حاشية فرائد الأصول - ج ١

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-015-2
الصفحات: ٦٩٤

الاستدلال في المسألة العقلية بالإجماع القطعي لو علمنا بأنّه لا وجه للحكم المجمع عليه سوى مناط المسألة العقلية ، كما إذا علمنا أنّه لا وجه لكون ظان الضيق مع تركه العمل عاصيا إلّا التجرّي ، فثبت بذلك حرمة التجري واستحقاق العقاب على الفعل المتجرى فيه.

ويرد على الاستدلال بالإجماع في مسألة ظانّ ضيق الوقت مضافا إلى ما ذكره المصنف ، أنّ الإجماع على العصيان لعله من جهة وجوب الفورية على الظانّ بالضيق وجوبا مستقلا غير وجوب نفس الفعل ، نظير قول من يقول بكون الأمر للفور بمعنى وجوب إتيان المأمور به فورا ففورا إلى آخر الوقت مع كونه أداء في الجميع ، لا من جهة حرمة التجري ، ومع هذا الاحتمال لا يتمّ الاستدلال.

قوله : وأمّا ما ذكر من الدليل العقلي فنلتزم باستحقاق من صادف إلى آخره (١).

(١) محصّل الجواب : أنّا نختار الشقّ الثالث ونقول لا محذور في التزام استحقاق العقاب لمن صادف قطعه الواقع دون من لم يصادف مع أنّ المصادفة أمر غير اختياري ، بتقريب أنّ ما يقع في الخارج إن كان بعض مقدّماته اختياريا وفعله المكلّف بقصد ترتّب ذي المقدمة في الخارج صحّ أن يقال إنّ المكلّف فعل ذلك ويسند إليه بقول مطلق ، وحينئذ فمن صادف قطعه الواقع لمّا شرب المائع الذي قطع بكونه خمرا باختياره بقصد تحقّق شرب الخمر المحرّم ، صحّ إسناد الفعل حتى بالنسبة إلى مصادفته للواقع إليه ، بمعنى أنّه فعل فعلا وأوجد مصادفته للمحرّم الواقعي بإيجاد علّة المصادفة ، فهو مستحق للعقاب بذلك ، ولم ينط

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٠.

٨١

استحقاق العقاب على أمر غير اختياريّ ، وأما من لم يصادف قطعه الواقع فهو ليس مستحقا للعقاب لأنّه لم يوجد ما هو سبب للاستحقاق وإن أراده ، ويكفي في علّة عدم الاستحقاق عدم علّة الاستحقاق وهي إيجاد المحرّم الواقعي عن اختيار وقصد.

قوله : فإنّ العقاب بما لا يرجع بالاخرة إلى الاختيار قبيح (١).

(١) ليس الكلام في فعلية العقاب حتى يقال إنها بالنسبة إلى ما لا يرجع إلى الاختيار قبيح ، وعدم العقاب بالنسبة إلى ما لا يرجع إلى الاختيار غير قبيح ، بل الكلام في استحقاق العقاب ، فإذن الأولى تقريب الجواب بما ذكرنا في الحاشية السابقة وهو مراد المصنف أيضا على الظاهر ، وهذا التعبير منه مبنيّ على المسامحة.

قوله : كما يشهد به الأخبار الواردة في أنّ من سنّ سنّة حسنة (٢).

(٢) وجه الاستشهاد : أنّ كثرة عقاب من اتفق كثرة العامل بسنّته السيئة لأمر يرجع إلى اختياره ، وهو مستحق لها لأنّه فعل بعض مقدمات فعل العصاة باختياره ، وقلّة عقاب من اتّفق قلّة العامل بسنّته وإن كان لأمر لا يرجع إلى اختياره إلّا أنّه غير قبيح ، لكن يرد على هذا إشكال على الرواية تقريره أنّ من اتّفق كثرة العامل بسنّته إن لم يستحق أوّلا بفعله ذلك العقاب الكثير ، وكان كثرة عمل العصاة بسنّته سببا لكثرة عقابه ، فلا ريب أنّ ذلك خلاف العدل ، وإن استحق بفعله ذلك العقاب الكثير ليوافق قواعد العدل فلا ريب أنّ ذلك الآخر الذي اتّفق قلّة العامل بسنّته يساويه في الفعل بالفرض ، فهو أيضا مستحقّ لمثل ذلك العقاب

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٠.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٤٠.

٨٢

الكثير فكيف يكون أقلّ عقابا. ونظير هذا الإشكال يرد على ما دلّ بتزايد عقاب الطغاة والشياطين بكثرة لعن اللاعنين فإنّهم إن لم يستحقّوا ذلك العقاب الزائد وكان سببه لعن اللاعنين فهو خلاف العدل ، وإن استحقّوا ذلك فكيف يزيد العقاب بلعنهم.

والجواب : أنّا نختار الشقّ الثاني من الترديد ونقول : إنّ الشخصين استحقّا بفعلهما العقاب الدائم بأشدّ ما يمكن لكون فعلهما معصية من لا يوصف جلاله وعظمته ، وهكذا يكون في جميع المعاصي إلّا من اتّفق قلّة العامل بسنّته يقلّ عقابه بتفضّل من الله العزيز ، وكذلك الطغاة والشياطين استحقّوا العقاب الدائم الشديد في الغاية ، فما يعاقبون في مقابل لعن اللاعنين فهو مقتضى العدل ، ومن يكون منهم عقابه أقلّ لقلّة لعن اللاعنين لهم فهو من التفضّل ، وحينئذ لا شهادة للرواية لما رامه المصنف (١).

