حاشية فرائد الأصول - ج ١

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-015-2
الصفحات: ٦٩٤

في الواقع ولو كان مجهولا ، فالعمل بالظن المشكوك الحجية مخالفة قطعية للأصل أو العموم المقابل كما ذكره المصنف ، هذا.

ولكن يمكن توجيه الإيراد على المصنف بوجه آخر وهو أن يقال : لو أغمضنا عن حكم العقل المستقلّ بعدم حجية الظن المشكوك الحجية ، وأنّ الاشتغال اليقيني موجب للبراءة اليقينية كما هو مبنى الجواب الثاني ، كان المتعيّن التمسك بذيل أصل الاشتغال المثبت لتعيين الرجوع إلى القطع لإثبات عدم جواز الاعتماد على الظن كما ذكره القائل ، لا ما ذكره المصنف من أنّ العمل بالظن موجب لطرح الحجة ، وإلّا فإن قلنا بأنّ الأصل في مقام دوران الأمر بين التعيين والتخيير هو البراءة المقتضي للتخيير بين العمل بالظن والعمل بالقطع ، فهذا الأصل وارد على الأصل المقابل ، لأنّ هذا الأصل قد أثبت حجية الظن ، وعلى تقدير حجيته دليل وارد على الأصل المقابل كالقطع. لا يقال : إنّ أصل البراءة لا يقدّم على العموم أو الاستصحاب على ما تقرّر في محلّه بل الأمر بالعكس ، لأنّا نقول : هذا إذا لم يكن الشك في العموم أو بقاء المستصحب ناشئا عن الشك في مجرى أصل البراءة ، والشك فيما نحن فيه في العموم المقابل أو بقاء المستصحب ناش عن الشك في حجية الظن المفروض ، فلو جرى أصالة البراءة في الشك السببي وثبت حجية الظن به يرتفع الشك في المسبب ولا يبقى مورد لجريان أصل العموم أو الاستصحاب ، ألا ترى أنّ من صلّى بلا سورة مثلا مع الشك في جزئيتها يحكم بصحة الصلاة المذكورة وحصول فراغ الذمة على القول بالبراءة في الشك في الجزئية والشرطية ، ولا يعارض أصل البراءة باستصحاب اشتغال الذمة بالصلاة في أول الوقت ، والسر فيه ما ذكر من انّ الشك في الفراغ وعدمه ناش عن الشك في الجزئية ، وبعد جريان أصالة البراءة في السبب يرتفع الشك عن المسبب ولا يبقى مجرى لاستصحاب الاشتغال ،

٣٠١

فالصواب ما ذكره القائل من التمسّك بأصل الاشتغال لمطلوبه لا التمسك بلزوم طرح الحجة ، هذا كله على تقدير الإغماض عما ذكرنا على الأصل المذكور من الوجهين في الحاشية السابقة كما لا يخفى.

قوله : فلقائل أن يمنع أصالة حرمة العمل بالظن مطلقا لا على وجه الالتزام ولا على غيره (١).

(١) قد يورد عليه : بأنّ المنع عن حرمة العمل على وجه الالتزام لا وجه له لأنّه تشريع محرّم ، سواء كان مع تيسّر العلم أو مع عدمه.

والجواب : أنّ الظن على التقدير المذكور على ما قرّره في المتن حجة بحكم العقل تخييرا أو تعيينا ، فالالتزام به التزام بالحجة فلا تشريع.

قوله : أما إذا ادّعي أنّ العقل لا يحكم بأزيد من وجوب تحصيل الظن (٢).

(٢) عدم لزوم تحصيل العلم وجواز الاكتفاء بالظن على تقدير صدق الدعوى حقّ ، إلّا أنّ الدعوى فاسدة من أصلها لم يقل بها أحد ، والقول بأنّ الضرر الموهوم لا يجب دفعه مخالف لصريح حكم العقل والعقلاء سيما إذا كان الضرر أخرويا يكون يسيره كثيرا جدا ، وما يرى من أنّ العقلاء ربما يعتمدون على الظن بعدم الضرر ولا يعتنون باحتمال الضرر الموهوم في أمورهم فذلك لأجل أنّ الضرر المذكور لا يعدّ عندهم ضررا في مقابل المنافع المظنونة ، وليس بناؤهم على الفرار من مثل هذا الضرر ، وأما الضرر الكثير الذي يكون بناء العقلاء على الفرار منه فيلتزمون بوجوب دفعه والاحتراز عن الاحتمال

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٣٢.

(٢) فرائد الأصول ١ : ١٣٣.

٣٠٢

الموهوم في وقوعه ، ولعله إلى ما ذكرنا أشار بقوله فتأمّل في آخر كلامه على ما في بعض النسخ ، هذا.

