حاشية فرائد الأصول - ج ١

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-015-2
الصفحات: ٦٩٤

موافق للوجه الأول يعني عدم الإجزاء كما لا يخفى.

قوله : الأول أن يكون ذلك من باب مجرّد الكشف عن الواقع ـ إلى قوله ـ فلا مصلحة في سلوك هذا الطريق وراء مصلحة الواقع (١).

(١) الظاهر أنّه أراد به ما لو لم يكن هناك مصلحة غير المصلحة الغيرية تترتّب عليه عند مصادفة الواقع لا في الجعل ولا في المجعول ، وحينئذ فما ذكره من أنّ الوجه الأول والثالث من الوجوه الثلاثة المذكورة في المتن يوجبان الأمر بسلوك الأمارة مطلقا ، والوجه الثاني لا يصحّ إلّا مع تعذّر العلم صحيح ، لكنّا نقول من أقسام هذا الوجه أيضا ما لو لم يكن في الطريق مصلحة وراء مصلحة الواقع ، إلّا أنّ المصلحة في جعل هذا الحكم في هذا الحال وراء مصلحة إدراك الواقع ، وحينئذ فالأقسام الثلاثة بأسرها صحيحة حتى القسم الثاني ، لأنّ تفويت الواقع على بعض المكلفين في بعض الأحوال خصوصا إذا كان نادرا من دون التدارك ليس بقبيح إذا كان ذلك موافقا للحكمة الملحوظة فيها مصالح عامة الخلائق.

قوله : الثاني أن يكون ذلك لمدخلية سلوك الأمارة في مصلحة العمل (٢).

(٢) يعني سواء كان سلوك الأمارة محدثا للمصلحة في نفس العمل أو كان نفس سلوك الأمارة مشتملا على المصلحة.

والفرق أنّه على الأول يصير نفس الفعل المؤدي إليه الأمارة ذا مصلحة ، وعلى الثاني يصير سلوك الأمارة ذا مصلحة دون الفعل ، وسينفعك هذا التشقيق

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١١٢.

(٢) فرائد الأصول ١ : ١١٢.

٢٦١

فانتظر لتمام الكلام في تحرير أقسام القسم الثاني.

قوله : أحدها كون الشارع العالم بالغيب عالما بدوام موافقة هذه الأمارات للواقع (١).

(١) هذا أعمّ من أن تكون العلوم الحاصلة للمكلّف دائمة الموافقة أو دائمة المخالفة أو مختلفة الحال بأن تكون أغلبها موافقا أو مخالفا أو تكون موافقتها ومخالفتها متساوية ، ولا يخفى أنّ ما ذكره في المتن من أنّ هذا الوجه يوجب الأمر بسلوك الأمارة ولو مع التمكّن من العلم إنّما يتم في غير الصورة الأولى ، وإلّا فإن كانت الأمارة دائمة المخالفة والعلم أيضا دائم الموافقة فجعل الأمارة لغو محض ، إلّا أن تكون المصلحة في نفس الجعل كما أشرنا سابقا وهو غير ما أراده المصنف.

قوله : الثاني كونها في نظر الشارع غالب المطابقة (٢).

(٢) يريد به كون قطع المكلف دائم المطابقة أو أغلب مطابقة من الأمارة كما يظهر من تعليل عدم صحته بتفويت الواقع على المكلّف ، إلّا أنّ التعبير عن هذا المعنى بكونها غالب المطابقة لا يخلو عن قصور ، وبقي ما لو كانت الأمارة وقطع المكلف كلاهما غير دائمي المطابقة إلّا أنّهما متساويان ، وجعل الأمارة على هذا الفرض وإن لم يلزم منه تفويت الواقع إلّا أنّه لغو ، اللهمّ إلّا أن تكون المصلحة في نفس الجعل من التسهيل والتوسعة على العباد مثلا ، لكن بهذا الوجه يصحّ جميع الأقسام كما مرّ قبيل ذلك.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١١٢.

(٢) فرائد الأصول ١ : ١١٣.

٢٦٢

قوله : لأنّ تفويت الواقع ، إلى آخره (١).

(١) قد مرّ أنّ قبح تفويت الواقع على المكلف من دون تدارك إنّما يصح فيما لو لم تكن مصلحة في الجعل وإلّا فليس بقبيح.

قوله : وأما القسم الثاني فهو على وجوه أحدها (٢).

(٢) الأظهر أنّ الأقسام تزيد على الثلاثة المذكورة في المتن كما ستعرف ، ومحصّل القسم الأول أنّ تحقّق الحكم مشروط بحصول العلم به أو قيام الأمارة عليه ومع عدمهما لا حكم أصلا ، فالعالم مكلّف بالحكم الواقعي الأولي ، وكل واحد ممن قامت عنده أمارة أدّت إليه ومن تخلّفت أمارته عن ذلك الحكم مكلّف بمؤدّى الأمارة وذلك حكمه في الواقع ، والجاهل لم يجعل له حكم أصلا ، ولازم ذلك أن تكون الأمارة محدثة للحكم على تقدير التخلّف عن الواقع وعدمه.

ثم لا يخفى أنّ هذا القسم والقسم الثاني المذكور في المتن داخلان فيما لو كان نفس الفعل ذا مصلحة أوجبها قيام الأمارة ، لا أن يكون نفس السلوك ذا مصلحة.