__________________

(١) أقول : يمكن توجيه الاستشهاد على ما ذكر من جواب الإشكال أيضا بأن يقال : كثرة عقاب من اتّفق كثرة العامل بسنّته لأمر يرجع إلى اختياره المعصية التي يستحقّ بها أشدّ العقاب ، وقلّة عقاب الآخر لأمر لا يرجع إلى اختياره وهو التفضّل من الله ، وهذا القدر كاف في الاستشهاد ، نعم ظاهر كلام المصنف أنّ الأمر غير الاختياري الذي صار سببا لقلّة عقاب من اتّفق قلّة العامل بسنّته عدم عمل العاملين بسنّته زائدا عن ذلك القليل ، لا أنّه التفضّل من الله كما قرّرنا ، وهذا سهل لا يتفاوت في أصل الاستشهاد.

ثم أقول : يمكن الجواب عن أصل إشكال الرواية بوجه أحسن وأتمّ حتى يكون الاستشهاد في محلّه وموقعه من غير تكلّف كما أراده المصنف ، وهو أن يقال : بعد ما أخبر الشارع بأنّ من سنّ سنّة سيئة كان له مثل وزر من عمل بها ، فكلّ من الشخصين استحقّا بسنّتهما مثل وزر من يعمل بسنّتهما في علم الله بحكم العقل لا أزيد ولا أنقص ، ويكون استحقاق كل منهما بالقدر المقدّر في علم الله بواسطة فعله الاختياري ، ويكون قلّة عقاب أحدهما وكثرة عقاب الآخر بسبب جعل الله عقابيهما كذلك ، وقد أخبر بذلك حتى يكون

٨٣

قوله : وقد اشتهر أنّ للمصيب أجرين وللمخطئ أجرا واحدا (١).

(١) لعله يريد أنّ زيادة الأجر في المصيب لأجل الإصابة وهي أمر غير اختياريّ ، أو أنّ قلّة الأجر في المخطئ لأجل عدم الإصابة وهو أمر غير اختياريّ.

وبالجملة اختلاف الأجر مستند إلى الأمر غير الاختياري ، فيجوز في طرف العقاب أيضا أن يكون الأمر غير الاختياري منشأ لعدم العقاب.

وفيه : أنّه إن أريد أنّ للمصيب أجرين وللمخطئ أجرا واحدا لا على وجه الاستحقاق ، وإنّما المصيب يستحقّ أجرا واحدا والمخطئ لا يستحق شيئا ، إلّا أنّ الشارع أخبر بفعلية الأجر هكذا تفضّلا ، فلا شهادة حينئذ للمطلب بوجه إذ الكلام في الاستحقاق ، وإن أريد أنّ للمصيب أجرين وللمخطئ أجرا واحدا على وجه الاستحقاق بتقريب أنّ مجرّد الاجتهاد سبب لاستحقاق أجر وإصابته سبب لاستحقاق أجر آخر ، فالاستشهاد حينئذ في محلّه ، إلّا أنّه ينافي أصل الدعوى من عدم حرمة التجري ، إذ لو كان مجرّد الانقياد سببا لاستحقاق أجر لا جرم يكون مجرّد التجري سببا لاستحقاق عقاب ، وقد مرّ بيان ذلك في المقدّمات وأنّهما في حكم العقل سواء ، هذا.

ولا بأس أن نذكر هنا أدلة القول بعدم حرمة التجري قبل التعرّض للقول

__________________

ذلك زاجرا للعاصي خوفا من أن يكثر العامل بسنّته فيكثر عقابه.

وبعبارة أخرى : قد أقدم كلّ منهما باختياره على استنان سنّة وعمل يكون وزره مثل وزر كلّ من عمل بها ، فاستحقّ بفعله ذلك المقدار من العقاب ، وهكذا يجاب عن إشكال تزايد العقاب باللعن ، فإنّ الطاغي استحقّ بطغيانه جميع ما يلحقه بلعن لاعنيه من أوّل الأمر ، فعقابه بذلك المقدار مقتضى العدل.

(١) فرائد الأصول ١ : ٤١.

٨٤

بالتفصيل على ما سيأتي في المتن ، وهي وجوه :

الأول : الأصل ، وهو يتمّ لو جعلنا المسألة فقهية ، إذ الأصل فيما اشتبه حكمه البراءة من التكليف عند جمهور الأصوليين ، وأما لو جعلناها كلامية فلا أصل هناك ، لأنّ الاستحقاق وعدم الاستحقاق كلاهما يحتاج إلى دليل ، وإن جعلناها أصولية فمن حيث نفس الحكم بالقبح وعدمه لا أصل كما لو جعلناها كلامية ، ومن حيث الأثر المقصود منها فالأصل البراءة كما لو جعلنا المسألة فقهية.

أقول : لا أصل في الحقيقة في المسألة الأصولية ، وجريانه في الأثر المقصود يرجع إلى الحكم الفرعي.

الثاني : أنّ الفعل المتجرّي به مثل شرب الماء باعتقاد أنّه خمر غير قبيح ذاتا ، ولا يكون فاعله مستحقا للعقاب في نفسه ، واعتقاد قبحه وأنّه يوجب الاستحقاق لا يؤثّر في ذات الفعل بأن يصير سببا لاستحقاق العقاب والقبح ، فهو باق على ما هو عليه بالذات وهو المطلوب.

