حاشية فرائد الأصول - ج ١

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-015-2
الصفحات: ٦٩٤

يلزم من طرحه مخالفة عملية ، وبالجملة دعوى الحكومة ممنوعة كالصورة السابقة.

ثالثها : اجتماع مجرى التخيير والبراءة كما إذا شكّ في كون الشيء واجبا أو حراما ، فإنّه مجرى البراءة كما اختاره المصنف في رسالة أصل البراءة ومجرى التخيير على ما يظهر منه في موضع آخر ، والحق جريانهما معا.

وأمّا صور عدم جواز الاجتماع :

فأحدها : اجتماع الاستصحاب والتخيير ، فإنّ مورد التخيير مثلا فيما لو علم بوجوب أحد الشيئين فعلا ولم يمكن الاحتياط فيحكم العقل بالتخيير بعد عدم الترجيح ، ولا يمكن في هذه الصورة أن يكون التخيير مقتضى الاستصحاب ، لأنّ التخيير الواقعي لا يجتمع مع العلم بوجوب أحدهما معيّنا في نفس الأمر ، نعم قد يثبت بالاستصحاب موضوع التخيير كما لو كان الشيئان واجبين في السابق فيجري استصحاب وجوبهما ، فإذا لم يكن الاحتياط ممكنا يجري التخيير ، وهذا خارج عمّا نحن فيه إذ ليس الحكم الاستصحابي التخيير ، نعم لو كان الاحتياط ممكنا لم يكن مانع من جريان الاستصحابين ، لأنّ العلم الإجمالي بعدم وجوب أحدهما لا يؤثّر في المنع لعدم لزوم المخالفة العمليّة جزما ، والمخالفة الالتزامية غير مضرة وسيأتي بيانه.

وثانيها : اجتماع التخيير والاحتياط ، فإنّ مورد التخيير ما لا يمكن فيه الاحتياط ومورد الاحتياط ما أمكن فيه.

وثالثها : اجتماع البراءة والاحتياط فإن المباينة في مؤدّاهما واضحة.

٢١

الكلام في حجية القطع

قوله : فالكلام يقع في مقاصد ثلاثة : الأول في القطع (١).

(١) المراد بالقطع في محلّ الكلام الذي هو موضوع للمباحث الآتية الاعتقاد الجازم الذي لا يحتمل الخلاف ، فهو حينئذ أعمّ من اليقين المعرّف بالاعتقاد الجازم مع كونه مطابقا للواقع والجهل المركّب ، وأيضا أعمّ من أن يكون خلافه محالا ، أو مستلزما لمحال في نظر القاطع المسمّى بالعلم العقلي ، أو يكون عدم احتمال خلافه اتفاقيا المسمّى بالعلم العادي أحيانا ويقابله العلم العادي الذي يحتمل العقل خلافه إلّا أنّ العقل والعقلاء لا يعتنون بهذا الاحتمال أصلا ، ودونه الظنّ الاطميناني ، ولعلّ بعض الأبحاث الآتية جار فيهما أيضا مثل الحجية والطريقية بنفسه وسيأتي إن شاء الله.

قوله : لا إشكال في وجوب متابعة القطع (٢).

(٢) يعني القطع الذي أخذ طريقا إلى الواقع ، لا القطع الموضوعي الذي جعل

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٦.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٢٩.

٢٢

جزءاً للموضوع ، أو القطع الطريقي الذي أخذ موضوعا على ما سيأتي بيانهما.

ومعنى وجوب متابعة القطع وجوب العمل عقلا بالمقطوع به وجعل العمل مطابقا له ، وهذه القضية لعلّها من البديهيات الأوّلية.

وكذا لا إشكال في أنّ العمل على القطع يثبت العذر للمكلّف ـ بالفتح ـ سواء طابق الواقع أم لا ، وقاطع لعذر المكلّف ـ بالكسر ـ في العقاب ، وفي أنّ ترك العمل عليه قاطع لعذر المكلّف ـ بالفتح ـ ويثبت عذر المكلّف ـ بالكسر ـ في عقابه إن أصاب قطعه الواقع ، وإن أخطأ ففيه البحث الآتي في حرمة التجرّي.

والظاهر أنّ القضيتين أيضا من البديهيات ، وبعد ذلك يبقى الكلام في أمور نظريّة مثل أنّه مجعول أو منجعل ، وأنّه حجّة بالمعنى المصطلح أم لا ، وأنّ مجرد حصول صفة القطع هل يؤثّر في ثبوت حكم شرعي ولو كان جهلا مركّبا إلى غير ذلك ممّا ستقف عليه.

قوله : لأنّه بنفسه طريق إلى الواقع (١).

(١) لا شكّ في كون القطع طريقا إلى الواقع بمعنى إراءته وكشفه عن الواقع بحيث لا يمكن أن يجعله الشارع طريقا إليه ، لأنّه من قبيل إثبات الشيء لنفسه ، ولا نفي الطريقية عنه لأنّه من قبيل سلب الشيء عن نفسه ، إلّا أنّ تعليل وجوب متابعة القطع ما دام موجودا بذلك غير واضح ، لأنّه يمكن عدم حجية القطع بتقريب يأتي عن قريب مع أنّ صفة كشفه عن الواقع ممّا لا يمكن تخلّفه البتّة.

والظاهر أنّ منشأ الشبهة في عدم قابلية القطع لجعل الشارع إثباتا ونفيا بمعنى الحجية على ما هو مذهب المصنف عدم امتياز جهة الكاشفية وجهة

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٩.

