حاشية فرائد الأصول - ج ١

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-015-2
الصفحات: ٦٩٤

أما عن الأول : فبأنّه يكفي في عدم اللغوية ثبوت الإعادة والقضاء بعد حصول العلم فيما بعد ، ولو فرض عدم حصول العلم فيما بعد أيضا إلى أن مات جاهلا تكفي المصلحة النوعية في اطراد التكليف ولا يحتاج إلى حصول الفائدة لكل مكلف.

وأما عن الثاني : فبمنع كون العلم شرطا في أصل التكليف وإنّما هو شرط في مقام التنجّز وصحة العقاب عليه ، فإنّه يصح إنشاء الحكم متعلقا بسائر المكلفين العالم منهم والجاهل لحكمة مقتضية لذلك ، غاية الأمر قبح عقاب الجاهل على مخالفته دون العالم ، ويشهد بذلك صحة أمر الغائب كقوله : ليفعل زيد ، مع تحقق التكليف حقيقة بنفس هذا الخطاب.

وما ذكره المستدلّ من إرجاع شرطية العلم إلى شرط القدرة بقوله :

وحيث لا علم لا قدرة على الامتثال ، ففيه : مضافا إلى منع رجوع شرط العلم إلى شرط القدرة على ما بيّن في محلّه من أنّ العلم لا يؤثر في القدرة ، وأنّ الجاهل بالمأمور به قادر عليه ، ولذا ربما يفعله اتفاقا لدواع أخر ، أنا نلتزم باللازم وندعي جواز تكليف غير القادر أيضا لو كان مشتملا على المصلحة ولا قبح فيه بعد فرض المصلحة.

فإن قلت : فعلى هذا البيان ما أورده صاحب الفصول من لزوم ثبوت الأحكام الواقعية بالنسبة إلى العاجز ينهض قائما ، بل يصح عليه القول بثبوت الأحكام الواقعية للمجنون وغير البالغ والعاجز كالجاهل طابق النعل بالنعل ، ويكون تنجّزها مشروطا بالبلوغ والعقل والقدرة كما أنّه مشروط بالعلم.

قلت : إن أريد من الملازمة معقولية ثبوت الأحكام الواقعية بالنسبة إلى غير القادر وغير البالغ والمجنون كما في الجاهل فلا نسلّم بطلان اللازم ونلتزم

٢٨١

به ، وإن أريد ثبوت الأحكام الواقعية فعلا في حق العاجز فلا نسلّم لزومه ، والسر أنّ شرط البلوغ والعقل والقدرة قد أخذت في موضوع المكلف شرعا ، وقد ثبت ذلك بالإجماع والنصوص الدالة على رفع القلم عن فاقدها ، فكأن الشارع قال : يجب على البالغ العاقل القادر كذا ويحرم عليه كذا ويستحب كذا وهكذا ، وهذا بخلاف شرط العلم فإنّ قضية شرطيته بحكم العقل وهو لا يحكم باشتراط التكليف به إلّا في مقام التنجّز وصحة العقاب عليه ونحن نقول به.

نعم قد يؤخذ العلم موضوعا وينتفي التكليف بانتفائه كمانعية استصحاب النجاسة المعلومة في الصلاة ونحوه من أمثلة القطع الموضوعي ، كما أنّه قد يؤخذ التكليف غير مقيّد بالقدرة كما نقول به في المتزاحمين فإنّ الخطاب الواقعي بالنسبة إليهما فعلي غاية الأمر عدم صحة العقاب على ترك أحدهما لمانع العجز دون الآخر.

ومن هنا نقول : لو كان أحدهما المعيّن أهمّ ووجب مراعاته بحكم العقل والشرع بلزوم تقديمه على غير الأهم وخالف المكلف بإتيان غير الأهم وترك الأهم كان ذلك صحيحا منه وممتثلا به وإن عوقب على ترك تقديم الأهم ، وهذا من أعظم الشواهد على أنّ سلب التكليف الواقعي عن غير القادر ليس من جهة القبح أو عدم المعقولية وإلّا لم يقع في هذا المورد بل من جهة أخذ القدرة جزءاً للموضوع شرعا كما ذكرنا.