وفيه : أنّ الخصم يدّعي كونه سببا لاستحقاق العقاب عليه بسبب طروّ عنوان آخر غير عنوانه الأولي ، يعني عنوان التجرّي ، ولا منافاة بين كون الفعل مباحا بل مندوبا بعنوانه الأولي لو خلّي ونفسه ومحرّما بسبب عنوانه الثانوي ، كمقدمات الحرام إذا لم تكن محرّمة بالذات وكالتشريع على ما مرّ بيانه عن قريب ، فإنّ الفعل على وجه التشريع لا قبح فيه في ذاته بل بعنوان التشريع.

الثالث : ما مرّ سابقا من عدم معقولية تشريع حرمة التجرّي لوجوه ثلاثة :

أحدها : لزوم اجتماع المثلين بكون الشيء حراما في نفسه وباعتبار تعلّق القطع به أيضا. ومرّ جوابه بأنّ الموضوع متعدّد.

٨٥

ثانيها : أنّ توجيه الخطاب بحرمته غير ممكن لكون عنوان التجرّي عنوانا مغفولا عنه.

ثالثها : أنّ عنوان التجرّي عنوان غير مقدور فلا يمكن تعلّق التكليف به. وقد مرّ جوابهما من أنّ مقدورية القدر المشترك بينه وبين سائر المعاصي كافية في صحة التكليف وإن كان مغفولا عنه بعنوانه الخاصّ. وقد تفطّن المستدلّ لهذا الوجه من الجواب وردّه بأنّ المتجري لم يقصد العصيان بالقدر المشترك وإنما قصد العصيان الخاص الذي لم يحصل. والجواب : أنّ قصد القدر المشترك قد حصل بقصد الخاص ، لكن لم يقع الخصوصية من المتجري وقد وقع القدر المشترك ، وقد سبق تحقيقه وتوضيحه في المقدّمات فراجع.

ويشهد لما ذكرنا أنّ المستدل قد سلّم بما سيأتي نقل كلامه من أنّ قصد المتجري حرام عقلا لا فعله ، ولا شكّ أنّه لا وجه لحرمة القصد إلّا باعتبار تعلّقه بالقدر المشترك وإلّا فكيف يقول بحرمته مع تخلّف القصد الخاص الذي لم يقع متعلّقه.

قوله : وقد يظهر من بعض المعاصرين التفصيل في صورة القطع ، إلى آخره (١).

(١) المراد صاحب الفصول (٢) ذكره في مباحث التقليد في فصل معذورية الجاهل ومحصّل مراده : أنّ التجرّي بنفسه مقتض للقبح والتحريم لو لم تعارضه جهة محسّنة بمصادفته واجبا واقعيا توصّليا يكون رعاية مصلحته أو مفسدة تركه أهمّ في نظر الشارع من مراعاة قبح التجرّي ، فلا جرم يكون الحكم تابعا

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤١.

(٢) الفصول الغروية : ٤٣١ ـ ٤٣٢.

٨٦

لأهم المصلحتين.

ومحصّل جوابه التحقيقي على ما يستفاد من كلام المصنف فيما يأتي : أنّ التجري يقتضي كون الفعل قبيحا بمعنى كون الفعل سببا لاستحقاق الذم ، ولا يمكن أن يعارض هذا القبح حسن الفعل واقعا بمعنى كونه ذا مصلحة ، مع أنّ المكلّف لا يعلمها حتى يترتّب على فعله استحقاق مدح يعارض استحقاق الذم من جهة التجرّي ، وهذا الجواب لا معدل عنه. ثم قول المفصّل إلّا أن يعتقد تحريم واجب غير مشروط بقصد القربة ، إشارة إلى أنّ استدراك الجهة الواقعية منحصر في الواجب التوصّلي دون التعبّدي فإن استدراك مصلحته متوقّف على قصد القربة المفقود في المقام بالفرض.

وأيضا قوله : وهذا الاحتمال حيث يتحقّق عند المتجرّي لا يجديه إلى آخره ، يريد به أنّ الأخذ بخلاف الطريق المنصوب مراعاة لاحتمال كونه ذا مصلحة غالبة على حسن الامتثال بالطريق لا يجديه ولا يجوّزه العقل لأنه طريق غير مأمون ، بخلاف الأخذ بالطريق فإنّه طريق مأمون صادف أم لم يصادف. وكان الأولى إسقاط ذكر هذا الاحتمال ومراعاته وإن كان حقا إلّا أنّه لا كرامة في ذكره في هذا المقام.

قوله : يرد عليه أوّلا منع ما ذكره ، إلى آخره (١).

(١) يريد به أنّ التجرّي علّة تامة للقبح فلا يمكن عروض الصفة المحسّنة له ، أما على مذاق المصنف فهو علّة تامة لظهور القبح بمعنى شقاوة الفاعل وخبث سريرته ، وأما على مذاق غيره فهو علّة تامّة للقبح بمعنى استحقاق الذم بفعله ، وعلى أيّ تقدير يكون الحكم موافقا لجهته ، ولا يمكن أن يكون الحكم على

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٣.

