حاشية فرائد الأصول - ج ١

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-015-2
الصفحات: ٦٩٤

قوله : كما يظهر من رواية حفص الواردة في جواز الاستناد إلى اليد (١).

(١) هي ما روي عن حفص بن غياث أنّه «سأل أبا عبد الله (عليه‌السلام) أرأيت إذا رأيت شيئا في يدي رجل أيجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال (عليه‌السلام) : نعم. قال الرجل : أشهد أنّه في يده ولا أشهد أنّه له فلعلّه لغيره؟ فقال له أبو عبد الله (عليه‌السلام) : أفيحلّ الشراء منه؟ قال : نعم ، فقال له أبو عبد الله (عليه‌السلام) : فلعلّه لغيره فمن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكا لك ثم تقول بعد الملك هو لي وتحلف عليه ، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك ، ثم قال (عليه‌السلام) : لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق» (٢) انتهى ، والرواية ضعيفة.

قوله : بخلاف ما لو علّق النذر بنفس الحياة فإنّه يكفي في الوجوب الاستصحاب (٣).

(٢) أورد على جريان الاستصحاب على هذا التقدير بوجهين :

الأوّل : أنّ هذا من الأصول المثبتة التي لا اعتبار بها عند المحقّقين ومنهم المصنف بتقريب أنّ الحياة لا يترتّب عليها حكم شرعي إلّا بعنوان أنّها ما علّق عليه النذر والأصل لا يثبت هذا العنوان ، فما يترتّب عليه الحكم ليس مجرى الاستصحاب بل من لوازمه غير الشرعية ، وما يجري فيه الاستصحاب لا يترتّب عليه حكم إلّا بواسطة لازمه غير الشرعي.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٤.

(٢) الوسائل ٢٧ : ٢٩٢ / أبواب كيفية الحكم ب ٢٥ ح ٢.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٣٤.

٦١

وبوجه آخر : إنّما الواجب هو التصدّق على تقدير الحياة بعنوان أنّه منذور به ، واستصحاب الحياة لا يثبت كون التصدّق على تقديره منذورا به.

والتحقيق أن يقال : إنّه لو كان اليقين بالحياة المشكوكة في زمن تحقّق النذر وبعد الحكم بانعقاده ثم حصل الشك ، فالحقّ ما ذكره المصنّف من أنّه يكفي في الوجوب الاستصحاب ، لأنّ المستصحب حينئذ هو الحياة المعنونة بعنوان كونها ما علّق عليه النذر ولا إشكال ، وإن كان زمان اليقين السابق بالحياة قبل زمان النذر فحينئذ ينظر إلى أدلّة وجوب الوفاء بالنذر ، فإن دلّت على وجوب إتيان ما ألزمه الناذر على نفسه من غير اعتبار عنوان بأن يفهم منها أنّ النذر شيء من أسباب وجوبه ومن المعلوم عدم تقيّد الحكم وكذا متعلّق الحكم بعنوان السبب إلّا بدليل آخر غير دليل السبب المفقود فيما نحن فيه بالفرض فكالأول وهو ظاهر ، وإن دلّت على وجوب الإتيان بعنوان النذر وبعنوان الوفاء بالوعد مع الله ، فالحق ما ذكره المورد من أنّه لا يمكن إثبات مورد الحكم بالاستصحاب ، وهذا هو الظاهر من الأدلّة كما لا يخفى على من راجعها ولاحظ نظائرها مثل «المؤمنون عند شروطهم» (١) و (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(٢) و (الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا)(٣) وأشباهها ، فإنّ الظاهر منها وجوب المضيّ على ما جعل نفسه بانيا عليه والعمل على عهده وميثاقه ، فليتأمل.

الثاني : أنّ دليل الاستصحاب لا يجري إلّا بالنسبة إلى مجعولات الشارع حكما أو موضوعا لا فيما هو مجعول للناذر والشارط فإنّه تابع لجعله ، ومن المعلوم أنّ الناذر التزم بالتصدّق على تقدير الحياة الواقعية لا الاستصحابية ، نعم

__________________

(١) الوسائل ٢١ : ٢٧٦ / أبواب المهور ب ٢٠ ح ٤.

(٢) المائدة ٥ : ١.

(٣) البقرة ٢ : ١٧٧.

٦٢

لو كان بناء العرف والعقلاء الجري على مقتضى الحالة السابقة في زمان الشك مطلقا مع قطع النظر عن التعبّد الشرعي بذلك ، ثبت وجوب التصدّق على تقديره ، إلّا أنّه ليس ذلك لأجل الاستصحاب التعبّدي الذي نتكلّم في قيامه مقام القطع وعدمه.

فإن قلت : بعد حكم الشارع بوجوب الوفاء بالنذر أو الشرط يصير ذلك أيضا في عداد المجعولات الشرعية يترتّب عليه ما يترتّب عليها.

قلت : ليس كذلك ، لأنّ ما يدل على وجوب الوفاء لا يزيد على إمضاء الشارع ما التزمه الناذر والشارط على نفسه على حسب الملتزم ، ولم يتصرّف فيه بتعميم ولا تخصيص في الملتزم ولا فيما علّق عليه.