ومما ذكرنا ظهر جواب الوجه الثالث أيضا وهو قبح أمر الامر مع العلم بانتفاء الشرط توضيحه : أنّه إن أريد به قبح التكليف الواقعي مع العلم بانتفاء شرط العلم فلا نسلّم ذلك ، لمنع كون العلم شرطا للتكليف الواقعي كما مرّ بيانه ، وإن أريد به قبح التكليف الفعلي المنجّز مع العلم بانتفاء شرط علم المكلف به فهو

٢٨٢

مسلّم إلّا أنا لا نقول بثبوت التكليف الكذائي في حق الجاهل لأنّه معذور.

قوله : وقد تواتر بوجود الحكم المشترك بين العالم والجاهل الأخبار والآثار (١).

(١) هذا إشارة إلى دليل وجود الحكم الواقعي بالمعنى المذكور بعد فرض معقوليته وبطلان التصويب على ما مر بيان ذلك ، ونقول هنا أيضا في معقوليته : إنا إذا راجعنا وجداننا نجد أنّه يجوز أن يخاطب السيد عبيده جميعا بخطاب عام ويكلفهم بشيء سواء العالم منهم والجاهل لمصلحة تقتضي ذلك ، ولا يعاقب الجاهل على المخالفة وإن ترتّبت عليه فائدة القضاء والإعادة ، ولا قبح فيه بعد فرض كونه مقتضى الحكمة والمصلحة ، وفي وقوعه بعد فرض المعقولية أنه يدل عليه الأخبار الكثيرة ولعلها متواترة بالمعنى الدالة على أنّ حكم الأوّلين حكم الآخرين وأنّ لله في كل واقعة حكما معيّنا مخزونا عند أهله ، وجملة من هذه الأخبار مذكورة في الوسائل متفرقة في أبواب القضاء والحدود والأمر بالمعروف وغيرها ، وتدل عليه أيضا إطلاقات أدلة الأحكام الشاملة بمدلولها اللفظي لجميع المكلفين حتى الجاهل منهم ، ومن هنا نقول بأنّ الكفار مكلفون بالفروع وأنّهم يعاقبون عليها مع جهلهم بها ، ولو نوقش في انصراف إطلاقات أدلة التكاليف عن الجاهل كفى في ذلك عموماتها مثل : يا أيها الناس ويا أيها الذين آمنوا افعلوا كذا مثلا ، مع أنّا في غنى عن ذلك بانعقاد الإجماع المحقق قولا من الإمامية بل وعملا من المسلمين طرا كما سبق ، فتأمل.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١١٣.

٢٨٣

قوله : الثاني أن يكون الحكم الفعلي تابعا لهذه الأمارة (١).

(١) قد مرّ أنّ هذا الوجه مختار صاحب الفصول وأنّه يرجع إلى التصويب الباطل ببيان مستوفى ، ويبقى ثالث الوجوه المذكورة في المتن في القسم الثاني أعني الموضوعية وثاني الوجهين اللذين زدناهما في الأقسام في ذيل شرح الوجه الأول مع وجوه القسم الأول أعني الطريقية بأسرها موافقا للقول بالتخطئة.

ثم بعد ما أثبتنا أنّ الحق هو القول بالتخطئة فنقول : أظهر الوجوه المتصورة هو القول بالطريقية المحضة بالنسبة إلى جعل الأمارات مع كون المصلحة في الجعل لا في مؤدّى الأمارة ، ويشهد بذلك ظواهر أدلّة حجية الأمارات ، فيستفاد منها أنّ خبر العادل وظاهر الكتاب وغيرها حاكية عن الحكم المجعول لمتعلقاته.

فإن قلت : لازم هذا الترجيح ألا يكون مؤدى الأمارة حكما أصلا ، إذ لا يستدرك بالطريق المحض سوى نفس الواقع على تقدير المصادفة ، وعلى تقدير عدم المصادفة يكون سلوك الطريق لغوا صرفا لا يترتب عليه شيء أصلا ، فلا يكون حكما ، مع أنّه قد سبق في بيان دفع التناقض المورد في المقام في شرح كلام ابن قبة اختيار أنّ مؤدّى الأمارات أحكام شرعية ظاهرية في قبال الأحكام الواقعية فكيف التوفيق.