وقد بقي في المقام شيء ، وهو أنّ الأصل الذي قرّرنا على حرمة العمل بالظن هل هو مختصّ بحال انفتاح باب العلم أو يشمل حال الانسداد أيضا؟

قد يقال بالأول ، بتقريب أن العقل في حال الانسداد يحكم بمقدمات دليل الانسداد بأنّ الظن لكونه أقرب إلى الواقع حجة وبحكم القطع ، وهو حينئذ طريق إلى الواقع ، وعليه بناء العقلاء فيما ينسد عليهم طريق العلم في معاملاتهم وتجاراتهم وزراعاتهم ، ويظهر من المصنف في نتيجة دليل الانسداد الثاني وأنّ العمل بالظن في تلك الحالة من باب التبعيض في الاحتياط لا من حيث إنّه حجة في تلك الحال ، وتشخيص هذا المطلب بأن يرجع إلى وجه حكم العقل وبناء العقلاء على العمل بالظن في حال الانسداد من أنّهم يجعلون الظن في تلك الحال طريقا إلى الواقع ويتخذونه مرآة للواقع ويتوصلون به إلى الواقع ، أو أنّهم يأخذونه برجاء إدراك الواقع ومن أجل أنّه لا مناص ولا ملجأ إلّا إليه وأنّ الأخذ بغيره أبعد في حصول المطلوب ، والأول غير بعيد ، وفيه تأمّل.

وتظهر الثمرة في إمكان قصد الوجه في العبادات على الأول دون الثاني ، لأنّ مؤدى الظن على الأول حكم الله بمقتضى كونه كالقطع حجة ولو في خصوص حال الانسداد بخلاف الثاني فإنّ مؤدّاه أحد المحتملات للواقع ، وفي جواز الاقتصار على العمل بالظن في مقام امتثال التكاليف المعلومة بالإجمال على الأول دون الثاني ، بل يجب الاحتياط في المشكوكات أيضا على ما يقوله المصنف وسيأتي توضيحه في محلّه إن شاء الله تعالى.

٣٠٣

قوله : وقد أطالوا الكلام في النقض والإبرام في هذا المقام بما لا ثمرة مهمة في ذكره ، إلى آخره (١).

(١) فيه نظر ، إذ تظهر الثمرة فيما إذا دلّ دليل على حجية مطلق الظن أو ظن مخصوص كالظن الاستصحابي مثلا ، فعلى ما قرّرنا من الأصل فهو محكوم بهذا الدليل ، لأنّ موضوع ذاك الأصل فيما لم يرد دليل من الشارع على الحجية ، فإذا ورد دليل ولو كان في أدنى درجة الحجية ولو كان أصلا معتبرا ارتفع موضوع الأصل المذكور ، وهذا بخلاف ما لو كان حرمة العمل بالظن مستندا إلى ظواهر الآيات الناهية والأخبار فإنّه يحصل التعارض بينه وبين الظواهر ، وهذه ثمرة عظيمة ، وأيضا إطلاق ظواهر الألفاظ يشمل حال الانفتاح والانسداد قطعا بخلاف الأصل الذي قرّرنا فإنّ في شمولاه لحال الانسداد كلاما تقدم في الحاشية السابقة (٢) وأيضا يثمر على القول بأنّ الأصل إباحة العمل بالظن كما نسب إلى المحقق الكاظمي ، وعلى القول بعدم لزوم دفع الضرر الموهوم فتأمل.

وأما التكلم في دلالة الآيات والأخبار الناهية ومقدار دلالتها أو العدم فله محل آخر سيأتي من المصنف في مبحث التكلّم في حجية خبر الواحد.

نعم بقي هنا شيء مما يناسب المقام ، وهو أنّ مفاد الأدلة الناهية هل هو عدم الركون إلى الظن إذا لم يدل على حجيته دليل شرعي كما هو مفاد الأصل الذي قرّرنا ، بتقريب أنها دالة على عدم جواز الاعتماد على ما لا يفيد العلم ولا

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٣٣.

(٢) أقول : ولي فيه تأمّل ، لأنّه لو تمّت مقدمات الانسداد وثبتت حجية الظن مطلقا فهو وارد على الآيات الناهية أيضا كوروده على الأصل العقلي ، إذ لو لم يعمل بالظن حينئذ وجب العمل بمجرد الاحتمال ، وهو في قوّة العمل بالأصل يلزم منه الخروج من الدين ، بل هو أفحش من العمل بالأصل لأنّه عمل بالحجة بوجه بخلاف العمل بالاحتمال.

٣٠٤

ينتهي أيضا إلى العلم ، لأنّ العمل بما ينتهي إلى العلم عمل بالعلم بالاخرة ، أو عدم جواز الركون إلى الظن مطلقا ، فإن كان الأول فلا تترتب عليه الثمرات المتقدمة بخلاف الثاني فإنّه محلّ الثمرات.

والحقّ أنّ مفاد الآيات مختلفة :

فمنها : ما يدل على الوجه الأول مثل قوله تعالى : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ)(١) وقوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(٢) وقوله تعالى : (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٣) وقوله تعالى : (إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)(٤).

ومنها : ما يدل على الثاني مثل قوله تعالى : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(٥) فإذن تترتّب الثمرات باعتبار وجود القسم الثاني (٦).

__________________

(١) النجم ٥٣ : ٢٨.

(٢) الإسراء ١٧ : ٣٦.

(٣) البقرة ٢ : ١٦٩.

(٤) البقرة ٢ : ٧٨.

