حاشية فرائد الأصول - ج ١

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-015-2
الصفحات: ٦٩٤

قوله : وأضعف من ذلك تسمية هذه الأولوية (١).

(١) لعله يدّعي استفادة مناط الحجية أعني الظن من لفظ الدليل في آية النبأ كما يستفاد من قوله : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ)(٢) أنّ المناط هو الإيذاء ، فيكون من باب مفهوم الموافقة لا القياس المستنبط العلة ، وجوابه المنع عن ذلك.

قوله : أنّ المراد بالموصول هو خصوص الرواية المشهورة من الروايتين (٣).

(٢) توضيحه أنّ كون لفظ ما الموصولة للعموم مسلّم حيث لا عهد ، وفيما نحن فيه معهودية الرواية في السؤال والجواب واضحة وهي المراد من الموصولة ، فلا عموم يتمسك به في الشهرة الفتوائية ، ويؤنسك في بعد المقام من العموم الأمثلة التي ذكرها في المتن تنظيرا للمقام.

قوله : ومن هنا يعلم الجواب عن التمسك بالمقبولة (٤).

(٣) قد أجاب المصنف عن القرينة الأولى على إطلاق المجمع عليه على المشهور وبقيت قرينته الاخرى التي أشار إليها بقوله : ومما يؤيده إرادة الشهرة إلى آخره.

وجوابه : أنّ الإجماع الفتوائي لم يكن ريب في بطلان خلافه كما ذكره المستدل ، وأمّا الإجماع في الرواية يجوز أن يكون مخالفا للحق وأنّ الرواية المجمع عليها صدرت تقية أو أريد خلاف ظاهرها ويكون الحق في الخبر

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٣٢.

(٢) الإسراء ١٧ : ٢٣.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٢٣٤.

(٤) فرائد الأصول ١ : ٢٣٥.

٤٠١

الشاذ ، إلّا أنّ احتمالها بعيد ، فيصح أن يقال إنّ الرواية الشاذة مما فيه الريب (١).

واعلم أنّه استدل على حجية الشهرة بوجوه أخر ضعيفة حتى أنهاها بعض محشّي المتن إلى تسعة أقواها في النظر قول أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في نهج البلاغة : «والزموا السواد الأعظم فإنّ يد الله على الجماعة ، وإياكم والتفرقة فإنّ الشاذ من الناس للشيطان كما أنّ الشاذ من الغنم للذئب» (٢) ، ويقرب منه النبوي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «عليكم بالسواد الأعظم» (٣) ، بتقريب : أنّ الأخذ بقول المشهور التزام بالسواد الأعظم المأمور به.

وفيه : أنّ الروايتين ليستا في مقام الالتزام بالسواد الأعظم في الأمور الاجتهادية التي يطلب فيها البرهان لكل أحد ، فإنّه لا بدّ فيها من التماس الدليل على المدّعى ، كما أنّ المشهور تشبّث كل واحد منهم بذيل دليل ، وهذا المجتهد مماثلهم في وجوب تحصيل الدليل على ما يختاره ، نعم لو كان مقام علم وجوب الالتزام بقول الغير أو فعله من غير دليل يجب متابعة السواد الأعظم كالأخذ بقول المقوّمين أو غيرهم من أهل الخبرة وأمثال ذلك.

وبالجملة : نظر الروايتين إلى حال المقلّدة من الناس الذين شأنهم تقليد الناس ، فالزموا بتقليد السواد الأعظم ، والتشبيه بالغنم وأنّ الشاذ منه للذئب شاهد على ذلك.

__________________

(١) أقول : أصل استظهار أنّ الرواية الشاذة مما فيه الريب يعني الشك من قوله : «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» غريب ، فإنّ الريب كناية عن الفساد ، ألا ترى أنّ كل من يريد المبالغة في حقيقة مرامه وأنّ المطلب عنده يلحق بالبديهي يقول لا ريب في ذلك ، يعني أنّ خلافه قطعي البطلان ولا ريب في فساده.

(٢) نهج البلاغة : ٣٩٢.

(٣) سنن ابن ماجة ٢ : ١٣٠٣.

٤٠٢

تنبيهان :

الأول : قد يستشكل على القول بحجية الشهرة بقيام الشهرة على عدم حجية الشهرة ، فإنّ لازم حجية الشهرة مطلقا حجية خصوص هذه الشهرة ، ولازمها عدم حجية الشهرة مطلقا حتى نفس هذه الشهرة ، وما يستلزم وجوده عدمه فهو ممتنع.

وأجيب بوجوه :

أوّلها : أنّ الحجة من الشهرة هي الشهرات القائمة على المسائل الفرعية دون الأصولية ، وقضية حجية الشهرة مسألة أصولية والشهرة فيها لم يقم دليل على حجيتها.

وفيه : أنّ الأدلة التي أقاموها على حجية الشهرة لو تمّت دلّت على حجيّتها مطلقا ، كيف وإن كانت مختصة بالمسائل الفرعية لم تتم في موردها في المقبولة والمرفوعة ، لأنّ حجية خبر الواحد وترجيح أحد المتعارضين بالشهرة في الرواية أيضا مسألة أصولية كما هو واضح.

ثانيها : أنّ الشهرة القائمة على عدم حجية الشهرة لا تفيد الظنّ فلا تكون حجة.

وفيه : أنّ حجية الشهرة لو كانت من باب الظن الفعلي على طبقها كانت دائرة مدار الظنّ في سائر الشهرات ، بل ربما يحصل الظن الفعلي من خصوص هذه الشهرة القائمة على عدم حجية الشهرة دون الباقي ، وهذا المعنى خلاف مراد القائل بالحجية قطعا ، ولو كانت من باب الظن النوعي على ما هو الظاهر من أدلتهم فلا فرق بين أفرادها البتّة.