قلت : يمكن أن يكون المراد بالحكم الظاهري ما لا مندوحة عنه للمكلف في مقام العمل ، ويلزم مراعاته بحيث لم يسمع منه الاعتذار في تركه ، وهذا المعنى يجامع الطريقية بالمعنى المذكور بالنسبة إلى الواقع كما لا يخفى ، فتدبّر.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١١٤.

٢٨٤

قوله : والفرق بينه وبين الوجه الأول بعد اشتراكهما في عدم ثبوت الحكم الواقعي (١).

(١) محصّل الفرق : أنّ الظن في الوجه الأول محدث للحكم مطلقا سواء كان ذلك الحكم موافقا لحكم العالم أو مخالفا ، بخلاف الظن في هذا الوجه فإنّ الظن الموافق كاشف عن الحكم الواقعي الاقتضائي والظنّ المخالف مانع عن فعلية الحكم الاقتضائي ومحدث للحكم الفعلي على خلافه.

وقد يفرّق بوجه آخر : وهو أنّ اختلاف الحكم في الوجه الأول بحسب اختلاف الموضوعات العرضية من أول الأمر ، فالظانّ بالوجوب مثلا حكمه الوجوب والظانّ بالحرمة حكمه الحرمة والظان بالندب حكمه الندب ، وهذا بخلاف الاختلاف في الوجه الثاني فإنّ موضوع الحكم الاقتضائي متّحد بالنسبة إلى الجميع ويشاركه الظانّ بالوفاق ، نعم لو حصل الظن بالخلاف الاخر وصار ذلك مانعا عن اقتضاء المقتضي تحقق موضوع آخر في طول الأول للحكم المخالف للأول.

قوله : نعم كان ظنّه مانعا عن المانع وهو الظّن بالخلاف (٢).

(٢) فيه مسامحة واضحة ، لأنّ الظنّ بالحكم الموافق للحكم الاقتضائي ليس مانعا عن المانع الذي هو الظنّ بالخلاف ، إذ لم يوجد الظنّ بالخلاف حتى يكون الظن بالوفاق مانعا عن تأثيره ، لعدم إمكان حصول الظن على طرفي النقيض ، إلّا أن يقال : إنّ مراده أنّ الظن بالوفاق مانع عن حصول الظنّ بالخلاف ، ولو قال بدل قوله نعم كان ... نعم كان ظنّه كاشفا عن عدم حصول المانع وهو الظنّ

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١١٤.

(٢) فرائد الأصول ١ : ١١٤.

٢٨٥

بالخلاف ، كان أظهر.

قوله : الثالث ألا يكون للأمارة القائمة على الواقعة تأثير في الفعل (١).

(١) كون إيجاد العمل على طبق الأمارة مشتملا على المصلحة يحتمل أمرين :

الأول : أن تكون المصلحة في ذلك العنوان العام أي العمل على طبق الأمارة الذي ينطبق على مصاديقه كفعل الجمعة في مثال مفروض المتن ، فالجمعة حينئذ وإن لم تكن مشتملة على المصلحة بعنوانها الأخص لكنها مشتملة على المصلحة بعنوانها الأعم.

الثاني : أن تكون المصلحة في العنوان الثانوي لذلك العنوان العام أعني عنوان تطبيق العمل على مؤدّى الأمارة ، وهو العنوان الذي ينتزع من العنوان الأولي كالتأديب والضرب.

وثاني الوجهين أظهرهما في النظر وإن كان عبارة المتن أظهر في الأول ، فلاحظ.

قوله : إلّا أنّ العمل على طبق تلك الأمارة والالتزام به (٢).

(٢) هكذا يوجد في النسخ القديمة ، وفي بعض النسخ المتأخّرة قد أقحم لفظة الأمر بين أنّ واسمها هكذا : إلّا أنّ الأمر بالعمل على طبق الأمارة إلى آخره ، وكذا في كل ما عبّر بمثل هذه العبارة فيما بعد زيد لفظ الأمر ، وهو ناظر إلى جعل المصلحة في الأمر دون المأمور به ، ولا يخفى أنّ الصحيح هو الأول بشهادة قوله

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١١٤.

