حاشية فرائد الأصول - ج ١

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-015-2
الصفحات: ٦٩٤

الإشكال الآتي في خروج القياس عن مقتضى دليل الانسداد.

وكيف ما كان ، يرد على هذا الوجه مضافا إلى ما أورد عليه المصنف ، أنّ المنع عن العمل بالقياس لا يكشف عن نصب طريق تعبدا ، لم لا يجوز أن يمنع الشارع العمل ببعض الطرق تعبدا ، ويحيل المكلفين بالنسبة إلى غيره على الطرق العقلائية فيما بينهم ، كما هو كذلك لو فرض عدم المنع عن القياس أيضا.

قوله : وينتقض أولا بأنّه مستلزم لكون المرجع في تعيين الطريق أيضا طريقا خاصا (١).

(١) إنّما تصيّد المصنف هذا النقض بل المنقوض أيضا من كلام صاحب الفصول (رحمه‌الله) وقد جعله ثالث الإشكالات التي أوردها على ما حققه ثم أجاب عنها ، وقد بيّن هناك أنّه لو كان المرجع في تعيين الطريق أيضا طريقا خاصا بملاحظة تحقق الإجماع على عدم الاعتبار بالقياس في تعيين الطريق يلزم إما توقف الشيء على نفسه أو الدور ، لأنّه لو كان تعيين الطريق أيضا بمعونة طريق آخر فإن كان الطريق الثاني نفس الطريق الأول يلزم توقف الشيء على نفسه ، وإن كان غيره فننقل الكلام إليه حتى يلزم الدور إن رجع إلى الأول أو التسلسل لو لم يرجع إليه.

قوله : قلت : هذه مغالطة فإنّ مطلق الظن ليس طريقا في عرض الطرق المجعولة (٢).

(٢) يمكن تقرير السؤال بحيث يكون مطلق الظن في عرض سائر الطرق المجعولة بعد فرض أنّ المراد من نصب الطريق أعم من الجعل أو التقرير كما هو

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٤٢.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٤٤٣.

٦٠١

صريح كلام صاحب الحاشية الشيخ محمد تقي (١) في تقرير هذا الدليل الظاهر في أنّ صاحب الفصول أخذه منه أو بالعكس ، وذلك بأن يقال إنّه لو قطعنا النظر عن دليل الانسداد نرى أنّ الظن بالواقع طريق ظني إلى الواقع ، كما أنّ خبر الواحد والإجماع المنقول والشهرة طرق إلى الواقع ، وبعد ملاحظة مقدمات الانسداد إذا حصل الظن ببعض تلك الطرق وأنّه أرجح من الباقي يحكم بحجيته دون غيره ، فكان الظن بالواقع في عرض سائر الطرق لا في طوله ولم يثبت ذلك بدليل الانسداد ، والظن المتعلق بواحد من الطرق وإن كان ذلك الطريق هو الظن المطلق بالواقع هو الثابت بدليل الانسداد وليس في عرض الطرق.

والحاصل أنّ ما جعله السائل في عرض سائر الطرق هو الظن بالواقع غير المتوقف على دليل الانسداد ، ولا يدفعه ما قاله المصنف من أنّ الظن ليس طريقا مجعولا في عرض سائر الطرق ، لأنّ الظن الذي ليس طريقا مجعولا هو الثابت بجريان دليل الانسداد المتعلّق ببعض تلك ، فإذن يسقط الجواب الأول.

قوله : وثالثا سلّمنا نصب الطريق ووجوده في جملة ما بأيدينا من الطرق الظنية من أقسام الخبر ، إلى آخره (٢).

(١) يمكن أن يورد عليه بمنع وجود القدر المتيقّن الوافي بالمقصود بحيث لا نحتاج إلى تعيين الطريق بالظن ، لأنّ القدر المتيقّن في المرتبة الأولى بحسب الأقوال هو الخبر الصحيح الأعلائي الموثوق الصدور مع إفادته الظن الفعلي ، ولا ريب أنّ هذه المرتبة لا تكفي في الفقه لندرتها جدا ولا متيقن فيما بعد ذلك ، بل يدور الأمر بين الخبر الصحيح أو الخبر الموثوق الصدور أو المفيد للظن

__________________

(١) [لم نعثر عليه في مظانه].

(٢) فرائد الأصول ١ : ٤٤٤.

٦٠٢

الفعلي مثلا ، وليس بين المذكورات قدر متيقّن ، فيحتاج في تعيين الطريق المنصوب إلى الظن.

قوله : لأنّ مورد العمل بالظن إن كان الأصول على طبقه فلا مخالفة (١).