٤٠٣

ثالثها : ما اختاره في الفصول (١) وملخّصه : أنّ الشهرة القائمة على عدم حجية الشهرة من حيث شمولها لنفسها ساقطة ، إذ يلزم من وجودها عدمها وتبقى الشهرات الأخر سليمة.

وفيه : أنّ سقوط هذه الشهرة من حيث شمولها لنفسها لا يستلزم سقوطها بالمرة حتى بالنسبة إلى شمولها لباقي الشهرات ، بل اللازم تخصيصها بغير نفسها من الشهرات الباقية ، إذ يدور الأمر بين أن تكون هذه الشهرة مخصّصة بفرد واحد ودخول باقي الأفراد وعكسه يعني دخول الفرد الواحد وخروج الباقي ، ولا ريب أنّ الأول متعيّن لئلّا يلزم التخصيص المستهجن ، فيؤخذ بهذه الشهرة في إثبات عدم حجية باقي الشهرات ولا محذور.

ولا يخفى أنّ ما ذكر بعينه جار بالنسبة إلى دليل حجية الشهرة باعتبار شمولها لهذه الشهرة وسائر الشهرات نعلا بالنعل ، ولازمه حجية باقي الشهرات دون خصوص هذه الشهرة.

والتحقيق أنّ دليل حجية الشهرة لو كان لفظا عاما مثل كل شهرة حجة كان الأمر كما ذكر من لزوم التخصيص المستهجن على تقدير خروج سائر الشهرات عن تحت العموم وبقاء هذه الشهرة الخاصة فيه ، وما نحن فيه ليس كذلك لأنّ أدلة حجية الشهرة ليس موردها حجية خصوص الشهرة ، بل مؤدّى بعضها حجية مطلق الظنّ ، فهي في مرتبة الظن الحاصل من الخبر الواحد ، ومؤدى بعضها الآخر حجية مطلق الشهرة سواء كانت في الرواية أو في الفتوى ، فلو حكم بدخول فرد من الشهرة الفتوائية في ذلك العموم وخروج باقي الشهرات لا يلزم ما ذكر من التخصيص المستهجن لوجود الأفراد الأخر للعام غير الشهرة ،

__________________

(١) الفصول الغروية : ٢٥٤.

٤٠٤

بل لو كانت الشهرة مطلقا خارجة عن العموم لم يكن من التخصيص الباطل لبقاء الظنون الأخر أو الشهرة الروائية تحت عموم الدليل وذلك كاف كما لا يخفى.

وقد مرّ نظير هذا الإشكال في مسألة حجية الظواهر بالنسبة إلى الآيات الناهية عن العمل بالظن مع جوابه ، فتذكّر.

التنبيه الثاني : أنّه قد مرّ أنّ الشهرة تكون مرجّحة لأحد الخبرين المتعارضين بناء على القول بالتعدّي عن المرجّحات المنصوصة كما هو الحق ، وبيانه في محله ، وكذا تكون جابرة للخبر الضعيف لو علم استناد المشهور إليه ، لا إذا اتفق موافقة قولهم له أو لم يعلم ذلك واحتمل استناد كل واحد إلى دليل غير الآخر وغير هذا الخبر ، وبيانه أيضا موكول إلى محلّه ، وهل تكون الشهرة موهنة للخبر المعتبر في نفسه مع قطع النظر عن قيام الشهرة على خلافه أم لا ، فيه تفصيل ، فإن علم أنّ الخبر كان بمرأى ومسمع منهم ومع ذلك أفتوا بخلاف مضمونه كشف ذلك عن قدح في الخبر وإن كنّا لا نعرفه ، بل كلما زاد صحة زاد وهنا بسبب إعراضهم عن مثله ، إلّا أن يعلم أنّ وجه إعراضهم شيء آخر من شبهة عقلية أو نقلية غير معتبرة عندنا ، وإن لم يعلم ذلك بل احتمل عدم ظفرهم بالخبر أو زعم معارضته بما لا نراه معارضا فليست موهنة للخبر.

وأما انجبار دلالة الخبر بالشهرة لو كانت ضعيفة فلو كشف فتاواهم عن وجود قرينة على المراد وقد خفيت علينا فهو حجة ، وإلّا فلا وجه للانجبار أصلا.

٤٠٥

حجية خبر الواحد

قوله : ومن جملة الظنون الخارج بالخصوص عن أصالة حرمة العمل بغير العلم خبر الواحد (١).

(١) خبر الواحد في اصطلاحهم هو ما لم يبلغ حدّ التواتر وإن كثرت رواته أو أفاد العلم بانضمام القرائن إليه. ولا بأس بأن نشير إلى تعريف الخبر المتواتر وتحقيقه ووجه حجيته إجمالا وإن كان خارجا عن مقصود المتن فنقول :

قد عرّفوا المتواتر بأنّه خبر جماعة يفيد بنفسه العلم بصدقه ، قالوا والتقييد بقولهم بنفسه للاحتراز عن خبر جماعة علم صدقهم بالقرائن الخارجية ، والمراد بالقرائن الخارجية ما لا ترجع إلى أحوال الخبر لكونه حاكيا عن الأمور الحسية القريبة الوقوع ، أو المخبر لكونه عادلا أو صدوقا متحرزا عن الكذب ، أو المخبر عنه لكونه نبيا أو وصيا لائقا بما يخبر عنه من المعجزات وخارق العادات ونحو ذلك ، وأما لو علم صدقهم بمثل هذه القرائن وتسمى القرائن الداخلة فلا يخرج الخبر عن كونه متواترا.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٣٧.