٢٣

الحجية ، فأثبت ما هو من لوازم الجهة الأولى للجهة الثانية ، وأين أحدهما من الآخر فتدبّر.

قوله : وليس طريقيّته قابلة لجعل الشارع إثباتا ونفيا (١).

(١) يريد بذلك أنّ حجّيته ليست قابلة لجعل الشارع إثباتا ونفيا كما أشرنا بدليل تمسّكه بالأدلّة الآتية.

والحقّ أنّ حجيّة القطع من الأحكام المجعولة للعقل ولا يحتاج إلى جعل الشارع ولا إلى إمضائه بمعنى تقريره ورضاه به ، ولكن يحتاج إلى إمضائه بمعنى عدم الردع عنه فإنّه قابل للردع ، فهو حينئذ غير قابل للجعل بمعنى إنشاء حجيّته ابتداء نظير جعل الأدلّة الظنّية ، ولا للجعل بمعنى تقريره وإمضائه نظير بناء العقلاء على شيء هو بمرأى ومسمع من المولى وسكوته عنه بحيث يكشف ذلك عن رضاه به وهو في قوة الجعل أيضا ، لكنّه قابل للجعل بمعنى عدم الردع عن العمل به ، وبيان هذا المدّعى يحتاج إلى تمهيد مقدّمة وهي :

أنّ الجعل إمّا تكويني بمعنى إيجاد الشيء أو تشريعي بمعنى إنشاء أمر أو حكم ، وعلى التقديرين إمّا أصلي كإيجاد الأربعة مثلا وإيجاب الصلاة أو تبعيّ كإيجاد الزوجية للأربعة وإيجاب مقدّمات الصلاة فإنّهما تابعان للجعل الأوّل يحصلان بتحقّقه قهرا لا بجعل آخر غير الجعل الأوّل. وإن شئت فعبّر أنّ الشيء إمّا مجعول أو منجعل ، وعلى التقادير إمّا بسيط وهو ما يكون مفاد كان التامة بمعنى فعل الشيء وإيجاده مجرّدا عن اعتبار آخر ، أو مركّب وهو ما يكون مفاد كان الناقصة بمعنى فعل شيء شيئا وإيجاد شيء لشيء فإنّه يحتاج إلى اعتبار شيء آخر مع المجعول.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٩.

٢٤

مثال الأول تكوين زيد أو تشريع الوجوب حتى يصحّ قولك : كان زيد أي وجد ، وكان الوجوب أي ثبت ، ومثال الثاني خلق زيد طويلا أو قصيرا من الصفات غير اللازمة القابلة للانفكاك عنه ، وجعل الوجوب تعيينا أو تخييرا مثلا من الصفات غير اللازمة التي لا يكفي فيها جعل الموصوف فيكون منجعلا به حتى يصحّ قولك : كان زيد طويلا أو قصيرا ، وكان الواجب تعيينيّا أو تخييريا.

ثم الجعل التشريعي إمّا شرعي أو عقلي ، والشرعي واضح ، أمّا العقلي فكحكم العقل بأنّ الظلم قبيح يستحق فاعله الذمّ واللّوم ، لا بمعنى إدراكه ذلك فقط بل بمعنى تحريمه له تحريما إنشائيا حتى لو كان العقل بالفرض مولى قادرا على العقاب لعاقب عليه ، نعم حكم العقل الإرشادي راجع إلى إدراك المفسدة والمصلحة والحسن والقبح.

ثم الحكم العقلي ينقسم إلى مستقل كالمثال المذكور وغير مستقلّ كالاستلزامات مثل وجوب المقدّمة وحرمة الضدّ ونحوهما.

ثم المستقلّ إمّا تنجيزي قد حكم به العقل على جميع التقادير والأحوال الممكنة التحقّق في الخارج كالمثال المذكور ، فإنّ حكم العقل بحرمة الظلم مطلق لا يجوّزه في حال من الأحوال ، وهذا الحكم العقلي مما لا يمكن للشارع أن يحكم بخلافه حتى لو ورد منه حكم مخالف بظاهره لا بدّ من تأويله أو طرحه إن أمكن أحدهما وإلّا فلا يصدر منه ، وإمّا تعليقي يحكم به العقل على تقدير خاص كما إذا حكم بوجوب شيء ما لم يمنع الشارع عنه أو حرمته ما لم يرخص فيه ، وهذا القسم من الحكم العقلي معقول واقع كثيرا مثل حكم العقل بوجوب الاحتياط فإنّه معلّق على عدم ترخيص الشارع بتركه ، مثلا لو علمنا بوجوب شيء مردّد بين أمرين فالعقل قاطع بوجوب الاحتياط بعد فرض عدم

٢٥

سقوط الواجب بالاشتباه ، ومع ذلك لو رخّص الشارع بترك أحدهما لا محذور فيه في حكم العقل ، لا بمعنى جعل الآخر بدلا عن الواقع على تقدير المخالفة بل بمعنى عدم المؤاخذة على ترك الواقع لو تخلّف ، مع كون الواقع مطلوبا مطلقا لكن في صورة المخالفة ليس منجّزا على المكلف بحيث يترتّب عليه العقاب ، وفي الحقيقة موضوع حكم العقل في هذا القسم خاصّ وإلّا فحكمه ليس معلّقا في موضوعه ، إذا تمهّد ذلك فنقول :

إن أراد بقوله : وليست طريقيته قابلة لجعل الشارع أنّ كاشفيته غير قابلة للجعل الشرعي فهو كذلك ، ضرورة كونها مجعولة أو منجعلة بجعل تكويني لازمة لوجود القطع توجد بوجوده كما مرّ في الحاشية السابقة ، لكن لا كرامة في ذكره ولا يلائمه ما سيأتي من الاستدلال بلزوم التناقض.