وهنا يتصوّر قسمان آخران أهملهما المصنف (قدس‌سره) :

أحدهما : أن يكون الحكم تابعا للأمارة في حق من قامت عنده أمارة ، والأحكام الواقعية مختصّة بغيره من العالمين بها والجاهلين مطلقا ، والفرق بينه وبين القسم الأول أنّ الجاهل يثبت له الأحكام الواقعية على هذا الفرض دون الأول فإنّه لا حكم له عليه ، وقد يثمر إذا وافق الجاهل الأحكام الواقعية اتفاقا ،

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١١٣.

(٢) فرائد الأصول ١ : ١١٣.

٢٦٣

فعلى أنّه لا حكم له لغى ، وعلى الوجه الثاني فقد أدّى ما كان عليه.

ثانيهما : أن تكون الأمارة مثبتة لحكم ظاهري على من قامت عنده أمارة أدّت إلى غير الأحكام الواقعية ، والأحكام الواقعية ثابتة لعامّة المكلّفين فعلا وإن لم تكن منجّزة على غير العالمين بها ، فمن قامت عنده أمارة أدّته إلى خلاف الحكم الواقعي له حكمان واقعي غير معاقب عليه وظاهري يعاقب عليه ، والعالم ومن قامت عنده أمارة أدّته إلى الواقع له حكم واحد واقعي يعاقب عليه ، والجاهل أيضا له حكم واحد لا يعاقب عليه.

وهذا الوجه أظهر ما يتصوّر في القسم الثاني ، والعجب من إهمال المصنف إياه مع هذا الوضوح وذكره للوجوه الخفية. والفرق بين هذا الوجه والوجه الثاني المذكور في المتن أنّ الحكم الواقعي على هذا الوجه فعليّ لعامة المكلّفين وإن كان غير منجّز على من أدّت الأمارة عنده على خلافه ، وعلى الوجه الثاني المذكور في المتن ليس إلّا شأنية الحكم بملاحظة وجود المقتضي له في حقّ من قامت عنده الأمارة على الخلاف.

قوله : والجاهل مع قطع النظر عن قيام أمارة عنده على حكم العالمين لا حكم له ، أو محكوم بما يعلم الله أنّ الأمارة تؤدّي إليه (١).

(١) لعلّ الترديد ناظر إلى أنّ الجاهل قسمان قسم يعلم الله تعالى أنّه يبقى على جهله مدّة عمره فلم يجعل له حكما ، وقسم يعلم الله تعالى أنّه ستؤدّي الأمارة التي تقوم عنده إلى شيء فجعل ذلك الشيء حكما له من أول الأمر ، وهذا الترديد ينفع في وجوه التصويب على ما سيأتي فانتظر.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١١٣.

٢٦٤

قوله : وهذا تصويب باطل عند أهل الصواب من المخطئة (١).

(١) لا بأس بأن نشير في هذا المقام إلى وجه بطلان التصويب وتميّز الباطل منه عن غيره ، وذلك يتوقف على تحرير النزاع في تلك المسألة ولو على نحو الإجمال والتلخيص فنقول :

لا خلاف كما في شرح المختصر للعضدي (٢) في عدم التصويب في العقليات إلّا من العنبري ، وقد سبقه الإجماع ولحقه بمعنى عدم كون كلّ من المجتهدين فيها مصيبا ، ضرورة لزوم التناقض في الواقع على تقديره كما لو اعتقد أحد المجتهدين بكون صفات الواجب قديمة والآخر بكونها حادثة ، وإنّما اختلفوا في الشرعيات ، فالعدلية وجمع من العامة على التخطئة وجمع منهم على التصويب باستثناء ما لو كان على الحكم دليل قاطع فإنّهم أيضا على التخطئة.

وتوضيح المقام : أنّه لا يعقل التصويب في الأحكام العقلية كالحكم بقدم صفات الواجب أو حدوثه ، وكذا في الموضوعات الصرفة كحياة زيد وموته ، لأنّ الواقع منهما واحد ومعتقد خلافه مخطئ ، وإلّا اجتمع النقيضان في الواقع.

نعم الأحكام الشرعية المجعولة في مورد الأحكام العقلية كوجوب اعتقاد التوحيد ومعرفة صفات الواجب مثلا ، أو المجعولة للموضوعات كالأحكام المرتبة على حياة زيد مثلا كالأحكام الكلية الفرعية بل الأصولية كحجية الإجماع أو خبر الواحد مثلا قابلة للنزاع المذكور.

والضابط أنّ ما كان جعله اعتباريا كالأحكام التكليفية والوضعية أمكن القول بالتصويب فيها سواء كان متعلقا بالاعتقاديات أو العمليات الفرعية أو

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١١٣.

(٢) شرح مختصر الأصول : ٤٦٤.

٢٦٥

الأصولية أو الموضوعات ، إلّا أنّهم أجمعوا في الاعتقاديات على عدم التصويب ، بل قالوا إنّ المصيب فيها واحد يعني أنّ المصيب قد أدى ما كلّفه الله تعالى في الواقع والمخطئ قد خالف تكليفه المجهول له ، وإن اختلفوا في معذورية المخطئ وعدمه ، فانحصر مورد النزاع في العمليات والقدر المتيقّن من مورد النزاع في العمليات الأحكام الشرعية الفرعية ، وأما الأصولية وموضوعات الأحكام فلا نظنّ المصوّبة أن يقولوا فيها بالتصويب ، وإن كان مقتضى إطلاق قولهم إنّ حكم الله تابع لآراء المجتهدين ، وكذا مقتضى أدلّتهم التعميم كما ستعرف إن شاء الله تعالى.