(٥) يونس ١٠ : ٣٦.

(٦) أقول : في المقام بحث وهو انّ الآيات والأخبار الناهية عن العمل بالظن لو تمّت دلالتها كانت دليلا على الحرمة ، ونحن الآن في تأسيس الأصل مع قطع النظر عن أدلة الطرفين وفرض الشك في الحجية ، ألا ترى أنّ المنكرين لحجية الخبر الواحد استدلوا على مطلوبهم بالآيات الناهية عن العمل بالظن ، والعجب أنّ المصنف تعرّض لنقل قولهم واستدلالهم بها والجواب عنها في محلّه ، وهاهنا يظهر منه أنها دليل على الأصل في المسألة غاية الأمر أنّ التمسك بها مستغنى عنه لوجود حكم العقل بضميمة الأدلة الثلاثة الأخر على أصالة الحرمة.

وأعجب من ذلك أنّ السيد الأستاذ (دام بقاه) قرّره على ذلك وأورد عليه بأنّ البحث عن الآيات والأخبار الناهية غير مستغنى عنه لثمرة تعارضها مع أدلة الطرف المقابل وغيره

٣٠٥

حجيّة الظواهر

قوله : القسم الأول ما يعمل لتشخيص مراد المتكلّم عند احتمال إرادته خلاف ذلك (١).

(١) قد يكون احتمال إرادة خلاف الظاهر من جهة احتمال وجود القرينة المجهولة عند المحتمل ، وقد يكون الاحتمال مع القطع بعدم وجود القرينة واقعا

__________________

على ما سبق بيانه.

وكيف ما كان ، فالتحقيق أنّ الآيات الناهية لا تدل على حرمة العمل بالظن مطلقا حتى بالنسبة إلى حال الانسداد وبالنسبة إلى الظنون التي بناء العقلاء على اعتبارها ، لأنّها في مقام مذمّة أهل الكتاب وغيرهم بالعمل بالظن وتقبيحهم على ذلك بما هو مركوز في أذهان العقلاء ، ومن المعلوم أنّه لو كان هناك ظنّ يكون بناء العقلاء على متابعته لم يتوجّه على متابعته مذمّة وتقبيح يرتضيه العقلاء ، بل يظهر من سياقها المذمّة على متابعة الظنون الحاصلة من الأسباب غير المتعارفة العقلائية من مثل الخرص والتخمين والحدس والاستحسانات العقلية ، وبالجملة : العمل على الاجتهادات الظنية غير المتعارفة فلا تشمل مثل العمل بأوامر المولى ونواهيه بطريق قول الثقة وإخباره عن المولى بها ، نعم تشمل مثل الظن الحاصل من الرؤيا والاستخارة والرمل ونحوها مما لا يرتضيه عموم العقلاء ولا يعملون بتلك الطرق في تحصيل طالبهم.

(١) فرائد الأصول ١ : ١٣٥.

٣٠٦

من جهة احتمال خطأ المتكلّم في تأدية مراده أو احتمال أنّ المتكلم أظهر خلاف مراده لمصلحة كالتقية أو اعتمد على البيان المتأخّر عن زمان الخطاب إلى وقت الحاجة لمصلحة لو جوّزناه أو نحو ذلك ، والمصنف اقتصر على القسم الأول ولا وجه له ، ومرجع القسم الأول إلى احتمال إرادة خلاف الظاهر من اللفظ اعتمادا على القرينة ، ومرجع القسم الثاني إلى احتمال كون المراد الواقعي غير الظاهر وإن كان المراد من اللفظ هو الظاهر.

قوله : ومرجع الكل إلى أصالة عدم القرينة الصارفة (١).

(١) قد عرفت أنّ ذلك مرجع القسم الأول من القسمين اللذين ذكرناهما ، وأما مرجع القسم الثاني إلى أصالة عدم وجود مصلحة تأخير البيان أو مصلحة إراءة خلاف مراده الواقعي أو أصالة عدم خطأ المتكلم ، لكن احتمال الخطأ مرفوع عن ألفاظ الكتاب والسنة ولا ضير ، لأنّ حجية هذه الظنون غير مختصّة بألفاظ الكتاب والسنة ، مع أنّ احتمال الخطأ يأتي في ألفاظ السنة أيضا بسبب احتمال خطأ الراوي في تأدية مراده مما فهمه من كلام المعصوم (عليه‌السلام) بناء على جواز النقل بالمعنى كما هو الحق.

وقيل : إنّ وجه إهمال المصنف للقسم الثاني أنّ الظنون المعمولة فيه ليست مستندة إلى اللفظ بل هي من الظواهر المقامية ، فإنّ الظاهر من حال المتكلم أنّه بصدد إراءة القضية النفس الأمرية.

وفيه : أنّ القسم الأول أيضا كذلك ، فإنّ انفهام كون الظاهر مراد المتكلّم من اللفظ أيضا من جهة ظاهر حال المتكلم العاقل الملتفت وليس مدلولا للفظ ، فإذا أمكن إسناده إلى اللفظ مسامحة أمكن إسناد القسم الثاني أيضا إلى اللفظ

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٣٥.