والجواب : أنّ دليل الاستصحاب عام لكل ما يترتب عليه على تقدير بقائه حكم شرعي وإن لم يكن من المجعولات الشرعية ، ولا ينافي ذلك كون مفاد دليل وجوب الوفاء إمضاء مجعول الناذر ، لأنه يحكم حال الشكّ في الحياة بأنّ التصدّق حينئذ مما التزم به الناذر بحكم الاستصحاب وقد أمضاه الشارع ، ولم يحكم بوجوب التصدق على تقدير عدم الحياة أيضا ليكون مخالفا لدليل الإمضاء.

بل يمكن أن يقال : لو حكم الشارع بوجوب التصدّق على بعض تقادير عدم الحياة كأن يقول : من مات وله صدقة جارية فهو بمنزلة من لم يمت يعني في الأحكام ، لم يكن مخالفا لدليل الإمضاء ، إلّا أنّه حكم آخر ثبت من الشارع مترتبا على نذر الناذر ، ونظيره ما لو نذر قراءة القرآن مثلا متوضئا غافلا عن كون شيء بدلا عن الوضوء ، فإذا جعل الشارع التيمم بدل الوضوء في حكمه نحكم بصحة برّ نذره بالقراءة متيمّما بتقريب ما مرّ.

٦٣

قوله : ثم إنّ هذا الذي ذكرنا من كون القطع مأخوذا تارة على وجه الطريقية وأخرى على جهة الموضوعية جار في الظنّ أيضا (١).

(١) مثال الظن المأخوذ على وجه الطريقية الظنّ في حال الانسداد ، لكنه مجعول بحكم العقل لا الشرع كما مرّ سابقا ، ويمكن أن يمثّل له بمثل الظنّ الحاصل من الخبر الواحد بناء على القول بأنّ حجّيته مشروطة بحصول الظنّ الفعلي بمعنى أنّ الظنّ الحاصل من الخبر حجة ، لكن هذا القول ضعيف.

وبالجملة لم نجد ممّا اعتبره الشارع مثالا لاعتبار الظن طريقا إلى الأحكام الشرعية ، نعم يوجد ما اعتبره الشارع طريقا إلى موضوعات الأحكام كالظن المعتبر في الصلاة بالنسبة إلى الركعات بل غير الركعات أيضا على المشهور ، والظنّ بالقبلة أو الوقت في مورد يعتبر ، إلى غير ذلك. هذا كلّه لو أريد الظن الفعلي كما هو ظاهر البيان.

وأما إذا أريد الظنّ النوعي فالأمثلة كثيرة واضحة ، وهي جميع الأدلّة الشرعية الظنية كخبر الواحد والإجماع المنقول والشهرة وغيرها مما ثبت كونه حجة ، وكذا الأمارات الجارية في الموضوعات كالبيّنة واليد وسوق المسلمين ونحوها مما ثبت اعتبارها على هذا الوجه.

ومثال الظن المأخوذ على وجه الموضوعية ظنّ الضرر بالصوم المأخوذ في موضوع جواز الإفطار ، وظنّ الضرر باستعمال الماء المأخوذ في موضوع الحكم بالتيمم بدلا عن الوضوء والغسل ، وظنّ الضرر والعطب المأخوذ في حرمة السفر ونحو ذلك ، إلّا أنّ هذه أمثلة لما أخذ في الموضوع على وجه الطريقية ، وأما ما أخذ فيه من حيث كونه صفة فلم نجد له مثالا واقعيا لكن يمكن فرضه.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٥.

٦٤

قوله : لكنّ الظنّ أيضا قد يؤخذ طريقا مجعولا إلى متعلّقة يقوم مقامه سائر الطرق الشرعية (١).

(١) هل يقوم مقامه القطع؟ الظاهر بل المقطوع نعم ، لأنّ القطع أتمّ وأكمل في الطريقية بل الطريق واقعا منحصر فيه ، وغيره ينزّل منزلته في الطريقية جعلا ، بل التحقيق أنّ الظن المعتبر قائم مقام القطع لا العكس كما لا يخفى ، وحينئذ قوله يقوم مقامه سائر الطرق الشرعية فيه مسامحة ، لأنّ سائر الطرق الشرعية في عرض الظن المعتبر تقوم مقام القطع ، وكذا الأصول ، لا أنّ الظنّ اعتبر أوّلا بدلا عن القطع واعتبرت سائر الأمارات بدلا عن الظن.

وبهذا ظهر أنّا لا نحتاج في قيام سائر الأمارات والأصول مقام الظنّ وعدمه إلى كلفة بيان زائد بل يحال إلى ما سبق ، سواء كان الظنّ مأخوذا على وجه الطريقية أو الموضوعية بقسميه.

نعم ، يبقى شيء ينبغي التنبيه عليه وهو أنّ الظنّ المأخوذ في الموضوع لو فرض اعتباره من حيث كونه صفة خاصة لا يقوم مقامه القطع أيضا كما لا يقوم مقامه سائر الأمارات والأصول ، لأنّ صفة القطع كصفة الشكّ مغايرة لصفة الظنّ ، وذلك ظاهر.

قوله : وقد يؤخذ موضوعا للحكم سواء كان موضوعا على وجه الطريقية لحكم متعلّقه أو لحكم آخر (٢).