ثم إنّهم قيّدوا محلّ النزاع بما إذا لم يكن هناك دليل قطعي من نصّ أو إجماع أو غيرهما وإلّا فالإجماع ثابت على التخطئة ، وأنّ المخالف للدليل مخطئ آثم أو غير آثم على الخلاف ، فانحصر مورد النزاع في موارد الأدلة الظنية وإن حصل منها القطع اتفاقا ، بالنسبة إلى الأحكام الفرعية قطعا وبالنسبة إلى الأحكام الأصولية والموضوعات الخارجية للأحكام احتمالا.

ثم اعلم أنّ المخطئة قائلون بأنّ لله في كل واقعة حكما معينا في الواقع أصابه من أصابه وأخطأه من أخطأه ، لكنه معذور إذا لم يكن مقصّرا في اجتهاده ، والمصوّبة منكرون لهذا المعنى قائلون أنّ الحكم تابع لآراء المجتهدين ، وذلك يتصوّر بوجوه :

الأول : أنّه ليس في الواقع مع قطع النظر عن قيام الأمارة وظنّ المجتهد على طبقه أو قطعه لو حصل القطع من الأمارة اتفاقا لواحد حكم ولا مقتض للحكم أصلا ، وإنّما يتحقّق الحكم بعد فرض تعلّق رأي المجتهد بشيء ، فيصير ذلك الشيء بعده حكما له ولمقلّديه.

٢٦٦

الثاني : أنه ليس في الواقع حكم مع قطع النظر عن قيام الأمارة كالأول إلّا أنّه يوجد هناك ما يقتضي ثبوت حكم معيّن لو لم يمنعه مانع ، فإن طابقه ظنّ المجتهد يصير ذلك حكما فعليا له ، ولو ظنّ غيره يكون ذلك مانعا عن تأثير المقتضي وسببا لكون ذلك الغير حكمه ، وهذا المعنى هو الذي يدّعي صاحب الفصول (رحمه‌الله) أنّه قريب إلى القول بالتخطئة بل عينه ، وسيأتي ما فيه إن شاء الله تعالى.

وعلى التقديرين إما أن يقال بأنّ الله تعالى كان عالما في الأزل بما يؤدي إليه نظر كل مجتهد في وقته ، فجعل كل واحد من الآراء حكما لمن ظنّه ولمقلّديه من أول الأمر كما قيل بنظيره في أطراف الواجب المخيّر ، أو يقال بأنّ الله جعل في الأزل أحكاما موافقا لآراء المجتهدين فيؤدي نظر المجتهدين إليها قهرا عليهم على وجه أو اتفاقا على وجه آخر ، أو يقال إنّ رأي المجتهد محدث للحكم يعني أنّ الله يجعل رأي المجتهد بعد حصوله حكما له ولمقلّديه ، وهذا المعنى أوفق بظواهر كلماتهم كما لا يخفى ، فعلى الوجهين الأولين رأي المجتهد كاشف عن الحكم وعلى الأخير محدث له.

ثم اعلم أنّه لا بدّ للمصوّبة أن يقولوا بوجود شيء يبذل المجتهد وسعه في تحصيله وإن لم يكن ذلك حكما له حينئذ ، بأن يكون ذلك الشيء حكما للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مثلا ، أو يكون ما أخبر به جبرئيل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وما أشبه ذلك من المناسبات القياسية أو المصالح المرسلة أو الاستحسانات ، وإلّا فلا يعقل قيام الأمارة كخبر أو آية مثلا ، إذ لا بدّ للأمارة من ذي الأمارة ، ولا بدّ للطريق من ذي الطريق ، ولا بدّ للآية أو الخبر من مدلول يحصل للمجتهد الظن به فيصير ذلك حكما له ، ومن البعيد في الغاية أنّ المصوّبة ينكرون هذا المعنى أيضا ويقولون بذلك الأمر غير المعقول الواضح مع أنهم من

٢٦٧

أجلّة الأصوليين والمتكلّمين ، ولمّا استظهرنا منهم أنّهم يقولون بوجود شيء في الواقع يتفحّص عنه المجتهد سواء أصابه وصار ذلك حكمه أو أصاب غيره وصار ذلك الغير حكمه ، يندفع عنهم جملة مما أورد عليهم مثل الدور الذي أورد عليهم العلامة (رحمه‌الله) (١).

تقريره : أنّ ثبوت الحكم على القول بالتصويب متوقّف على العلم به والعلم به متوقف على ثبوته ، ضرورة تقدم ثبوت المعلوم على العلم بثبوته.

تقرير الدفع : أنّ الحكم حينئذ وإن كان متوقفا على العلم لكنّ العلم ليس متوقفا على ثبوت الحكم بل على ثبوت شيء يتخيل منه الحكم. ولا يخفى أنّ شبهة الدور إنّما ترد على تقدير القول بكون رأي المجتهد محدثا للحكم لا على تقدير الكاشفية.

وكذا يندفع عنهم ما يقال من أنّه يلزم على التصويب استعمال اللفظ في معان كثيرة بحسب آراء المجتهدين إذا اختلفوا باختلاف أنظارهم بملاحظة دليل لفظي.