٣٠٧

مسامحة (١).

قوله : القسم الثاني ما يعمل لتشخيص أوضاع الألفاظ وتشخيص مجازاتها (٢).

(١) ومن ذلك ما يعمل لتشخيص الأظهر المذكورة في مسألة تعارض الأحوال من الوجوه المرجّحة للتخصيص على المجاز أو ترجيح المجاز على الاشتراك والاشتراك على الإضمار والنقل إلى غير ذلك ، وما يعمل لتشخيص أظهر المعنيين الحقيقيين كما في المشترك اللفظي إذا غلب استعماله في أحد المعنيين وصار أظهر بالنسبة إلى الآخر ، وهكذا.

قوله : وأما القسم الأول فاعتباره في الجملة مما لا إشكال فيه ولا خلاف (٣).

(٢) يدل على ذلك وجوه :

أحدها : بناء العقلاء كما قرّره في المتن وهي حجة مخرجة له عن أصالة حرمة العمل بالظن. ولقائل أن يقول : إنّ حجية بناء العقلاء مشروطة بعدم ردع الشارع له ، ويكفي في الردع الآيات والأخبار الناهية عن العمل بالظن مطلقا ، إلّا أن يمنع دلالتها على ذلك بالتقريب الذي مرّ ذكره عن قريب.

__________________

(١) أقول : اللهمّ إلّا أن يقال بالفرق حيث إنّ إرادة المتكلم ظاهر اللفظ قد بلغت في الظهور مبلغا ظنّ قوم أنّ الألفاظ موضوعة للمعاني المرادة فإسناده إلى اللفظ قريب جدا ، وهذا بخلاف كون ظاهر اللفظ مطابقا للواقع في قصد المتكلم فإنه ليس بذلك الظهور بل يشبه أن يكون من قبيل الدلالة العقلية كدلالة اللفظ على اللافظ غاية الأمر أنّه ظنّي لا قطعي فتدبّر.

(٢) فرائد الأصول ١ : ١٣٦.

(٣) فرائد الأصول ١ : ١٣٧.

٣٠٨

ثانيها : الإجماع القولي والعملي من صدر الإسلام إلى يومنا بحيث لم يخالف فيه شاذ أو نادر من العامة أو الخاصة ، وذلك يوجب القطع برضاء المعصوم (عليه‌السلام) على ذلك لكل أحد ، وهذا الوجه كما أنّه وارد على الأصل العقلي بحرمة العمل بالظن مخصّص لعموم الآيات الناهية عن العمل بالظن على تقدير تمامية دلالتها.

ثالثها : السيرة المستمرة بين جميع المسلمين بحيث لا يشوبه شوب الشك وهو واضح.

رابعها : تقرير المعصومين (عليهم‌السلام) في موارد لا تحصى ما فهمه آحاد المسلمين من ظواهر الألفاظ من الكتاب والسنة وغيرهما من الأقارير والوصايا والشهادات إلى غير ذلك. ولعل حجية الظن في هذا القسم في الجملة بل وفي القسم الثاني أيضا لغاية وضوحها وبداهتها غنية عن الاستدلال عليها ، فليتكلّم في محلّ الإشكال والخلاف.

قوله : وإنّما الخلاف والإشكال وقع في موضعين (١).

(١) قد يقع الإشكال في موضع ثالث لم يتعرض له المصنف هنا وهو جواز العمل بالظاهر مطلقا أو بشرط عدم تحقق الظن الشخصي على خلافه أو بشرط تحقق الظن الشخصي على وفق الظاهر ، وقد تعرّض له المصنف في آخر الموضع الأول تطفّلا ، والإنصاف أنّ الأدلة المذكورة لكونها لبّية قاصرة عن إفادة الحجية مطلقا وإن كان هو المشهور ، والقدر المتيقّن ما حصل الظن الشخصي على وفق الظاهر ، ولا يبعد دعوى القطع في مطلق ما لم يحصل الظن الشخصي على خلافه ، وأما إذا حصل الظنّ الشخصي على خلاف الظاهر النوعي فكون بناء

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٣٧.

٣٠٩

العقلاء على اعتباره محلّ تأمل بل منع ، وكذا كونه موردا للإجماع أو السيرة أو التقرير غير معلوم ، وحينئذ يشكل التمسّك بمطلق الظواهر كما هو دأب أكثر الفقهاء من أوّل الفقه إلى آخره ، ودعوى حصول الظن على الوفاق أو عدم الظن على الخلاف في الكلّ مجازفة ، كما أنّ دعوى حصول القطع في الكل مكابرة واضحة.

نعم لا يبعد دعوى حصول القطع بالمراد غالبا بالنسبة إلى المتخاطبين بالمشافهة وحصول الظن الشخصي في أغلب ما يبقى بعد إخراج القطعيات ، وأين هذا من الظواهر التي بأيدينا من أدلة الفقه.

وكيف كان ، فالإشكال في غاية القوة ولعلنا نتكلّم بعض الكلام في مقام تعرّض المصنف للمسألة فانتظر.