٨٧

خلاف جهته لقضية كونه علّة تامّة للقبح ويلازمه الحرمة ، إلّا أنّه يرد عليه أنّه ولو فرض كون التجري علّة تامة للقبح يمكن أن يكون الحكم الفعلي على خلاف جهته إن كان ذلك واجبا أو حراما أهمّ في نظر الشارع ، ويكون هذا من باب ارتكاب أقلّ القبيحين في صورة المزاحمة ، كما لو دار الأمر بين ارتكاب حرام أو ترك واجب مثلا مع العلم بأنّ مراعاة أحدهما أهمّ في نظر الشارع ، فإنّ الحكمين ثابتان في الواقع وقد علم بهما المكلّف إلّا أنّ أحدهما فعلي دون الآخر بالعجز عنه ، لكن هذا الإيراد لا ينفع المفصّل لأنّ كلامه ناظر إلى جهات المصالح والمفاسد المقتضية للحكم ، ولا ريب أنّه لو كان للفعل جهات للحسن والقبح مختلفة يلزم في حكمة الجعل أن يكون الحكم تابعا للراجح منها بعد المعادلة والكسر والانكسار ، فهنا حكم واحد موافق للراجح من المصالح ، وهذا بخلاف مسألة ارتكاب أقلّ القبيحين فإنّ ما هو أقلّ قبحا قبيح وحرام مجعول ، إلّا أنّ الضرورة جوّزت ارتكابه على قبحه وحرمته فرارا عن ارتكاب ما هو أقبح وأشدّ حرمة ، فهنا حكمان مجعولان لا يمكن موافقتهما جميعا ، فيقدّم الأهم والآخر معذور فيه.

قوله : مضافا إلى الفرق بين ما نحن فيه وبين ما تقدّم (١).

(١) لم يبيّن وجه الفرق ، ولعلّ وجهه أنّ قبح التجرّي بالاقتضاء فيما نحن فيه مفروض وإنّما الشك في طروّ المانع ، بخلافه في الدليل السابق فإنّ الشك كان في أصل اقتضاء التجرّي للقبح ، وهذا الفرق وإن كان صحيحا إلّا أنّه غير فارق ، إذ لا يتفاوت الأمر بعد عدم العلم بوجود العلّة التامة للحكم سواء كان من جهة الشكّ في المقتضي أو بعض أجزائه وشرائطه ، أو من جهة الشكّ في وجود

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٤.

٨٨

المانع ، وكيف ما كان يجوز أن يكون الأمر الخارج عن القدرة منشأ لعدم وجود القبح في الخارج ، وعليه تبتني دعوى المدّعي هنا ومنع الدليل العقلي السابق ، فإذن المعتمد هو الجواب الآخر الذي يذكره بعده ، وقد قرّرناه وشيّدناه عند التعرّض لأصل كلام المفصّل فتدبّر.

قوله : ثم إنّه ذكر هذا القائل في بعض كلماته أنّ التجرّي إذا صادف المعصية (١).

(١) ذكر صاحب الفصول (٢) هذا الكلام في مبحث مقدّمة الواجب في مقام الردّ على المحقق القمي وتوجيه كلامه ، أنّه لا ريب أنّ العصيان الحقيقي موجب لاستحقاق العقاب عليه باعتبار نفس الفعل المحرّم ، وقد فرضنا أنّ التجرّي على المولى أيضا موجب للاستحقاق ، وهذا العنوان متحقّق في العصيان الحقيقي أيضا فتتعدّد علّة الاستحقاق فيه وتتداخل العلّتان ويحصل هناك استحقاق واحد ، أو يحصل استحقاقان لكن يترتّب عليهما عقاب واحد من قبيل تداخل المسببات ، والأول من قبيل تداخل الأسباب ، ولعلّ السر في حكمه بتداخل العقابين في العصيان الحقيقي هو الإجماع والضرورة على عدم التعدّد ، وإلّا فليس في حكم العقل ما يوجب هذا التداخل إلّا على القول بأنّ الأصل في الأسباب المتعدّدة المجتمعة هو التداخل ، إمّا تداخل الأسباب وإما تداخل المسبّبات على إشكال في جريان الأصل المذكور في مثل ما نحن فيه.

وكيف كان ، فيرد عليه منع تعدد المقتضي للعقاب حتى يتكلّم في التداخل وعدمه ، بيان ذلك : أنّ حكمنا بحرمة التجرّي إما أن يكون لعلّة مشتركة بينه وبين

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٤.

(٢) الفصول الغروية : ٨٧.

٨٩

العصيان الحقيقي وهي الهتك والجرأة على المولى ، أو الفعل والترك بعنوان الهتك والجرأة ، أو الفعل والترك بشرط الهتك والجرأة ، فحينئذ ليس في العصيان الحقيقي إلّا جهة واحدة مقتضية لاستحقاق العقاب وهي العلة المشتركة بينه وبين التجرّي ، وقد سبق أنّ الحق والتحقيق صحّة هذا الشقّ من الترديد وأنّ وجه حرمة التجرّي وجود ما هو مناط الحرمة في المعصية الحقيقية بعد تحليل جهات الفعل أو الترك المبغوض فيه فتذكّر.

وإما أن يكون لعلّة خاصّة به كأن يقال : كما أنّ مخالفة المولى حقيقة موجب لاستحقاق العقاب كذلك مخالفته اعتقادا غير مطابق للواقع أيضا موجب له بحكم العقل ، فلا ريب على هذا أيضا عدم إمكان اجتماع جهتي الاستحقاق في مورد واحد ، بل ليس في العصيان الحقيقي إلّا جهة واحدة وهي المخالفة الحقيقية ، وليس في التجرّي أيضا إلّا جهة واحدة وهي المخالفة الخيالية ، ولا تجتمع المخالفة الحقيقية والخيالية جزما لكونهما متقابلتين ، هذا.

