ربما لا يكون فيه حرج ولكن الاحتياط في الكل مستلزم للحرج ، وكما لو أدى ظنّ المجتهد إلى الاحتياط في موارد كثيرة بحيث يستلزم الحرج ، وكما في المندوبات الثابتة في الشريعة من النوافل والأذكار والأدعية وغيرها بناء على شمول القاعدة للمندوبات ، فإنّ كل واحد منها ليس حرجا لكنّ العمل بمجموعها يكون حرجا البتة ، بل الأغلب يكون الاتيان بجميع الأعمال والآداب الشرعية المستحبّة متعذّرا لضيق الوقت عن جميع ذلك ، فيلزم تكليف ما لا يطاق.

وهذا الإشكال وارد على كل تقدير ، لأنّ التكليف بما لا يطاق مما لا يجوز حتى في المستحبات كما هو واضح.

ويمكن أن يجاب عن هذا الإشكال بأنّ الشارع لمّا علم أنّ أحدا من المكلفين لا يأتي بجميع هذه المندوبات بحسب إرادته عادة يعني لا يريد الإتيان بالكل ، وكان كل واحد منها مما فيه المصلحة المقتضية للتكليف الندبي

٥٥٩

صح له الأمر بكل واحد منها على وجه التعيين.

ولا يخفى ما فيه ، إذ الإشكال بعد باق لأنّه أمر بمجموع أمور لا يقدر المكلف على امتثاله (١).

المطلب التاسع : في أنّ رفع الحكم الحرجي هل هو رخصة حتى لو تكلف المكلف الحرج وأتى بالفعل الحرجي كان صحيحا أو عزيمة يحكم بفساده؟ قد يقال إنّ الظاهر من الأدلة ارتفاع الحكم الذي يلزم من وجوده الحرج فيبقى المورد بلا حكم ، فلا بدّ في الحكم بالصحة من دليل آخر مفقود بالفرض.

لا يقال : إنّه لو فرض أنّ الحرج إنّما جاء من قبل وجوب الشيء كالمسح على البشرة مثلا فإذا ارتفع وجوبه ارتفع الحرج فلا وجه لرفع أصل الجواز.

لأنّا نقول : لا وجه لبقاء الجنس بعد ارتفاع الفصل كما حقق في مسألة نسخ الوجوب. لكن يمكن أن يقال إنّ أدلة رفع الحرج لما كانت في مقام الامتنان على العباد دلت على أنّ حمل المكلف على الضيق والمشقّة قهرا عليه

__________________

(١) أقول : يمكن أن يقال إنّ ذلك من قبيل المتزاحمين بل عينه ، فيحكم العقل بالتخيير بينها بقدر الإمكان وإن كان ظاهر الأوامر المتعلقة بها التعيين.

فإن قلت : لو كان كذلك كان اللازم أن يكون الأمر المتعلق بها في الشرع أيضا تخييريا فلم أمر بها الشارع على التعيين بظاهر الأمر؟

قلت : لمّا كان في كل واحد ما يقتضي اندابه صح الأمر به لذلك وإنما جاء التخيير من قبل المزاحمة ، وقد علم الشارع بحكم العقل بالتخيير بينها فاكتفى بذلك وأمر بحسب اقتضاء المقتضي ، مع أنّه ربما لا ينجر إلى الحرج فيؤخذ بظاهر الأوامر.

وكيف كان قد يدّعى أنّ ظاهر أدلة الحرج رفع التكليف الذي يكون فيه الحرج فلا يشمل ما إذا تحقق الحرج باعتبار جملة من التكاليف.

وفيه : منع ، إذ يصدق في هذا الفرض أيضا ثبوت الحرج في الدين وقد حكم برفعه في ظاهر الآية والله أعلم.

٥٦٠