حاشية فرائد الأصول - ج ١

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-015-2
الصفحات: ٦٩٤

حصول العلم في الوقائع تدريجا لا ينافي العلم الإجمالي بخلافه في بعضها كما نشاهد بالوجدان أنّا نعلم إجمالا أنّ بعض معلوماتنا خطأ.

وبعبارة أخرى : العلم الإجمالي بالتكاليف لا ينافي العلم أو الظن التفصيلي بالبراءة ، والسالبة الكلية إنّما تناقض الموجبة الجزئية لو كانتا إجماليتين أو تفصيا ليتين أو كانت الموجبة تفصيلية والسالبة إجمالية ، أما إذا كانت السالبة تفصيلية والموجبة إجمالية فلا تناقض ، وسرّه أنّ هذه السالبة الكلية ليست سالبة كلية حقيقة بل سوالب جزئية مستغرقة متفرقة ، والفرق أنّ جميع الأفراد في السالبة الكلية ملحوظة إجمالا وفي السوالب الجزئية وإن كانت مستغرقة تفصيلا.

ولما ذكرنا مثال في الخارج يشهد الوجدان بصحته وهو أنّه لو فرضنا أنّ أهل هذه البلدة كلهم أبيض سوى واحد منهم مثلا ، فإذا لقيت في ليلة مظلمة واحدا واحدا منهم فلا شكّ أنّك تظن من لقيته أوّلا أنّه أبيض بحكم الغلبة ، وكذا من لقيته ثانيا وثالثا وهكذا إلى آخر الأفراد ، غاية الأمر أنّك تعلم بخطإ بعض ظنونك أخيرا ، ولا يمكنك أن تقول بعدم حصول الظن في كل واحد واحد من الأفراد ، إذ ما يوجب الظن وهو الغلبة نسبته إلى جميع الأفراد متساوية بالفرض ، فإما ألا يحصل الظن في فرد واحد منها أو يحصل في جميع الأفراد ، والأول مما لا يلتزم به أحد فالثاني متعيّن (١).

__________________

(١) وأنا أقول : الإنصاف عدم صحة هذا الجواب ، وما ذكر من إمكان حصول الظن تدريجا على خلاف ما علم إجمالا مسلّم إذا كان الظان في كل واقعة غافلا عن سائر ظنونه ، وأما إذا كان ملتفتا ذاكرا لجميع ما ظنه فإنّ ذلك يمتنع مع العلم الإجمالي بالخلاف ، وما ذكر في المثال من تساوي نسبة الغلبة إلى جميع الأفراد فيجب حصول الظن بالأبيض في

٥٢١

ثم لا يخفى أنّ أصل السؤال إنّما يرد أن لو كانت الظنون الموافقة للبراءة فرضا تكليفا لشخص واحد كي يضادها العلم الإجمالي بالخلاف ، وإلّا فإن كانت هذه الظنون متعلقة بتكاليف أشخاص متعددين فالعلم الإجمالي بالخلاف في جملة المجموع غير منجز للتكليف ، وقد مرّ تحقيق ذلك في تحرير المقدمة الأولى.

ونظير السؤال المذكور يجري في مظنونات الوجوب ومظنونات الحرمة فإنّه قد يعلم إجمالا أنّ في مظنونات الوجوب محرّما وفي مظنونات الحرمة واجبا ، فإن كان ذلك بالنسبة إلى تكليف شخص واحد يجاب بالوجه الثالث.

ثم إنّه يمكن الاستدلال على المقدمة الثانية بوجه رابع وهو أنه لا وجه للرجوع إلى البراءة في كلي المسائل حتى فيما إذا كان الأصل في خصوص المسألة الاحتياط كالظهر والجمعة أو استصحاب الوجوب أو الحرمة ، لأن أدلة البراءة من عقلها ونقلها قاصرة عن شمول تلك الموارد.

لا يقال : إنّ وجه جريان البراءة كلية احتمال سقوط التكاليف في زمان

__________________

الجميع ، فيه أنّ يمكن أن يكون شرط حصول الظن من الغلبة عدم سبق حصول الظن بجملة من الأفراد ، ألا ترى أنّه إذا لقيت الفرد الأول تظن أنّه أبيض ولازمه الظن بأنّ الأسود في الباقي ، وإذا لقيت الفرد الثاني تظن بأنّه أيضا أبيض ولازمه أنّ الأسود في الباقي وهكذا إلى أن تشكّ في أنّ الأسود في الطائفة السابقة المظنونة البياض أو في الفرقة الباقية فلا يحصل الظن بعد ذلك في الأفراد الباقية إلّا مع الذهول عن المظنونات السابقة.

وأيضا لو كان الإشكال المذكور حقا لزم عدم كون الاستقراء القطعي حجة ، إذ لو لم يناف العلم التفصيلي بثبوت كل أب من تصفح الجزئيات إلى آخرها للعلم الإجمالي بثبوت بعض أليس ب كيف يمكن الاستدلال بهذه الكلية المستفادة من الاستقراء لإثبات حكم بعض الجزئيات مع أنهم اتفقوا ظاهرا على أنّ الاستقراء التام كالقياس برهان عقلي.

٥٢٢

الانسداد ظاهرا أو واقعا وظاهرا.