(٢) قوله : سواء كان موضوعا إلى آخره ، مما ألحقه المصنف في النسخ المتأخّرة للإشارة إلى قسمي الظنّ المأخوذ على وجه الموضوعية ، وإلى صحّة

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٥.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٣٥ (يوجد هنا اختلاف في نسخ الفرائد).

٦٥

إطلاق الحجة عليه وعدمه.

وقوله : لحكم متعلّقه أو لحكم آخر ، يحتمل أن يكون متعلّقا بقوله موضوعا ويراد بكون الظنّ موضوعا لحكم متعلّقه مثل ما كانت الحرمة مجعولة لمظنون الخمرية أو الخمر المظنون بخمريّته ، إلّا أنّ فيه مسامحة ، لأنّ حكم الحرمة حينئذ ليس حكما للمتعلّق فقط بل هو مع الظنّ ، فباعتبار كون المتعلّق جزء الموضوع يصدق أنّ الحكم للمتعلّق في الجملة ، ويراد بكون الظنّ موضوعا لحكم آخر مثل ما لو قال : يحرم السفر إذا ظننت بالعطب والخطر فيه ، فإنّ موضوع الحكم هو السفر ومتعلّق الظنّ هو العطب. ولا يرد على هذا التوجيه ما قيل : من أنّ الظنّ في القسمين مأخوذ في الموضوع لحكم آخر لا لحكم المتعلّق.

ويحتمل أن يكون متعلّقا بالطريقية كما قد يحكى هذا عن المصنف في درسه ، وحينئذ يراد من الطريقية لحكم متعلّقه مثل ما كانت الحرمة مجعولة لمظنون الخمرية ثم فرض إصابة الظنّ للواقع ، وستعرف وجه هذا القيد ، فالظنّ طريق إلى الخمرية التي يلزمها حكم الحرمة ، وفيه أيضا مسامحة ، إذ الحكم مترتب على مظنون الخمرية لا الخمرية ، ويراد من الطريقية لحكم آخر مثل ما إذا أخطأ الظنّ في المثال المذكور وكان ما ظنّ بكونه خمرا ماء في الواقع فهو حلال في الواقع وقد أدّى الظنّ إلى حرمته بظنّ خمريّته ، فكان الظنّ طريقا إلى الحرمة ، وهي حكم آخر غير حكمه الواقعي الذي هو الحلّية ، هذا غاية ما قيل في توجيهه.

وفيه : ما لا يخفى من البعد والانحراف عن السداد ، ويا ليته لم يلحق العبارة الملحوقة ، ولم يعلم أنّ الإلحاق منه (رحمه‌الله) ولعله من بعض التلامذة كما يحكى ذلك أيضا في بعض المقامات ، فليتأمّل.

٦٦

قوله : فيقال حينئذ إنّه حجّة (١).

(١) إطلاق الحجّة على هذا القسم من الظنّ الموضوعي دون القسم الثاني ليس بواضح ، لأنّ الإطلاق إن كان باعتبار وقوعه وسطا في القياس فالقسم الثاني أولى بالإطلاق كما لا يخفى ، وإن كان باعتبار إثبات حكم متعلّقه كما جعل ذلك سابقا في البحث عن القطع ميزان إطلاق الحجّة وعدمه ، ففيه أنّه لا يتمّ فيما كان موضوعا أو طريقا لحكم آخر أي القسم الثاني من القسمين ، مضافا إلى ما يرد عليه مما أسلفنا في القطع فتذكّر.

نعم ، إطلاق الحجة على الظن الطريقي المحض صحيح على ما حقّقنا سابقا في المراد من الحجّة ، وكذا عند المصنّف إلّا أنّه لم يتعرّض له هنا.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٥ لاحظ الهامش.

٦٧

قوله : وينبغي التنبيه على أمور : الأول (١) :

الكلام في التجرّي

(١) ولنقدم قبل الشروع في مسألة التجرّي أمرين لتوضيح وجه المسألة :

الأول : أنّه هل يعقل أن يكون للشيء كالخمر مثلا حكم ويكون لذلك الشيء بانضمام صفة القطع إليه حكم آخر مماثل للحكم الأول أو مضادّ له ، مثل أن يكون شرب الخمر حراما وشرب معلوم الخمرية حراما آخر أو واجبا أو مستحبا أم لا يعقل؟

قد يقال بل قيل : إنّ ذلك غير معقول للزوم اجتماع الضدّين فيما لو كان حكم معلوم الخمرية مضادا لحكم الخمر ، واجتماع المثلين فيما كان مماثلا ، وكلاهما محال.

وفيه : أنّ المحال اجتماع الضدّين والمثلين في موضوع واحد ، وفيما نحن

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٨.

٦٨

فيه تعدّد الموضوع مفروض فكيف يلزم ذلك المحال.

والحقّ أنّ جعل الحكم المضادّ غير جائز ، لا لما ذكر بل لعدم إمكان امتثال الحكمين ، إذ لو قطع بكون مائع خمرا صار حكم الحرمة منجزا وتحقق بذلك القطع موضوع حكم وجوب الشرب أيضا ولا يمكنه أن يشرب هذا المائع ولا يشرب أيضا امتثالا للحكمين ، فهذا من الاجتماع الأمري الذي اتفقوا على عدم جوازه ، وأما الحكم المماثل فلا مانع منه كأن يكون الخمر بعنوانه حراما ومقطوع الخمرية أو الخمر المقطوع به بعنوانه محرما آخر.