ولكن الذي يظهر من المصنف أنّه سلّم تعدد الموجب للعقاب في العصيان الحقيقي على القول بحرمة التجرّي والتزم بتعدد العقاب عليه كما يكشف عنه :

قوله : ولم يعلم معنى محصّل لهذا الكلام ـ إلى قوله ـ : لا وجه للتداخل إن أريد به وحدة العقاب فإنّه ترجيح بلا مرجّح ، إلى آخر ما ذكره (١).

(١) إن أراد صاحب الفصول بالتداخل ما أشرنا إليه من كونه من قبيل تداخل الأسباب أو من قبيل تداخل المسبّبات ، فليس هناك ترجيح حتى يكون بلا مرجّح ، بل يكون معنى التداخل على الأوّل أنّ السببين يؤثّران أثرا واحدا كما

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٥.

٩٠

في سائر موارد تداخل الأسباب ، وعلى الثاني أنّ المسبّبين يوجدان بوجود واحد كما في سائر تداخل المسبّبات فلا ترجيح بلا مرجّح ، نعم يبقى الكلام في الأصل المذكور وتطبيقه على ما نحن فيه ، أما الأصل فالمختار المحقّق في محلّه عدم التداخل إلّا بدليل مفقود فيما نحن فيه بالفرض ، وأمّا عدم تطبيقه على ما نحن فيه ، فلأنّ مورد التداخل فيما إذا كان الأثر شيئا واحدا ، ولعلّ فيما نحن فيه أحد السببين علّة لاستحقاق نوع من العقاب والآخر علّة لاستحقاق نوع آخر منه فكيف يحكم بالتداخل مع الجهل بأنّ عقابيهما من سنخ واحد أم لا ، ويا ليت المصنف علّل قوله لا وجه للتداخل في هذا القسم من الترديد بما ذكرنا من أنّه لا دليل عليه ، مع أنّه خلاف الأصل وأنّه متوقّف على إثبات كون عقابيهما من نوع واحد ، ولم يعلّله بالترجيح بلا مرجّح لكي يرد عليه ما أوردنا.

نعم ، ما أورده على الشق الثاني من ترديده صحيح ، إلّا أنّ الظاهر بل المتيقّن أنّ القائل لم يرده بل أراد المعنى الأول ، وكيف الظن بصاحب الفصول بأنّه أراد من تداخل العقابين عقابا واحدا شديدا يعادل عقابين في الألم والنكاية ، والظاهر أنّ المصنف أيضا لم يشك في عدم إرادة هذا الاحتمال لكن جرى على ما هو دأب المناظرة من ذكر جميع احتمالات كلام الخصم ـ ولو كان في غاية البعد ـ وتضعيف الكلّ لأجل اتقان المدّعى ، هذا.

وقد بقي في المسألة أمر آخر ينبغي التنبيه عليه ، وهو أنّ حرمة التجرّي على القول به شرعيّ أو عقلي صرف ليس بشرعيّ؟ وجهان بل قولان.

توجيه الأول أن يقال : بعد ما حكم العقل بقبح التجرّي وأنّه سبب لاستحقاق الذم والعقاب ، يثبت بقاعدة الملازمة بين حكم العقل والشرع أنّه حرام شرعي كسائر ما يستقل بقبحه العقل مثل الظلم والكذب وغيرهما مما

٩١

يحكم بحرمته شرعا بقاعدة الملازمة.

توجيه الثاني أن يقال : حكم العقل بحرمة التجرّي من قبيل حكمه بحرمة العصيان في المعاصي الحقيقية ، فلا يقال إنّ فعل الزنا مثلا حرام شرعيّ وعنوان العصيان الذي يحصل به ويحكم بقبحه العقل حرام آخر شرعي بقاعدة الملازمة حتى يتحقق في ضمن هذا الفعل الواحد محرّمان شرعيان ، بل يقال : إنّ حكم العقل بقبح عنوان المخالفة والعصيان وحرمته إرشادي كما في حكمه بحسن الإطاعة فإنّه إرشادي لا يصير بقاعدة الملازمة حكما شرعيا مولويا ، ومن هنا تحمل الخطابات الواردة في الشرع من هذا القبيل كقوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)(١) على الإرشاد لا التكليف ، فنقول : إنّ حكم العقل بقبح التجرّي نظير حكمه بقبح المعصية إرشادي لا يفيد تكليفا شرعيا ، بل هو عينه لا نظيره على ما تقدّم سابقا في دليل حرمة التجرّي من أنّ مناط الحرمة في المعصية الحقيقية والتجرّي شيء واحد وهو الجرأة على المولى وهتكه وعدم المبالاة بشأنه في أوامره وزواجره.

وتحقيق المقام موقوف على تحقيق ملاك إرشادية أوامر الإطاعة وميزان الفرق بينها وبين الأوامر المولوية فنقول : فيه وجوه :

الأول : ما قيل من أنّ الضابطة في ذلك أنّه إن كان الحسن الذي يستدرك بإتيان متعلق الأمر وكذا القبح الذي يتبع إتيان متعلّق النهي متوقفا على وجود ذلك الأمر أو النهي ، فهذا تكليف شرعي مولوي ليس بإرشادي ، وذلك كالأمر بالصلاة والنهي عن الزنا فإنّ ما يتبعهما من حسن الإطاعة وقبح المعصية المستلزمة لاستحقاق الثواب والعقاب موقوف على ذلك الأمر أو النهي وإلّا لم

__________________

(١) النساء ٤ : ٥٩.