وجه الدفع : أنّ لهم أن يقولوا إنّما يلزم ذلك لو كان اللفظ مستعملا في جميع ما يفهمه منه كل مجتهد ، وذلك غير مسلّم لم لا يكون اللفظ مستعملا في واحد من الآراء وما يفهمه الباقي خارج عن المستعمل فيه ، إلّا أنّه حكمهم بدليل حجية ظن المجتهد ، بل يمكن أن يكون المستعمل فيه خارجا عن الجميع.

نعم ، يرد عليهم أنّه يلزم عدم ثبوت حكم من الأحكام الاجتهادية في حق من لم يجتهد ولم يقلّد ، وحينئذ فللمكلف أن يترك الاجتهاد والتقليد بالمرة

__________________

(١) نهاية الوصول : ٣١١ (مخطوط).

٢٦٨

حتى لا يثبت في حقه حكم أصلا ولا يكون معاقبا ، إلّا أن يقولوا بوجوب النظر والاجتهاد أو التقليد عن دليل قطعي ، وعليه يثبت وجوب الاجتهاد أو التقليد ويعاقب على مخالفة هذا الحكم بالخصوص لوجود القاطع عليه ، وليس محلا للتصويب بل المصوّبة قائلون بالتخطئة في مثله كما سبق ، ومع ذلك فيه ما فيه (١).

هذا تمام الكلام في تصوير قول المصوبة.

ثم اختلف المخطئة بعد اشتراكهم في أنّ لله في كل واقعة حكما معينا أصابه من أصابه وأخطأه من أخطأه ، فمنهم من ذهب إلى أنّ الله جعل في كل واقعة حكما ونصب عليه حجة قاطعة. واختلف أصحاب هذا المذهب في معذورية المخطئ بعد بذل وسعه وعدم معذوريته ، ومنهم بل المعروف بينهم على ما في الفصول أنّه جعل في كل واقعة حكما معيّنا ونصب عليه دليلا إما حجة قاطعة أو أمارة ظنية ، ومنهم من ذهب إلى أنّه لا يلزم أن يكون عليه دليل ظني أو قطعي ، والأقوى الأخير لجواز اتّكال الشارع على حكم العقل الحاصل لكل مكلف ، فلو علم بالحكم عمل على طبقه وإلّا عمل بالبراءة أو الاشتغال ، هذا.

ثم استدل على القول بالتخطئة بوجوه :

الأول : إجماع الإمامية من زمن الصحابة إلى يومنا هذا حتى أنه لم يحك من أحد قول نادر أو تردد وتوقف ، وكون ذلك إجماعا في المسألة الأصولية لا الفرعية غير قادح ، لأنّ الإجماع حجة مطلقا في كل ما يترتب عليه حكم فرعي

__________________

(١) أقول : ويمكن الذبّ عن هذا الإيراد عنهم : بأنّ الجاهل مكلف واقعا بالحكم الذي لو اجتهد أدى نظره إليه وإن لم يجتهد بعد أو لم يجتهد طول دهره ويعاقب على ذلك ، إلّا أنّ ذلك إنّما يتم على فرض القول بكون الرأي كاشفا عن الحكم لا محدثا.

٢٦٩

على ما تقرر في محله ، وقد يضاف إلى ذلك الإجماع العملي من المسلمين قاطبة ، فإنّ الصحابة والتابعين قد أجمعوا على تخطئة المخالف وقد نقل عنهم ذلك بطريق متواتر.

وفيه : أنّه يمكن أن يكون هذا تخطئة في كيفية الاستنباط لا في الحكم المستنبط بعد الاستنباط (١).

الثاني : الأخبار المتواترة معنى المروية عن أهل البيت (عليهم‌السلام) الدالة على أنّ لله في كل واقعة حكما معينا بيّنه لنبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وبيّن النبي لوصيّه (عليهما‌السلام) وهو مخزون عند أهله من الأوصياء (عليهم‌السلام) يجب على الناس أن يسألوا منهم ، وهذه الأخبار مذكورة في الوسائل متفرقة في مقدمات العبادات وفي باب القضاء والشهادات وفي باب الحدود وغيرها ، بل ربما يقال إنّ جميع الأخبار الواردة في الأحكام الفرعية من الطهارة إلى الديات دالة بسياقها على أنّ لله في تلك الواقعة حكما معينا تحكي عنه الرواية ، وذلك ظاهر لمن تدبّر.

الثالث : ما استدل به في الفصول (٢) من أنّه قد تقرّر عند العدلية أنّ أحكامه تعالى تابعة لمصالح واقعية في مواردها لاحقة لذواتها أو لوجوه واعتبارات طارئة عليها ، وإن كان لحوق تلك الأحكام لها مشروطة بعلم المكلف أو ما في حكمه ، وحينئذ فما من واقعة إلّا ولها حكم معيّن يتوقف تعلّقه بالمكلف على

__________________

(١) أقول : الظاهر بل المتيقن تخطئة بعضهم بعضا في الحكم ، يدلك على ذلك عنوان مسألة خطأ الحاكم في الحدود والديات ، ويحصل من تتبع موارد تخطئة الصحابة بعضهم بعضا كتخطئة عليّ وابن عباس وغيرهما عمر في مسألة العول والتعصيب ورجم الحامل وغيرها ، القطع بالتخطئة في أصل الحكم وأنّ حكم الله غيره ، وموارده أكثر من أن يحصى.