وإن أراد أنّ حجّيته غير قابلة للجعل كما هو الظاهر بل المتيقّن من مراده ، ففيه أنّ العقل لا يحكم أزيد من وجوب متابعة القطع لو لا ردع الشارع عنه ، فإذا جاز للشارع الردع عنه فهو قابل للجعل نفيا.

والحاصل أنّ القطع حجّة يجب متابعته بحكم العقل المستقلّ المولوي أو الإرشادي ما لم يمنع الشارع عن العمل به أو يرخّص العمل بغيره من دليل تعبّدي أو أمارة ، فلو منع عن العمل به أو جعل طريقا آخر في قباله فلا يحكم العقل حينئذ بوجوب متابعته لارتفاع موضوعه ، ولهذه الدعوى شواهد في العرف والشرع يقرّبها إلى الأذهان :

منها : ما لو أمر المولى عبده بشراء البطيخ الحلو الجيّد مثلا وقال اعتمد في معرفة أنّه حلو جيّد بقول زيد ولا تعتمد برأيك فإنّه كثير الخطأ ، فإنّا نجد صحّة هذا التكليف وجعل الطريق الظني ومنع الطريق العلمي للمصلحة في طريق العقل

٢٦

والعقلاء ، وليس السرّ فيه إلّا ما ذكرنا.

ومنها : جواز جعل الطرق والأمارات في زمان انفتاح باب العلم قطعا ولم ينكره أحد ، والتقريب ما مرّ.

ومنها : أنّ الإمام (عليه‌السلام) كان لا يحكم بعلم الإمامة في كثير من الموارد بل بما يحصل له بالأسباب الظاهرية ، وقد ورد عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» (١) ويعلم منه بمقتضى الحصر أنّه لا يحكم بعلم النبوّة المقتضي لعدم خفاء شيء من الأشياء عليه على ما هو مذهب العدليّة ، وتوجيهه ما ذكر من أنّهم (عليهم‌السلام) منعوا عن العمل بعلمهم أو أمروا بالعمل بما يحصل لهم من الأسباب الظاهرية ، ألا ترى أنّ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان يعلم أنّ جمعا من أصحابه منافقون يظهرون الإسلام لمصلحة حقن دمائهم وأموالهم ونحوه إمّا بعلم النبوّة أو بإخبار جبرئيل حتى أنّه أخبر حذيفة بنفاق بعضهم ، ولا شكّ أنّهم كانوا كفّارا واقعا ومع ذلك كان (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يعامل معهم معاملة المسلمين يأكل معهم ويشرب وينكحهم النساء المسلمات ويورثهم من مورثهم إلى غير ذلك من الأحكام ، ولم يكن ذلك كلّه إلّا من جهة أنه لم يكن مكلفا بعلمه الكذائي بل بما يحصل له من الأسباب الظاهرية التي تحصل لكلّ أحد (٢).

ومنها : منع العمل بالقياس الوارد في الشرع بالأخبار المتواترة مع حكم العقل المستقلّ بوجوب العمل بالظنّ في زمان انسداد باب العلم بمقدّماته

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ٢٣٢ / أبواب كيفية الحكم ب ٢ ح ١.

(٢) أقول : اللهم إلّا أن يقال : إنّ الإسلام الذي هو موضوع الأحكام المذكورة ليس إلّا إظهار الشهادتين سواء كان موافقا للاعتقاد أو مخالفا وإن لم ينفعه ذلك في الآخرة كما هو مذهب جماعة من المتكلّمين.

٢٧

المذكورة في بابه بناء على الحكومة ، فقد أشكل عليهم الأمر في إخراج القياس في الغاية ووقعوا في حيص وبيص وتكلّفوا في الجواب بأجوبة كثيرة بعيدة أو ممنوعة ، والتحقيق في الجواب هو ما اختاره المصنف هناك من أنّ موضوع حكم العقل بوجوب العمل بالظنّ مختصّ بغير مورد القياس ممّا قد ثبت من الشارع منع العمل به بالخصوص.

ومنها : أنّه قد ثبت في الشريعة جعل ما ليس عندنا طريقا إلى الواقع طريقا كخبر الواحد مثلا ولو كان المظنون خلافه ، ومعنى جعله طريقا تنزيله منزلة الواقع بترتيب آثار الواقع عليه ، ولم ينكره أحد من هذه الجهة ، وحينئذ فأيّ فرق بينه وبين جعل ما هو طريق عندنا غير طريق بمعنى تنزيله منزلة غير الطريق بعدم ترتيب آثار الواقع ، وهذا من أوضح الشواهد وخاتمها والله أعلم.

فإن قلت : لو منع الشارع من العمل بالقطع على ما ذكرت يلزم التناقض في حكمه كما سيصرّح به المصنف وهو العمدة في دليله على مدّعاه ، بتقريب أنّ الأحكام الواقعية على ما هو الصواب من القول بالتخطئة عامّة شاملة لجميع المكلّفين في جميع الأحوال ليست مقيّدة بعلم وجهل واختيار واضطرار إلى غير ذلك من الأحوال ، وحينئذ إذا قطعنا بحرمة شيء مثلا وقال الشارع : لا تعمل بقطعك بل بقول فلان العادل الذي يزعم أنّه مباح ، فيلزم أن يكون ذلك الشيء في حكمه حراما غير حرام وهو التناقض.