لأنّا نقول : إنّ هذا الاحتمال نجزم بعدمه كاحتمال سقوط التكاليف المعلومة بالتفصيل أيضا في زمان الانسداد.

والحاصل : أنّه يكفي في إثبات هذه المقدمة أن مقتضى القواعد بعد انسداد باب العلم الرجوع في كل مسألة إلى الأصل المقرر في موردها لا إلى البراءة الكلية ، فافهم.

قوله : وذكر المحقق القمّي (رحمه‌الله) في منع حكم العقل المذكور أنّ حكم العقل إما أن يريد ، إلى آخره (١).

(١) يمكن حمل كلامه على البراءة الواقعية خصوصا بالنسبة إلى قبل ورود الشرع فإنّه قرينة على إرادة حكم العقل بعدم الحكم واقعا ، وقوله : فدعوى كون مقتضى أصل البراءة قطعيا أول الكلام ، يعني حتى قبل ورود الشرع باعتبار احتمال كون الأصل في الأشياء قبل الشرع الحظر لا الإباحة ، وعلى هذا الاحتمال لا يرد عليه ما أورده المصنف من حكم العقل القطعي بالبراءة من جهة قبح العقاب بلا بيان ، فإنّ هذا الحكم العقلي في الظاهر ، بل يرد عليه أنّ دفع حكم العقل بالبراءة الواقعية لا ينفعنا بل يجب علينا دفع الرجوع إلى البراءة ظاهرا.

ويمكن حمل كلامه على البراءة الظاهرية كما فهم منه المصنف وأجاب عنه ، إلّا أنّه يمكن توجيهه بوجه لا يرد عليه ما أورده المصنف وهو أن يقال : إنّه يمكن ألا يكون المكلف قاطعا بالبراءة الظاهرية بأن يتردد بين مذهب الأخباري بوجوب الاحتياط في التكاليف المشكوكة وبين مذهب الأصولي

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٩٨.

٥٢٣

بإجراء البراءة بأن تتعارض عنده أدلة البراءة والاحتياط عقلها ونقلها ولم يرجح شيئا منهما.

أما الدليل العقلي على البراءة من قبح العقاب بلا بيان فيعارضه حكم العقل بوجوب دفع الضرر المظنون بل المحتمل وفرضنا عدم حكومة أحدهما على الآخر في عقله.

وأما الدليل النقلي على البراءة من الكتاب والسنة فيعارضه أخبار الاحتياط وفرضنا عدم حكومة أحدهما على الآخر في نظره ، فإنّ مثل هذا الشخص ليس قاطعا بالبراءة الظاهرية أيضا ، بل ولا ظانّا.

قوله : وإن أراد الحكم الظني سواء كان بسبب كونه بذاته مفيدا للظن (١).

(١) لا يخفى أنّ تقسيم حكم العقل إلى القطعي والظني بالبراءة في صدر الكلام ، لا يناسبه ردّ حكمه الظني بأنّه ظنّ مستفاد من ظاهر الكتاب والأخبار التي لم تثبت حجيتهما بالخصوص.

قوله : وإنّما ذهب من ذهب إلى وجوب الاحتياط ، إلى آخره (٢).

(٢) فساد ما زعموه غير خفيّ ، لأنّ المراد بالبيان في قولهم بقبح المؤاخذة من دون البيان هو بيان الحكم الواقعي ، والاحتياط ليس إلّا بيانا لحكم حال الجهل ، وهو أصل من الأصول في عرض أصل البراءة والاستصحاب ، ولو سلّم صحة ما زعموه أيضا وسلّم عدم خلافهم بقبح العقاب بلا بيان ، أيضا لا تصير المسألة إجماعية كما أراده المصنف ، غاية الأمر أنّه إجماع تقييدي لا حجية فيه ، ولو

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٩٨.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٣٩٩.

٥٢٤

سلّم كونه إجماعيا فهو في غير حال الانسداد فظهر فساده.

قوله : ومما ذكرنا ظهر صحة دعوى الإجماع على أصالة البراءة (١).

(١) والعجب أنّ المصنف مع دعواه الإجماع على البراءة المطلقة هاهنا ادّعى الإجماع على عدم الرجوع إلى البراءة في حال الانسداد في الدليل الأول على إثبات المقدمة الثانية.

قوله : وهذا الكلام خصوصا الفقرة الأخيرة مما يضحك الثكلى (٢).

(٢) لا يخفى أنّ ذلك الكلام أقرب إلى التحقيق مما أورد عليه المصنف ، لأنّ الفقرة الأولى منه وهو منع الإجماع على البراءة في المقام كلام متين قد عرفت وجهه ، وأما الفقرة الأخيرة فتوجيهه أنّ القدر المسلّم من حكم العقل بالبراءة فيما إذا لم يكن بيان في الواقع لا في مطلق ما لم نعلم فيه بيانا ، فيجب العلم بعدم البيان في حكم العقل بالبراءة ، ومع وجود الخبر الصحيح في مقابله مع احتمال كونه بيانا بل الظن كيف يحكم العقل بالبراءة؟ وقد مرّت الإشارة إلى توضيح منع حكم العقل بالبراءة في أمثال المقام مما يكون الجهل بالحكم من جهة عدم وصول البيان لا عدم صدوره.

وكيف ما كان لا يكون هذا الكلام بهذه المثابة من وضوح الفساد حتى يقال في حقه إنّه مما يضحك الثكلى.