(٢) الفصول الغروية : ٤٠٧.

٢٧٠

زوال جهله به ، ولا نعني بالحكم الواقعي إلّا ذلك.

وفيه أوّلا : أنه مناف لمذهبه من أنّ الأحكام تابعة لمصالح الأمر لا المأمور به.

وثانيا : أنّ المصلحة والمفسدة قد تختلف بالوجوه والاعتبار كما صرّح به ، فيجوز صيرورة صاحب المصلحة بالنسبة إلى العالم ذا مفسدة بالنسبة إلى الجاهل ومن أدته الأمارة إلى خلاف الواقع الأوّل ، وبالعكس.

الرابع : أنّه يلزم على القول بالتصويب الجمع بين المتنافيين وهو قطعه بالحكم ما دام ظانّا به ، ولا ريب أنّ القطع والظن متنافيان ، ولا يلزم المخطئة لأنّ محلّ الظن عندهم هو الحكم الواقعي ومتعلّق القطع هو الحكم الظاهري ، وقد ظهر ضعف هذا الدليل بما مرّ سابقا من أنّ المصوبة لا ينكرون وجود شيء يحكي عنه الدليل والأمارة وإن لم يكن ذلك حكما للمجتهد إلّا إذا وافقه رأيه ، فمتعلق الظن ذلك الشيء ومتعلق القطع الحكم فاختلف موردهما.

الخامس : ما ذكره العلامة (١) من أنّ الاختلاف في الحكم يتبع الاختلاف في اعتقاد رجحان إحدى الأمارتين على الاخرى ، ولا يخلو إما أن يكون لإحداهما رجحان على الاخرى أو لا ، فإن كان الأول كان القول برجحان المرجوح خطأ ، وإن كان الثاني كان كل من الاعتقادين خطأ ، وكيف كان فلا يكون كل واحد مصيبا.

وفيه : أنّ الحكم على القول بالتصويب تابع لاعتقاد الرجحان لا الرجحان الواقعي كما صرّح به في أول استدلاله ، وحينئذ فيجوز أن يكون اعتقاد

__________________

(١) تهذيب الوصول : ٢٨٧ ، نهاية الوصول : ٣١١ ، مبادئ الوصول إلى علم الأصول : ٢٤٥.

٢٧١

الرجحان على طرفي النقيض ويتبعه الحكم فلا محذور.

السادس : ما ذكره العلامة (١) أيضا ، وهو أنّ المجتهد إما أن يكون مكلّفا بالحكم عن الدليل أو لا ، والثاني باطل لأنّه إن كان مكلفا بحكم معين في الواقع كان تكليفا بالمحال ، وإن كان مكلفا بحكم لا على التعيين كان قولا في الدين بمجرد التشهّي ، وهو فاسد ، فتعيّن الأول ، وحينئذ فالدليل إن كان خاليا عن المعارض كان تاركه مخطئا ، وإن كان له معارض فإن ترجّح أحدهما على الآخر كان الاخذ بالآخر مخطئا ، وإن تساويا كان الاخذ بكل منهما مخطئا لتعيينه ما ليس بمتعيّن ، وعلى التقديرين لا يكون الجميع مصيبا ، انتهى.

وفيه : أنّه يمكن كون المجتهد مكلفا بالحكم عما يكون دليلا عنده لا عن الدليل الواقعي حتى تلزم المحذورات المذكورة ، وحينئذ يمكن أن يكون جميع المجتهدين مصيبا لكون حكم كل واحد عمّا هو دليل عنده ، هذا.

فعلم أنّ الصحيح من الأدلة المذكورة هو الوجهان الأوّلان وفيهما كفاية ، وعلم بذلك بطلان القول بالتصويب بالبديهة ، فلا حاجة إلى ردّ أدلّتهم مفصلا لأنّا نعلم بطلانها إجمالا ، إلّا أنّه لا بأس بالإشارة الإجمالية إليها وإلى أجوبتها فنقول :

استدل للقول بالتصويب بوجوه ثلاثة :

الأول : أنّ الله تعالى أخبر بكفر من لم يحكم بما أنزل الله وفسقه في قوله :

(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(٢) وقوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ

__________________

(١) نهاية الوصول : ٣١١ ، مبادئ الوصول إلى علم الأصول : ٢٤٥.

(٢) المائدة ٥ : ٤٧.

٢٧٢

بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ)(١) فلو لم يكن كل مجتهد مصيبا كان المخطئ منهم كافرا وفاسقا ، لأنّ ما حكم به غير ما أنزل الله والتالي باطل بالإجماع فكذا المقدّم.

وفيه أوّلا : أنّه منقوض بالمخطئ بالنسبة إلى الأحكام التي عليها دليل قاطع ، لأنّهم وافقونا في القول بالتخطئة فيها.

وثانيا : أنّ ما أنزل الله أعمّ من الأحكام الواقعية والظاهرية.

الثاني : قوله (عليه‌السلام) : «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم» (٢) فلو لم يكن جميع المختلفين من الصحابة مصيبا لم يكن الاقتداء بأيهم هدى ، بل كان الاقتداء بالمخطئ منهم ضلالا.

وفيه أوّلا : منع صحة الرواية ، بل الظاهر أنّه من الموضوعات وغرضهم من وضعها منع انحصار الهدى في متابعة علي (عليه‌السلام) في مقابل قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «أقضاكم علي عليه‌السلام» (٣).