٩٢

يكن الفعل حسنا أو قبيحا بمعنى استحقاق المدح أو الذمّ والثواب أو العقاب عليه ، وإن كان ما يستدرك من إتيان متعلّق الأمر أو النهي لا يتوقّف على وجودهما بل يستدرك ولو على تقدير عدمهما ، فهذا الأمر أو النهي إرشادي ليس بمولوي ، وذلك كأوامر الإطاعة ، فلو فرض عدم ورود هذه الأوامر في الشرع وخلّينا وحكم العقل فقط كفانا في استدراك ما يترتب على الإطاعة والمعصية بحكم العقل.

وبعبارة أخرى : لو أمر الشارع أو نهى في هذا المورد أمرا مولويا لغى ، لاستفادة ذلك الأمر والنهي بعينه من حكم العقل لا يزيد الأمر الشرعي أو النهي الشرعي لنا شيئا لم نستفده. وقد فرّع القائل على هذا الضابط كون حرمة التجرّي عقليا إرشاديا لا شرعيا مولويا ، إذ لو ورد من الشرع النهي عن التجري أيضا لا نستفيد منه أزيد مما حكم به العقل من قبحه ، فعلى هذا حرمة التجري عقلية لا شرعية.

لا يقال : إن سلّمنا حرمته العقلية نحكم بحرمته الشرعية بقاعدة الملازمة.

لأنّا نقول : قاعدة الملازمة ليست متكفّلة لحال الأحكام الإرشادية على ما هو مبيّن في محلّه ، ولو سلّم فإنّه يثبت الحكم الشرعي على حسب حكم العقل ، ولمّا كان في حكم العقل إرشاديا يكون في حكم الشرع أيضا إرشاديا لا مولويا.

والجواب عنه :

أمّا أولا : فبالنقض بسائر ما يستقل بحكمه العقل كحرمة الظلم والكذب وغيرهما ، فيلزم من هذا البيان أن يكون كلها أحكاما إرشادية غير مولوية بالضابط المذكور ، إذ لا يستفاد من نهي الشارع عن الظلم أزيد ممّا استفيد من

٩٣

حكم العقل ، بل لا يبقى لقاعدة الملازمة حينئذ مورد ، إذ تصير الأحكام العقلية بأسرها إرشادية غير شرعية فأين مورد القاعدة.

وأمّا ثانيا : فبالحلّ ، وأنّا لا نسلّم عدم الفائدة في أمر الشارع بالإطاعة أمرا مولويا وكون ما يستدرك بعد هذا الأمر عين ما يستدرك قبله ، بل يكون بعد الأمر عنوان الإطاعة أيضا واجبا شرعيا كأصل الفعل المعنون بهذا العنوان ، ويترتّب عليه ثواب آخر بموافقته أو عقاب آخر بمخالفته مضافا إلى ما يترتّب على أصل الفعل من الثواب والعقاب ، غاية الأمر أنّ هذا العنوان يتحقّق بإتيان أصل الفعل أو تركه ، ولا يحتاج في الوجود إلى مئونة شيء آخر ، ولا ضير فيه.

الثاني : أنّه لو كانت أوامر الإطاعة أوامر شرعية يلزم التسلسل في الأمر ، مثلا لو كان الأمر بإطاعة أمر الصلاة أمرا شرعيا يلزم إطاعة هذا الأمر أيضا كالأمر بنفس الصلاة فتكون إطاعة الأمر بإطاعته أمر الصلاة أيضا مأمورا به بأمر شرعي تجب إطاعته ، ثم ننقل الكلام إلى هذا الأمر وهلم جرّا حتى يتسلسل ، ويتفرّع على هذا الضابط أن يكون حرمة التجرّي شرعية لعدم لزوم التسلسل على تقديرها ، لأنّ حكم العقل حينئذ أنّه لا تعص بالتجرّي لا أنّه لا تتجرّ بالتجرّي.

والجواب :

أما أوّلا : فإنّه يمكن أن تكون للأمر بالإطاعة بسائر الواجبات مصلحة تقتضي ذلك الأمر ، بخلاف الأمر بالإطاعة بأوامر الإطاعة فلم تكن له تلك المصلحة ، ويكون الأمر الأول شرعيا دون غيره حتى يتسلسل ، نعم نحن لا ندرك تلك المصلحة ونرى الأمر بالإطاعة في سائر المراتب متساوية فيما نعقله إلّا أنّا لا نعلم بعدمها أيضا ، ولزوم التسلسل متوقّف على العلم بعدمها وأنّ

٩٤

الإطاعة وإطاعة الإطاعة وهكذا إلى ما لا يتناهى متساوية في نفس الأمر بحيث لو كانت إحدى مراتبها واجبا شرعيا كانت المراتب الباقية أيضا كذلك ، ولم يعلم ذلك.

وأما ثانيا : فإنّ هذا التسلسل على تقدير لزومه ليس من التسلسل المحال ، إذ يمكن للامر تصور مراتب الإطاعة الطولية إلى ما لا يتناهى والأمر بها بإنشاء واحد ، ويمكن للمأمور أيضا امتثال جميع هذه المراتب غير المتناهية بفعل واحد فأين المحال؟ والسر فيه أنّ التسلسل المحال إنّما هو في الأمور المتأصّلة الخارجية لا في الأمور الاعتبارية الانتزاعية مثل عنوان الإطاعة والعصيان ونحوهما.