قلنا : نجيب عنه :

أمّا أولا : فبالنقض بجعل الأصول والأمارات والأدلّة الظنّية ، فإنّ مثل هذا التناقض وارد عليها حرفا بحرف من غير تفاوت ، فإنّ التعبّد بالاستصحاب وأصالة البراءة وغيرهما مع تخلّفها عن الواقع كثيرا كيف يجتمع مع ثبوت

٢٨

الأحكام الواقعية غير مقيّدة بالعلم والجهل ، مثلا لو كان الشيء نجسا أو حراما في الواقع بجعل الشارع إلّا أنّه مستصحب الطهارة والحلّية ، فلمّا جعل الاستصحاب حجّة وكلّف التعبّد به فقد حكم بعدم النجاسة والحرمة ، وهو التناقض المذكور. وبمثل ذلك يقرّر التناقض في الأمارات والأدلّة الظنّية بلا تفاوت.

ومن هنا ذهب ابن قبة (١) من قدماء أصحابنا إلى أنّ التعبّد بخبر الواحد مستحيل في العقل لاستلزامه تحليل الحرام وتحريم الحلال ، فإنّه يريد هذا التناقض بعينه ، فاتّضح أنّ جميع ما ذكر بالنسبة إلى ورود التناقض من واد واحد.

وأما ثانيا : فبالحلّ ، وتوضيحه يحصل ببيان كيفية جعل الأصول والأدلّة الظنّية أوّلا كي يتّضح مراد الكلام فيما نحن فيه فنقول :

إنّ ظاهر جمهور العلماء وصريح جمع منهم أنّ الأحكام الظاهرية أحكام شرعية مجعولة في قبال الأحكام الواقعية الأوّلية ، يحصل بها الإطاعة والعصيان ويترتب عليها آثار أخر أيضا مما يترتّب على الأحكام الشرعية من الإجزاء وغيره ممّا ليس هنا محلّ ذكرها ، ومن هنا قد أشكل عليهم أمور منها : التناقض الذي نحن بصدده ، وقد أجابوا عن إشكال التناقض بوجوه عديدة لعلها تأتي فيما سيأتي في مقامات يناسبها بما فيها ، أوجهها ما اختاره المصنف في رسالة حجّية المظنّة وإن اختار غيره في أوّل رسالة أصل البراءة ، وهو أنّا نمنع كون مؤدّيات الأصول والأمارات وكذا الأدلّة الظنية أحكاما شرعية ، بل هي أحكام عذريّة بمعنى أنّ الشارع جعلها أعذارا للمكلّفين إذا سلكوها ، فإن أصابوا فقد

__________________

(١) حكى عنه المحقق في المعارج : ١٤١.

٢٩

أدركوا الأحكام الشرعية وإن أخطئوا فهم معذورون لا يعاقبون على الواقع ، وهذا نظير الأعذار العقلية كالجهل والعجز بعينه ، فكما أنّ العاجز أو الجاهل في حال عجزه أو جهله لم يجعل له حكم سوى حكمه الواقعي وكان معذورا بالنسبة إليه بحكم العقل ، فكذلك من عمل بمؤدّيات الأصول والأمارات لأنّ الشارع قد جعلها أعذارا فإن أصاب فقد رزقه الله خيرا ، وإن أخطأ فقد حرم منه وكان معذورا لا يصحّ عقابه على ترك العمل بالواقع كما لا يصحّ في الأعذار العقلية.

والدليل على ذلك أنّا إذا تتبّعنا أدلة حجية الأصول والأمارات والأدلة الظنّية لم نجد فيها ما يدلّ على أنّ مؤدّياتها أحكام شرعية مجعولة في مقابلة الأحكام الواقعية على ما يدّعيه الخصم ، بل مؤدّاها أنّه يجب العمل بها ، ولا يستفاد من ذلك أزيد مما ذكرنا من عدم جواز المؤاخذة على ترك الواقع على تقدير التخلّف وذلك ما أردنا.

والحاصل أنّه ليس في الشريعة إلّا أحكام واقعية يجب على المكلّفين قاطبة الاتيان بها ، يعاقبون على مخالفتها لا يقبل منهم غيره إلّا أن يأتوا بعذر صحيح من عجز وجهل من الأعذار العقلية ، أو العمل بأصل أو أمارة من الأعذار الجعلية ، ومن هنا يصحّ لنا أن نقول : إنّ الجاهل يصحّ عقابه على مخالفة الواقع لو لم يكن جهله عذرا كما لو كان مقصّرا ، والعالم لا يصحّ عقابه على المخالفة لو كان معذورا بعذر عقليّ أو شرعي.

إذا تحقّق ذلك وارتفع التناقض بحمد الله في جعل الأصول والأدلة نقول بمثل ذلك فيما نحن فيه ، فلو منع الشارع عن العمل بالقطع في مثل القطّاع مثلا لحكمة غلبة مخالفته الواقع التي يعرف الشارع من القطّاع فلم يجعل له حكما

٣٠

مخالفا لحكمه الواقعي حتى يحصل التناقض بينه وبين الحكم الواقعي بل أبدع له أن يعتذر إلى الشارع فيما إذا كان قطعه مطابقا للواقع وترك العمل عليه بأنّك منعتني عن العمل بقطعي ، فلا بدّ أن يقبل عذره ولا يعاقبه على تلك المخالفة.