(٢) فرائد الأصول ١ : ١١٤.

٢٨٦

فيما بعد : وتلك المصلحة لا بدّ أن تكون مما يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع إلى آخره ، إذ لا ريب أنّ مصلحة الأمر لا يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع ولا يلزم أن يكون حكمة الأمر مصلحة راجعة إلى المكلف ، ولكن لو جعلنا الأمر تابعا لمصلحة المأمور به فلا بدّ من أن يكون في المأمور به ولو بعنوانه الثانوي أو العنوان الأعم من عنوان الحكم الواقعي الأولي مصلحة ، فيتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع ، ويتّضح ما ذكرنا بملاحظة كلام المتن إلى آخر المبحث فتدبّر.

قوله : وإلّا كان تفويتا لمصلحة الواقع وهو قبيح (١).

(١) لا نسلّم قبح تفويت المصلحة على المكلّف من غير تدارك مطلقا ، بل القدر المسلّم على القول بأنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد أنّ الشارع لم يجعل الأحكام جزافا بل جعلها موافقة للمصلحة النوعية في الأمر أو في المأمور به ، فإذا اقتضت المصلحة النوعية جعل أمارة مثلا ولكن لزم من هذا الجعل فوات مصلحة في حق واحد من المكلفين بها لم يكن هذا الجعل قبيحا بوجه ، فلا يلزم على الشارع تدارك المصلحة الفائتة على ذلك الشخص.

قوله : فإن قلت : ما الفرق بين هذا الوجه الذي مرجعه (٢).

(٢) لا كرامة في هذا السؤال والجواب ، لكمال وضوح الفرق بين الوجه الثاني والثالث بحيث لا يكون محلا للتوهّم ، كيف والحكم تابع للأمارة في الوجه الثاني ، ومع قطع النظر عن الأمارة ليس سوى المقتضي والشأنية ، وفي الوجه الثالث هنا حكمان أحدهما متعلّق بنفس الفعل وثانيهما متعلق بتصديق العادل

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١١٥.

(٢) فرائد الأصول ١ : ١١٥.

٢٨٧

وبتطبيق العمل على الأمارة.

قوله : ومعنى الأمر بالعمل على طبق الأمارة الرخصة في وجوب ترتيب أحكام الواقع (١).

(١) لا بأس بأن نشير إلى أنّ العمل بمؤدى الأمارة هل يقتضي الإجزاء أم لا بالنسبة إلى جميع الصور المتصورة الطريقية والموضوعية.

فنقول : أما وجوه الطريقية الثلاثة أو الستة على ما ذكرنا فعدم الإجزاء فيها ظاهر ، لأنّ معنى أخذ الأمارة بملاحظة محض طريقيّتها أنّه على تقدير التخلّف عن الواقع يكون لغوا محضا ، كما أنّ الإجزاء في الوجهين الأولين من وجوه الموضوعية بل على الوجه الثالث الذي زدناه في أقسام التصويب واضح لا سترة فيه ، لأنّ الفرض أنّ الحكم الواقعي والظاهري منحصر في مؤدّى الأمارة فلا يتصور عدم الإجزاء ، ويبقى الإشكال في ثالث وجوه الموضوعية ، والوجه الآخر الذي زدنا هناك وهو القول بتعدد الحكم أحدهما واقعي والآخر ظاهري ، فنقول القول بالإجزاء فيهما مبني على إثبات مقدّمتين :

الأولى : أنّ جعل الأمارة يقتضي وجوب العمل عليها وترتيب آثارها ما دامت قائمة ، حتى لو انكشف الخلاف لم تنقض آثارها إلّا بالنسبة إلى ما بعد الانكشاف ، وإلّا فلو قيل بأنّ انكشاف تخلّف الأمارة يسقط حكمها من أول الأمر كما سترى في عبارة المتن اختياره فلا وجه للقول بالإجزاء.