وثانيا : منع انحصار الهدى بالاقتداء بالأحكام الواقعية بل أعمّ منها ومن الأحكام الظاهرية التي ثبت في الشرع وجوب متابعتها ولو تخلّف عن الواقع.

وثالثا : أنّ الظاهر من الخبر حجية قول الصحابي في نقله عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لا حجية رأيه في اجتهاده بقرينة التشبيه بالنجوم ، فإنّ النجوم جميعا مشتركة في إراءة الأمر الواحد ، فكذا الصحابة مشتركون في حكاية الحكم الواحد عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والغرض توثيقهم ودفع اتهامهم

__________________

(١) المائدة ٥ : ٤٤.

(٢) جامع بيان العلم وفضله ٢ : ٩٢٥ ، سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ١ : ٧٨.

(٣) المستدرك ١٧ : ٢٤٢ / أبواب صفات القاضي ب ٣ ح ٢ ، الاحتجاج ٢ : ٢٥٤ ، ٣٣٧.

٢٧٣

بالكذب.

الثالث : أنّه لو أخطأ المجتهد لزمه العمل بمقتضى ظنه ، وحينئذ فإما أن يلزمه ذلك مع بقاء الحكم الواقعي في حقه فيلزم التكليف بالمحال او اجتماع الضدين وكلاهما محال ، أو بدونه فيلزم أن يكون العمل بالحكم الخطأ واجبا وبالصواب حراما وهو محال.

والجواب ـ بعد النقض بالأحكام التي عليها دليل قاطع ـ أن بقاء الحكم الواقعي مع لزوم العمل بمقتضى ظنه لا يلزم منه سوى مخالفة الحكم الظاهري للحكم الواقعي ، وقد مرّ مفصلا جواز ذلك في جواب ابن قبة ، وليس ذلك من التناقض أو اجتماع الضدّين ، وإنّما يلزم ذلك على فرض التسليم لو كان الحكمان منجّزين.

وانتصر لهذا القول في الفصول (١) بوجوه أخر ضعيفة ثم أجاب عنها :

منها : أخبار البراءة مثل قوله «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» (٢) وقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها)(٣) وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «رفع عن أمتي ما لا يعلمون» (٤) وقوله : «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» (٥) إلى غير ذلك مما استدل به للبراءة الأصلية ، فإنّها تدلّ على أنّ الأحكام الثابتة للعالمين مرفوعة عن الجاهل.

__________________

(١) الفصول الغروية : ٤٠٨.

(٢) الوسائل ٢٧ : ١٦٣ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٣٣.

(٣) الطلاق ٦٥ : ٧.

(٤) الوسائل ١٥ : ٣٦٩ / أبواب جهاد النفس ب ٥٦ ح ١.

(٥) الوسائل ٢٧ : ١٧٣ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٦٧.

٢٧٤

وفيه أوّلا : أنّها معارضة بالأخبار الدالة على اشتراك التكليف بين سائر المكلّفين مثل قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «حكمي على الواحد حكمي على الجماعة» (١) وقوله : «حكم الأوّلين والآخرين سواء» (٢) وغيرهما مما أشرنا إليه في دليل المختار. ومقتضى الجمع بين الطائفتين أن يحمل الأوّلة على رفع التنجّز بالنسبة إلى الحكم الواقعي وثبوت الحكم الظاهري المنجّز.

وثانيا : أنّ الظاهر من سياقها أنّ للجاهل أيضا حكما ثابتا في الواقع وقد جهل به ، فهو موضوع عنه من حيث العقاب عليه لا مطلقا ، وإلّا فلا معنى لرفع حكم العالم عن الجاهل فإنّه مرتفع بعدم موضوعه.

وقد أجاب عنها في الفصول بأنّ التكليف الواقعي ليس تكليفا فعليا بل تكليف شأني ، فتسميته تكليفا مجاز في الحقيقة ، والتكليف المنفيّ عن الجاهل هو التكليف الفعلي لا الشأني لأنّه تكليف حقيقة ، واللفظ يحمل على حقيقته عند عدم قرينة المجاز ، قال : وبالجملة فالتكليف الواقعي عندنا هو التكليف الذي يتعلق بالمكلف تعلقا فعليا بشرط علمه به ، وليس في هذه الوجوه ما يدلّ على نفي ذلك ، انتهى.

وفيه : أنّ هذا المعنى عين التصويب كما سيأتي من المصنف في القسم الثاني من أقسام الموضوعية ، فهذا كرّ على ما فرّ منه ، بل التحقيق أنّ الأحكام الواقعية أحكام فعلية وتكاليف حقيقية وإن كانت غير منجزة بمعنى عدم ثبوت العقاب على مخالفتها وكون المكلف معذورا بالنسبة إليها ، ويأتي تمام الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى ، نعم لو كان المراد بالحكم الواقعي شأنية الحكم كما زعمه

__________________

(١) عوالي اللئالي ٢ : ٩٨ / ٢٧٠.

(٢) الوسائل ١٥ : ٣٩ / أبواب جهاد العدو ب ٩ ح ١.

٢٧٥

تمّ الجواب.