(١) الأولى أن يعبّر بمورد العمل بالطرق كما لا يخفى ، وحاصل مراده أنّ الاحتياط بالعمل بجميع الطرق المشكوكة الحجية لا يستلزم طرح الأصول الثابت الحجية ، لأنّ مورد الطريق إن كان مطابقا للأصل الجاري في ذلك المورد فلا مخالفة سواء كان الأصل مثبتا للتكليف أم نافيا له ، وإن كان مخالفا للأصل ، فإن كان الأصل نافيا للتكليف كأصالة البراءة والاستصحاب النافي فكذلك لا يلزم من العمل بالطريق طرح ذلك الأصل لأنه موافق للاحتياط غير مناف للأصل ، وكذلك أصالة التخيير لا ينافيها العمل بالطريق الموافق لأحد طرفيه ، فلم يبق إلّا الاستصحاب المخالف لمؤدى الطريق وأصالة الاحتياط الجارية في المسألة ، أما أصالة الاحتياط فنلتزم بالعمل بها ولا نعمل بالطريق المخالف لها ، وأما الاستصحاب المخالف فهو فيما نحن فيه ساقط عن الحجية ، لأنّا نعلم إجمالا بوجود الدليل المخالف له في جملة ما هو معلوم لنا من الطريق المنصوب المشتبه فيما بين الطرق المشكوكة الحجية ، وهذا العلم الإجمالي مانع عن جريان الاستصحاب لما ذكره المصنف في محله من أنّ اليقين الذي جعل غاية للاستصحاب في قوله : «لا تنقض اليقين إلّا بيقين مثله» أعم من اليقين الإجمالي ، فإذا حصل الغاية كما هو المفروض انقطع حكم الاستصحاب.

والحاصل أنّ العمل بالطرق المشكوكة الحجية بأجمعها للاحتياط بضميمة

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٤٥.

٦٠٣

الاحتياط في المسألة الفرعية فيما كان الأصل فيه الاحتياط كالتكليف المردد بين المتباينين لعدم جواز طرحه من غير دليل لا محذور فيه أصلا ، ولا يلزم من العمل بهذا المجموع حرج قطعا ، هذا.

ولكن قول المصنف (رحمه‌الله) بسقوط الاستصحاب المخالف للعلم الإجمالي بوجود الدليل على الخلاف مخالف للتحقيق على ما مرّ في مبحث القطع مفصّلا ، وقد صرّح هو بنفسه بخلافه في مواضع أخر ، ومع ذلك أيضا نقول نعمل بالاستصحاب المخالفة منضمّا إلى العمل بالطرق وأصالة الاحتياط في المسألة الفرعية ، ولا يلزم من ذلك كله محذور الحرج لقلة موارد الاستصحاب المثبت للتكليف المخالف لمؤدى الطرق في الغاية ، وإنّما لزم الحرج في الاحتياط التام بالنسبة إلى المسائل الفرعية لمكان الاحتمالات الكثيرة التي لم يؤد إليها طريق لا موافقا ولا مخالفا ، وكذا رعاية الاحتياط في الاحتمالات التي قام الطريق بنفي التكليف فيها وهي كثيرة أيضا ، فإذا أخرج هاتين الطائفتين من بين المحتملات لا يلزم من العمل بالبقية حرج قطعا.

بقي هنا شيء وهو أنّ المراد بالاحتياط في العمل بالطرق المشكوكة الحجية ما هو ، فنقول : إنّه يحتمل وجهين :

الأول : أن يؤخذ بالأمارات التي لا معارض لها مطلقا سواء كانت مما تثبت التكليف أو تكون نافية له ، وأما الأمارات المثبتة للتكليف التي تعارضها أمارات أخر نافية له فمقتضى الاحتياط فيها الأخذ بالأمارات المثبتة لا النافية ، إذ الأمارات النافية لا تنافي العمل بالأمارات المثبتة ، لأنّ مفادها عدم الوجوب وعدم الحرمة مثلا ولا محذور في فعل غير الواجب وترك غير الحرام ، ولو عمل بالأمارات النافية في الفرض المذكور لزم طرح الأمارات المثبتة وهو مخالف

٦٠٤

للاحتياط الذي بنينا الكلام عليه.

الثاني : أن يؤخذ بالأمارات غير المتعارضة مطلقا ويعمل في الأمارات المتعارضة بقواعد التعارض من التعادل والترجيح التي تستفاد من تلك الأمارات أيضا.

وأظهر الاحتمالين هو الاحتمال الأول ، إذ على الاحتمال الثاني قد يرجح الأمارة النافية على المثبتة ويؤخذ بها وهو خلاف الاحتياط المقصود (١).

قوله : اللهمّ إلّا أن يقال إنّه يلزم الحرج من الاحتياط في موارد جريان الاحتياط ، إلى آخره (٢).

(١) في هذا الكلام أنظار :

الأول : أنه جعل الشك في الجزئية من موارد جريان الاحتياط في نفس المسألة ، والتحقيق أنّه من موارد البراءة وهو مختار المصنف أيضا.

الثاني : أنه جعل الاستصحابات المثبتة للتكليف أيضا من موارد جريان الاحتياط لأجل العلم الإجمالي بوجوب العمل في بعضها على خلاف الحالة

__________________

(١) أقول : الأظهر عندي هو الاحتمال الثاني ، إذ الأخذ بالأمارات المثبتة في مورد التعارض مطلقا موجب لطرح الأمارات النافية من غير موجب ، وما ذكر في وجه عدم المنافاة مدخول بأنّ المراد من الأخذ بالطرق جعل العمل على طبقها مطلقا ، لأنّ صريح كلام الفصول يدل على أنّا مكلفون واقعا بالإتيان بالواقعيات بحسب الطرق ، فالواقع الخالي عن الطريق المنصوب لا فائدة في العمل بها ، وأما الطريق غير المصادف للواقع فيفيدنا العمل به ، نعم ما ذكر في الوجه الأول يناسب الاحتياط في المسائل الفرعية دون الاحتياط في المسألة الأصولية التي نحن بصدده.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٤٤٦.