٤٠٦

وعرّف أيضا بأنّه خبر جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب ، والمراد بتواطئهم مجرد موافقتهم على الكذب ولو من غير قصد وبناء على الكذب ، فلا يرد أنّ امتناع تواطئهم على الكذب لا ينافي كذبهم بدون التواطي.

وأورد في الفصول (١) على التعريفين جميعا بصدق الحدّ مع قلّة المخبرين كما إذا كانوا ثلاثة أو أربعة وحصل العلم بخبرهم بضميمة القرائن الداخلة لقوّتها مع أنّه لا يسمى عرفا متواترا ، إذ يعتبر فيه أن يكون للخبر كثرة يستند إليها العلم ، ولذا عدل عن التعريفين وعرّفه بأنّه خبر جماعة يفيد العلم بصدقه لكثرتهم ، لإخراج ما أورد على التعريفين ، ثم أضاف في آخر كلامه قيد «عادة» لإخراج القرائن التي تستند إلى أحوال السامع الموجبة لسرعة قطعه بالخبر أو بطئه فإنه لا عبرة بها في تحقق التواتر.

ولا يخفى أنّ مقتضى التعاريف المذكورة عدم وجود حدّ معيّن للكثرة المعتبرة في التواتر ، بل يختلف باختلاف المقامات باعتبار القرائن الداخلة عدما ووجودا قلة وكثرة.

وهل يختلف باختلاف الأشخاص السامعين للخبر حتى يكون خبر واحد شخصي متواترا واقعا عند شخص باعتبار إفادته للعلم به له بملاحظة القرائن الداخلة غير متواتر عند شخص آخر واقعا لعدم إفادته للعلم له ، أو لا يختلف بذلك ، بل الخبر المذكور إما متواتر واقعا ومن لم يحصل له العلم فهو خارج عن العادة الغالبة أو لم يلاحظ القرائن الداخلة حقّ الملاحظة ، أو غير متواتر ومن حصل له العلم كان خارجا عن العادة أو اغترّ ببعض القرائن التي لا تصير سببا لحصول العلم عادة؟ الظاهر أنّ للتواتر حدا واقعيا يفيد العلم عادة لكل من علم

__________________

(١) الفصول الغروية : ٢٦٧.

٤٠٧

بذلك الحد واطّلع على القرائن الداخلة أصابه من أصابه وأخطأه من أخطأه.

ويبقى الكلام في وجه اعتبارهم عدم انضمام القرائن الخارجية إلى الخبر في حصول العلم ، وقد جعلوا منها ما يستند إلى أحوال السامع ، وقولهم بأنّ انضمام القرائن الداخلة لا يقدح في تحقق التواتر إذا أفاد الخبر العلم بصدقه بملاحظتها ، واعتذر عنه في الفصول بأنّ المراد بالقرائن الداخلة ما لا ينفكّ عنه الخبر غالبا من أحوال الخبر والمخبر والمخبر عنه.

وكيف كان ، لا ريب أنّه لم يرد نصّ ولا انعقد إجماع شرعي متعلّقا بالخبر المتواتر كي يلزمنا تحقيق موضوع المتواتر ، وليست حجيّته بتعبّد شرعي أو تعبّد عرفي عقلائي أمضاه الشارع حتى يجب علينا معرفة حدوده جمعا ومنعا ، بل الوجه في اعتباره حصول العلم المسبب عنه فيدور الأمر مداره ، ولا فائدة في التعرّض لما ذكروا من شرائطه وما يعتبر فيه وما لا يعتبر بحسب ما اصطلح عليه أرباب المعقول وعلم الأصول ، بل العلم الحاصل من الخبر المتواتر ، أو الخبر الواحد المحفوف بالقرائن الخارجية أو الداخلية ، أو الحاصل من نفس القرائن بدون انضمام الخبر عندنا سواء في الحجية ، وما لم يحصل العلم لا حجة ، وإن كانت هناك أخبار متواترة في العادة والقرائن الداخلية والخارجية المفيدة للعلم لسائر الناس (١).

__________________

(١) أقول : الظاهر بل المتعيّن أنّ غرضهم في هذا المبحث تعيين ما هو من مبادئ حصول العلم نوعا حتى يصحّ بذلك إلزام الخصوم فيما ينكرونه ، ألا ترى أنّ المنطقيين الذين هم الأصل لهذا الاصطلاح بعد تقسيمهم للقياس بحسب المادة إلى البرهان والجدل والخطابة والشعر والمشاغبة والسفسطة ، وتفسيرهم للبرهان بأنّه ما أخذ مقدّماته من اليقينيات ، أخذوا في حصر مبادئ اليقين في الأوليات والمشاهدات والوجدانيات والتجربيات

٤٠٨

والخطب الأعظم في تحقيق موضوعه كما تعرّض له المحققون من أهل المعقول والأصوليين ، قالوا : إنّه يعتبر في المتواتر أمور :

الأول : أن يبلغ المخبرون في الكثرة حدا يمتنع كذبهم عادة ولو على سبيل السهو والخطأ ، ولا حصر لأقل عدد يحصل به مسمى التواتر في علمنا ، بل المرجع فيه إلى العادة ، والأظهر أنّ له حدا واقعيا لا نعلمه ، وإنما القدر المعلوم لنا أنّ خمسة وستّة مثلا لم يبلغ عدد التواتر ، وخمسمائة مثلا بلغ حدّ التواتر ، ويبقى بين طرفي اليقين مراتب كثيرة مشتبهة وكم له من نظير ، فإنّ جل المفاهيم أو كلها لها مصاديق متيقّنة وأفراد مشتبهة في صدق المفهوم عليها حتى مفهوم الماء والأرض والجدار والشجر ونحوها من المفاهيم الواضحة.