فإن قلت : فرق بين القطع وغيره من الأصول والأدلّة الظنّية ، لأنّ القاطع قد انكشف عنده الواقع لا يمكن اعتذاره بغير إتيان الواقع وإلّا لم يكن مكلّفا به ، بخلاف غيره فإنّه لمّا كان الواقع مستورا عنه جاز أن يجعل له عذرا يعتذر به ، وحينئذ فلو منع الشارع القاطع عن العمل بقطعه يلزم التناقض.

وبوجه آخر مقام ثبوت الحكم الواقعي يغاير مقام ثبوت التنجّز في غير القطع من الأصول والأمارات والأدلّة الظنّية ، ضرورة ثبوت الأحكام الواقعيّة مطلقا حتى بالنسبة إلى الجاهل بها لبطلان التصويب إلّا أنّه ليست منجزة على الجاهل ، فيجوز جعل أصل أو أمارة أو دليل ظنّي في مقام إثبات التنجّز ، وهذا بخلاف القطع فإنّ مقام ثبوت الحكم الواقعي عين مقام ثبوت التنجّز لفرض القطع بالحكم.

وبعبارة أخرى الحكم الواقعي في غير القطع يغاير الحكم الظاهري ، بخلافه في المقطوع به فإنّ الحكم الظاهري عين الواقعي والحكم الواقعي عين الظاهري ، وحينئذ فمنع العمل بالقطع يستلزم التناقض.

قلت : بعد ما حقّقنا لك من أنّ حكم العقل بوجوب متابعة القطع معلّق على عدم منع الشارع عن العمل به ، لا يبقى مجال لهذا الاعتراض بتقريراته الثلاثة ، لأنه يجوز أن يعتذر المكلّف على مخالفة الحكم الواقعي على زعمه بمنع الشارع عن العمل بقطعه وأن الواقع غير منجّز عليه بعد منع الشارع ، إذ القطع ليس منجّزا للتكليف مطلقا بل في حال عدم المنع ، ومن الواضح أنّه لا تناقض حينئذ في

٣١

حكم الشارع لأنّ الحكم الواقعي ثابت مطلقا أدّى إليه الطريق أم لا ، وليس منعه عن العمل بالقطع مثبتا لحكم آخر مناقض للحكم الأوّل ، لأن مرجعه إلى منع التوصّل بذلك الحكم الواقعي من طريق قطعه لحكمة غلبة الخطأ في مثل القطّاع مثلا ، فإذا لم يعمل المكلّف القطّاع مثلا على طبق قطعه ففي موارد خطأ قطعه عن الواقع لا إشكال ، وفي مورد مصادفة قطعه للواقع معذور غير معاقب على ترك الواقع ، لا أنّ حكمه حينئذ خلاف الحكم الواقعي حتى يناقض ذلك الحكم الواقعي الثابت له.

نعم ، قد يقال : بأنّه يلزم التناقض في اعتقاد المكلّف الممنوع عن العمل بقطعه ، فإنّه بعد معرفة أنّ الواقع مطلوب الشارع مطلقا فإذا حصل له القطع بالواقع ومنعه الشارع عن العمل بقطعه وكلّفه بالعمل بخبر زرارة مثلا يحكم بأنّ الشارع تناقض في حكمه ، وحينئذ لا يرتدع بردعه لأنّه لا يعلم حقية حكمه الأوّل أو الثاني بعد بطلان التناقض.

وجوابه : أنّ المكلّف إن كان له من الفطانة وجودة الذهن ما أدرك به مثل هذا التناقض ، لعله يتفطّن لما ذكرنا في رفع التناقض أيضا ، وإن لم يتفطن لذلك فلا محذور أيضا ، لأنّ دليل المنع عن العمل بقطعه حاكم على دليل نفس الحكم ، فيعتقد بزعمه أنّ الشارع رفع اليد عن الحكم الواقعي في حقّه فيرتدع بردعه لا محالة.

فقد تحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ القطع ليس قابلا للجعل من حيث كشفه عن الواقع ، بل هو من هذه الحيثيّة منجعل بجعل تكويني ، وكذا من حيث حجيّته ووجوب متابعته ، بل هو من هذه الحيثية من مجعولات العقل لا يحتاج إلى جعل الشارع لأنّه من قبيل تحصيل الحاصل ، لكنّه قابل للجعل بمعنى قابليّته لردع

٣٢

الشارع عن العمل به على ما مرّ بيانه مفصّلا. وما اخترناه من قابلية القطع لمنع الشارع ليس ببدع من القول ، فقد صرّح به صاحب الفصول في قطع القطّاع في مبحث المستقلّات العقلية ، وكذا كاشف الغطاء في مبحث كثير الشكّ على ما حكاه عنه المصنف في ثالث تنبيهات المسألة (١) وكذا جمهور الأخباريّين المنكرين للملازمة بين حكم العقل والشرع بدعوى أنّ الشارع قد رخّص في ترك متابعة حكم العقل بدليل (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(٢) وإن كنّا نمنع مقالتهم هناك لمنع صحّة الأدلّة التي استدلّوا بها على المنع ، إلّا أنّه أمر معقول لو ثبت بدليل يجب الأخذ به ، ولعلّنا نقول بذلك في القطع الحاصل من القياس لأخبار المنع عن العمل به مطلقا ، ويشهد له ما ورد (٣) من ردع من قطع بالقياس على أنّ دية أربع أصابع المرأة أربعون بعيرا قياسا على دية الإصبع الواحد بعشرة وإصبعين بعشرين وثلاثة بثلاثين حتى قال لمن أخبره بأنّ في الأربع عشرين : أنّ الذي جاء به الشيطان بقوله عليه‌السلام : «إنّ السنّة إذا قيست محق الدين».