فإن قلت : بعد الحكم بحرمة الخمر بعنوانه حكمه بحرمة مقطوع الخمرية لغو ، لأنّ أخذ العنوان الأعم موضوعا للحرمة مغن عن العنوان الأخصّ.

قلت : ليس كذلك ، أمّا في مثل الخمر حرام ومقطوع الخمرية حرام فيما كان القطع تمام الموضوع فلأنّ النسبة بين الموضوعين عموم من وجه ، لتصادقهما في الخمر المقطوع به وتفارقهما في الخمر المجهول ، وما يقطع بخمريته مع كون القطع جهلا مركّبا ، فلا يغني أحد العنوانين عن الآخر وهذا واضح ، وأمّا في مثل قوله : الخمر حرام والخمر المقطوع به حرام ، وإن كان أحد العنوانين أعمّ من الآخر مطلقا لكنّه لا ضير في جعل حكم الحرمة لكلّ من العنوانين مستقلا لو كان كل واحد منهما مقتضيا للحكم بنفسه ، وتترتّب عليه ثمراته ومنها تعدد الإطاعة والعصيان.

ومما ذكرنا ظهر أنّه لا مانع من جعل الخمر حراما ومظنون الخمرية أو الخمر المظنون أيضا حراما ، ولا يجوز جعل شرب الخمر حراما وشرب مظنون الخمرية واجبا لعين ما ذكر في القطع ، هذا إذا كان الظنّ حجّة يجب اتّباعه وإلّا فلا مانع من الحكم المضاد أيضا وهو ظاهر.

٦٩

وقد يقال هنا بالفرق بين ما كان الظنّ تمام الموضوع فيجوز جعل الحكم الموافق والمخالف كأن يكون شرب الخمر حراما وشرب مظنون الخمرية حراما أو واجبا ، ويكون من قبيل مسألة اجتماع الأمر والنهي ، وبين ما كان جزء الموضوع فلا يجوز جعل الحكم المماثل فضلا عن المخالف كأن يكون الخمر حراما والخمر المظنون أيضا حراما ، لعدم إمكان كون المطلق والمقيّد محلا لحكمين ، ضرورة كون المقيد عين المطلق مع وصف زائد.

وفيه : ما مرّ من أنّ تعدّد العنوان كاف في جعل الحكمين بعد فرض كون كلّ من العنوانين مقتضيا للحكم ، مع أنّه لا فرق بين القطع والظنّ على ما ذكره ، والحال أنّ القائل مصرّح بعدم جواز جعل الحكم المماثل والمخالف في القطع لما مرّ منه من لزوم اجتماع الضدّين أو المثلين فليتأمّل.

الثاني : أنّه لا إشكال في أنّ القطع إذا صادف الواقع على ما هو عليه يتحقّق بموافقته الإطاعة واستحقاق الثواب ولو شرعا ، وبمخالفته المعصية واستحقاق العقاب عقلا ، وكذا لو تخلّف القطع عن الواقع بعنوانه الخاص ولكن صادف نوع التكليف المتعلّق به كما لو قطع بكون مائع خمرا فشربه فتبيّن أنّه ماء نجس أو مغصوب أو نحوهما من العناوين المحرّمة ، فيتحقّق به العصيان واستحقاق الذم والعقاب.

وما يتوهّم من أنّ العنوان الواقعي الذي صادفه كان مجهولا لم يتنجّز به التكليف المتعلّق به ، والعنوان الملتفت إليه المقطوع به لم يصادفه فليس فيه سوى التجري.

مدفوع بأنّ مدار العصيان على التحقيق المحقّق عندنا في محلّه على مخالفة الحكم الواقعي ، إلّا أن يكون معذورا في المخالفة بعذر يرتضيه العقل

٧٠

والعقلاء أو بعذر شرعي ، ولا نسلّم أنّ مطلق الجهل بعنوان المنهيّ عنه عذر مرضيّ ، ففي المثال المذكور لو اعتذر العبد في شرب المائع المذكور بجهله بالنجاسة مع قطعه بأنّه خمر محرّم لم يقبل منه بحكم العقل والعرف.

ويوضح ما ذكرنا أنّه لو اعتقد كون معصية صغيرة مكفّرة وارتكبها فتبيّن أنّها كبيرة موبقة لا يشكّ أحد في أنّه بحكم من ارتكب الكبيرة في العقاب وأنّه فاسق ، وكذا في سائر الأعذار كما لو دخل في مكان يقطع بأنّه يكره على ارتكاب المحرّم فأكره عليه ، فمثل هذا الإكراه لا يعدّ عذرا للمكلّف ، وهكذا الاضطرار والنسيان ونحوهما إنّما تكون عذرا للمكلّف إذا لم يقصر فيها بمقدّمة اختيارية ، وإلّا لا تعد عذرا ويعاقب على مخالفة الواقع المضطر إليه أو المنسيّ أو المغفول عنه أو غير المقدور ، وذلك بعد التأمّل بيّن لا سترة فيه.

ومن هذا القبيل ما لو تخلّف المستطيع عن الرفقة حتى ترك بسببه الحج في وقته ، فإنّه عاص بترك الحج في زمانه وإن لم يكن قادرا عليه حينئذ ، وليس بمعذور بالعجز عن الحج لأنّ العجز حصل باختياره.