وأما حصر بعضهم عدد التواتر في خمسة وبعضهم في اثني عشر وأخر في عشرين وأخر في أربعين وأخر في سبعين وأخر في ثلاثمائة وثلاثة عشر كلها ضعيفة ، واستند كل منهم إلى وجوه ضعيفة فاسدة لا يلتفت إليها ، كما أنّ من قال بأنّه يعتبر أن يكونوا عددا لا يمكن حصرهم أيضا في غاية السقوط ، فالأولى

__________________

والحدسيات والمتواترات ، فالمتواتر كالمشاهدة في كونه من مبادئ العلم الأولية يعني الضرورية ، فعلى هذا تحقيق موضوعه من المهمات خصوصا في مقام إلزام الخصم.

ومن هنا ذكر صاحب الفصول أنّ ثمرة وجود الخبر المتواتر عند من كان مسبوقا بشبهة أو تقليد على خلافه ولم يكن يحصل له العلم بمضمونه إتمام الحجة عليه ، وهو كلام في غاية الجودة ، كما في المشاهدة فإنّه لو اعتذر المشاهد بعدم حصول العلم له من تلك المشاهدة لم يسمع ذلك منه البتّة ويعدّ سوفسطائيا ، ولو أبدى شبهة ينسب إلى الوسوسة أو العناد للحق ، وهكذا حال التواتر نعلا بنعل.

فإذن لا ينبغي التكلم والتشكيك في حجيّة الخبر المتواتر كما لا يشكّ في اعتبار الحسّ والمشاهدة ، والمنكر سوفسطائي لا يعدّه العقلاء من أهل العقل والنظر وقابلا للمناظرة والجدل.

٤٠٩

الإعراض عن التعرّض لهذه الأقوال وأدلّتها والاشتغال بما هو أهم منها.

الثاني : أن يكون إخبارهم عن محسوس أو ما كان له آثار ولوازم محسوسة كالعدالة والشجاعة والسخاوة ونحوها ، فلا يكون الإخبار عن الأمور العقلية ضرورية كانت ككون الكل أعظم من الجزء والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان ، أو نظرية ككون الجسم مركبا من الهيولى والصورة ، وبطلان الجزء الذي لا يتجزّى ، وتناهي الأبعاد وأمثالها متواترا في الاصطلاح وإن بلغ كثرة المخبرين بها ما بلغ ، ولا ينافي ذلك حصول العلم أحيانا ببعض المذكورات وغيرها من إخبار الجماعة لو علم أنّهم يستندون فيه إلى المدارك الواضحة التي يبعد الخطأ فيها كل البعد كبعض مسائل الحساب والهندسة ، إذ ليس كل ما يفيد العلم مسمى بالتواتر.

والسر في اعتبار هذا الشرط واضح ، لأنّ مناط التواتر المصطلح حصول العلم العادي لكل من اطّلع عليه لأجل كثرة المخبرين ، وليس ذلك إلّا في المحسوسات أو ما يرجع إلى المحسوسات لندرة الخطأ فيها ، وأما الأمور العقلية فإنّها محل لكثرة الخطأ فيها نوعا فلا يدخل في الضابط المذكور.

هذا ، مع أنّه استقرّ الاصطلاح على ذلك فلا يقدح دخول بعض ما لم يكن متواترا في مناطه ، وسيظهر أنّ الاصطلاح على ما ذكر في محلّه ، وهكذا كان المناسب في جعل الاصطلاح.

الثالث : ألا يكون السامع عالما بالواقعة قبل سماع الخبر وإلّا لم يفده إخبارهم للعلم لكونه تحصيلا للحاصل.

ولا يخفى أنّه لا كرامة في هذا الشرط بل ساقط من أصله ، لأنّ الخبر المتواتر ما كان من شأنه إفادة العلم بنفسه لا ما كان مفيدا للعلم فعلا ، وقد مرّ أنّ

٤١٠

المقصود بيان أنّه من مبادئ العلم الضروري كالحسّ والتجربة ، ألا ترى أنّ الحسّ أيضا قد لا يفيد العلم الفعلي لسبق حصول العلم من سبب آخر ، ويشهد لما ذكرنا أنّهم يسمّون بعض الأخبار متواترا بقول مطلق ولا يلتفتون إلى أنّه أفاد العلم لهم فعلا لعدم سبق حصول العلم أم لا ، وهذا واضح بعد التنبّه.

الرابع : ألا يكون السامع قد سبق إليه شبهة أو تقليد أدّاه إلى عدم الوثوق بالخبر ، ذكره جماعة دفعا لما أورد عليهم في دعوى تواتر معجزات نبيّنا (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وتواتر النصّ الجلي على خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (سلام الله عليه) من أنّه لو كانت هذه الأخبار متواترة كانت مفيدة للعلم بالنسبة إلى المنكرين لهذه الأمور.

فأجيب عن ذلك بأنّ المنكرين كانت أذهانهم مسبوقة بالشبهة ، فلو كانت أذهانهم خالية عن الشبهة أو بذلوا جهدهم في تخلية الذهن أفادهم العلم كالمعتقدين للقضايا المزبورة. والحاصل أنّ سبق عقد القلب بالشبهة مانع عن حصول العلم وإلّا فالمقتضي تام.