قوله : لا يجري في جميع الفقه (٣).

(٣) هذا وجه ثامن لإثبات المقدمة الثانية بنفي البراءة بضميمة الوجه الرابع

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٩٩.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٤٠٠.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٤٠١.

٥٢٥

الذي أضفناه على الوجوه المذكورة في المتن وحاصله : أنّ الرجوع إلى أصل البراءة لا يتأتى في جميع المشتبهات بالنسبة إلى الأحكام التكليفية والوضعية ، غاية الأمر إمكانه فيما لو اشتبه حكم الفعل وجوبا أو تحريما فيمكن الحكم بالبراءة عن الوجوب أو الحرمة ، وأما مثل الأمثلة المذكورة في المتن ومثل حكم الشك بين الثلاث والأربع في ركعات الصلاة وأمثالها فأجنبي عن إجراء البراءة كما لا يخفى.

قوله : اللهمّ إلّا أن يتمسك في أمثاله بأصالة عدم ترتب الأثر (١).

(١) هذا أيضا لا يتم في بعض الأمثلة كما لو تردد المال بين انتقاله إلى الوارث أو الموصى له لو اشتبه حكمه شرعا ولو مع ورود الخبر الصحيح بحكمه ، والقول بأصالة عدم انتقاله إلى أحدهما فهو من المال المجهول المالك أو بلا مالك كما ترى.

قوله : أحدهما الإجماع القطعي على عدم وجوبه في المقام (٢).

(٢) هذا الإجماع نظير الإجماع الذي ادعاه في إثبات المقدمة الثانية ، فإن أراد منه الإجماع المصطلح فقد عرفت أنه على تقدير تسليمه إجماع تقديري لا حجية فيه ، مضافا إلى أنّ الظاهر أنّ سند المجمعين كلا أو بعضا لزوم العسر والحرج الذي ستعرف ما فيه ، ومثل هذا الإجماع ليس كاشفا عن رأي المعصوم (عليه‌السلام) البتة ، ولعل توهّم الإجماع إنّما نشأ من ملاحظة الشبهات الموضوعية كالشبهات التي تحصل للمكلف بالصلاة في القبلة والساتر وطهارة الثوب والبدن وأمثال ذلك ، ومن المعلوم عدم وجوب الاحتياط في

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٠٢.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٤٠٣.

٥٢٦

الشبهات الموضوعية.

قوله : الثاني لزوم العسر الشديد والحرج الأكيد (١).

(١) يعني لزوم الاحتياط عسر وحرج والحرج مرفوع في الشريعة فينتج أنّ لزوم الاحتياط مرفوع في الشريعة وهو المدعى.

وفيه : أنّه إن أريد من الحرج في المقام الحرج الشخصي فلا نسلّم لزومه إلّا في موارد قليلة ، ولا يحكم بارتفاع الحكم بدليل الحرج إلّا في تلك الموارد الحرجيّة لا في مطلق المشتبهات حتى في غير موارد الحرج لتثبت به حجية الظن مطلقا ، بل اللازم حينئذ الحكم بتبعيض الاحتياط. أما قلة موارد الحرج الشخصي في العمل بالاحتياط فلأنّ موارد الاحتياط في جميع الفقه وإن كانت في غاية الكثرة إلّا أنّ احتياط كل شخص بالنسبة إلى التكاليف الفعلية المنجّزة المتعلقة به في زمان واحد ليس بحرج غالبا ، إذ التكاليف المتعلقة بأصناف المكلفين الذين لم يدخل فيهم هذا الشخص أجنبية عنه ، وكذا التكاليف المتعلّقة بهذا الشخص مشروطة بشرط غير حاصل كالحج مع عدم حصول الاستطاعة ، أو مطلقة ولم يكن محلا للابتلاء كما مثّل المصنف بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر فإنّه ليس محل الابتلاء إلّا نادرا في دهر أو قرن لنادر من المكلفين ، وكما يحصل للمكلف بالنسبة إلى موارد الاحتياط التي يبتلى بها في جميع العمر فإنّ الذي يكون الشخص مكلفا به فعلا منجزا هو ما يكون مكلّفا به في وقته الذي هو فيه لا في الأزمنة الأخر ، فإذا لوحظ حال كل واحد من المكلفين بالنسبة إلى ما يتعلق به من التكاليف الفعلية المطلقة المنجزة قلّ ما يكون العمل بالاحتياط فيما يبتلى به في حال واحد وفي زمان واحد في

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٠٤.

٥٢٧

الشبهات الحكمية لا الموضوعية على ما عرفت وجهه عسرا وحرجا ، وإن حصل له مورد كان العمل بالاحتياط فيه حرجا يرفع اليد عنه في خصوص ذلك المورد ، وأين هذا من رفع اليد عن الاحتياط مطلقا حتى في غير مورد الحرج والعمل بالظن كما هو المدّعى.

وإن أريد الحرج النوعي كما هو ظاهر المتن وغيره ممن تمسّك في المقام بأدلة رفع الحرج فيكون معنى رفع العسر والحرج رفع الحكم الذي يكون ثبوته حرجا في حق نوع المكلف ، فيكون هذا الحكم مرفوعا حتى بالنسبة إلى من لا يكون حرجا عليه.