٦٠٥

السابقة وهو فاسد ، لأنّ العلم الإجمالي على الخلاف موجب لسقوط الاستصحابات المثبتة وترك الاحتياط فيها لا الاحتياط كما لا يخفى ، نعم العلم الإجمالي بوجود بعض التكاليف من بينها يوجب الاحتياط وهذا غير ما ذكره.

الثالث : أنّه جعل الاستصحابات النافية أيضا من موارد جريان الاحتياط لمكان العلم الإجمالي بوجوب العمل في بعضها على الخلاف ، وهو أيضا غير صحيح لأنّ هذا العلم الإجمالي شطر من العلم الإجمالي الكبير بأنا مكلفون بالتكاليف الواقعية ، كما أنّ شطرا منه في موارد أصالة البراءة وشطرا منه في موارد أصالة التخيير والاحتياط ، وفي هذا المقام لا ينظر إلى ذلك العلم الإجمالي بجميع موارده ، إذ لو أثّر هذا العلم الإجمالي فقد أثر في الاحتياط التام الذي قد تقدّم ، وإن لم يؤثر للإجماع أو الحرج أو غيره سقط حكمه ولا نعيد اعتباره في كل شطر شطر من موارده.

الرابع : أنّ مجموع ما ذكره مع التسليم لا يوجب الحرج لما مر من خروج الاحتمالات البدوية غير المطابقة لأمارة ، والاحتمالات المطابقة للأمارات النافية عن موارد الاحتياط الكلي الذي لزم منه الحرج ، ولعل المصنف إلى جميع ما ذكرنا أشار بقوله فتأمل.

قوله : وكما أنّ المقلد عاجز عن الاجتهاد في المسألة الكلية كذلك القاضي عاجز عن الاجتهاد في الوقائع الشخصية فتأمل (١).

(١) لعله إشارة إلى منع كون القاضي عاجزا عن الاجتهاد في الوقائع الشخصية ، إذ لا طريق للعلم بها سوى الطرق التي هي بيد العرف والقاضي منهم ، وما علل به من عدم انضباط أمارات الوقائع الموجبة للظن غير قادح بعد فرض

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٤٩.

٦٠٦

كون الميزان حصول الظن بأي طريق حصل.

قوله : مع إمكان أن يقال أنّ مسألة عمل القاضي بالظن في الطريق مغايرة لمسألتنا (١).

(١) هذه المقالة وإن كانت ممكنة لكن الظاهر خلافها ، بل لا يبعد دعوى القطع بأنّ وجوب عمل القاضي بالبيّنة والإقرار واليمين ونكولها لأجل كشفها الغالبي عن ثبوت المدعى وعدمه واقعا كما هو كذلك قطعا في طريقية قول المجتهد ، لا لأجل مجرد التعبد بها في فصل الخصومة ، لكن الكلام يبقى في أنّ جعل المذكورات طريقا واجب العمل مطلق بحيث يشمل حال انسداد العلم بها أم لا ، فإن أحرز الإطلاق ولو من جهة إطلاق أدلتها فالمتعين حين انسداد باب العلم بها هو الأخذ بالظن بها ، وإلّا يحكم بتساوي الظن بها والظن بالواقع في مقام الأخذ في حكم العقل ، وهكذا نقول بعينه بالنسبة إلى الطرق المنصوبة فيما نحن فيه ، ولا يبعد دعوى الإطلاق في المقامين ، إلّا أنّ الإنصاف عدم العلم بذلك خصوصا في مقامنا ، فتدبر.

وكيف كان فمحصل مراد صاحب الفصول على ما يظهر من مجموع كلامه : أنّ الظن بالطريق ظنّ بالخروج عن عهدة التكاليف الواقعية ، فإن صادف الواقع وإلّا فالمظنون حصول ما يقوم مقام الواقع في براءة الذمة ، هذا بخلاف الظن بالواقع فإنّه لا يلازم الظن بالبراءة ، إذ يمكن أن يكون الظن بالواقع موهوم الحجية أو مشكوكها أو مظنونها أو مقطوع عدمها.

ومحصّل جوابه : أنّ الظن بالطريق أيضا بهذه المثابة بعينها إذ لم يعلم كونه مبرئا للذمة فعلا بل يكون مبرئا شأنا كالظن بالواقع ، لأنّ هذا الظن القائم على

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٤٩.

٦٠٧

الطريق أيضا قد يكون مظنون الحجية وقد يكون مشكوك الحجية أو موهومها أو مقطوع عدمها طابق النعل بالنعل ، فكان مساويا للظن بالواقع فيحكم العقل بالرجوع إليهما في عرض واحد ولا ترجيح.

وقد عرفت أيضا أنّا لو سلّمنا نصب الطرق في الجملة وحصرها في غير الطرق المحرمة العمل كالقياس وأشباهه خصوصا إذا جعلنا النصب أعمّ من الإمضاء كما هو الأظهر لا ينتج مدّعى صاحب الفصول أيضا ، لأنّ غايته أنّ هذه الطرق هي المرجع في الجملة وهذا أعمّ من أن يكون الظن بهذه الطرق حجة ومرجعا أو يكون الظن بالواقع الحاصل من هذه الطرق مرجعا فإنّه يصدق هنا أيضا عدم الخروج عن الطرق المنصوبة والرجوع إليها.

قوله : وجهان ، الذي يقتضيه التحقيق هو الثاني (١).