والأقوى ثبوت هذه المقدمة لأنّه الظاهر من أدلة حجية الأمارات على القول بالموضوعية ، لكن لا يثبت بمجرّد ثبوت هذه المقدّمة الإجزاء ، لأنّ

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١١٧ (يوجد اختلاف في النسخ).

٢٨٨

المفروض أنّ هناك حكما واقعيا لم يمتثل ، غاية الأمر أنّ المكلف كان معذورا بالنسبة إليه ما دام جاهلا.

الثانية : أن يدعى أنّ جعل الأمارة يقتضي كون مؤدّاها بدلا عن الواقع بحيث يستدرك بها كلّ ما يستدرك من الواقع بجعل الشارع ، وليست الدعوى بعيدة كل البعد ، فإن قيل بها يلزمه الإجزاء ، وإلّا فلو قيل بأنّ مؤدّى الأمارة مشتمل على المصلحة في نفس المؤدّى كما هو ظاهر المتن يقال بالإجزاء أيضا ، لأنّه وإن لم يستدرك الواقع ولا بدله إلّا أنّ مصلحته مستدركة ، فلو بقي كان حكما بلا مصلحة وهو باطل ، إلّا أن يقال : بأنّ اعتبار المصلحة في موضوع الحكم الواقعي من قبيل الحكمة التي لا يلزم اطّرادها لا العلة ، وفيه ما فيه. وإن قيل بأنّ المصلحة في الأمر بالعمل بمؤدّى الأمارة لا في نفسه فلازمه عدم الإجزاء.

وهناك فرع لطيف متفرّع على القول بالإجزاء على الوجه المذكور وهو أنّه لو أدّت الأمارة إلى استحباب شيء وتركه المكلّف اعتمادا على جواز ترك المستحب ثم تبيّن وجوبه لا يجب عليه تداركه ، لأنّ مقتضى بدلية حكم استحباب الشيء للحكم الوجوبي الواقعي أن يترتب على من لم يخالف مؤدى الأمارة ما يترتب على الواقع ، هذا كلّه بالنظر الجليّ.

وأما بالنظر الدقيق فيمكن القول بالإجزاء في جميع الأقسام المتصورة حتى الطريقية الصرفة ، والدليل على ذلك أنّ المكلف معذور في ترك الواقع بجميع الصور ، ونستكشف من ذلك أنّ الشارع رفع اليد عن الواقع على تقدير تخلّف الأمارة ، والشاهد على ذلك أنّه لو تخلّفت الأمارة عن الواقع ولم ينكشف أصلا طول العمر فلا محيص من القول بأنّ الشارع رفع اليد عن الواقع بلا بدل

٢٨٩

على القول بالطريقية ، فهكذا نقول في صورة الانكشاف بلا تفاوت (١).

أصالة حرمة العمل بالظن

قوله : فنقول : التعبّد بالظن الذي لم يدل دليل على وقوع التعبّد به محرّم بالأدلة الأربعة (٢).

(١) لا بدّ أوّلا من بيان المراد من التعبّد بالظن وبيان المراد من التحريم المسند إليه ليتّضح مراد المتن وما يرد عليه ، وتميز الصحيح من وجوه تقرير الأصل عن غيره ، فنقول التعبّد بالظن يحتمل وجوها ثلاثة :

الأول : أن يسند المظنون إلى الشارع كما يسند المقطوع إليه ، فيقول إنّ الشارع أوجب كذا وحرّم كذا وأباح كذا مما ظنّ أنه كذلك عند الشارع ، ثم يعمل عليه بانيا على أنّ الحكم كذلك واقعا كما لو قطع بالحكم.