ففيه أوّلا : أنه لا دليل على هذه الكلية القائلة برفع الحكم الذي يكون حرجا نوعا ، وما يتوهم بل قيل من دلالة بعض الآيات والأخبار عليه مثل قوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(١) وقوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(٢) ورواية عبد الأعلى المذكورة في المتن على وجه وغيرها في محل المنع ، بل الظاهر منها أنّ الأحكام المجعولة في الشريعة ليست حرجيا نوعا وما كان حرجا نوعا لم يجعل الشارع ، لا أنّ الأحكام المجعولة يرفع اليد عنها في مواردها التي تكون حرجا نوعا. والحاصل أنّ الحرج حكمة لعدم جعل بعض الأحكام وعدمه حكمة لجعل بعضها ، لا علة يدور الحكم مدارها ، وستأتي لهذا زيادة توضيح إن شاء الله تعالى عن قريب.

وثانيا : يرد على التمسك بالحرج في رفع الاحتياط هنا ما أورده المصنف في التمسك بالحرج في رفع الاحتياط في الشبهة غير المحصورة ، فإنّه بعد

__________________

(١) الحج ٢٢ : ٧٨.

(٢) البقرة ٢ : ١٨٥.

٥٢٨

إيراده أوّلا بأنّ الآيات والأخبار ناظرة إلى الحرج الشخصي لا النوعي قال : وأما ما ورد من دوران الأحكام مدار السهولة على الأغلب فلا ينفع فيما نحن فيه ، لأنّ الشبهة غير المحصورة ليست واقعة واحدة حكم فيها بحكم حتى يدعى أنّ الحكم بالاحتياط في أغلب مواردها عسر على أغلب الناس فيرتفع حكم الاحتياط فيها مطلقا ، بل هي عنوان لموضوعات متعددة ، والمقتضي للاحتياط في كل موضوع هو نفس الدليل الخاص ـ إلى أن قال ـ وكأنّ المستدل بذلك جعل الشبهة غير المحصورة واقعة واحدة مقتضى الدليل فيها وجوب الاحتياط لو لا العسر ، لكن لمّا تعسر الاحتياط في أغلب الموارد على أغلب الناس حكم بعدم وجوب الاحتياط كلية.

وفيه : أنّ دليل الاحتياط في كل فرد من الشبهة ليس إلّا دليل حرمة ذلك الموضوع ، نعم لو لزم الحرج من جريان حكم العنوان المحرم الواقعي في خصوص مشتبهاته غير المحصورة على أغلب المكلفين في أغلب الأوقات كأن يدعى أنّ الحكم بوجوب الاحتياط عن النجس الواقعي مع اشتباهه في أمور غير محصورة يوجب الحرج الغالبي ، أمكن التزام ارتفاع وجوب الاحتياط في خصوص النجاسة المشتبهة ، لكن لا يتوهم من ذلك اطراد الحكم بارتفاع التحريم في الخمر المشتبه بين مائعات غير محصورة والمرأة المحرمة المشتبهة في ناحية مخصوصة ، إلى غير ذلك من المحرمات ، انتهى.

فيقال فيما نحن فيه أيضا : إنّ الاحتياط الكلي ليس واقعة واحدة وعنوان واحد بالنسبة إلى تكليف واحد حتى يرتفع بدليل رفع العسر والحرج ، بل لا بدّ من ملاحظة كل باب من الطهارة والصلاة والصوم والزكاة إلى غير ذلك مستقلا ، فكل باب يكون الاحتياط فيه حرجا يحكم برفعه ، وكل باب لا يلزم من الاحتياط فيه حرج يحكم بلزوم الاحتياط ، فيثبت من ذلك القول بتبعيض

٥٢٩

الاحتياط ، ولا يمكن استنتاج حجية الظن المطلق مطلقا.

وثالثا : أنّ أدلة رفع الحرج منصرفة إلى غير ما يكون ثابتا بحكم العقل من الاستلزامات بل المستقلات أيضا ، وبعبارة أخرى منصرفة إلى الأدلة الواردة في الكتاب والسنة لا الأدلة العقلية ، نعم لو كان العسر والحجر بالغا حدّ اختلال النظام فيكون مرتفعا بحكم العقل ، كان ذلك الحكم واردا على الأدلة بأسرها حتى هذا الحكم العقلي بوجوب الاحتياط ، بمعنى عدم حكم العقل بوجوب الاحتياط في مورد الاختلال فافهم.

ورابعا : أنّ المصنف قد صرّح في بعض تنبيهات الشبهة المحصورة بأنّه لا يجوز للشارع ترخيص ترك الاحتياط في جميع الأطراف مطلقا بعد العلم الإجمالي وفرض التنجّز وبعد حكم العقل بالاحتياط ، للزوم التناقض ، ولا في بعض الأطراف أيضا للتناقض المذكور ، إلّا إذا جعل الأطراف الباقية بدلا عن الواقع ، وعلى هذا فلا يجوز فيما نحن فيه ترخيص ترك الاحتياط بأدلة الحرج إذ لا إشعار فيها بجعل البدل كما لا يخفى.

فإن قلت : لعل أدلة رفع الحرج ترفع الحكم الواقعي واقعا فيما نحن فيه فلا يحتاج إلى جعل البدل.