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ أمثال هذا الخبر في مقام الردع عن القطع والتنبيه على أنّ هذه المناسبات ليست علّة للأحكام ، بل هي مبنية على حكم خفيّة يعلمها جاعلها ، هذا.

وقد يستدل أيضا على عدم قابلية القطع للجعل بأنّه لو كان مجعولا لثبت بدليل لا محالة ، وغاية ما يفيد ذلك الدليل هو القطع فننقل الكلام إلى هذا القطع بمجعولية القطع الأول فإنّه أيضا يحتاج إلى الجعل إذ هو مثل القطع الأول ، فليس

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٦٥.

(٢) الإسراء ١٧ : ١٥.

(٣) الوسائل ٢٩ : ٣٥٢ / أبواب ديات الأعضاء ب ٤٤ ح ١.

٣٣

بنفسه طريقا ويلزم جعله طريقا مثل الأول ولا بدّ في إثباته من دليل آخر ، ثم ننقل الكلام إلى هذا الدليل وهلم جرّا فيتسلسل.

وجوابه على ما اخترناه من قابليّته للجعل بمعنى جواز الردع عنه واضح ، لأنّه إذا قطع بشيء ولم يردع عنه الشارع ثبت الحجة ولا يحتاج إلى شيء آخر ، وإن ثبت ردعه عنه وقطعنا به فهذا القطع الثاني حجّة إذا لم يردع عنه وهكذا ، ولا يلزم ردع الشارع عن جميع المراتب غير المتناهية حتى يلزم التسلسل ، بل بسبب بطلان التسلسل نعلم عدم صدور مثل هذا الردع عن الشارع. نعم ، لو قيل : بأنّ القطع مجعول إثباتا يلزمه التسلسل المذكور.

قوله : ومن هنا يعلم أنّ إطلاق الحجّة ، إلى آخره (١).

(١) تفريع عدم صحّة إطلاق الحجّة على القطع على ما سبق من أنّه بنفسه طريق إلى الواقع وليس طريقيّته قابلة لجعل الشارع إثباتا ونفيا غير واضح ، لأنّ وجه عدم صحّة الإطلاق على ما سيصرّح به أنّ الحجّة ما يوجب القطع بالمطلوب فلا يطلق على نفس القطع ، وهذا لا يفرّق فيه بين كونه طريقا بنفسه أو مجعولا.

وتوهّم أنّه لو كان مجعولا يكون مثل الأمارات وسطا في القياس ويطلق عليه الحجّة بذلك الاعتبار فلأجل كونه غير مجعول لا يكون وسطا فلا يطلق عليه الحجّة ، مندفع بعدم صيرورة القطع بسبب الجعل واسطة للقطع وسببا له ، كما أنّ التغيّر واسطة للقطع بحدوث العالم وسبب له ، وأيضا لو كان عدم إطلاق الحجّة على القطع متفرّعا على كونه طريقا بنفسه غير قابل للجعل إثباتا ونفيا يلزم عدم جواز إطلاق الحجّة على الدليل القطعي أيضا مع أنّه دليل في

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٩.

٣٤

الاصطلاح وحجّة قطعا على جميع التعاريف ، إلّا أن يقال : إنّ وجه التفريع كون القطع عبارة عن نفس انكشاف الواقع ولا يجري هذا في الدليل القطعي.

قوله : لأنّ الحجة عبارة عن الوسط (١).

(١) كأنّه يشير إلى ما ذكره الأصوليون في تعريف الدليل في مقام بيان ما يراد من مفردات التعريف المشهور للفقه بأنّه العلم بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة بأنّه ما يمكن بصحيح النظر فيه التوصّل إلى مطلوب خبري ، فإنّه ينطبق على الوسط في القياس كما ذكره المصنف ، لا ما توهّم من أنّه أشار إلى اصطلاح المنطقيّين ، إذ الحجة والدليل في اصطلاح المنطقي عبارة عن القياس المؤلّف من قضايا يلزمه لذاته قول آخر ، وأين هو من مجرّد الوسط في القياس. وقد يحكى عن المصنف في درسه اتّحاد اصطلاح الأصولي والمنطقي هنا في اللّب ، وإن كان لا يطلق الحجّة باصطلاح المنطقيّ إلّا على القضيتين فصاعدا دون الوسط فقط ، إلّا أنّ مناط الحجيّة والعلم بالنتيجة هو الوسط لا غير ، فلا فرق بين الاصطلاحين في المعنى واللّب.

وفيه : أنّه إن أراد من اتّحاد اصطلاح المنطقي والأصولي في اللبّ اتّحادهما بحسب التعريف المذكور للدليل في تعريف الفقه كما هو ظاهر كلامه فله وجه ، إلّا أنّا لا نسلّم أنّ الدليل باصطلاح الأصولي هو ذاك.

وإن أراد اتّحاد اصطلاح المنطقي مع ما بأيدينا من موارد إطلاق الأصولي الحجة والدليل فليس كذلك ، لأنّهم يطلقون الدليل على مطلق الكاشف عن الشيء كقولهم : دليل الحكم خبر زرارة أو الإجماع أو الاستصحاب أو أصالة البراءة إلى غير ذلك ، لا مجرّد الوسط في القياس ، مثلا قولنا : هذا خمر

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٩.

٣٥

وكلّ خمر حرام ، لا يقال في اصطلاحهم : أنّ الخمر دليل الحرمة مع أنّه وسط في القياس ، وكذا قولنا : هذا مشكوك الحرمة وكلّ مشكوك الحرمة مباح ، لا يقال : إنّ الشك حجّة للإباحة مع أنّه وسط.