قوله : والخلاف الأول ناظر إلى عدم كون المقصود بالخطاب استفادة المطلب منه مستقلا (١).

(١) بل بضميمة تفسير المعصوم (عليه‌السلام) كما هو مقتضى أول الوجهين من دليل الأخباريين ، أو بضميمة المخصّصات والمقيّدات وقرائن المجازات كما هو مقتضى ثاني الوجهين ، وسيأتي التهافت بين الوجهين.

قوله : فمرجع كلا الخلافين إلى منع الصغرى (٢).

(٢) أعني منع كون مقصود المتكلّم إفادة مرامه بنفس الكلام الملقى إلى المخاطب ، بل يمكن أن يقال إنّ مرجع الخلافين إلى أمر واحد وهو منع جواز اعتماد غير من قصد إفهامه على ما يستفيده من الخطاب ، لأنّ المقصود بالإفهام

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٣٧.

(٢) فرائد الأصول ١ : ١٣٧.

٣١٠

في الكتاب العزيز هو المعصومون لا غير ، وفي غيره من الأخبار المشافهون المخاطبون لا غيرهم ، ولعلّ هذا مراد المصنف من قوله فمرجع كلا الخلافين إلى منع الصغرى ، إلّا أنّه ينافيه ما ذكره سابقا من أنّ الخلاف الأول ناظر إلى كذا والخلاف الثاني ناظر إلى كذا ، فإنّه صريح في أنّ وجه الاستشكال في الخلاف الأول غير وجه الإشكال في الخلاف الثاني ، فليتأمّل.

قوله : وأمّا الكبرى أعني كون الحكم عند الشارع في استنباط مراداته ، إلى آخره (١).

(١) فيه نظر ، لأنّ الأخباريين بمقتضى دليلهم الأول منكرون لهذا المعنى ويدّعون أنّ الكتاب العزيز من الخطابات المقصودة بها تفهيم المعصومين (عليهم‌السلام) على طريقة خاصة مثل الألغاز والرمز كما هو الظاهر في الحروف المقطّعة ، وأين هذا من الطريق المتعارف بين أهل اللسان ، والعجب أنّ المصنف سيصرّح بما ذكرنا في ذيل نقل الدليل الأول لعدم حجية ظواهر الكتاب بقوله : وحاصل هذا الوجه يرجع إلى أنّ منع الشارع عن ذلك يكشف عن أنّ مقصود المتكلّم ليس تفهيم مطالبه بنفس هذا الكلام فليس من قبيل المحاورات العرفية (٢).

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٣٧.

(٢) فرائد الأصول ١ : ١٤٢.

٣١١

حجية ظواهر الكتاب وخلاف الأخباريين

قوله : ذهب جماعة من الأخباريين إلى المنع عن العمل بظواهر الكتاب (١).

(١) ربما يظهر من بعضهم عدم حجية الكتاب مطلقا من دون تفسير المعصوم (عليه‌السلام) من غير فرق بين نصّه وظاهره ، ومن بعضهم تخصيصه بخصوص الظواهر ، ومن بعضهم عدم وجود النصّ فيه من جهة اشتباه الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه عندنا كما سيأتي ما يقرب من ذلك المنقول عن السيد صدر الدين ، ومحصّل مقالتهم على ما يظهر من مجموع كلماتهم : أنّ الكتاب العزيز ليس إلّا كلاما ملقى إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وقد أريد به تفهيمه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) خاصة ثم تفسيره للأمة ، وقد فسّره (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بأجمعه لوصيّه وفسّر للأوصياء من بعده يدا بيد ، وليس من قبيل المحاورات العرفية التي يعرفها كل من كان من أهل العرف ، بل على طريقة خاصة لا يعرفها إلّا المعصومون (عليهم‌السلام) ، هذا مع طريان بعض العوارض الخارجية كالناسخ والمنسوخ والتخصيص والتقييد والمجاز ، مع عدم الاقتران بالمخصص والمقيّد وقرينة المجاز ، فما كان منه مفسّرا بتفسير المعصوم (عليه‌السلام) يجوز العمل به ، وما ليس مفسّرا لا يجوز العمل به من جهة ما ذكر.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٣٩.

٣١٢

قوله : أحدهما الأخبار المتواترة المدّعى ظهورها في المنع عن ذلك (١).

(١) جملة من الأخبار التي لم ينقلها المصنف أظهر دلالة مما ذكره مثل قول أبي جعفر الثاني (عليه‌السلام) في ذيل حديث طويل : «وإن كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لم يستخلف أحدا فقد ضيّع من في أصلاب الرجال ممن يكون بعده ، قال : وما يكفيهم القرآن؟ قال : بلى لو وجدوا له مفسّرا ، قال : وما فسّره رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله)؟ قال : بلى قد فسّره لرجل واحد وفسّر للأمة شأن ذلك الرجل وهو علي بن أبي طالب (عليه‌السلام)» الحديث (٢).

ومثل قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في ذيل خطبة له : «إنّ الله أنزل القرآن ، وهو الذي من خالفه ضلّ ومن يبتغي علمه عند غير علي (عليه‌السلام) هلك» (٣) إلى غير ذلك مما يظفر به من راجع بابه في الوسائل.