قلت فيه :

أوّلا : أنّه لو كان كذلك لارتفع حكم الاحتياط رأسا ، ومفروض المصنف أنّ الحرج يرفع وجوب الاحتياط لا جوازه ، ولو كان الحكم الواقعي مرفوعا لم يكن لجواز الاحتياط معنى.

وثانيا : أنّ أدلة رفع الحرج لا يرفع إلّا ما كان حرجا ، ونفس الحكم الواقعي لا حرج فيه وإنّما الحرج في نفس الاحتياط ، فلا وجه لارتفاع الحكم

٥٣٠

الواقعي بل يرتفع الاحتياط الذي يكون حرجا.

وثالثا : أنّه ثبت بحكم المقدمة الثانية بقاء الأحكام الواقعية بواقعيتها والقول برفعها بالعسر خلاف الفرض.

وهذا الجواب الرابع إنّما يرد على مذاق المصنف هناك لا على مذاقنا ، إذ لا نسلّم حكم العقل بوجوب الاحتياط بعد العلم الإجمالي مطلقا ، بل نقول حكم العقل بوجوب الاحتياط حكم معلق على عدم ترخيص الشارع تركه أو جعل ما يكون عذرا للمكلف ، وتمام الكلام في محله ، وقد مرّ بعض الكلام في ذلك في حواشي رسالة القطع وأنّه يجوز للشارع ترخيص ترك العمل بالعلم التفصيلي فضلا عن الإجمالي فتذكّر.

قوله : قلت : مع أنّ لنا أن نفرض انحصار المجتهد في هذا الشخص (١).

(١) أو نفرض كثرة المجتهدين ولكن كلهم قائلون بانسداد باب العلم.

وفيه : أنا نلتزم حينئذ بجواز تقليد من يرى انفتاح باب العلم أو العلمي من الأموات ، والقول بأنّا نفرض الأموات طرا أيضا قائلين بالانسداد فاسد وإحالة على فرض غير واقع البتة يكاد أن يلحق بالفرض المحال عادة.

قوله : إن كلامنا في حكم الله سبحانه بحسب اعتقاد هذا المجتهد (٢).

(٢) هذا الجواب إنما يتم أن لو قلنا إنّ الأحكام الظاهرية المجعولة للجاهل لها جهة واقعية وشاملة لجميع المكلفين أصابها من أصابها وأخطأها من أخطأها ،

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٠٦.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٤٠٦.

٥٣١

وحينئذ يمكن أن يقال إنّ الاحتياط الذي أدّى نظر المجتهد الذي يرى انسداد باب العلم إليه حكم ظاهري لجميع المكلفين ، فإذا كان تعلّمه حرجا يكون الحكم بعده الرجوع إلى الظن.

وأما إذا قلنا بأنّ الأحكام الظاهرية حكم فعلي لخصوص من أدّى نظره إليها ومن قلّده فلا يتم الجواب ، لأنّ حكم المقلد الذي لم يقلد بعد هذا المجتهد الذي يرى انسداد باب العلم ليس الاحتياط حتى في نظر هذا المجتهد.

وتوضيحه : أنه لا ريب أنّ الأحكام الواقعية الأولية الثابتة في اللوح المحفوظ أحكام عامة شاملة لعامة المكلفين العالم منهم بها والجاهل ، وأما الأحكام الظاهرية سواء كانت مؤدّى الأمارات كما لو قام عليها خبر الواحد الذي جعلها الشارع حجة ، أو كانت مؤدى الأصول كالبناء على الحالة السابقة فيما إذا شك في بقاء ما ثبت ونحو ذلك ، فيمكن أن تكون أيضا أحكاما واقعية في المرتبة الثانية عامة شاملة لعامة المكلفين ، فمن أدى نظره إليها أصابها ومن أدّى نظره إلى خلافها يكون ما أدّى إليه نظره حكمه الظاهري في المرتبة الثالثة ، فهذا الشخص له أحكام ثلاثة طولية أحدها : نفس الواقع الأولي وافرض أنه الوجوب. ثانيها : مؤدّى الأمارة أو الأصل الذي لم يؤد إليه نظره وافرض أنه الحرمة. ثالثها : مؤدى الأصل الذي أدى إليه نظره وافرض أنه الإباحة ، والحكمان الأولان شأنيان والحكم الثالث فعلي.

ويمكن أن يكون مؤدى الأمارة والأصل حكما لخصوص من يراهما حجة ويتمسك بهما في حكم عمله ، وحينئذ فمن أدّى نظره إلى مؤداهما يكون ذلك حكمه ومن أدّى نظره إلى غيره يكون حكمه ذلك الغير فقط ، فلكل منهما حكمان أحدهما شأني وهو الحكم الواقعي الأولي وثانيهما فعلي وهو ما أدى

٥٣٢

إليه نظره ، فإن صحّ الاحتمال الأول تمّ جواب المصنف لأنّ حكم جميع المكلفين باعتقاد المجتهد الذي يرى انسداد باب العلم مع بقاء التكليف هو الاحتياط لو لم يمنع منه مانع ، فإذا كان الاحتياط حرجا في نفسه وباعتبار تعلّمه يكون حكم الجميع هو العمل بالظن بحسب اعتقاد ذلك المجتهد وإن لم يقلّده أحد ، وإن قيل بالاحتمال الثاني فالمقلد قبل التقليد لا حكم له قبل التقليد سوى نفس الحكم الواقعي الأوّلي ، لأنّ مؤدى الأصل حكم لخصوص من أدّى إليه نظره ومن قلده وهو ليس بأحدهما ، فلو سألت المجتهد المذكور أنّ حكم هذا المقلد الذي لم يقلّدك أو قلّد غيرك هل هو ما أدى إليه نظرك من الاحتياط بعد انسداد باب العلم باعتقادك ، فيقول لا بل ما أدى إليه نظري حكمي وحكم من قلّدني لا غير ، ويجوز للمقلد أن يقلّد غيري ممن يرى انفتاح باب العلم أو العلمي ، ولا يكون حكمه ما أدى إليه نظري من الاحتياط ثم الظن بعد كون الاحتياط حرجا في تعلّمه.