ومن هنا يعلم أنّ إطلاق الحجّة على القطع موافق لهذا الاصطلاح الذي هو بمرأى ومسمع منّا ومن الأصوليّين ، ويعلم أيضا أنّ إطلاق الحجّة عليه كإطلاقه على الأمارات المعتبرة شرعا لكونهما جميعا كاشفين عن حكم العمل.

نعم ، قد يطلق الدليل عندهم على ما يقابل الأصول وعلى ما يقابل الأمارات التي يستدل بها في الموضوعات إلّا أنّه لا يطلق الحجة على هذين المعنيين ، وإن اطلق لم يفيد الخصم ، والظاهر بل المتيقّن أنّ الحجة والدليل مترادفان عند المنطقيين.

والحاصل أنّا نقول إنّ الدليل في اصطلاح الأصولي ما يكون واسطة في الإثبات فقط ولا يكون واسطة في الثبوت ، فيخرج مثل المثالين المتقدّمين لكونهما واسطة في الثبوت أيضا.

وبعبارة أخرى : ما يثبت به المطلوب بعنوان الطريقية فقط ولذا يعبّر عن الأدلّة بالطرق إطلاقا شايعا فيشمل الأدلّة الأربعة المصطلحة ، ويصحّ جعلها وسطا بتقريب يأتي عن قريب ، لا أنّ كل ما يصح أن يجعل وسطا فهو دليل في هذا الاصطلاح (١) ، هذا.

والذي يقتضيه النظر الدقيق أنّ الحجّة والدليل في اصطلاح الأصولي ليس

__________________

(١) أقول : والظاهر أنّ الحجة مرادف للدليل بهذا الاصطلاح عندهم أيضا ، وربما يقال : إنّها أعم منه لأنّهم يطلقونها على الاستصحاب أيضا دونه ، وهذا عندي ليس بواضح بل هما سواء في الإطلاق وعدمه.

٣٦

إلّا نفس الطرق للأحكام الشرعية ، ولا يمكن كونها وسطا للأحكام بوجه من الوجوه ، مثلا نقول : صلاة الجمعة واجبة بدليل الإجماع أو بدليل الكتاب أو السنّة ، فالإجماع والكتاب أو السنّة دليل الحكم ، ولا يصحّ جعل واحد منها وسطا للقياس إلّا ما يتوهّم بأنّه يصحّ أن يقال هذا ما قام به الإجماع وكلّ ما قام به الإجماع فهو ثابت ، وبهذا أيضا لا يثبت كون الإجماع وسطا إذ معنى لفظ هذا القياس في الحقيقة أنّ وجوب الجمعة حكم قام به الإجماع وكل حكم قام به الإجماع فهو ثابت ، فالوسط في الحقيقة هو الحكم لا الإجماع ، نعم له دخل في الوسط ، فإن كان المراد بكونه وسطا هذا المقدار فلا مشاحّة (١).

قوله : فقولنا الظنّ حجّة (٢).

(١) إن أراد أنّ الظنّ لو أخذ موضوعا حجّة يكون وسطا ، ففيه أنّ القطع أيضا كذلك كما مرّ منّا وسيجيء من المصنف صريحا ، وهذا ليس مراده قطعا هنا ، وإن أراد أنّ الظنّ الطريقي حجّة يكون وسطا حتّى يصح أن يقال هذا مظنون الخمرية وكل مظنون الخمريّة حرام ، فيقال له : إن أريد بكون الظنّ حجة ووسطا كونه كذلك بالنسبة إلى الحكم الظاهري الفعلي التنجيزيّ ، فالقطع أيضا كذلك فيصحّ أن يقال : إنّ هذا مقطوع الخمرية وكل مقطوع الخمرية حرام يعني بحسب الحكم الظاهري الفعلي التنجيزيّ ، إذ كما أنّ الظنّ المعتبر يجب تطبيق العمل

__________________

(١) أقول : لعلّ هذا الكلام من الزلّات التي لا يخلو منها أحد ، ألا ترى أنّ الوسط والدليل في قولنا العالم متغيّر وكلّ متغيّر حادث هو التغيّر لا المتغيّر ، والتعبير بالمتغيّر إنّما هو لتصحيح الحمل ، وكذا في قولنا هذا الحكم مجمع عليه وكلّ مجمع عليه فهو ثابت ، وسط القياس الذي هو الدليل والحجة هو الإجماع لا المجمع عليه ، وهكذا قولنا ما دل عليه الإجماع أو الخبر أو الكتاب ، فلا تغافل.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٢٩.

٣٧

عليه ظاهرا كذلك يجب تطبيق العمل على القطع ظاهرا ، غاية الأمر أنّ الحكم الظاهري هنا مطابق للحكم الواقعي باعتقاد القاطع ، بخلاف الظانّ فإنّه يحتمل أن يكون الحكم الواقعي مغايرا للحكم الظاهري ، وهذا لا أثر له.

وإن أريد أنّه حجة ووسط بالنسبة إلى الحكم الواقعي ففيه المنع البيّن ، لأنّ حكم الحرمة ليس مترتّبا على مظنون الخمرية بل على الخمر الواقعي ، وليس معنى جعل الشارع الظنّ حجة جعل مظنون الخمرية في المثال المذكور خمرا حقيقة ، بل فرضا وتنزيلا بحيث لو انكشف خطأ ظنّه انكشف عدم حرمته أيضا واقعا ، فلم يثبت حكم الحرمة لمظنون الخمرية حتى يكون الظنّ وسطا.