قال في الفصول (١) : والتحقيق أنّ هذا الشرط شرط في حصول العلم بالتواتر لا في تحققه ، فإنّا نقطع بأنّ الأخبار المذكورة متواترة عند كثير ممّن لا يقول بمقتضاها من الكفار والمخالفين وإن أنكروا كونها متواترا لعدم إفادتها للعلم عندهم ، ولهذا نقول إنّ الحجة قد تمّت ولزمت في حقّهم ، إذ لا عبرة بشبهة الجاحد بعد وضوح مسالك الحق وظهورها ، انتهى.

وكلامه هذا يؤكد ما ذكرنا من اعتبار شأنية إفادة العلم في موضوع التواتر لا فعليتها.

__________________

(١) الفصول الغروية : ٢٦٨.

٤١١

والتحقيق أنّ المنكرين لأمثال تلك القضايا المزبورة مختلفون ، فمنهم من لم يحصل لهم العلم بالتواتر لأنّهم لشدة حبّهم لمعتقدهم وعنادهم للحق المخالف لآرائهم واغراضهم لا ينظرون ولا يجتهدون في معرفة التواتر ولا يطيبون نفسا في العلم ، بخلاف معتقدهم بالنظر إلى ما ربما يحصل منه هذا العلم ، فعدم حصول العلم له من جهة تقصيرهم في النظر الواجب عليهم بتتبّع طرق العلم المألوفة التي منها التواتر ، فجهلهم بالقضية مستند إلى جهلهم بموضوع التواتر عن تقصير ، وقد يكون عن قصور أيضا وحينئذ ينكرون التواتر في الخبر.

ومنهم من اطّلعوا على الخبر المتواتر قهرا أو اختيارا لكن لم يحصل لهم العلم لسبق الشبهة الحاصلة لهم عن تقصير أو قصور مع شدّة حبهم لمعتقدهم وصعوبة اختيار خلاف رأيهم ورأي أسلافهم أو بدون ذلك أيضا.

ومنهم من يطّلعون على التواتر ويحصل لهم العلم أيضا من عند أنفسهم لكنهم ينكرونه عنادا أو بغضا للحق وترويجا لباطلهم للدواعي النفسانية والأغراض الدنيوية الدنية التي أقلّها عدم تمكينهم من رئيس المذهب الذي ينكرونه وأصحابه ، وأكثر من رأيناه منكرا للقضايا المتواترة الدينية بل غير الدينية أو وجدناه منكرا لها من السابقين من القسم الأول ثم الثالث ثم الثاني.

ولا يخفى أنّ المقصود من هذا الشرط هو الاحتراز عن القسم الثاني كما هو ظاهر كلماتهم ، وعدم حصول العلم في القسم الأول لعدم العلم بالسبب ، وفي القسم الثالث قد حصل العلم المطلوب وإنكار الجاحد إنكار صوري لا يقدح في علّية التواتر للعلم والاعتقاد ، ومثل هذه المراتب قد يحصل بالنسبة إلى من ينكر المحسوسات كالسوفسطائي وغيره ممّن في قلبه زيغ ، فربّما يأخذون بالظنون الضعيفة والخيالات الموهونة والمؤولات البعيدة ويتركون المشاهدات

٤١٢

واليقينات بالشبهات الركيكة الباردة كبعض الصوفية (خذلهم الله) وقد يكون الإنكار في المتواتر والمحسوس أيضا مستندا إلى الوسوسة الشيطانية وسوء مزاج الدماغ والقوى المدركة ، قد شاهدنا من هذا القبيل في زماننا نفرا كثيرا (شافاهم الله عمّا هم عليه وهداهم وإيّانا إلى سواء السبيل).

الخامس : أن يكون إخبارهم جميعا عن علم فلو كان إخبار بعضهم عن ظنّ لا يتحقّق التواتر.

وأورد عليه في المناهج (١) بما حاصله : أنّ العلم المسبّب عن الخبر المتواتر مستند إلى تعاضد الأخبار بعضها بعضا وتراكم الظنون حتى ينتهي إلى العلم ، وحينئذ فيجوز أن يكون بعض الإخبارات الظنية أيضا معاضدا للإخبارات القطعية ويحصل من مجموعها العلم (٢).

السادس : أن يكون جميع الطبقات مشتملا على العدد المعتبر في تحقق التواتر إذا تعدّدت الطبقة ، وطريق العلم بتحقق التواتر بالنسبة إلى الطبقات السابقة على ما يستفاد من كلام الفصول وجوه ثلاثة :

الأول : أن يعلم ذلك بإخبار كل مخبر في الطبقة اللاحقة عن كل مخبر في الطبقة السابقة عليه وهكذا ، أو إخبار كل مخبر عن مخبر مغاير لمخبر آخر وهكذا.

الثاني : أن يعلم بخبر الواحد المحفوف بقرائن الصدق ومنه إخبار

__________________

(١) مناهج الأحكام : ١٦٤.

(٢) أقول : وعلى هذا يمكن أن يحصل العلم بالواقع من الأخبار الكثيرة الظنية البالغة في الكثرة لأجل التعاضد والتراكم المذكور ولا بأس به ، والظاهر مساعدة الاصطلاح أيضا على ذلك فتدبّر.

٤١٣

المعصوم (عليه‌السلام) به.

الثالث : أن يعلم ذلك بطريق الحدس ، قال : وهو الغالب في العلم بحصول التواتر في الطبقة العالية.