(١) لكن على الوجه الأول يلزم أن يكون الظن بالواقع في عرض الظن بالطريق حجة حين انسداد باب العلم ، لأنّه الذي يحكم به العقل في مقام الإطاعة والامتثال ، ضرورة أنّ الظن بالواقع التحقيقي أو التنزيلي يقوم مقام العلم به في حكم العقل ، وهذا بخلاف الوجه الثاني فإنّ العلم بإتيان الواقع أو الطريق علم بتفريغ الذمة ، لكن الظن بالواقع ليس ظنا بتفريغها ، بل الظن بالطريق يلازم الظن بالتفريغ ، لأنّ الظن بالواقع قد يجامع العلم بعدم التفريغ كما إذا كان عن القياس والشك في التفريغ والظن بعدم التفريغ هذا مراده.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٥٥.

٦٠٨

قوله : ومنشأ ما ذكره (قدس‌سره) تخيل أنّ نفس سلوك الطريق الشرعي المجعول (١).

(١) هذا التخيل بعيد عن ساحة جلالة هذا المحقق النحرير ، لأنّ من الواضح أنّه يجب تحصيل طريق إلى مطلق المجعولات الشرعية سواء كان ذلك المجعول حكما شرعيا أو طريقا جعليا ، فالعلم بالواقع والعلم بالطريق المجعول في عرض واحد ، كما أنّ نفس الحكم الواقعي والطريق المجعول أيضا في عرض واحد فكيف يشتبه هذا على مثل ذلك المحقق.

ثم يستفاد من كلام المصنف أنّ هذا التخيل ينتج مقصود المحقق لو كان حقا ، وهو غير واضح إذ لو سلّمنا أنّ العمل بنفس الطريق كالعمل بالعلم بالواقع ملازم للقطع بالتفريغ لا نسلّم أنّ الظن بالطريق يلازم الظن بتفريغ الذمة بعد كون هذا الظن مشكوك الحجية فتدبّر.

وقد حكى السيد الأستاذ (دام بقاه) (٢) عن أستاذه الشيخ محمد باقر ولد المحقق المذكور أنه أخطأ المصنف في فهم كلام المحقق وقال : إنّ مراده أنّه يجب في حكم العقل أوّلا تحصيل العلم برضاء الشارع بما يعمله المكلف من موافقة الواقع أو الطريق ، فلو انسد باب العلم يجب في حكم العقل تحصيل الظن برضا الشارع بما يعمله بأي وجه من أي طريق حصل ذلك الظن بالرضا ، وإنكار هذا المعنى مكابرة ، فمراده من الظن بالطريق هو الظن بما يرضى به الشارع فعلا من المكلف ، واستشهد على استفادة هذا المعنى من كلامه بتعبيره بتفريغ الذمة في حكم المكلف وحكم الشارع مرارا متعددة فتدبر ، وهذا المعنى لا يرد عليه

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٥٩ ـ ٤٦٠.

(٢) [المقصود به هو السيد الطباطبائي اليزدي (قدس سرّه)].

٦٠٩

شيء مما أورد عليه المصنف (رحمه‌الله).

وأورد عليه :

أوّلا : أنّ هذا المعنى بعيد عن كلام المحقق كما لا يخفى.

وثانيا : أنّ الظن بما يرضى به الشارع فعلا لا يمكن تحصيله ، إذ غاية ما يمكن تحصيله الظن بحجية الطريق كخبر الواحد مثلا وهو لا يلازم الظن برضا الشارع للعمل به ، لأنّ هذا الظن القائم على حجية الخبر مشكوك الحجية أو ينتهي إلى ظن مشكوك الحجية وإلّا تسلسل.

وأجاب هو (رحمه‌الله) عن هذا : بأنّ الفقيه قد يجد من نفسه الظن بالرضا بعد اللتيّا والّتي ، وبعد ملاحظة عدم الدليل على حجية هذه الظنون بالاخرة وجدانا ظاهرا لا يشوبه ريب ولا شك وذلك كاف ، ونحن نقول يمكن حصول الظن بالحجية بحيث لا ينتهي إلى الشك في الحجية فيتحقق به موضوع حكم العقل بأن يحصل الظن بحجية خبر الواحد مثلا من الشهرة بين الأصحاب ويحصل الظن بحجية الشهرة من خبر الواحد ، وليس هذا من الدور الباطل ، لأنّا لم نرد إثبات حجية أحدهما بالآخر بل نريد به إثبات موضوع حكم العقل بالحجية وهو الظن الذي لا ينتهي إلى الشك ، هذا تمام الكلام في بيان اختصاص نتيجة دليل الانسداد باعتبار الظن في طريق الحكم.

وأما مقالة الفرقة الاخرى القائلة بالاختصاص باعتبار الظن في نفس الأحكام فسيأتي التعرّض لها من المصنف فيما بعد ونحن نتكلم عليه إن شاء الله تعالى هناك. وقد عرفت سابقا عدم الاختصاص بأحدهما ، بل كما أنّ مقدمات الانسداد على تقدير تماميتها تثبت حجية الظن بالطريق كذلك تثبت حجية الظن بنفس الحكم على ما مر سابقا ، بل نقول إنّ المقدمات المذكورة تنتج أعم من

٦١٠

ذلك ، إذ كما أنّه قد يحصل الظن بنفس الحكم الشرعي وقد يحصل الظن بحجية الطريق الفلاني كالخبر مثلا ، كذلك قد يحصل الظن بصدور ما يفيد أنّ الحكم كذا عن المعصوم (عليه‌السلام) وإن لم يحصل منه الظنّ بنفس الحكم ولا الظن بالحجية ، ولا ريب أنّ الظن بالصدور في حكم العقل بملاحظة مقدمات الانسداد لا يقصر عن الظن بالحكم أو بالحجية إن لم يكن أولى ، فيكون في عرضهما في الحجية فافهم ذلك واضبطه فإنّه لم ينبّه على ذلك أحد فيما نعلم غير أنّ المصنف في آخر المعممات من التنبيه الثاني من دليل الانسداد قد أشار إلى هذا الوجه ، بل ربما يستظهر منه اختياره وأنّ نتيجة الدليل هي هذا لا غير وأنّه مراد القوم أيضا فراجع.