الثالث : أنّ أمر الشارع بوجوب الإطاعة موافق للأمر العقلي بوجوبها بقاعدة الملازمة ، ولا شكّ أنّ الأمر العقلي إرشادي فكذلك الشرعي لا يكون إلّا إرشاديا ، ضرورة أنّ الملازمة بين حكم العقل والشرع تقتضي اتّحاد كيفية الحكم أيضا كأصل الحكم ، لكن هذا إنّما يتم لو استفدنا أمر الشارع بالإطاعة من قاعدة الملازمة ، وأما إذا استفدناها من الأوامر الواردة في الشرع لفظا مثل قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)(١) فيمكن كونها مولوية ، اللهمّ إلّا أن يقال إنّا نفهم من ظاهرها موافقة حكم العقل لا حكم آخر من الشارع مضافا إلى الأمر بما يتحقق به الإطاعة كالصوم والصلاة.

الرابع : أنّ الضابط في الحكم الإرشادي في مثل الإطاعة والعصيان أن يكون كالتكرار لحكم منجّز آخر من قبل المولى الذي تجب إطاعته ، ويتعلّق ذلك الأمر أو النهي بعنوان ثانوي لما أمر أو نهى عنه سابقا بحيث يكون الغرض

__________________

(١) النساء ٤ : ٥٩.

٩٥

من الأمر الثاني أيضا استدراك المطلوب من الأمر الأول.

بيان ذلك : أنّ الأمر الإرشادي على أقسام :

الأول : أن يكون مثل أوامر الطبيب لا يقصد منها سوى الإعلام بكيفية علاج المرض ، وليس هناك إلزام وإرادة بوقوع متعلّق الأمر ، بل ربما لا يريد وقوع المأمور به كأن يكون المأمور عدوّ الامر يريد هلاكه لا برأه من مرضه ، وقد أشار المحقق القمّي (رحمه‌الله) (١) إلى هذا القسم من الإرشاد وقال : إنّ الأمر هنا مستعمل في الاخبار مجازا ، فقول الطبيب : اشرب الدواء في مقام قوله شرب الدواء نافع لهذا المرض. لكنّا نمنع كون الأمر مستعملا في الاخبار بل ندّعي أنّ الغرض من الأمر ذلك من باب الكناية بأن استعمل الأمر في الإنشاء لينتقل منه إلى القضية المذكورة.

الثاني : أن يكون مثل الأمر بالمقدمة يقصد منه الحتم والإلزام ويراد وقوع متعلّقه ، لكنّ الغرض من وقوعه ليس حصول نفسه بل الغرض من وقوعه حصول غيره لأن المصلحة في ذلك الغير ، ومن هذا القبيل سائر الأوامر الغيرية كالأمر بما لا يتم الواجب إلّا به ، وأوامر الاحتياط ، والأمر بالعمل بالطرق والأمارات ، فإنّ هذه الأوامر يراد منها الحتم والإلزام جزما لكنّ الغرض منها حصول ذي المقدمة في الأول ، والمأمور به النفسي في الثاني ، وما أدى إليه الطريق في الثالث.

الثالث : أن يكون مثل الأمر بالإطاعة يقصد منه الحتم والإلزام أيضا لكن الغرض منه وقوع متعلّقه على النحو الذي أمر به بأمر آخر متعلّق به بعنوان آخر ، وهو في قوّة تكرار الأمر الأول ، ولا يترتّب على موافقة هذا الأمر كسابقه سوى

__________________

(١) [لم نجده في مظانه].

٩٦

ما يترتّب على الأمر الأول لا غير ، ولا ريب أنّ المراد من إرشادية أوامر الإطاعة هو هذا المعنى ، وعليه تكون حرمة التجرّي شرعيا مولويا لا إرشاديا ، إذ لا يكون هناك نهي آخر حتى يكون النهي عن التجرّي وسيلة إلى موافقته بحيث يكون كالتكرار له.

ومن هذا القسم من الإرشاد النهي عن إلقاء النفس في التهلكة في قوله تعالى : (لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(١) إن أريد من التهلكة العقاب الاخروي المترتّب على مخالفة الأوامر والنواهي الشرعية ، فإنّه كالتأكيد لتلك الأوامر والنواهي كما لا يخفى.

وإن أريد من التهلكة المضارّ الدنيوية فالنهي شرعي مولوي بظاهره يستفاد منه التحريم الشرعي إلّا أن يراد منه إرشاده إلى أنّ إلقاء النفس في التهلكة يترتب عليه المضرّة الموجودة به ، وهو خلاف الظاهر.

وإن أريد منه الأعم من المضارّ الاخروية والدنيوية فبالنسبة إلى الأول إرشادي وبالنسبة إلى الثاني شرعي ، ولا يلزم استعمال اللفظ في معنيين ، إذ النهي حينئذ مستعمل في القدر المشترك وهو الإلزام بالترك الذي هو حقيقة معنى النهي.

فإن قلت : على هذا البيان يلزم أن يكون الأمر بإطاعة الوالدين والزوج والسيد وأمثالها أيضا إرشاديا ولم يقل به أحد.

قلت : إن كان الغرض من الأمر بإطاعة الوالدين أنّ ما يترتّب على مخالفتهما مترتّب عليها فلا تخالفهما لكي تتعرّض لعقوبتهما ، فلا ريب أنّ هذا

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٩٥.

٩٧

الأمر إرشادي ، وإن كان الغرض أنّ إطاعة الوالدين محبوب للامر مطلوب له كما هو ظاهر الأمر بحيث يصحّ للامر عقابه على مخالفته أيضا كما يصحّ للوالدين ذلك مثلا بالفرض ، فهذا الأمر شرعي مولوي ليس كالتأكيد لأمرهما كما هو واضح.