قوله : والجواب عن الاستدلال بها أنّها لا تدلّ على المنع من العمل بالظواهر الواضحة (٤).

(٢) قد أجاب المصنف عن الأخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي صريحا بمنع صدق التفسير بالنسبة إلى الظواهر أوّلا ، وعدم صدق التفسير بالرأي بالنسبة إليها ثانيا ، وعن الباقي ضمنا بأنّ المراد من علم الكتاب الذي هو مخزون عند المعصومين (عليهم‌السلام) هو العلم بالمتشابه الذي يحتمل الوجوه ، وله شواهد

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٣٩.

(٢) الوسائل ٢٧ : ١٨٧ / أبواب صفات القاضي ب ١٣ ح ٣.

(٣) الوسائل ٢٧ : ١٨٦ / أبواب صفات القاضي ب ١٣ ح ٢٩.

(٤) فرائد الأصول ١ : ١٤٢.

٣١٣

في الأخبار مما استشهد به المصنف في الكتاب وغيره مثل رواية الاحتجاج عن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في ذيل احتجاجه على زنديق سأله عن آيات متشابهة في القرآن قال : «ثم إنّ الله قسّم كلامه ثلاثة أقسام فجعل قسما منه يعرفه العالم والجاهل ، وقسما منه لا يعرفه إلّا من صفا ذهنه ولطف حسّه وصحّ تميزه ممن شرح الله صدره للإسلام ، وقسما لا يعلمه إلّا الله وملائكته والراسخون في العلم ، وإنما فعل ذلك لئلّا يدّعي أهل الباطل المستولين على ميراث رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من علم الكتاب ما لم يجعله الله لهم وليقودهم الاضطرار إلى الايتمام بمن ولى أمرهم» الحديث (١) وهذا الحديث شاهد قوي على الجمع بين أخبار الطرفين بما اشتمل عليه مضمونه لو صحّ سنده.

ومن هذا القبيل ما رواه في الوسائل في أبواب الأطعمة والأشربة ما لفظه : علي بن الحسين المرتضى في رسالة المحكم والمتشابه نقلا من تفسير النعماني بإسناده الآتي عن علي (عليه‌السلام) قال : «وأما ما في القرآن تأويله في تنزيله فهو كل آية محكمة نزلت في تحريم شيء من الأمور المتعارفة التي كانت في أيام العرب تأويلها في تنزيلها ، فليس يحتاج فيها إلى تفسير أكثر من تأويلها ، وذلك مثل قوله تعالى في التحريم : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) الآية ، وقوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ) إلى آخره ، وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) الآية ، إلى قوله : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) وقوله تعالى : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) ، ومثل ذلك في القرآن كثير مما حرم الله سبحانه لا يحتاج المستمع له إلى

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٩٤ / أبواب صفات القاضي ب ١٣ ح ٤٤.

٣١٤

مسألة عنه ، وقوله عزوجل في معنى التحليل : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) وقوله : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) وقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) وقوله : (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) وقوله : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) وقوله : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) وقوله : (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) ومثله كثير» ورواه علي بن إبراهيم مرسلا نحوه ، انتهى (١).

ولعمري أنّ هذا الحديث الشريف وحده كاف في ردّ شبهة الأخباري والجواب عن أدلّته ، دالّ على حجية ظواهر الكتاب مفسّر للأخبار الناهية عن تفسير القرآن ، فاعتبر بعين الاعتبار.

قوله : مثل خبر الثقلين المشهور بين الفريقين (٢).

(١) أجيب بأنّه رتّب عدم الضلال على التمسّك بكتاب الله والعترة معا ولا ينكره الأخباري بل يقول إنّ الكتاب بانضمام تفسير العترة حجة يجب التمسك به ، وبأنّ المراد من التمسك الاحترام البليغ في مقابل تحريف الكتاب والإهانة بالعترة كما فعله طغاة الأمة. وفيهما معا أنّه خلاف الظاهر فإنّ الظاهر هو التمسك بكل واحد واحد من الكتاب والعترة بمتابعتهما والعمل بمضمون الكتاب وقول العترة بمناسبة ترتّب عدم الضلال عليه. وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» لا يشهد بما ذكره المجيب ، إذ المراد منه أنّه لا يخالف أحدهما الآخر ، فتدبّر.

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ١٠ / أبواب الأطعمة المباحة ب ١ ح ٦.

(٢) فرائد الأصول ١ : ١٤٥.

٣١٥

قوله : فقال (عليه‌السلام) لمكان الباء ، فعرّفه (عليه‌السلام) مورد استفادة الحكم من ظاهر الكتاب (١).

(١) كون الاستفادة المذكورة من الظاهر محلّ تأمل ، فإنّه وإن قلنا بمجيء الباء للتبعيض في اللغة كما هو قول شرذمة من النحاة ومنهم الأصمعي لكنه فيما نحن فيه مجاز بلا قرينة ، وعلى تقدير كونه حقيقة بدعوى اشتراك الباء بينه وبين سائر المعاني أريد به أحد المعاني بلا قرينة معيّنة ، فليس ذلك من الظواهر التي يفهمه أهل المحاورة بل يفهمه من تلقّى علمه من معدن الوحي.