وإن أردت تعبيرا أوضح في المثال المذكور فقل هكذا : هذا خمر ظنّا وكل خمر ظنّا حرام ظنّا ، ومن الواضح أنّ الظنّ ليس وسطا هنا للحكم الواقعي ، بل موضوع الحكم الواقعي هو الخمر الواقعي ، وإن أبيت إلّا أن نقول إنّه صار وسطا باعتبار أخذ وصفه في الوسط فالقطع أيضا كذلك ، كأن يقال : هذا خمر قطعا وكل خمر قطعا حرام قطعا ، فقد أخذ وصف القطع في الوسط قيدا نظير أخذ الظن في المثال الأوّل.

فإن قلت : نختار الشقّ الثاني ونقول : كون الظنّ وسطا باعتبار أنّه بعد الجعل يصير موضوعا للحكم الظاهري قهرا ، بخلاف القطع الذي لا يحتاج إلى الجعل بل لا يمكن فيه الجعل ، فلا يتصوّر كونه وسطا بوجه من الوجوه.

قلت أوّلا : نمنع كون إطلاق الحجة على الظنّ باعتبار صيرورته طريقا للحكم الظاهري ، بل باعتبار كشفه وإراءته الواقع ، وهو بهذه الحيثية يساوي القطع فلا يصحّ كونه وسطا كما مرّ.

وثانيا : سلّمنا أنّ إطلاق الحجّة عليه باعتبار كونه موضوعا للحكم

٣٨

الظاهري ولهذا يصحّ جعله وسطا ، لكن يجري ذلك بعينه في القطع لأنّه أيضا موضوع للحكم الظاهري بوجوب متابعته ، ويصحّ جعله وسطا بهذا الاعتبار فيقال : هذا مقطوع الخمرية وكل مقطوع الخمرية حرام في الظاهر ، غاية الأمر اتّحاد الظاهر والواقع بزعم القاطع وهو غير مضرّ.

قوله : فيقال هذا مظنون الخمرية وكلّ مظنون الخمرية يجب الاجتناب عنه (١).

(١) قد يورد على المثال المذكور بأنّه ينبغي أن يجعل مؤدّاه في صورة قياسين لا قياس واحد فيقال : هذا مظنون الخمرية وكل مظنون الخمرية خمر لينتج أنّ هذا خمر وكلّ خمر يجب الاجتناب عنه فينتج أنّ هذا يجب الاجتناب عنه.

ويمكن الجواب عنه :

أولا : بأنّ القياس الثاني مطويّ يعرفه من يلتفت إليه من غير تكلّف ، ومثله في الأدلّة كثير ، ففيه مسامحة مألوفة.

وثانيا : بأنّه لا يصحّ ترتيب القياس على غير هذا الوجه على مذاق المصنف لأنّه منكر للأحكام الوضعيّة بالمرّة ، والمجعولات الشرعية عنده منحصرة في الأحكام التكليفية ، فمعنى جعل الظنّ حجّة عند المصنف ترتيب أحكام الواقع على المظنون ، فلمّا قام الظنّ بخمرية هذا المائع مع فرض حجيّة هذا الظن ، نقول هذا مظنون الخمرية وكل مظنون الخمرية خمر ، يعني بحكم الخمر في وجوب الاجتناب ، لا يراد غير ذلك ، وحينئذ فالقياس الصحيح أن

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٩.

٣٩

يعبّر ب : كل مظنون الخمرية يجب الاجتناب عنه كما في المتن.

نعم ، قد يشكل الأمر بناء على مذهب من يقول بمجعولية الأحكام الوضعية فيما نحن فيه بعد جعل الشارع الظن حجّة ، فيقال إذا حصل الظن بخمرية هذا المائع : هذا مظنون الخمرية وكل مظنون الخمرية خمر يعني تنزيلا بحكم الشارع بحجيّة الظن ليترتّب عليه أنّه حرام ، مع أنّ موضوع الحرمة في قوله حرّمت عليكم الخمر ، هو الخمر الواقعي لا الخمر التنزيلي ، فكيف يترتّب عليه الحكم ، بل يحتاج إلى جعل حكم آخر للخمر التنزيلي وهو مفقود.

والجواب : أنّ الجعل المتعلّق بالموضوع كاف في الحكم بترتّب الحكم أيضا ، لأنّ معنى جعل الشارع للظنّ المذكور حجّة جعل مظنون الخمرية خمرا واقعيا عنده ، فيترتّب عليه حكمه قهرا ، ولا يحتاج إلى جعل حكمه ثانيا فتدبّر.

قوله : وهذا بخلاف القطع لأنّه إذا قطع بخمرية شيء (١).

(١) هكذا كان عبارة المتن أوّلا ، ولمّا أعاد المصنّف النظر إليها ثانيا التفت إلى أنّ المقصود الأصلي الذي عنون به الكتاب هو القطع المتعلّق بالأحكام لا الموضوعات ، أضاف إلى المثال المذكور في الهامش مثالا آخر للقطع المتعلّق بالحكم وصارت عبارة المتن مع العبارة الملحوقة هكذا : لأنّه إذا قطع بوجوب شيء فيقال هذا واجب وكلّ واجب يحرم ضدّه أو تجب مقدّمته ، وكذلك العلم بالموضوعات فإذا قطع بخمرية شيء إلى آخره.

قوله : لأنّ الحجّة ما يوجب القطع بالمطلوب فلا يطلق على نفس القطع (٢).

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٩.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٣٠.

٤٠