نعم وقع التعبير بحجية الخبر المظنون الصدور في كلام صاحب الفصول وغيره في مطاوي كلماته في غير المقام ، فإن أرادوا حجيته من باب الظن المطلق بدليل الانسداد فقد أشاروا إلى ما ذكرنا ، وإن أرادوا حجيته من باب الظن الخاص أو عبّروا عن حجية الظن في طريق الحكم بهذه العبارة مسامحة فلا ربط له بما أشرنا إليه.

قوله : وقد سلك هذا المسلك صاحب القوانين (١).

(١) لم نجد في كلام صاحب القوانين عبارة واضحة الدلالة على سلوكه هذا المسلك ، لكن ربما يشعر به بعض عباراته ، كما أنّه يشعر بعض عبائره باتحاد مسلكه ومسلك القوم مثل أنّه عبّر عن المقدمة الأولى بانسداد باب العلم بأغلب الأحكام فراجع ، إلّا أنّ المصنف استظهر من أنّه أبطل البراءة من غير ملاحظة لزوم الخروج عن الدين ، وأبطل لزوم الاحتياط مع قطع النظر عن لزوم الحرج ،

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٦٤.

٦١١

أنه يرى جريان دليل الانسداد في كل مسألة مسألة من غير ملاحظة انضمام بعضها إلى بعض ، وهذا بخلاف مسلك القوم فإنهم أبطلوا البراءة والاحتياط بلزوم الخروج عن الدين والحرج ، وذلك متوقف على ملاحظة انسداد باب العلم في أغلب الأحكام بلحاظ واحد وإجراء الدليل بالنسبة إلى مجموع المسائل من حيث المجموع ، ولذا يترتب على المسلك الأول تعميم النتيجة جزما ، لأنّ كل مسألة تجري فيها مقدمات الانسداد مستقلا وتثبت بها حجية الظن الحاصل في تلك المسألة من أي سبب كان قويا كان الظن أو ضعيفا ، ويأتي على المسلك الثاني احتمال التعميم والإهمال.

قوله : وهذا المقدار لا يثبت إلّا وجوب العمل بالظن في الجملة (١).

(١) التحقيق عدم الفرق بين هذا المسلك ومسلك القوانين في تعميم النتيجة وإن كان بينهما فرق من حيث جريان الدليل بالنسبة إلى كل مسألة مسألة مستقلا أو جريانه بملاحظة مجموع المسائل بلحاظ واحد كما مر ، لأنّ ملاك حجية الظن في المسلك الثاني أيضا أرجحيته عن الموهوم ، وهذا الملاك موجود في الظن الحاصل في كل مسألة قويا كان أو ضعيفا من أي سبب حصل فأين الإهمال.

وإن أراد أن النتيجة على هذا المسلك وجوب العمل بالظن بمقدار ما يزول به العلم الإجمالي بالتكاليف ، وهذا المقدار يقيني ويبقى الإشكال والتردد في العموم والتعيين ، قلنا لو احتملنا هذا الاحتمال لاكتفينا بتبعيض الاحتياط بهذا المقدار في المقدمة الثالثة ولم ينجر أمرنا إلى المقدمة الرابعة وإثبات حجية الظن بأنّه أرجح من غيره من المحتملات الباقية ، ولا يتفاوت هذا المعنى بتقرير

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٦٥.

٦١٢

دليل الانسداد على وجه الكشف أو الحكومة ، إذ على كل تقرير يحتاج إلى أن تتوسط المقدمة القائلة بأنّ الظن أرجح المحتملات ، وقد عرفت أنّه بهذا الملاك يحصل التعميم.

نعم لو قرر وجه الكشف بما يظهر من آخر عبارة المصنف هاهنا من أن حجية الظن من باب إبطال أطراف المنفصلة حتى يبقى واحد فيتعين فيه ، كان لما ذكره من إهمال النتيجة وجه ، إذ عليه يكون حاصل النتيجة أن المرجع غير خارج عن الظن أما أنه هو المرجع عموما أو خصوصا مسكوت عنه ، لكن ظاهر صدر العبارة هنا وصريح كلامه في غير مقام أن توسيط أرجحية الظن عن غيره من المحتملات مأخوذ في الدليل سواء قرر على وجه الكشف أو الحكومة ، فلا يتفاوت الأمر في العموم بالنسبة إلى الاحتمالين كما مر (١).

__________________

(١) أقول : يمكن أن تكون النتيجة على طريقة القوم مهملة بأن يقال : أما على تقرير الكشف فبعد المقدمات المذكورة يحكم العقل بأنّ الشارع قد جعل لنا طريقا إلى أحكامه ، وأنّ ذلك الطريق لا يجوز أن يكون خارجا عن الظن بمناط أقربية الظن إلى الواقع ، وأما أنّ الطريق المجعول بعض الظنون من حيث الأسباب والمراتب أو الجميع فهو ساكت عنه.