ويرد على أصل الاستدلال بأخبار البراءة : أنّ مدلول الكلّ رفع الأحكام الواقعية الثابتة للعالم عن الجاهل بها ، ولا يثبت بذلك مدّعى الخصم من كون ما ظنّه المجتهد حكما واقعيا له على ما يقوله أهل التصويب من أنّ حكم الله تابع لآراء المجتهدين ، فإنّ ذلك يحتاج إلى مئونة زائدة كما لا يخفى.

نعم قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها)(١) يمكن أن يستفاد منه النفي والإثبات معا ، فإنّ ما ظنّه المجتهد مما اتاها فهو مكلف به ، وأيضا قوله :

«كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» (٢) لا يرتبط بما نحن فيه على التحقيق ، لأنّ معناه أنّ كل شيء لم يرد من الشارع فيه حكم فهو مطلق لا حكم له حتى يرد فيه نهي أي حكم ، والنهي كناية عن مطلق الحكم ، وليس معناه أنّ كل شيء لم يصل إلينا فيه حكم فهو مطلق حتى يصل فيه حكم ، والاستدلال ناظر إلى المعنى الثاني وهو خلاف الظاهر منه ، اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ الاستدلال بالخبر على مذاق من يجعل الخبر من أدلة البراءة الأصلية ومنهم المصنف فإن كانت مناقشة فمحلّها هناك ، فتأمّل جدا.

قال في الفصول في بيان الجواب عن هذه الرواية ما لفظه : وكذلك إباحة الأشياء عند عدم بلوغ النهي لا يفيد إباحتها عند بلوغه بل مفهومها انتفاؤها عنده (٣) انتهى. لعله يريد بذلك أنّ الإباحة عند عدم بلوغ النهي لا يدل على عدم التكليف بالنهي مشروطا بالعلم حتى ينافي ثبوت الحكم الواقعي ، لأنّ المراد

__________________

(١) الطلاق : ٦٥ : ٧.

(٢) الوسائل ٢٧ : ١٧٣ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٦٧.

(٣) الفصول الغروية : ٤٠٨.

٢٧٦

بالحكم الواقعي هو الحكم المشروط بالعلم على ما ذكره مرارا ، وفيه ما لا يخفى.

وقد ظهر مما ذكرنا أنّه لا مجال للاستدلال على المطلوب بالبراءة العقلية أعني حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، لأنّ مجرد رفع العقاب لا يستلزم نفي حكم ولا إثبات حكم ، ولذا لم يذكره صاحب الفصول في عداد ما ذكره.

ومنها : أنّ التكليف أمر جعلي وفعل اختياري يتوقف صدوره عن المكلف الحكيم على فائدة ، وحيث إنّ المكلف لا يعلم به لا فائدة في وضعه وإحداثه في حقه ، لظهور أنّ ثمرة التكليف إنّما هي الاختبار والحث على فعل الجميل وترك القبيح ، ولا يتصور ترتب شيء من ذلك على تقدير عدم العلم.

ومنها : أنّ التكليف عند العدلية مشروط بالقدرة على الامتثال ، وحيث لا علم لا قدرة على الامتثال ، فينتفي التكليف لأنّ المشروط عدم عند عدم شرطه.

ومنها : أنّ الأمر بالشيء المشروط مع علم الامر والمأمور بانتفاء شرطه ممتنع عند معظم الأصوليين ، والمقام منه إذ التقدير علم الامر بعدم علم المأمور به وعلم المأمور بعدم علمه بما خالف مؤدّى نظره على تقدير ثبوته واقعا.

ثم أجاب صاحب الفصول عن الوجوه الثلاثة العقلية على مذاقه في معنى الحكم الواقعي :

أما عن الأول ، فبأنّ التكليف الواقعي ليس تكليفا مطلقا بل مشروطا بعلم المكلف به فحيث لا علم لا تكليف ، لكن شأنية التكليف متحققة في حقه ، إذ ليست شأنيته مشروطة بفعلية العلم بل بشأنيته ، وهذا التكليف الشأني لازم لما دلّ على فعلية التكليف في حق العالم ، فإنّه إذا ثبت حكم في حق المكلف الواجد للشرط لزم منه ثبوته في حق الفاقد للشرط مشروطا بكونه واجدا له ،

٢٧٧

ولا حاجة إلى وروده في حق غير العالم بخطاب مستقل حتى يلزم منه اللغو والعبث.

قال : وبهذا يظهر الجواب عن الوجه الثاني أيضا ، إذ التكليف المشروط بفعلية العلم إنما هو التكليف الحقيقي أعني التكليف الفعلي دون مطلق التكليف.

وأما عن الثالث ، فبأنّ البحث هناك عن الأوامر الاستقلالية دون اللازمة على وجه التبعية لخطابات أخر ، وتوضيح ذلك : أنّ الشارع إذا أراد من العالم بالأحكام العمل بحسب مقتضياتها فقد أراد ذلك من الجاهل بها

أيضا بشرط علمه بها ، بمعنى أنّ الجاهل لو صار عالما كان العمل بتلك المقتضيات مرادة منه أيضا.

ثم أورد على نفسه بقوله : فإن قلت : العلم شرط من شرائط التكليف كالقدرة ، فإذا كان التكليف المشروط عند عدمه تكليفا واقعيا وعدمه ظاهريا ، كان التكليف المشروط بالقدرة عند عدمها تكليفا واقعيا وعدمه ظاهريا ، فيلزم أن يكون الحج مثلا واجبا واقعيا في حق العاجز وغير المستطيع وغير واجب عليهما في الظاهر ، مع أنّ فساده ظاهر.