بيانه : إذا وجدنا أهل زماننا متّفقين على الاخبار صريحا أو التزاما بوقوع واقعة مثلا في سالف الزمان ، فقد نقطع بملاحظة العادة في تلك الواقعة أنّ اتفاقهم على ذلك لا يكون إلّا عن اتفاق مثله على الإخبار بذلك إلى أن تنتهي السلسلة إلى المشاهدين الذين نقطع بمقتضى العادة في تلك الواقعة ببلوغهم درجة التواتر ، فيكون علمنا بالواقعة مستندا إلى التواتر المتأخر الكاشف عن التواتر المتقدم المعلوم لنا بطريق الحدس ـ إلى أن قال ـ وقد يستكشف بإخبار جماعة عن إخبار جماعة أخرى يحصل عدد التواتر بخبر مجموعهم ، انتهى.

ولا يخفى أنّ القسم الأول من الوجه الأول وكذا الوجه الثاني بعيد الوقوع جدا ، بل لا يبعد دعوى القطع بالعدم بالنسبة إلى المتواترات التي بأيدينا ، والوجه الثالث أيضا نادر الوقوع ، فأغلب المتواترات التي بأيدينا مثل معجزات النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) غير القرآن وكرامات الوصي والنصّ الجلي على خلافة أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام) من قبيل القسم الثاني من الوجه الأول.

وقد أورد في المناهج على هذا القسم إشكالا صعب عليه التفصّي عنه حتى قال في آخر كلامه : والحاصل أنّ تواتر الخبر وإفادته العلم بنفسه من غير ضمّ ضميمة خارجية بعد تعدد الطبقات أمر صعب جدا وإثبات وقوعه أصعب ، فما نقل عن بعض السمنية والبراهمة من أنّه ينكر تواتر الخبر فيما لو كان خبرا عن الماضي ويقول بإمكانه وثبوته إذا كان إخبارا عن الموجود ليس خاليا عن

٤١٤

وجه ، انتهى (١).

ومحصّل إشكاله أنّه لو أخبر كل مخبر عن مخبر مغاير لمخبر آخر وهكذا ، لم يكن المخبر به من المخبرين في الطبقة اللاحقة واحدا ، مثلا لو أخبر زيد عن عمرو بموت بكر وخالد عن وليد بموته أيضا ، وموسى عن عيسى بموته أيضا وهكذا إلى عدد التواتر ، كان ما أخبر به زيد إخبار عمرو بالموت ، وما أخبر به خالد إخبار وليد بذلك ، وما أخبر به موسى إخبار عيسى بذلك وهكذا ، فإذا كان المخبر به للطبقة الأولى مختلفا بهذا الاختلاف لم يحصل العلم بإخبارهم سوى إخبار واحد من أهل الطبقة الثانية من باب القدر المشترك بين إخبارات أهل الطبقة الأولى المسمى بالتواتر المعنوي أو التواتر الإجمالي ، ومن المعلوم أنّ العلم بتحقق إخبار واحد من أهل الطبقة الثانية بموت بكر لا يفيد العلم بموته عادة ، فإذا كان هذا حال الطبقة الثانية فكيف يظنّ بالطبقة الثالثة والرابعة وهكذا.

والحاصل : أنّه يلزم تحقق العلم بتحقق التواتر في مرتبة جميع الوسائط بين الواقعة وبين من أخبرنا مشافهة بها ، ومن الواضح أنّ غير أهل الطبقة الأخيرة المشافهين لم يثبت إخبارهم بأمر ، فهو من أخبار الآحاد واحدا عن واحد.

قال في المناهج : فإن قلت المراد بلوغ كل طبقة حدا يحصل العلم بقولهم فالمناط حصول العلم.

قلنا : المراد إن كان العلم الواقعي أي المانع عادة من النقيض بعد التأمّل وملاحظة الأطراف فحصوله موقوف على ما ذكرنا ، وإن كان المراد اعتقاد جازم حاصل ابتداء من دون تأمّل ولو ارتفع بعد ملاحظة الأطراف فلا شكّ أنّه

__________________

(١) مناهج الأحكام : ١٦٤.

٤١٥

ليس بعلم ، وأكثر الأخبار المدّعى تواترها لأجل حصول العلم من هذا القبيل ، حيث لو تأمّل فيه مع تخلية الذهن عن التقليد يرتفع الوثوق عنها ، انتهى (١).

__________________

(١) وقد بالغ السيد الأستاذ في توضيح الإشكال وتقريبه إلى الأذهان حتى أنّه (دام بقاه) حكم بأنّ جلّ مباحث هذا الباب بل كلّها الذي أطنب فيها الأصوليون كلامهم خال عن الفائدة والثمرة العملية بعد ما عرفت من أنّ المتواترات الموجودة في أيادينا غالبا أو جميعا من قبيل هذا القسم الذي ورد عليه الإشكال ، فمدار حجيتها حصول العلم الفعلي بعد التأمل التام في الأطراف.

وبالجملة : كلما حصل القطع كان حجة من أيّ سبب كان ، وربما يكون بعض هذه الأخبار المدّعى تواترها مفيدا للعلم بانضمام القرائن وانضمام الأدلة الأخر ، لكن ليس ذلك من جهة التواتر المصطلح.