ومما ذكرنا من أنّ أوامر الاحتياط يراد منها الحتم والإلزام ولو كان غيريّا يندفع ما قيل من أنّه لا يجوز الاقتداء بمن يصلّي احتياطا لاحتمال اشتغال ذمّته بالصلاة ، بتقريب أنّ المصلّي لو لم يكن مشغول الذمّة في الواقع لم يكن ما يأتي به صلاة صحيحة حتى يصحّ الاقتداء به بل يكون لغوا ، مع أنّه لا بدّ في صحّة الاقتداء من إحراز كون ما يفعله الإمام صلاة صحيحة ، فكيف يصحّ الاقتداء بهذا الإمام في هذا الفعل المردّد بين كونه صلاة أو عملا لغوا.

وجه الاندفاع أنّ ما يفعله الإمام مأمور به على كلّ تقدير ، لأنّه إن كان مشغول الذمة واقعا فما يفعله صلاة صحيحة واقعا ، وإلّا كان مأمورا بإتيان هذا الفعل بالأمر الغيري ، فيصحّ من هذه الجهة لأجل هذا الأمر ، غاية الأمر عدم ترتّب الثواب عليه ، ولا كلام لنا من جهته وإنما الغرض إثبات الصحّة ليتفرّع عليه صحّة الاقتداء.

نعم ، لو منعنا من كون أوامر الاحتياط يراد بها الحتم والإلزام وقلنا بأنّها من قبيل القسم الأول من الإرشاد تمّ ما ذكره القائل فتدبّر. وسيأتي في مبحث البراءة زيادة تحقيق للمطلب إن شاء الله تعالى.

٩٨

قوله : نعم ، لو كان التجرّي على المعصية بالقصد إلى المعصية (١).

(١) وفي بعض النسخ بدل قوله نعم قوله : وأما ، ولم يتّضح ما أراده من هذا الاستدراك ، فيحتمل أن يكون مراده أنّه إن لم تتمّ الأدلة المذكورة لحرمة التجرّي يمكن الاستدلال لها بظاهر الأخبار إذا كان التجرّي بمجرّد القصد ، لكن لا يلائم ذلك ما سيأتي منه من تسوية جميع أقسام التجرّي والتأمل والتردّد فيها على نسق واحد ، ويحتمل أن يكون مراده أنّه إن قلنا بحرمة التجري يجب تخصيصه بغير ما كان التجرّي بالقصد فإنّه قد عفي عنه بدلالة ظاهر أخبار العفو ، يعني ما كان بالقصد لا يترتّب عليه العقاب الفعلي بسبب العفو ، وإن كان مشتركا مع باقي الأقسام في أصل الاستحقاق.

وكيف كان نقول : لا ريب أنّ مناط حرمة التجرّي في حكم العقل جار في قصد المعصية الحقيقية بل قصد ما يعتقده معصية ولم يكن معصية ، سواء ارتدع عن فعل ما قصده بنفسه أو برادع خارجي ولو كان ذلك عدم القدرة عليه حين أراد أن يفعل ، وهكذا يجري المناط في ارتكاب مقدمات المعصية الحقيقية أو الحكمية ، إذ التجري على المولى وهتكه وعدم المبالاة بأحكامه حاصل في الكل سواء ، هذا إذا لم نقل بكون مقدّمة الحرام حراما إذا فعلها بقصد ترتّب الحرام أو كانت سببا ، وإلّا فهو من المحرمات الأصلية ، فافهم.

نعم ، إطلاق لفظ التجرّي على القصد المجرّد أو ارتكاب المقدّمات لعلّه خلاف ما اصطلحوا عليه ، وفيه تأمّل ، إلّا أنّه لا تفاوت بينها في الحكم.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٦.

٩٩

قوله : فالمصرّح به في الأخبار الكثيرة العفو عنه وإن كان يظهر من أخبار أخر العقاب على القصد أيضا (١).

(١) كلتا الطائفتين من الأخبار تدلّ على حرمة التجرّي بالقصد على تقدير تمامية دلالتها.

أما الطائفة الأولى ، فلأنّ العفو فرع الاستحقاق فإنّ الظاهر من قوله (عليه‌السلام) : نيّة السوء لا تكتب (٢) أنّه ينبغي أن يكتب بمقتضى العدل ولا يكتب بالإحسان والتفضّل.

وأمّا الطائفة الثانية فواضح أنّها كذلك.

قوله : مثل قوله (عليه‌السلام) «نية الكافر شرّ من عمله» (٣).

(٢) دلالة الرواية على حرمة قصد المعصية وأنّه يعاقب عليه غير واضح ، لأنّ الظاهر منها أنّ ما يضمره الكافر ويعتقده من الكفر شرّ مما يعمله بجوارحه ، ولا شكّ في أنّ ما ينويه الكافر من المحرمات الأصلية لأنّه خلاف ما أمر به من الإيمان ورفع الكفر ، سلّمنا دلالتها على أنّ قصد الكافر للمعصية معصية لكن لا ينافي ذلك العفو عنها فلا تعارض ، سلّمنا ذلك أيضا لكنّه خاص وما دلّ على أنّ نيّة السيّئة لا تكتب عامّ فليخصّص به ، وفيه مناسبة أخرى أيضا لأنّ الكافر ليس محلّا للتفضّل والإحسان بالعفو الثابت للامتنان.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٦.

(٢) ورد مضمونه في الوسائل ١ : ٥١ / أبواب مقدمة العبادات ب ٦ ح ٦ ، ٧ ، ٨ ، ١٠.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٤٦.

١٠٠