ثم أجاب عنه بما ملخّصه : أنّ لشرط العلم خصوصية من بين سائر شرائط التكليف من البلوغ والعقل والقدرة ، وتلك الخصوصية هي أنّه يصدق فوت الفعل في حق فاقد العلم ويترتّب عليه حكم القضاء بخلاف باقي الشرائط ، ثم أشار إلى ورود اعتراض على ما اختاره من تفسير الحكم الواقعي بالحكم الشأني المشروط بالعلم وحاصله : أنّه يلزم على هذا عدم تعيّن الحكم الواقعي في واحد بل يكون متعددا بتعدد الأحكام الفعلية في الواقعة بالنسبة إلى المجتهدين المختلفين في علمهم ، فإنّ من علم بشيء فهو تكليف فعلي في حقّه وتكليف

٢٧٨

شأني بالنسبة إلى الجاهل ، فيتعدّد الحكم الواقعي حسب تعدد آراء المجتهدين.

ثم أجاب عن ذلك : بالفرق بين كون العلم شرطا للتكليف أو سببا له ، والمراد بالحكم الواقعي ما يكون العلم شرطا لثبوته لا ما يكون سببا ، وحينئذ فالعالم المصيب ينتزع من تكليفه تكليف آخر للجاهل مشروطا بحصول العلم ، والعالم المخطئ لا ينتزع من تكليفه تكليف آخر للجاهل لأنّ علمه سبب للتكليف لا شرط ، ثم قال ما لفظه :

وتحقيق ذلك : أنّ أحكام الشرع تابعة لحسن تشريعها ، وهو قد يستند إلى جهة علم المكلف به وقد يستند إلى جهة أخرى مشروطا بعلمه به ، فإنّ من معظم جهات التشريع حسن الفعل وقبحه ، وهما كما يلحقان الفعل لجهات لاحقة به مقتضية إياهما بشرط العلم ، كذلك قد يلحقان الفعل بمجرد العلم ، فإنّ القبيح قد يحسن لعلم الفاعل بحسنه ويقبح الحسن لعلم الفاعل بقبحه ، فالأحكام الواقعية هي الأحكام اللاحقة لمواردها لجهات مقتضية لها بشرط العلم ، والأحكام الظاهرية هي الأحكام اللاحقة لمواردها لجهة العلم ، ولا ريب أنّ الحكم الواقعي بهذا المعنى متعيّن في كل واقعة لا يختلف بحصول العلم وعدمه وإن توقّفت فعليته على حصوله ، انتهى.

وفي كلامه (قدس‌سره) أنظار :

أما أوّلا : فلما مرّ سابقا من أنّ كون المراد بالحكم الواقعي شأنية الحكم هو عين التصويب الباطل ، لأنّ شأنية الحكم ليس بحكم ولا ينكرها أهل التصويب.

وأما ثانيا : فلأنّه يلزم على مقالته عدم معقولية القضاء بالنسبة إلى الجاهل ، لأنّه تدارك الواجب في الوقت في خارج الوقت ، فإذا لم يكن في الوقت سوى

٢٧٩

شأنية الوجوب لا الوجوب الفعلي فلا معنى للتدارك ، إذ لا يتصور تدارك الحكم المعدوم بالمرة وإن كان قابلا للتحقق لو حصل شرطه.

وأما ثالثا : فلأنّ ما أورده على نفسه من لزوم كون العاجز وغير البالغ وغير العاقل مكلفا بالتكليف الواقعي يعني التكليف المشروط بالقدرة والبلوغ والعقل وراد عليه ، وما أجاب عنه من الفرق بين خصوص شرط العلم وباقي الشروط بصدق الفوت بالنسبة إلى الفاقد في الأول دون غيره ، مدفوع بأنه إن أريد صدق فوت مصلحة الواجب فلا ريب أنّ الفاقد لسائر الشرائط أيضا يصدق فوت المصلحة بالنسبة إليه ، وإن أريد صدق فوت الواجب في حق الجاهل دون فاقد سائر الشرائط ، فهو ممنوع أشد المنع.

وأما رابعا : فلأنّ الاعتراض الذي أورده على نفسه من لزوم عدم تعيين الحكم الواقعي في واحد معيّن وارد عليه ، وما ذكره في دفعه لا محصّل له ، لأنّ كون العلم شرطا لتحقّق الحكم أو سببا لا يؤثر في الانتزاع العقلي ، فكما ينتزع العقل من الأول كون الجاهل مكلفا بشرط العلم فكذلك الثاني من غير فرق أصلا.

هذا ، مضافا إلى أنّ جعل العلم شرطا للحكم بالنسبة إلى المجتهد المصيب وسببا للحكم بالنسبة إلى غيره كما بيّنه ، تحكّم بل الحال في الكل سواء ، اللهمّ إلّا أن يقال بأنّ غير المصيب موضوع حكمه نفس علمه ، إذ لا خطاب في حقه سوى خطاب وجوب العمل بالعلم ، بخلاف المصيب فإنّ له خطابا بوجوب أصل الفعل كالصلاة والصوم ولكن بشرط العلم فحصل الفرق.

ولمّا لم يتمّ جواب صاحب الفصول عن الوجوه الثلاثة العقلية فنقول في الجواب :

٢٨٠