وما قيل : من أنّ العصيان حصل بترك المقدّمة لا ترك نفس الواجب ، فيه أنّ المقدمة ليست بواجبة على التحقيق ، وعلى تقدير الوجوب كلامنا في العصيان بترك ذي المقدمة. وكذا ما قيل من أنّ العصيان بترك ذي المقدّمة يحصل حين ترك المقدّمة ، فيه : أنّه كيف حصل العصيان بترك ذي المقدمة قبل تركه ، وهل هذا إلّا تحكّم.

ومن هذا القبيل أيضا قولهم بعدم جواز العمل بالأصل قبل الفحص عن الدليل ، فلو عمل بالأصل كذلك يصحّ عقابه على مخالفة الواقع ولو فرضنا أنّه إن تفحّص لا يجد دليلا ويجوز له العمل بالأصل ، إلّا أنّ اعتذاره بالجهل بعد

٧١

الفحص مقبول وقبله غير مقبول ، هذا كلّه في حكم المخالفة النفس الأمرية.

وأمّا الموافقة الاتفاقية كذلك كما لو فرض أنّ المكلّف قطع بوجوب شيء باعتقاد أنّه مأمور به بأمر والده ، وفعله بهذا العنوان والداعي فتبيّن أنّه واجب بأمر الشارع مثلا ، فإن كان واجبا توصليا غير مشروط بقصد القربة فلا إشكال في موافقة الأمر والإطاعة ، ويترتّب عليه ثواب الانقياد به ، وإن كان تعبّديا مشروطا فيه قصد القربة ، فإن قلنا : بأنّ قصد القربة بعمل لا يتحقق إلّا بقصد أمره المتعلّق به فالعمل باطل لم يحصل به إطاعة ولا امتثال ولا استحقاق ثواب ، وإن قلنا : بأنّه يكفي في القربة كون العمل بداع إلهي كما هو الحقّ المحقّق عندنا في محلّه ، فإنّه عمل صحيح موافق للأمر وقد حصل به الإطاعة واستحقاق المثوبة ، ولا بأس بالتزام ذلك وإن استبعده بعضهم.

قوله : لكن الكلام في أنّ قطعه هذا هل هو حجّة عليه من الشارع وإن كان مخالفا للواقع (١).

(١) لا بدّ أوّلا من تحرير محلّ النزاع ببيان أمور ثلاثة :

الأوّل : أنّ هذا النزاع يجري في سائر الأدلّة من الأصول والأمارات والأدلة الظنية والقطعية ، ويجمعها أنّ الأحكام الفعلية باعتقاد المكلّف هل يوجب مخالفتها عقابا لو تخلّفت عن الواقع ولم يحصل المخالفة بالنسبة إلى الأحكام الواقعية أم لا؟ وحينئذ جعل المصنف هذا البحث من مباحث خصوص القطع لا وجه له (٢).

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٧.

(٢) أقول : لعل وجهه أنّ سائر ما ذكر قائم مقام القطع على مذاق المصنف فيجري فيها النزاع

٧٢

ثم لا يخفى أنّه لو قلنا بأنّ مؤدّى الأصول والأمارات أحكام ظاهرية مجعولة في قبال الأحكام الواقعية كما قد يظهر من المصنف في بعض المقامات ، فلا ريب أنّ مخالفتها معصية واقعية وإن لم يتفق مخالفة الأحكام الواقعية وكان بالنسبة إليها محض التجرّي.

الثاني : أنّ النزاع يجري في القطع الطريقي المحض وهو واضح ، وفي القطع الموضوعي إذا كان القطع جزءاً للموضوع لا تمامه ، سواء كان مأخوذا على وجه الطريقية أو كونه صفة خاصة ، مثلا لو كان الخمر المقطوع به موضوع الحرمة فإن تخلّف قطعه بالخمرية عن الواقع تحقّق موضوع مسألة التجرّي ، أما إذا كان القطع تمام الموضوع كأن يكون مقطوع الخمرية موضوع حكم الحرمة فلا تشمله مسألة التجرّي ، بل لا يتصور فيه التجرّي لعدم إمكان التخلف فيه ، إذ الموضوع بالفرض ما قطع بخمريته وقد حصل لا الخمر حتى يتصوّر التخلف.

الثالث : أنّ النزاع هل هو في استحقاق العبد للعقاب بالتجرّي حتى تكون المسألة كلامية كما يظهر من بعض التعبيرات للمصنف وغيره ، أو في حكم العقل بقبح التجرّي وعدمه حتى تكون المسألة أصولية كما يشهد به أيضا بعض التعابير ، أو في أنّ التجرّي حرام أم لا حتى تكون المسألة فقهية؟ الظاهر أنّه يمكن اعتبار النزاع بالوجوه الثلاثة (١).

__________________

بالتبع ، فإذا علم حال ما هو طريق بنفسه منجعل في نفسه ، يعلم حال ما هو طريق مجعول بجعل الشارع وما هو بدل منه يقوم مقامه.