قوله : فإذا أحال الإمام (عليه‌السلام) استفادة مثل هذا الحكم إلى الكتاب (٢).

(٢) لم يعلم إحالة الإمام (عليه‌السلام) استفادة هذا الحكم الدقيق ، بل الظاهر أنّ السائل توهّم وجوب نزع المرارة والمسح على البشرة ، فدفع الإمام (عليه‌السلام) توهّمه وأحال استفادة عدم وجوب النزع إلى الكتاب بانّه حرج مرفوع ثم قال : امسح عليه ، مبيّنا أنّ الحكم هو المسح على المرارة ، وإن أبيت عن الظهور فيما ذكرنا فلا أقلّ من الاحتمال المساوي للاحتمال الآخر ، إلّا أنّ ذلك لا يخلّ بأصل الاستدلال لجواز التمسّك بالظواهر كما لا يخفى.

وقد يزاد على ما في المتن وجهان آخران :

الأول : الآيات الكثيرة الدالة على أنّ الكتاب محلّ استفادة الأحكام كقوله تعالى : (فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)(٣) وأمثاله.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٤٥.

(٢) فرائد الأصول ١ : ١٤٧.

(٣) البقرة ٢ : ٢.

٣١٦

الثاني : أنّ إعجاز القرآن الذي هو العمدة في إنزاله موقوف على كون الظواهر مرادا منه بدون انضمام تفسير المعصوم (عليه‌السلام) وإلّا فلو كان مع قطع النظر عن التفسير من المجملات لم يحصل الغرض منه لتوقّف انفهام كونه معجزا على إدراك أنّه في أعلى مراتب البلاغة ، ولا يعلم ذلك إلّا بأن يكون ظواهره مرادا ، ولا يمكن أن يقال يعلم المراد بضميمة التفسير لأنّه دور ظاهر ، فإن صحّة تفسير النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وصدقه موقوف على ثبوت نبوّته ، وثبوت النبوّة موقوف على إعجاز القرآن المتوقّف على صحة التفسير ، فلا بدّ من أن يكون معجزا بنفسه بملاحظة ظواهره المقصودة وهو المطلوب ، هذا وسيأتي نبذ من التكلم في المقام عند التعرض لكلام السيد الصدر.

قوله : الثاني من وجهي المنع أنّا نعلم بطروّ التقييد والتخصيص والتجوّز في أكثر ظواهر الكتاب (١).

(١) وذلك نظير العلم الإجمالي بثبوت التكاليف الواقعية المانع للتمسك بأصالة البراءة المقتضي للاحتياط ، ونظير العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة المقتضي لوجوب الاحتياط ، ونظير العلم الإجمالي بورود التخصيص لجملة من العمومات أو أكثرها في سائر الأدلة المقتضي للتوقف وسقوط العمومات إلى أن يتبيّن المعلوم مفصلا ، وإلّا فحكم العلم الإجمالي كالاحتياط والتوقّف سار في جميع محتملاته.

قوله : لا يرتفع أثره وهو وجوب التوقّف بالفحص (٢).

(٢) يعني ولو وجد بالفحص مقدار المعلوم بالإجمال من المخصّصات

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٤٩.

(٢) فرائد الأصول ١ : ١٤٩.

٣١٧

والمقيّدات وقرائن المجازات ، لأنّه كما نعلم إجمالا بوجود المخصصات كذلك نحتمل وجود مخصصات أخر غيرها ، فلعل ما وجدناه هي المخصصات المحتملة لا المعلومة ، فلا يخرج باقي الظواهر عن أن يكون من أطراف العلم الإجمالي المسقط لظهورها.

وأما لو لم يوجد بالفحص شيء من المخصّصات والمقيّدات فعدم ارتفاع أثر العلم الإجمالي في غاية الوضوح لا يتوهّمه أحد لكي يحتاج إلى الدفع.

قوله : ولذا لو تردّد اللفظ بين معنيين أو علم إجمالا بمخالفة أحد الظاهرين لظاهر الآخر (١).

(١) كون المثالين نظيرا لما نحن فيه محل تأمّل ، لأنّه لو وجد بالفحص ما يعيّن أحد المعنيين أو مخالفة أحد الظاهرين صار المشتبه معلوما بالتفصيل فكيف يجب التوقف ، وإن لم يوجد بالفحص ما يفيد ذلك لا يتوهم سقوط حكم العلم الإجمالي بهذا الفحص ، وهذا بخلاف ما نحن فيه لأنّه لو وجد مقدار المعلوم بالإجمال بالدليل ففيه وجهان ، أقواهما أنّه لا يسقط حكم العلم الإجمالي على ما مرّ بيانه قريبا لمكان الشبهات البدوية بمخالفات الظواهر ، مضافا إلى المعلوم بالإجمال.

قوله : وتندفع هذه الشبهة بأنّ المعلوم إجمالا (٢).