الثاني : أن يتعبّد بمتابعة الظن برجاء إدراك الواقع الذي يرجع إلى

__________________

(١) أقول : يمكن أن يقال : إنّ المعذورية عن الحكم الواقعي مطلقا مشروطة في نظر العقل بعدم انكشاف الواقع أصلا لا أوّلا ولا آخرا ، فلو علم بالواقع بوجه وفي وقت فلا يعذر بقدر ما يمكن استدراكه ، وأيضا لو كان حكم الإجزاء بهذا الوجه صحيحا لزم الحكم به بالنسبة إلى الموضوعات بعد كشف الخلاف ، فلو قامت بيّنة على طهارة شيء أو حلّيته أو مملوكيته لزيد إلى غير ذلك ثم انكشف الخلاف لزم ترتيب آثار الطهارة والحلية والملكية إلى زمن كشف الخلاف ، لأنّ أدلة حجية الأمارات في الأحكام والبيّنة واليد ونحوهما في الموضوعات على نسق واحد ، ولا يلتزم أحد باللازم في الموضوعات ، فانقدح فساد الوجه فتأمل جيدا.

(٢) فرائد الأصول ١ : ١٢٥.

٢٩٠

الاحتياط غير التام كما ربما يتعبّد بمجرّد الاحتمال برجاء إدراك الواقع ، لكن لمّا كان الظنّ أقرب إلى الواقع كان رجاء إدراكه أيضا أشد ، فلذا يعتمد عليه دون الاحتمال المرجوح.

الثالث : أن يتعبد بالظن بمعنى إلغاء احتمال الخلاف وعدم الاعتناء به كما هو كذلك عند أهل العرف في أفعالهم ومعاملاتهم وتجاراتهم ، فإنّ عملهم بالظنّ لأجل أنّهم لا يعتنون باحتمال الخلاف ولا يبالون بتخلّف ظنّهم عن الواقع.

والحق والتحقيق أنّ الذي يناسب البحث عنه في المقام هو المعنى الثالث ، ويدل عليه أنّ حجية الظن الذي ثبت بالدليل عندنا في خبر الواحد أو غيره بهذا المعنى قطعا ، فينبغي أن يقال هل الأصل في غير ما ثبت حجيّته من الظنون حرمة العمل حتى يقال بعدم الحجية بالمعنى المذكور ، أو جوازه حتى يحكم بالحجية بالمعنى المذكور؟

ويظهر من المصنف المعنى الأول كما لا يخفى على من راجع كلامه خصوصا قوله في تقريب الاستدلال بالآية على حرمة التعبّد بالظن : دل على أنّ ما ليس بإذن من الله من إسناد الحكم إلى الشارع فهو افتراء. ومن الواضح أنّه ليس محلا للبحث في المقام كيف وأنّه راجع إلى التشريع بل عينه ، وهل يعقل أن يكون النزاع في المقام في أنّ الأصل هل هو حرمة التشريع أو جوازه.

وكيف كان ، فإن كان المراد هو المعنى الأول فلا ريب أنّ الأصل حرمة التعبّد ، وإن كان المعنى الثاني فالأصل جوازه إلّا إذا خالف أصلا معتبرا من الأصول الشرعية ، والمعنى الثالث هو محلّ النزاع وسيأتي ما يوضّح ذلك أيضا.

ثم حرمة التعبّد بالظن يحتمل معنيين :

أحدهما : الحرمة الذاتية في مقابل الإباحة وغيرها من الأحكام حتى لو

٢٩١

عمل بالظنّ واتّفق مصادفته للواقع فقد فعل الحرام فضلا عن صورة المخالفة.

الثاني : الحرمة الغيرية التي تساوق عدم الحجية ، ولازم ذلك أنّه لو عمل بالظن واتّفق مخالفته للواقع لم يكن معذورا ويسند إليه أنّه فعل المحرّم الفعلي في حقّه ، وأما إذا اتفق مصادفته للواقع لم يفعل محرّما.

والحقّ أنّ الذي يناسب البحث في المقام هو المعنى الثاني فيقال هل الأصل حرمة العمل بالظن يعني عدم جواز الاعتماد عليه فيعاقب على مخالفة الواقع لو اتّفق كالرؤيا ونحوه ، أو جواز العمل به والاكتفاء به كالقطع فلا يضرّه التخلّف عن الواقع أحيانا ، ويدل على ما ذكرنا أنّ البحث في المقام في قيام الظنّ مقام القطع في الحجية ولزوم المتابعة ، ولا ريب أنّ وجوب متابعة القطع وحرمة مخالفته أيضا بهذا المعنى ، ويظهر من المصنف أنّه جعل البحث في المعنى الأول كما لا يخفى على من راجع كلامه خصوصا استدلاله على أصالة الحرمة بقوله (عليه‌السلام) في عداد القضاة من أهل النار : «ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم» (١).