بقي الكلام في أنّ أي الاحتمالين أظهر فنقول : أما في الأمارات فالأظهر هو الاحتمال الأول ، لأنّ أدلة حجيتها مماثلة لأدلة ثبوت الأحكام الواقعية الأولية ، فخبر الواحد مثلا حجة مطلقا وطريق مجعول يجب تطبيق العمل على ما يفيده طابق الواقع أم لا ، لجميع المكلفين المجتهد والمقلد ، لكن المقلّد لمّا كان عاجزا عن استفادة مفاده ناب المجتهد منابه في استنباط مؤدّاه وإفتائه بما استنبطه للمقلّد ، وجاز للمقلد أخذه عن المجتهد والعمل عليه بأدلة جواز التقليد.

نعم لو اعتبر في موضوع دليل الأمارة وصفا غير متحقق في حق المقلّد أو مجتهد آخر فلا ريب أنّ الحكم لا يعمّهما مثل ما لو قيل : إنّ الخبر حجة لمن ظنّ بمفاده ظنّا فعليا ، وبعبارة أخرى : حجة لخصوص الظانّ بمضمونه منه ، فمن لم يحصل له الظن من الخبر من مجتهد آخر أو المقلد ليس حكمه مؤدى الخبر

٥٣٣

قطعا.

وأما في الأصول فالظاهر هو الاحتمال الثاني لأنّ موضوع أدلة الأصول هو الشاك بعد الفحص ، والمقلد وإن كان شاكا جاهلا لكن لا اعتبار بشكه ، لأنّه ليس من أهل النظر وهو شاك في جميع الأحكام الاجتهادية على حدّ سواء ، والموضوع لحكم الأصل هو الشكّ المستقر بعد الفحص الصحيح من أهل النظر ، ويمكن توجيه تقليد المقلد في مجاري الأصول أيضا بأنّ تقليده للمجتهد في حكم أصل البراءة مثلا يرجع إلى تقليده في عدم وجود الدليل في المجرى ، وتقليده في أنّ حكم المورد الذي لم يوجد فيه الدليل هو البراءة ، فيصير شك المقلد بمعونة التقليد في هاتين المقدمتين شكا صحيحا فعليا يكون مجرى الأصل ، لكن هذا مبني على جواز التقليد في غير نفس الحكم الشرعي مما هو من مباني الأحكام الشرعية من المسائل الأصولية وغيرها ، كأن يفتي المجتهد مثلا بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال لورود الأمر به في الخبر الصحيح الخالي عن المعارض عليه ، فلو علم المقلد بالفرض أنّ الأمر للندب فيقلده في ورود الخبر الصحيح الخالي عن المعارض الثابت الحجية ويحكم بندب الدعاء عند الرؤية.

قوله : كوجوب الترتيب بين الحاضرة والفائتة لمن عليه فوائت كثيرة (١).

(١) وجه لزوم الحرج أنه إذا دخل وقت الحاضرة تجب الحاضرة مطلقا ، فلو وجب الترتيب بينها وبين الفوائت الكثيرة المفروضة يكون مرجع التكليفين إلى وجوب فعل الحاضرة عقيب الفوائت بحسب الإمكان بالوجوب المطلق ،

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٠٦.

٥٣٤

ويلزمه وجوب فعل الفوائت إلى أن يتضيق وقت الحاضرة ، وهكذا بالنسبة إلى جميع أوقات الصلوات اليومية فيلزم الحرج.

قوله : لأنّ مرجعه إن كان إلى منع نهوض أدلة نفي الحرج (١).

(١) الفرق بين الشقّين المشار إليهما بقوله إن كان ، وإن كان مشكل كما لا يخفى ، والمناسب للتشقيق في المقام أن يقول : إنّ مرجعه إن كان إلى منع قاعدة الحرج رأسا ففيه أنّها ثابتة بالأدلة الثلاثة بل الأربعة ، وإن كان إلى منع تقدمها على العمومات المثبتة للتكاليف ففيه أنّ أدلتها حاكمة على العمومات المثبتة للتكاليف ، أو يقول : إن كان مرجعه إلى منع قاعدة الحرج وحكومتها على العمومات ففيه أنها ثابتة بالأدلة الأربعة وحاكمة على العمومات ، وإن كان إلى ثبوت المخصص في المقام لقاعدة الحرج ففيه أنّه لا معارض لها إلّا العمومات المحكومة.

قاعدة لا حرج

قوله : ولا يخفى أنّ منعه في غاية السقوط ـ إلى قوله ـ مما ثبتت بالأدلة الثلاثة بل الأربعة (٢).