أقول : لا وقع للإشكال المذكور أصلا ، لما عرفت سابقا من أنّ إفادة التواتر للعلم عادية مستندة إلى تعاضد الأخبار بعضها بعضا وتراكم الظنون حتى ينتهي إلى العلم ، ولا شكّ أنّه لو أخبر زيد عن فلان إلى آخر السلسلة بوقوع واقعة في زمان كذا يحصل في أذهاننا ظنّا ولو كان في غاية الضعف بوقوع تلك الواقعة مستندا إلى ذلك الخبر المعنعن ، فإذا أخبر عمرو بنظير إخبار زيد معنعنا بوقوع الواقعة قوي ذلك الظن في الجملة ، وهكذا يقوى الظن بإخبار السلسلة الثالثة والرابعة والخامسة إلى أن ينتهي إلى حد العلم ، وإنكار هذا المعنى مكابرة ، وحصول العلم من كثرة هذه الأخبار المعنعنة لا من غيرها من القرائن أو الحدس السابق معلوم ، وتسمية الخبر الكذائي بالمتواتر واضحة معروفة ، فأين ذلك الإشكال الصعب الذي ألجأ ذلك المحقق المتبحّر في فنون العلوم والصناعات أن يميل إلى مذهب السمنية والبراهمة؟

والعجب أنّه في المناهج أشار إلى ما ذكرنا كما نقلناه عنه في ذيل الشرط الخامس فتذكّر. وما ذكر من أنّ المناط حصول العلم من أيّ سبب كان ، قلنا نعم ولكن الغرض أنّ التواتر من أسبابه النوعية العادية المضبوطة لا يختلف باختلاف الموارد والأشخاص حتى يحال على حصول العلم الفعلي ، وبه يصحّ إلزام الخصوم وإبطال شبهة المبطلين من أهل الملل والنحل بحيث لا يبقى لهم ملجأ إلّا الاعتراف بالحق واعتقاد الصواب أو الانحراف إلى جهة المكابرة والعناد حتى يعرف ذلك منهم كل عارف ، ومنه يتمّ الحجة على كل

٤١٦

وربما اشترط في التواتر أمور أخر كاشتراط بعضهم أن يكون المخبرون من أهل بلدان مختلفة ، واشتراط بعض اليهود ألا يكونوا من أهل دين واحد ، وربما يستظهر ذلك مما ذكروا في تعريف المتواتر من أنّه خبر جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب ، بدعوى أنّ أهل البلدة الواحدة أو أهل الدين الواحد لا يمتنع تواطؤهم على الكذب لبعض الدواعي العظيمة العامة ، لكن قد عرفت أنّ المراد بالتواطي في التعريف مجرّد التوافق ولو اتّفاقا ولو من جهة الخطأ والسهو ، مع أنّ التواطي المذكور بعيد في الغاية بالنسبة إلى الخلق الكثير مع اختلاف مذاقهم ومشاربهم ودواعيهم غالبا ، فلا يعبأ باحتمال ذلك ، كما لا يعبأ باحتمال خطأ الكل أو سهوهم أو كذب بعضهم وخطأ بعض وسهو بعض مثلا ، لكن قد يقوى هذا الاحتمال في خصوص بعض المقامات بالنسبة إلى بعض المطالب ، وحينئذ ينبغي التوقّف والتثبّت.

وكيف كان ، ليس هذان الشرطان في ذلك المكان من الضعف الذي أشار إليه صاحب الفصول فتأمل جيدا.

ثم إنّهم قسّموا المتواتر إلى لفظي ومعنوي ، أما الأول فيراد منه ما كانت الأخبار المتكاثرة متّحدة المدلول بالنسبة إلى المدلول المطابقي سواء كانت

__________________

مبطل معاند ويستحق ما يستحق من الذم والعقاب على ما مرّ في كلام صاحب الفصول ، ولذلك اصطلح أهل الاصطلاح بعد تميز موضوع التواتر وأنّه من مبادئ العلم الضروري أو النظري على اختلاف في ذكره في عداد سائر المبادئ وأخذوا في تسميته وبيان شرائط تحقيق موضوعه وأقسامه وإمكان تحقّقه وإمكان العلم به ورفع الشكوك والشبهات الموردة عليه ، ولعمري ينبغي هذا الاهتمام التام بل أزيد من ذلك لمثل هذا الدليل المتقن الواضح المبرهن الكثير الفائدة الشائع الوقوع في كل عصر وزمان في الأمور الدينية والدنيوية بلا واسطة ومع الواسطة.

٤١٧

بلفظ واحد أو بألفاظ مترادفة ، وهذا لا إشكال فيه ، ولعله يدخل في هذا القسم ما سمّاه بعضهم بالمتواتر الإجمالي وأشار إليه في الفصول بقوله : وإن اختلفت مداليلها ولم يكن بينها تلازم علم بالتواتر صدق بعض منها لا على التعيين ، وفي إطلاق التواتر على مثل ذلك وجه غير بعيد ، وذلك كما لو أخبرنا مخبر بأنّه سأل زيدا فأعطاه دينارا وأخر بمثله وهكذا إلى أن تظافرت الأخبار بمثله عندنا بذلك فنقطع بها أنّ زيدا قد أعطى سائلا دينارا أو أعطى جماعة منهم دنانير ، وهذا القدر المتيقّن صدقه بالتواتر من تلك الأخبار مدلول مطابقي لبعض تلك الأخبار.

ومن هذا الباب ما نقل لنا من وقائع أمير المؤمنين (عليه‌السلام) فإنّا نقطع بتلك الأخبار لكثرتها وتظافرها صدق جملة منها وإن جهلنا التعيين ، وكذا ما نقل عنه من خوارق العادات والإخبار بالمغيبات ، فإنّ بعضها وإن كان متواترا بالخصوص إلّا أنّ الحال في كثير منها كما مرّ ، انتهى.