(٢) ظاهر هذا الجواب يطابق ما ذكره المصنف في أواخر رسالة أصل البراءة في أدلة وجوب الفحص وعدم معذورية الجاهل المقصّر ، لكن زيّفه هناك بوجه وجيه ، قال في جواب المورد بمثل إيراد ما نحن فيه ، قلت : المعلوم إجمالا

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٤٩.

(٢) فرائد الأصول ١ : ١٥٠.

٣١٨

وجود التكاليف الواقعية في الوقائع التي يقدر على الوصول إلى مداركها ، وإذا تفحّص وعجز عن الوصول إلى مدرك الواقعة خرجت تلك الواقعة عن الوقائع التي علم إجمالا بوجود التكاليف فيها فيرجع فيها إلى البراءة. ولكن هذا لا يخلو عن نظر ، لأنّ العلم الإجمالي إنما هو بين جميع الوقائع من غير مدخلية لتمكّن المكلّف من الوصول إلى مدرك التكليف وعجزه عن ذلك ، فدعوى اختصاص أطراف العلم الإجمالي بالوقائع المتمكّن من الوصول إلى مداركها مجازفة ، انتهى (١).

ولا يخفى وجه سوق النظر فيما نحن فيه ، فإنّا نعلم بوجود مخالفات كثيرة للظواهر في الواقع ونتردد في أن يوجد فيما بأيدينا جميعها أو بعضها ويكون البعض الآخر فيما ليس بأيدينا ، فلا يرتفع حكم العلم الإجمالي بوجدان ما وجدنا فيما بأيدينا ، نعم نعلم إجمالا بوجود مخالفات في خصوص ما بأيدينا ، لكن ذلك لا ينافي علمنا بوجود مخالفات أخر أيضا مردّدة بين كونها فيما بأيدينا وكونها في غير ما بأيدينا ، والواقع فيما نحن فيه كذلك بحسب علمنا ، فالإجمال ولزوم التوقّف بحاله.

ويحتمل على بعد أن يريد المصنف من كلامه هذا جوابا آخر قد اختاره في أوائل رسالة أصل البراءة في ذيل استدلال الأخباري على لزوم الاحتياط بالدليل العقلي ومحصّله على وجه يوافق ما نحن فيه :

أنّ المخالفات الزائدة على القدر المتيقّن منفية بالأصل أوّلا ، وأما القدر المتيقّن منها فلما وجدنا مقدارها وبعددها فيما بأيدينا انطبق المعلوم بالإجمال على ما وجدنا قهرا ، وهذا نظير ما لو علمنا إجمالا بنجاسة أحد الإناءين ثم

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٤١٥.

٣١٩

علمنا تفصيلا بنجاسة خصوص هذا الإناء ، فإنّ العلم الإجمالي ينطبق قهرا على الإناء المعلوم نجاسته تفصيلا ، ولا مجال لأن يقال لعل المعلوم بالإجمال يكون غير هذا المعلوم بالتفصيل ، لأنّ المعلوم بالإجمال لا يمتاز بخصوصية لا تكون تلك الخصوصية في المعلوم التفصيلي قطعا أو احتمالا يعني في ظرف علمنا ، فلا يمكن عدم الانطباق ، فإذا صار المعلوم بالإجمال معلوما بالتفصيل بالانطباق المذكور لم يبق إلّا احتمال نجاسة الإناء الآخر مستقلا المنفية بالأصل كما مر.

هذا خلاصة الجواب الذي اختاره هناك.

ثم أورد عليه إشكالا حاصله : أنّه لو علم تفصيلا بمخالفات كما ذكرتم ما ذكر من الانطباق وارتفاع حكم العلم الإجمالي ، وأما لو ظنّ ذلك وقام الدليل على اعتبار الظن المذكور لم يحصل الانطباق المذكور وبقي حكم العلم الإجمالي بحاله ، ثم أجاب عنه بوجهين ، ولمّا كان الإشكال والجوابان المذكوران هناك بالنسبة إلى العلم الإجمالي بمطلق التكاليف في مقابل أصالة البراءة عن التكليف ، وكان نظام الكلام ثمّة مخالفا لنظم الكلام فيما نحن فيه ، لا بأس بنقل ما ذكره هناك على وفق نظامه ، ثم لا يخفى سوق نظيره فيما نحن فيه حرفا بحرف على الفطن العارف.

قال : وإن أريد منها ما يعم الدليل الظنّي المعتبر من الشارع فمراجعتها لا يوجب اليقين بالبراءة من ذلك التكليف المعلوم إجمالا ، إذ ليس معنى اعتبار الدليل الظني إلّا وجوب الأخذ بمضمونه فإن كان تحريما صار ذلك كأنّه أحد المحرمات الواقعية ، وإن كان تحليلا كان اللازم منه عدم العقاب على فعله وإن كان في الواقع من المحرّمات ، وهذا المعنى لا يوجب انحصار المحرّمات الواقعية في مضامين تلك الأدلة حتى يحصل العلم بالبراءة بموافقتها ، بل ولا يحصل الظن بالبراءة عن جميع المحرمات المعلومة إجمالا ، وليس الظن

٣٢٠