(٢) وحيث انجرّ الكلام إلى التكلم في إثبات أصل القاعدة لا بأس بأن نشير إلى جميع ما يناسب المقام في التكلم في هذه القاعدة على وجه الاختصار في

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٠٧.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٤٠٧.

٥٣٥

ضمن مطالب :

المطلب الأول : في تحرير موضوع القاعدة ، اعلم أنّ لفظ الحرج والعسر والضيق والاصر الواقعة في الكتاب والسنة موضوعا للرفع متحدة المعنى أو متقاربة ، كما أنّ لفظ اليسر والسعة والسهل أيضا متحدة المعنى ظاهرا ، وقد وقع تفسير كل من الألفاظ الأربعة الأولة كالثلاثة الأخيرة أيضا بالآخر في كلام اللغويين ، ولا ريب أنّه يراد من الألفاظ الأربعة ما فوق اليسر ودون ما لا يطاق ، ولا يبعد أن يقال إنّ الضيق في العرف أخصّ من الكل وهو المرتبة العليا من العسر ، والحرج يشمل أدون منه ، والعسر يشمل أدون منهما أيضا فهو أعم الثلاثة ، ويرادف الاصر العسر ، ولا ينافي ذلك تفسير اللغويين بعضها ببعض لشيوع التفسير بالأعم بل الأخص في كلماتهم كما لا يخفى.

وكيف كان ، لا إشكال في إمكان التكاليف السهلة ووقوعها كما لا إشكال في عدم إمكان تكليف ما لا يطاق فضلا عن وقوعه على مذهب العدلية من قبح تكليف ما لا يطاق خلافا للأشاعرة ، وإنّما الإشكال في ثبوت التكاليف الشاقة غير البالغة حدّ ما لا يطاق الخارجة عن حد اليسر ، بعد عدم الإشكال في إمكانها وهو موضوع قاعدة الحرج.

المطلب الثاني : فيما استدل به لإثبات أصل القاعدة في الجملة ولو بالنسبة إلى أعلى مراتب المشقة فقط في مقابل قول الشيخ الحر في فصوله المهمة (١) بنفي القاعدة رأسا ، وتبعه في العوائد (٢) وإن لم نقل بحكومتها على العمومات المثبتة للتكاليف بل قلنا بتعارضها مع العمومات فإنّ لها مقاما آخر

__________________

(١) الفصول المهمة ١ : ٦٢٦.

(٢) عوائد الأيام : ١٨٧.

٥٣٦

يأتي إن شاء الله تعالى ، وقد عرفت أنّ المصنف ادّعى قيام الأدلة الأربعة على أصل القاعدة ونحن نشير إليها فنقول :

أما العقل فإنّه يقرر بأحد وجهين :

أحدهما : ما أشار إليه المصنف بقوله : لاستقلال العقل بقبح التكليف بما يوجب اختلال نظام أمر المكلف انتهى (١). ولا يخفى أنّ هذا الوجه يثبت القاعدة في الجملة يعني فيما يوجب ثبوت التكليف فيها اختلال النظام ، وبهذا الحكم العقلي أثبتوا وجوب الصنائع كفاية لإقامة نظام العالم.

والحق أنّ اختلال النظام إذا بلغ إلى حدّ ينجرّ إلى فناء نوع بني آدم ، أو كان اختلال نظام أمر المعاش موجبا لاختلال نظام أمر المعاد فلا ريب أنّ العقل يحكم بعدم جواز ما يوجبه لأنّه نقض لغرض الخلق وجعل التكليف ، وإن لم يبلغ إلى هذا الحد كالاختلال الذي يلزم من انتفاء بعض الصنائع ، فنمنع استقلال العقل بوجوب رفعه ، والمنازع مكابر أو مقلد لبعض من سبقه.

ثانيهما : ما أشار إليه في العناوين (٢) من أنّ ارتفاع التكاليف الحرجية مقتضى اللطف الواجب على الله على مذهب العدلية ، وثبوت التكاليف الشاقة لكونها موجبة للمخالفة والعصيان كثيرا جدا مناف للطف المفسر بما يقرّب العبد إلى الطاعة ويبعّده عن المعصية ، فإنّ التكليف الشاق مقرّب إلى المعصية مبعد عن الطاعة لأغلب الناس كما هو واضح ، ثم بالغ (رحمه‌الله) في توجيه هذا الوجه وتقريبه إلى الأذهان بذكر الأمثلة العرفية ودفع ما أورد عليه وما يحتمل أن يورد أشد المبالغة حتى ألحقه بزعمه بالواضحات.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٠٧.

(٢) العناوين ١ : ٢٨٦.

٥٣٧

وفيه أوّلا : أنّ هذا مبني على القول بوجوب اللطف ووجوب جميع الألطاف ، ونحن إن لم نمنع وجوب اللطف بالمرة نمنع وجوب كل لطف ، وبيانه موكول إلى محله.