وأما الثاني فيراد به بقية أقسام المتواتر غير ما ذكر في القسم الأول :

منها : أن يتحقّق التواتر بالنسبة إلى المدلول التضمّني للخبر بأن يكون ذلك المدلول قدرا مشتركا بين تلك الأخبار كأن يخبرنا أحد بأنّ زيدا اليوم ضرب عمرا وأخر بأنّه ضرب بكرا وأخر بأنّه ضرب خالدا وهكذا ، فإنّا نقطع من ذلك بأنّ زيدا قد ضرب واحدا ، وقد مثّل في الفصول لهذا القسم بما لو أخبرنا مخبر بأنّ زيدا في وقت كذا في موضع كذا من الكوفة ، وأخر في موضوع آخر منها وهكذا ، فيحصل لنا العلم بتلك الأخبار بأنّه كان في ذلك الوقت في الكوفة.

أقول : وعندي في هذا المثال شكّ في كونه من المتواتر كالمثال الذي ذكره في القوانين وهو عين المثال الذي ذكرنا أوّلا ، لكن قيّده بقوله مع فرض

٤١٨

كون الواقعة واحدا ، لأنّ تلك الأخبار المتضمّنة لكون زيد في الكوفة في ذلك الوقت المعيّن بعضها مكذّب لبعضها الآخر بل نعلم بكذب ما عدا واحد منها ، ولم يبق محتمل الصدق إلّا واحدا منها ، لعدم إمكان كون زيد في زمان واحد في مكانين فكيف يحصل العلم بكون زيد في الكوفة في ذلك الوقت والحال هذه من تلك الأخبار المتيقّنة الكذب سوى واحد محتمل الصدق والكذب ، وهكذا نقول في مثال صاحب القوانين.

وأما المثال الذي ذكرنا تبعا للمناهج فجميع الأخبار فيه محتملة للصدق في نفسها ، فيتعاضد احتمال صدق بعضها بعضا حتى يحصل من مجموعها العلم على ما مرّ في وجه إفادة التواتر للعلم.

ومنها : أن يتواتر بدلالة التزامية مقصودة كالأخبار الناهية عن التوضّي من الماء القليل الذي لاقته العذرة أو غيرها من النجاسات أو عن شربه والآمرة بإراقته ، فإنّه ربما يحصل العلم بتلك الأخبار بنجاسة ذلك الماء بضميمة الإجماع.

ومنها : أن يتواتر بدلالة التزامية غير مقصودة أو لم يعلم كونها مقصودة ، وذلك مثل الأخبار الواردة في غزوات علي (عليه‌السلام) ، فإنّها بحيث تدلّ بالالتزام على الشجاعة البالغة ، لأنّه أخبرنا بغزوة خيبر بالتفصيل الذي ذكره أهل السير والتواريخ فإنّه لا يمكن صدورها بهذا التفصيل إلّا عن شجاع بالغ ذروة الشجاعة ، وكذا غزوة بدر وأحد والأحزاب وغيرها فيحصل العلم من مجموعها بثبوت أصل الشجاعة.

ومنها : أن يتحقق التواتر بالنسبة إلى المدلول المطابقي في بعض تلك الأخبار والتضمّني في بعض آخر والالتزامي في بعض آخر بقسميه أو المركب

٤١٩

من اثنين منها ، ولم أجد من تعرّض لهذا القسم ، وقد مثل صاحب الفصول لتواتر المدلول الالتزامي بنظير ما مثله في المدلول التضمّني قال : وذلك كما لو أخبرنا مخبر بقطع عنق زيد وأخر بإحراقه وأخر بإلقائه من شاهق وأخر بإلقاء حجر عظيم عليه إلى غير ذلك من الأخبار بأسباب موته ، فيمكن أن يحصل لنا من تلك الأخبار العلم بموته الذي هو مدلولها الالتزامي وإن لم نقطع بشيء من تلك الأسباب بل جوّزنا موته بسبب آخر انتهى (١). ولا يخفى جريان وجه الشك هناك هاهنا أيضا.

وذكر في المناهج (٢) قسما آخر للمتواتر المعنوي تبعا لبعض الأعلام في حواشيه على شرح العضدي على ما حكاه هو وتبعه صاحب القوانين ، قال في المناهج : الخامس أن تذكر هذه الوقائع يعني وقائع شجاعة علي (عليه‌السلام) ولكن لا بحيث تدلّ كلّ منها بخصوصه على الشجاعة مثل أنّ عليا (عليه‌السلام) قتل في حرب كذا رجلين ، وقال آخر إنه قتل في حرب آخر رجالا ، وثالث أنه غلب على اثنين من محاربيه وهكذا ، فبعد ملاحظة المجموع يحصل العلم بأنّ ذلك ناش عن ملكة هي الشجاعة وليس محض الاتفاق أو مع الجبن أو لأجل القصاص ، وكذلك في السخاوة ، والقدر المشترك المعلوم من تلك الوقائع بالتضمّن ليس إلّا محض القتل والإعطاء وهو لا يفيد الشجاعة والسخاوة ، ولكن المعلوم من ملاحظة المجموع هو الملكتان. ويقرب منه كلام القوانين (٣) وجعلا كلام العضدي ناظرا إلى هذا القسم حيث قال : واعلم أنّ الواقعة الواحدة لا تتضمّن الشجاعة والسخاوة بل القدر المشترك الحاصل من الجزئيات ذلك

__________________

(١) الفصول الغروية : ٢٦٨.

(٢) مناهج الأحكام : ١٦٥.

(٣) قوانين الأصول : ٤٢٨.

٤٢٠