وأما على تقرير الحكومة يحكم العقل بمناط أقربية الظن إلى الواقع بلزوم العمل بالظن مطلقا من حيث الأسباب ، إذ الظن في هذه المرتبة في نظر العقل كالعلم فكما أنّ حجية العلم لا يفرق فيها بين الأسباب المورثة له في نظر العقل ، كذلك الظن ، إذ العقل لا يرى في وجه تقديمه على غيره سوى جهة انكشاف الواقع ليس إلّا ، وهذا المعنى حاصل في مطلق الظن من أي سبب كان ، وهذا بخلاف تقرير الكشف إذ يمكن أن يكون لبعض الظنون خصوصية تقتضي جعل ذلك البعض طريقا دون بعض آخر وإن لم نعرفها ، ويكشف عن ذلك أنّا علمنا منع الشارع عن بعض الظنون كالحاصل من القياس وخبر الفاسق ، وأما من حيث المرتبة فيجوز ألا يحكم العقل بعموم النتيجة إذ يحتمل أن يكون اللازم في حال الانسداد الاقتصار على الظن القوي الذي يطمئن به النفس.

٦١٣

قوله : فنقول إنّه إما يقرر دليل الانسداد على وجه يكون كاشفا (١).

(١) اعلم أوّلا أنّ صحة تقرير وجه الكشف مبني على العلم بكون نصب الطريق واجبا في الحكمة على الشارع أو العلم بتحقق النصب ولو لم يكن واجبا ، وأيضا قد عرفت أنّ الصحيح في تقرير الكشف توسيط المقدمة القائلة بأرجحية الظن عن باقي المحتملات ، لا التقرير بإبطال الأطراف للمنفصلة حتى

__________________

لا يقال : إذا كان وجه تعيين الظن من بين المحتملات الباقية أقربيته إلى الواقع ووجود هذا المناط في جميع الظنون بنسق واحد فكيف يمكن دعوى عدم العموم في المراتب بتقرير الحكومة وفي الأسباب والمراتب على تقرير الكشف.

لأنّا نقول : يمكن أن يكون المناط في نظر العقل الظن القوي المتاخم للعلم لو وجد بمقدار ما يزول العلم الإجمالي بالعمل به ، هذا بالنسبة إلى المراتب وأما بالنسبة إلى الأسباب في وجه تقرير الكشف فيجوز أن يحكم العقل بأنّ ما جعله الشارع من نوع الظن لكون نوعه أقرب إلى الواقع من غير استكشاف لجعل مطلقه.

فإن قلت : إنّه ليس في كل مسألة إلّا ظن واحد قويا أو ضعيفا من سبب واحد ، فلو لم تكن النتيجة عامة ولم يعمل في كل مسألة بالظن الموجود فيها لزم أن يعمل في بعضها بالوهم وهو خلاف ما يحكم به العقل بالبداهة.

قلت : لا نسلّم لزوم العمل في ذلك البعض بشيء ، بل تكون المسألة بلا حكم ويكون المكلف بالنسبة إليها في مقام إهمال التعرض للامتثال.

لا يقال : لا يجوز إهمال التعرض للامتثال بحكم المقدمة الثانية.

لأنّا نقول : ما ثبت في المقدمة الثانية عدم جواز إهمال التعرض لامتثال التكاليف المعلومة بالإجمال رأسا كالبهائم والأطفال ، لا الإهمال في بعض المسائل والتعرض في بعض آخر بحيث يزول العلم الإجمالي ، نعم احتمال الإهمال في البعض ينافي ما سيذكره المصنف من الرجوع إلى الأصل في غير موارد الرجوع إلى الظن.

وكيف كان ، فالغرض إبداء احتمال كون النتيجة مهملة على ما قرره المصنف احتمالا صحيحا وإن رجحنا خلافه بوجه آخر ، فانتظر لتمام الكلام.

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٦٥.

٦١٤

ينحصر الأمر في احتمال واحد ، وإلّا خرج الدليل عن كونه دليلا عقليا كما لا يخفى ، وحينئذ نقول الصحيح في تقرير الكشف أن يقال لما علمنا أنّ الشارع نصب لنا طريقا لامتثال أحكامه لمكان وجوب النصب عليه أو العلم بتحققه ، وتردد بين أن يكون الطريق المنصوب هو الظن لحكمة أقربيته إلى الواقع أو يكون غيره لحكمة لا نعرفها ، يحكم العقل بأنّ الأخذ بالظن أرجح من غيره ، فكأنه استكشف العقل أنّ الطريق المجعول هو الظن ظاهرا لمناط الأرجحية ، وهذا في الحقيقة يرجع إلى ترجيح التعيين على التخيير ، إذ لا يعلم في الظاهر أنّ المرجع ما هو من التخيير بين الظن وغيره أو خصوص الظن معيّنا ، والعقل يحكم بلزوم التعيين في الظاهر.

لكن لا يخفى أنّ هذا الوجه يرجع إلى الحكومة حقيقة مع توسيط مقدمة غير نافعة بوجه أعني وجود طريق منصوب من الشارع واقعا لا نعرفه بعينه ، كما أنّ تقرير الحكومة أيضا يرجع إلى الحكم العقلي الظاهري المذكور بتعيين الظن ، لأنّه على هذا التقرير وإن لم نعلم النصب ولكن نحتمله ، وليس النصب مقطوع العدم فيدور الأمر بين عدم النصب أصلا أو نصب الظن أو غيره ، فيحكم العقل بأرجحية الأخذ بالظن في الظاهر وجعل العمل مطابقا له.