وثانيا : أنا نمنع منافاة التكليف الحرجي في قليل من الموارد للطف ، وإنما نسلّم المنافاة لو كانت التكاليف بأسرها أو معظمها حرجيا ، فلا ينفع فيما أرادوه ومن رفع الموارد الحرجية بالنسبة إلى كل تكليف ثبت بعموم دليله أو إطلاقه ، ويؤيد عدم حكم العقل على رفع الحرج كلية بل يدل عليه ثبوت التكاليف الحرجية في الأمم السابقة كما نطقت به الأخبار الكثيرة بل ظاهر الآية في قوله : (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا)(١) على وجه مثل أنهم إذا أصابتهم قطرة بول قرضوا لحومهم بالمقاريض وأمثال ذلك ، بل ثبتت التكاليف الحرجية في هذه الشريعة أيضا كالجهاد والحج والصوم في شدة الحر وأمثالها ، ومنع كونها حرجا كما في العناوين مصرّا عليه مبالغا فيه في غير المحل جزما ، والقول بأنّ الحرج مقتض لرفع التكليف إلّا أنّ المصالح العظيمة ربما منعت من تأثيره أثره يهدم أساس القاعدة رأسا ، إذ كل مورد من موارد الحرج يحتمل أن يكون التكليف فيه مشتملا على مثل هذه المصلحة.

وما يقال من أنّا نستكشف المصلحة الكذائية في الجهاد ونحوه من أمر الشارع به وأما في غيره فالأصل عدمها.

فيه : أنّه يكفي في أمر الشارع بجميع التكاليف الحرجية العمومات المثبتة للتكاليف ، بل يمكن أن يقال إنه إذا اقتضت المصلحة أن يكلف الشارع التكليف الحرجي فعدمه قبيح.

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٨٦.

٥٣٨

وأما الإجماع فيظهر دعواه من المصنف ويشير إليه كلام العناوين وحكي عن غيرهما أيضا ، والمراد الإجماع على القاعدة الكلية بحيث لو ثبت وجود تكليف حرجي كان مخصّصا للقاعدة ، وإلّا فتحقق الإجماع في بعض صغريات القاعدة مما لا ينكر ولا ينفع في إثبات القاعدة البتة.

والجواب عن هذا الدليل : أنّ المحكي من الإجماع لا حجية فيه والمحصل منه لم نحصله ، بل لم نجد الإشارة إلى هذه القاعدة إلّا في كلمات بعض المتأخرين ، بل نجد عمل الكل مخالفا للقاعدة جزما ، فهل ترى أنّ أحدا من العلماء يفتي بعدم حرمة الزنا واللواط والسرقة وغيرها من المحرمات إذا كان تركها حرجا في حق المكلف ، أو يفتي بعدم وجوب الصلاة والصوم والزكاة وغيرها إذا كان فعلها حرجا على المكلف ، حاشا ثم حاشا.

نعم قد ثبت رفع بعض التكاليف الحرجية في بعض العبادات كالوضوء والغسل والانتقال إلى التيمم في الجملة بالنص والإجماع ، وأين هذا من الإجماع على القاعدة.

وأما الكتاب فاستدل منه بآيات منها قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها)(١) بناء على أنّ المراد من الوسع هو السعة والسهولة في مقابل الضيق كما حكاه في المجمع عن بعض وإن ضعفه.

وفيه : أنّ الوسع هو الطاقة كما صرّح به اللغويون والمفسرون ، فمفاده عدم تكليفه تعالى ما لا تطيقه النفس ، ولا كلام فيه.

ومنها : قوله تعالى : (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٨٦.

٥٣٩

قَبْلِنا)(١) بتقريب أنّ هذا دعاء من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وقد استجابه الله على ما يدل عليه جملة من الأخبار وسيأتي بعضها ، والإصر هو العسر والمشقة كما سبق.

وفيه : أنّ الإصر له معان منها المشقة والعهد والعقوبة والذنب ، ولا يبعد أن يراد منه العقوبة يعني العقوبات الدنيوية كالمسخ ونزول العذاب ونحوهما مما كانت في الأمم السابقة وقد ارتفعت عن الأمة المرحومة كرامة لنبينا (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كما دلّت عليه جملة من الأخبار ، ولا شاهد على أنّ المراد العسر والمشقة كما هو مبنى الاستدلال (٢).

ومنها : قوله تعالى في سورة البقرة : (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(٣) والتقريب واضح.

وفيه : أنه إشارة إلى حكمة رفع الصوم عن المسافر والمريض أداء وجعل بدله عدة من أيام أخر قضاء ، لا علة للحكم يدور مداره ، ولو كان علة فإن أريد منه العسر الشخصي لزم الحكم بوجوب الصوم على المسافر الذي لم يعسر عليه الصوم كالمقيم خمسة أيام أو سبعة إلى تسعة ، وعدم وجوب الصوم لمن عسر عليه الصوم في الحظر ، وهو كما ترى لا يقول به أحد ، والقول بأنّ ذلك خرج بالإجماع وإلّا كان مقتضى القاعدة ذلك ، فيه ما فيه لا يرضى به فقيه.

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٨٦.

(٢) أقول : قال في المجمع [مجمع البحرين ٣ : ٢٠٨] : قيل إنّ أصل الإصر الضيق والشدة انتهى. وهذا المعنى هو المفهوم منه عرفا والظاهر رجوع سائر المعاني إليه أيضا كما أشار إليه في المجمع ، وحينئذ فالآية ظاهرة فيما أراده المستدل ، اللهم إلّا أن يجاب بما يجاب به سائر الآيات الآتية كما سيأتي عن قريب.

(٣) البقرة ٢ : ١٨٥.

٥٤٠