(١) أقول : إن حرّر النزاع على الوجه الثاني أي في حكم العقل بقبح التجرّي وعدمه ، يكون النزاع في وجود هذا الحكم العقلي وعدمه فلا تكون المسألة أصولية ، لأنّ موضوع علم الأصول أدلّة الفقه ومنها حكم العقل ، ومسائل الأصول ما يبحث عن أحوال الموضوع

٧٣

إذا تمهّد ذلك فنقول : يمكن تحرير النزاع بوجوه ثلاثة :

الأول : أن يقال : هل الإقدام على القبيح قبيح مع عدم المصادفة أم لا؟

الثاني : أن يقال : هل الإقدام على مبغوض المولى قبيح أم لا مع عدم المصادفة؟ وهذا أخص من الأوّل لعدم شمولاه للقبائح العقلية والعادية التي لا مدخل لها بكونها بين العبد والمولى.

الثالث : أن يقال : هل الإقدام على مبغوض الشارع قبيح مع عدم المصادفة أو لا؟ وهذا أخص من سابقه لعدم شمولاه لمبغوضات غير الشارع من الموالي العرفية.

ولا يخفى أنّ تحرير النزاع على الوجه الثالث يكفينا فيما نحن بصدده من كونه سندا للحكم الشرعي الفرعي ، إلّا أنّ مناط النزاع أعمّ منه ومن الوجه الثاني ، بل الأول كما سيظهر إن شاء الله تعالى ، وتحرير المصنف مطابق للوجه الثالث وإن كان أخصّ من أجل أخذ العنوان مخالفة خصوص القطع لا مطلق مخالفة الحجّة على ما ذكرنا من أنّ المناسب جعله عنوانا للنزاع ، هذا.

وتحقيق الحقّ في المسألة يبتني على تمهيد مقدّمة : وهي أنّ الإطاعة والعصيان من العناوين الثانوية للفعل والترك بالنسبة إلى المأمور به والمنهيّ عنه ، فالصلاة والصوم والحج مثلا عنوان أوّلي للفعل ، وكونها موافقا للأمر بها

__________________

وعوارضه لا البحث عن وجود الموضوع في مورد خاص كما نحن فيه أو مطلقا ، والنزاع فيما نحن فيه نظير النزاع في أنّه هل تحقّق الإجماع في مسألة خاصة أم لا ، وهذا ليس من المباحث الأصولية ولعله من المبادي ، نعم لو جعلنا الدليل العقل نفسه يكون حكم العقل من عوارضه ، فالبحث عنه بحث عن أحوال الدليل ، لكن في جعل الدليل نفس العقل دون حكمه ما لا يخفى.

٧٤

عنوان آخر لها يسمى بالإطاعة.

وقد يتوهّم أنّ عنوان الإطاعة عين عنوان نفس الأفعال ولا فرق بينهما إلّا بالعموم والخصوص ، والأمر بالإطاعة أمر بالصوم والصلاة والحج بعبارة جامعة ، فكأنّه قال : افعل هذه الأفعال ويلزمه أن يكون الأمر بالإطاعة تأكيدا للأوامر الخاصة المتعلّقة بهذه الأفعال ، وهذا مثل أن يقال : أكرم زيدا العالم وعمرا العالم وبكرا العالم إلى آخر الأفراد ثم قال : أكرم العلماء. والحق تعدّد العنوانين كالضرب والتأديب والقيام والتعظيم ، ويشهد بذلك كون نفس الفعل واجبا مولويا شرعيا والإطاعة واجبا إرشاديا عقليا ، وهكذا عنوان العصيان بالنسبة إلى فعل المنهيّ عنه أو ترك المأمور به بالمقايسة.

ثم لا ريب في أنّ استحقاق الثواب والعقاب يناط بالإطاعة والعصيان في الجملة ، ولكن الإشكال في أنّ منشأ هذا الاستحقاق هل هو نفس الفعل بمناط الإطاعة والعصيان وبشرطهما أو نفس الإطاعة والعصيان؟ الظاهر هو الثاني بحكم العقل ظنّا ، ويحتمل الأول ، هذا في استحقاق الثواب والعقاب العقلي.

وأما الثواب والعقاب الجعليان الثابتان بالشرع فيجوز على نفس الفعل وعلى عنوان الإطاعة والمعصية ، فهما حينئذ تابعان للجعل ولا دخل لهما لما نحن بصدده (١) ، هذا.

__________________

(١) أقول : لم يظهر لي ارتباط هذه المقدمة بمسألتنا هذه ، وقد أوردت ذلك على السيد الأستاذ (دام إقباله) فأجاب بأنّها قد تثمر في بعض المباحث الآتية فتأمل ، ثم أبدل المقدّمة بمقدمة أخرى وهي أنّ مناط استحقاق الثواب في فعل المأمور به وترك المنهيّ عنه ، وكذا مناط استحقاق العقاب في فعل المنهيّ عنه وترك المأمور به يمكن أن يكون من جهة حسن الفعل وقبحه من حيث وقوعه في الخارج وأنّه موجود قبيح أو حسن قد فعله

٧٥

وإذا تمهّد ذلك فنستدل على حرمة التجرّي بأنّ التجرّي والعصيان الحقيقي مشتركان في كونهما هتكا للمولى وجرأة عليه وتمرّدا له في تكاليفه وعدم المبالاة بشأنه ، وهذا هو القبيح الصدوري الذي قد مرّ آنفا ، ويفترقان في مصادفة فعل العاصي للمحرم الواقعي دون المتجرّي ، وقد أثبتنا أنّ منشأ استحقاق العقاب في العصيان الحقيقي ليس كونه حراما واقعا بدليل معذورية الجاهل والناسي والمضطرّ وغيرهم من ذوي الأعذار ، فلم يبق إلّا أنّ المنشأ هو

__________________

المكلّف ، ويمكن أن يكون من جهة حسنه أو قبحه من حيث صدوره عن المكلّف في مقام الإطاعة والمعصية.