وبذلك يظهر عدم الفرق بين التقريرين في تعميم النتيجة أو إهمالها من حيث الأسباب والمراتب ، وقد عرفت أنّ العقل يحكم بالتعميم بحسب المراتب بملاك أقربية الظن إلى الواقع ، وأنّه ليس في كل مسألة إلّا ظن واحد وهو أرجح من غيره ، وأما من حيث الأسباب فالحق أنّه لا عموم فيه حتى بناء على الحكومة أيضا ، إذ يمكن بل يظن أنّ العقل يفرق بين الأسباب ويحكم بوجوب متابعة الظنون الحاصلة من الأسباب المتعارفة لا الحاصلة من مثل الرؤيا والاستخارة فإنها كالشك في حكم العقل والعقلاء ، بل نقول لو أجري دليل

٦١٥

الانسداد في كل مسألة مسألة على ما هو مسلك القوانين يكون النتيجة أيضا مهملة من حيث الأسباب بعين هذا البيان.

قوله : فكذلك كيفية الإطاعة وأنّه يكفي فيها الظن (١).

(١) ليس كذلك بل يمكن أن يعتبر الشارع في كيفية الإطاعة طريقا خاصا تعبدا ، والعجب أنّ المصنف لا ينكر إمكان جعل الشارع طريقا تعبديا في حال انفتاح باب العلم فكيف ينكره حال الانسداد ، بل اعترف في غير موضع إمكان الجعل حال الانسداد أيضا ، ولو كان كيفية الإطاعة كنفسها من أحكام العقل المستقل غير قابل للجعل كما ذكره هنا امتنع جعل الطرق بالمرة وهو كما ترى.

قوله : وتوهم أنّه يلزم على هذا انفكاك حكم العقل عن حكم الشرع (٢).

(٢) الظاهر أنّ المتوهم يريد أن تقرير الحكومة يرجع إلى تقرير الكشف بقاعدة الملازمة بين حكم العقل والشرع ، فدفعه المصنف بأنّ مورد القاعدة ما كان قابلا لورود الحكمين معا ، وما نحن فيه ليس قابلا لحكم الشرع ، لأنّ الحكم بوجوب الإطاعة وكذلك كيفيتها حكم إرشادي عقلي محض إذ لو كان شرعيا تسلسل.

والتحقيق أنّ هذا الدفع في غير محله ، لأنّ قاعدة الملازمة لا تثبت إلّا أنّ الشارع يحكم البتّة حكما مطابقا لحكم العقل إن كان إرشاديا فإرشادي أو مولويا فمولوي ، ولا يثبت بالقاعدة ثبوت الحكم الشرعي المولوي في مورد الحكم العقلي الإرشادي حتى يقال إنّ المورد غير قابل له ، وحينئذ فتوهم

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٦٦.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٤٦٦.

٦١٦

المتوهم باق بعد في محله.

وجوابه : أن الفرق بين تقرير الكشف والحكومة بعد باق وهو أنّ القائل بالكشف يقول إنا قد علمنا أن الشارع جعل لنا طريقا خاصا لأحكامه لكن لا نعرفه بعينه فنعينه بحكم العقل في الظن ، والقائل بالحكومة يقول إنّ العقل يستقل بأنّ المرجع حال الانسداد هو الظن ثم يسند هذا الحكم إلى الشارع بقاعدة الملازمة ، وهذا القدر يكفي في كونه فارقا فافهم.

قوله : إلّا أن يدعى الإجماع على عدم نصب شيء آخر غير الظن في الجملة فتأمل (١).

(١) لا يخفى أنّ دعوى الإجماع في مثل هذه المسألة المستحدثة التي لم يعنونها إلّا بعض متأخري المتأخرين تخرص بعيد مستبشع كما ذكر المصنف ذلك في رد بعض من لا خبرة له قبيل ذلك في آخر التنبيه الأول ، ولعله أشار إلى ذلك بقوله فتأمل.

قوله : فتسميته دليلا عقليا لا يظهر له وجه (٢).

(٢) إن أريد بالدليل العقلي ما يكون جميع مقدماته عقلية يخرج دليل الانسداد عن كونه دليلا عقليا على القول بالحكومة أيضا ، لأنّ إثبات المقدمة الثانية والثالثة كان بالدليل الشرعي ، وإن اكتفي في كون الدليل عقليا بكون بعض مقدماته عقليا فلا يخرج الدليل عن كونه عقليا بعد أخذ مقدمة حكم العقل بترجيح الظن على المحتملات الباقية في الدليل.

نعم لو قرر الكشف من باب الاستدلال على تعيين أحد أطراف المنفصلة

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٦٩.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٤٧٠.

٦١٧

خرج الدليل عن كونه عقليا وقد مرّ بيانه هذا ، مضافا إلى أنّ خروج الدليل عن كونه عقليا ليس محذورا لوجه الكشف فنسمّيه دليلا شرعيا.

قوله : فقد عرفت أنّ الإهمال بحسب الأسباب وبحسب المرتبة (١).