وبعبارة أخرى : منشأ استحقاق الثواب والعقاب هو الفعل بالمعنى المصدريّ أو الفعل بمعنى اسم المصدر يعني نفس الحدث من جهة الحسن والقبح بالموافقة والمخالفة؟

الأقرب هو الأوّل ، يشهد بذلك ما يتراءى في عكس التجرّي وهو أن يأتي المكلف بما هو مبغوض المولى جهلا أو سهوا أو نسيانا ، فإنّه لا يستحق العقاب معلّلا بأنّه لم يصدر منه الفعل المبغوض لعذره ، وإن وجد في الخارج مبغوضه وكان بفعل المكلف أيضا لكنه غير مبغوض من حيث صدوره منه بل من حيث كون نفس الفعل قبيحا ، ويشهد له أيضا ما اتفقوا ظاهرا من حرمة التشريع ، فإنّ الفعل الذي يتحقّق في ضمنه التشريع لا قبح فيه في نفسه بل قد يكون حسنا ومندوبا شرعيا كالغسلة الثانية في الوضوء ومع ذلك حرام شرعيّ وقبيح عقلي ، وليس إلّا لأنّه صدر بعنوان المكابرة مع المولى وجعل نفسه حاكما في قباله ، ونظيره حسن الفعل الذي يتحقق في ضمنه الاحتياط وإن لم يكن فيه حسن في نفسه بل وإن كان مرجوحا في حدّ نفسه.

نعم على مذهب من يقول إنّ معنى حرمة التشريع حرمة القصد والاعتقاد بكون ما ليس من الدين في الدين ، ولا يؤثّر الحرمة في الفعل على وجه التشريع لم يكن شاهدا لما نحن بصدده ، لكنّه خلاف مختار الأكثرين.

أقول : لو لم يثبت حرمة التشريع وحسن الاحتياط شرعا كما ثبت كان حالهما حال التجرّي في حكم العقل سواء ، ولو فرض حكم العقل بقبح التشريع دون التجرّي فلعله من جهة أنّ العبد تشبّه بالمولى في جعل الأحكام والتحليل والتحريم ، وذلك زائد على جهة مخالفة المولى في تكاليفه كما لا يخفى.

٧٦

ما به الاشتراك وهو المطلوب (١).

ويؤنس ما ذكرنا من حرمة التجرّي أنّ ارتكاب أحد المشتبهين بالمحرّم في الشبهة المحصورة مع تخلّفه عن المحرّم الواقعي قبيح في نظر العقل ، وكذا ارتكاب ما قامت بحرمته البيّنة مع عدم المصادفة (٢).

ويمكن الاحتجاج أيضا : مضافا إلى ما ذكرنا ، بأنّا إذا راجعنا وجداننا في حال المتجرّي والعاصي وقطعنا النظر عن خبث سريرتهما وعن خواصّ الفعل الذاتية من المفاسد النفس الأمرية ، نجد أنّهما متساويان في نظر العقل فيما هو مناط العصيان من جرأة العبد على المولى وهتكه وعدم المبالاة بشأنه في أمره ونهيه ، فإذا كان العاصي عاصيا بهذا المناط لزم أن يكون المتجرّي أيضا عاصيا بالمناط (٣).

__________________

(١) أقول : غاية ما استفيد من هذا الدليل عدم كون ما به الافتراق منشأ للاستحقاق ، وهو لا ينتج كون المنشأ ما به الاشتراك فقط ، لم لا يكون المنشأ اجتماع الأمرين ، اللهمّ إلّا أن يقال : نعلم بأنّ المنشأ خصوص ما به الاشتراك بشهادة حرمة التشريع ، وقد مرّ ما فيه فتدبّر.

(٢) أقول : إن ساعدنا حكم العقل بقبح التجرّي في المثالين مع عدم القطع بالحكم ، فالتجرّي فيما قطع به أولى بحكم العقل بالقبح ، فلا حاجة إلى هذا الاستيناس بما هو أخفى في حكم العقل ، ومع ذلك يرجع هذا إلى الدليل الآتي في المتن من حكم العقل بقبح التجرّي ، ونحن الآن بصدد تقريب الاستدلال على الحرمة بمقايسة التجرّي على العصيان الحقيقي بتحليل جهاته وادّعاء أنّ ما هو مناط العصيان في المعصية الحقيقة موجود في التجرّي كما لا يخفى ، هذا وسيأتي من المصنف الاحتجاج على الحرمة بوجوه ثلاثة أو أربعة مع جوابها.

(٣) أقول : وجوابه : أنّ وجداننا لا يساعدنا على الحكم بتساوي فعل العاصي والمتجرّي وإن حكمنا بتساويهما من حيث العزم والإرادة وقصد التمرّد والهتك ولا كلام في هذه ، إنّما الكلام في حرمة الفعل ولم تثبت.

٧٧

وقد أورد على ما اخترناه من حرمة التجرّي بأنّ الحكم بحرمة التجرّي غير معقول لوجوه :

الأول : أنّه يستلزم كون الشيء حراما بنفسه وباعتبار تعلّق القطع به أيضا ، وهو محال ضرورة استحالة اجتماع المثلين.

وقد مرّ هذا في مقدمات المسألة مع جوابه وهو أنّ المستحيل اجتماع المثلين في موضوع واحد والموضوع متعدّد هنا فتذكّر.

الثاني : أنّ صدور الخطاب بحرمة التجرّي ممتنع نظير تكليف الغافل والساهي ، حيث إنّ المكلّف لو التفت إلى أنّ فعله تجرّ يعني لا يصادف المعصية الواقعية ، انتفى موضوع التجرّي ، وإن لم يلتفت إلى ذلك لا يمكن تكليفه بترك التجرّي لعدم تفطّنه لموضوع التجرّي فضلا عن حكمه.

الثالث : أنّ عنوان التجرّي عنوان خارج عن قدرة المكلّف ، لأنّه لا يتحقّق في الخارج إلّا مع غفلة المكلّف عنه لما مرّ في الوجه الثاني من أنّه لو التفت انتفى.

والجواب عن الوجهين ما مرّ سابقا من أنّ الخطابات الواقعية تكفي في صحّة العقاب على مخالفتها ما لم يعتذر المكلّف على المخالفة بعذر صحيح ، والجهل بخصوص عنوان التكليف ليس عذرا مقبولا ، بل العلم بنوع التكليف كاف في تنجّز الحكم وصحّة العقاب عليه ، وحينئذ لو كان التجرّي حراما في الواقع يصحّ العقاب عليه وإن كان المكلّف جاهلا بعنوانه معتقدا بأنّه محرّم آخر ، وقد مرّ بيانه مستوفى في أوّل المسألة (١).

__________________

(١) أقول : المناسب أن يجعل الوجوه الثلاثة من أدلّة القول بعدم حرمة التجرّي لا الإيراد على أدلّة القول بالحرمة فتفطّن.

٧٨

قوله : ظاهر كلماتهم في بعض المقامات الاتفاق على الأوّل (١).

(١) تقريب الاستدلال بالإجماع يتمّ بمقدمتين :

إحداهما : مذكورة في المتن وهو الاتفاق على حرمة التجرّي في مسألة ظانّ ضيق الوقت ومسألة سلوك الطريق المظنون الخطر.

وثانيتهما : دعوى عدم الفرق بين التجرّي في المسألتين والتجرّي في غيرهما بالإجماع المركّب أو بالقطع بعدم الفرق ، وفي كلتا الدعويين ما لا يخفى من المنع.

قوله : فإنّ تعبيرهم بظنّ الضيق لبيان أدنى فردي الرجحان فيشمل القطع بالضيق (٢).

(٢) قد عرفت سابقا أعمّية محلّ الكلام في مسألة التجرّي من القطع وغيره ممّا هو حجّة واجب العمل في نظر المكلّف ، وحينئذ فلا يحتاج إلى تكلّف شمول الإجماع المذكور لصورة القطع أيضا.

قوله : فتأمّل (٣).

(٣) لعلّ وجهه أنّ الظن في هذه المسألة قد أخذ تمام الموضوع لحرمة السفر ، سواء صادف الواقع أو لم يصادف ، وقد مرّ خروج هذا القسم عن محلّ النزاع وهو واضح.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٧.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٣٧.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٣٨ لاحظ الهامش.

٧٩

قوله : ويؤيده بناء العقلاء على الاستحقاق وحكم العقل بقبح التجري (١).

(١) الفرق بين الدليلين ليس إلّا الإجمال والتفصيل ، فإنّ حكم العقل بقبح التجرّي حكم باستحقاق العقاب تفصيلا ، وأما استكشاف الاستحقاق من بناء العقلاء على الاستحقاق حكم بالاستحقاق إجمالا لعدم إدراك العقل على هذا جهة الاستحقاق تفصيلا.

قوله : فالمحصّل منه غير حاصل والمسألة عقلية خصوصا مع مخالفة غير واحد (٢).

(٢) يرجع هذا الكلام إلى جوابين عن الإجماع المذكور :

أحدهما : أنّ المحصّل من الإجماع غير حاصل خصوصا مع مخالفة غير واحد.

وثانيهما : أنّ المسألة عقلية لا يكتفى في مثلها بمثل الإجماع التعبدي لأنّه ليس بيانها من وظيفة الشارع. ولا يخفى ما في العبارة من الحزازة لأجل توسيط قوله والمسألة عقلية بين قوله فالمحصل منه غير حاصل وقوله خصوصا إلى آخره.

ثم لا يخفى أنّه لو قرر أصل النزاع في حرمة التجرّي وعدمه حتى تكون المسألة فقهية على أحد الوجوه المذكورة في تحرير محلّ النزاع كما مرّ سابقا في مقدمات المسألة فالاستدلال بالإجماع في محلّه ، وليست المسألة على هذا عقلية ، لكن الظاهر أنّ المصنف لم يجر على هذا التحرير ، هذا مضافا إلى جواز

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٨.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٣٩.

٨٠