(١) هذا الإهمال يمكن أن يكون من جهة تردد الطريق المنصوب بين كونه بعض الظنون الوافي بالفقه بحيث لا يلزم بعد العمل به محذور في الرجوع إلى الأصول وبين كونه الجميع ، وعلى تقدير كونه البعض يتردد في تعيينه ، ويمكن أن يكون من جهة التردد في تعيين الطريق المنصوب من بين أنواع الظن بعد العلم بأنّ ما نصبه الشارع ليس جميع الظنون بل البعض الوافي ، وعلى الاحتمال الأول فالمراد بدليل التعميم تعيين كون الطريق المنصوب جميع الظنون لا البعض.

وأما على الاحتمال الثاني فيراد من التعميم أنه بعد ما اشتبه علينا ما هو المنصوب من بين الظنون ولا ترجيح فيحكم بأخذ الجميع من باب الاحتياط وإدراك واقع الطريق المنصوب فيما بين الظنون بعد بطلان التخيير ، وعليه لا تثبت بدليل التعميم حجية جميع الظنون واقعا ، بل وجوب الأخذ بها ظاهرا ، ويقابل التعميم بالمعنى الأول التعيين وبالمعنى الثاني الترجيح ، ولعل المصنف إلى هذه الدقيقة أشار بقوله بعيد هذا ، ما يصلح أن يكون معينا أو مرجحا إلى آخره فافهم فإنّه دقيق.

قوله : ويذكر للتعميم وجوه الأول : عدم المرجح (٢).

(٢) ظاهر كلامه هنا بل في غير موضع أنّ مقدمات الانسداد بأجمعها لا ينتج

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٧١.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٤٧١.

٦١٨

سوى حجية الظن في الجملة كشفا أو حكومة ، وأنّ مقام التعيين أو تعميم الحجية لجميع الظنون مقام آخر يحتاج إلى استدلال آخر.

والحق ما يستفاد من كلام الشيخ محمد تقي كما سيأتي من المصنف نقله أنّ دليل الانسداد ينتج حجية الظن عموما أو خصوصا من الأول ، بمعنى أنّ العقل بعد ملاحظة مقدمات الانسداد إما أن يحكم بأنّ ما نصبه الشارع جميع الظنون أو بعضه ولو كان بضميمة مقدمة أخرى وهي عدم الترجيح أو الترجيح ، وكذا على تقرير الحكومة بل أوضح ، لا أن يحكم أوّلا بحكم مجمل مبهم ثم يحكم بالتعميم أو التعيين بمقدمات أخر ، لأنّه حينئذ يكون حكمه الأول لغوا ، بل يحكم بملاحظة مجموع المقدمات حكما واحدا بالتعميم أو التعيين ، وقد مر في تقرير الكشف والحكومة ما يوضح هذا المعنى في الجملة.

قوله : والإجماع على بطلان التخيير (١).

(١) قد مرّ ما في دعوى الإجماع في مثل المقام من المسائل العقلية من الوهن ، وقد طعن المصنف على مثل هذا الإجماع في رد المحقق القمي قبل ذلك فتذكر.

قوله : ما يصلح أن يكون معينا أو مرجحا أحد أمور ثلاثة (٢).

(٢) كان الأولى أن يقول : أمور ثلاثة بدون لفظ أحد ، لأنّ الوجوه ليست مانعة الجمع بمعنى لزوم كون المرجح الذي يؤخذ به أحد هذه الأمور ، بل يحتمل لزوم الأخذ بالجميع أو اثنين منها كما سيظهر وجهه عن قريب.

ولا يخفى أنّ الوجه الأول والثالث ناظران إلى الترجيح بحسب الأسباب

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٧١.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٤٧٢.

٦١٩

والمرتبة كليهما ، والوجه الثاني ناظر إلى الترجيح بحسب المرتبة فقط ، وعليه يبقى الإهمال بحسب الأسباب فيلزمه التعميم بحسبها بدليل بطلان الترجيح بلا مرجح.

قوله : فتأمل (١).

(١) لعل وجهه أنّ دليل الانسداد على تقرير الكشف لا يثبت به إلّا تعيين الطريق المنصوب الذي فرضنا العلم به في الجملة ، وليس دليلا على ثبوت أصل الحجية ، فعلى ما ذكره من أنّ المراد بالظن الخاص ما علم حجيّته بغير دليل الانسداد يكون هذا القدر المتيقن من الظنون الخاصة ، فتأمل.

ثم اعلم أنّه قد يكون كل واحد من المرجحات المذكورة موجودا بمقدار واف يرتفع به العلم الإجمالي بالتكاليف ، وقد يكون الموجود من كل منها غير واف بل يكفي الأخذ بمجموعها أو اثنين منها ، فإن لم يحصل القدر الوافي إلّا بأخذ مجموع المرجحات فلا إشكال في لزوم الأخذ بالكل ، وإن حصل القدر الوافي في كل واحد من هذه الأمور الثلاثة فلا ريب في وجوب الأخذ بالمرجح الأول وهو القدر المتيقن لأنّه قدر متيقّن ، وإن حصل القدر الوافي في اثنين منها كما لو فرض أنّ القدر المتيقن غير واف إلّا أن انضمام أحد الآخرين إليه يكفي في رفع العلم الإجمالي ، فالأظهر تقديم الظنون المظنون الحجية على الظن الأقوى ، لأنّه ملازم للظن بالفراغ على تقدير تخلّفها عن الواقع وهو أرجح في نظر العقل على الظن الأقوى الفاقد لهذه الجهة.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٧٢.

٦٢٠