وكيف كان ، فإن كان المراد هو المعنى الأول كما فهمه الماتن فما ذكره حقّ لما ذكره من الأدلة الأربعة ، لكن على أن يكون موضوع حكم الحرمة ما اختاره من التعبّد بالمعنى الأول المساوق للتشريع كما ذكرنا آنفا ، وإن كان المعنى الثاني كما هو الحق فالأصل فيه أيضا الحرمة ، لأنّ العقل يحكم بحكم مستقلّ بأنّ العمل بما لا يؤمن كونه خطأ مخالفا للواقع ليس قاطعا للعذر ، ولا يكتفى به في امتثال التكاليف الواقعية المعلومة حتى لو عوقب على مخالفة الواقع لو عمل به وأخطأ فلا يلومن إلّا نفسه ، ولعل هذا المعنى مدلول قوله تعالى :

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ٢٢ / أبواب صفات القاضي ب ٤ ح ٦.

٢٩٢

(إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(١) فتكون الآية أيضا دليلا على المطلب وإرشادا إلى حكم العقل.

قوله : منها أنّ الأصل عدم الحجية وعدم وقوع التعبد به وإيجاب العمل به (٢).

(١) توضيحه : أنّ الحجية ووقوع التعبد وإيجاب العمل بالظنّ حادث مسبوق بالعدم الأزلي فيستصحب العدم ، لكن يحتاج في إثبات المطلوب به إلى أن لا تكون الحجية ثابتة بحكم العقل ، وهو كذلك لأنّ الطريق العقلي والحجّة العقلية منحصر في القطع ، وحينئذ يقال في تقريره إنّ الظن ليس بحجة عقلية قطعا والأصل عدم كونه حجة شرعية أيضا ، أو يقال : إنّ الأصل عدم كون الظن حجة شرعية بجعل الشارع أو إمضائه لحكم العقل ، والأقرب هو الوجه الأول وهو ممّا لا غبار عليه ، وسيأتي دفع ما أورد عليه المصنف.

قوله : وفيه : أنّ الأصل وإن كان ذلك إلّا أنّه لا يترتّب على مقتضاه شيء (٣).

(٢) العبارة مشتبه المراد ، فيظهر من أول كلامه عدم جريان استصحاب عدم الحجية معلّلا بعدم ترتّب الأثر على المجرى ، ومن ذيل كلامه عدم الاحتياج إلى استصحاب عدم الحجية معلّلا بكفاية نفس الشك في عدم الحجية فلا يحتاج إلى استصحاب عدم الحجية.

وكيف كان ، فإن أراد الأول نمنع عدم ترتّب الأثر على المجرى فإنّ حرمة

__________________

(١) يونس ١٠ : ٣٦.

(٢) فرائد الأصول ١ : ١٢٧.

(٣) فرائد الأصول ١ : ١٢٧.

٢٩٣

العمل من آثار عدم الحجية الواقعية حتى أنّه لو ثبت بدليل عدم الحجية في أول الشريعة وشكّ فيما بعده فلا ريب أنّ الأصل بقاء ما ثبت ويترتّب عليه حرمة العمل ، نعم إن ساعدناه في عدم ترتب الأثر على المجرى فالكبرى وهي عدم جريان الأصل في مثله حق.

وإن أراد الثاني نقلب الكلام عليه ونقول بعد جريان استصحاب عدم الحجية لا يحتاج إلى الحكم بعدم الحجية لأجل نفس تحقق الشك من باب حكم العقل.

فإن قلت : إنّ حكم العقل بعدم الحجية مترتب على نفس الشك ، وهو مقدّم على الاستصحاب لأنّه متوقّف على ملاحظة الشك والمشكوك وكونه متيقّن الحكم في الزمان السابق ، فهو متأخر في الرتبة عن حكم يكفي في موضوعه مجرد الشك ، فبمجرّد حصول الشك يترتب الحكم الذي هو موضوعه ولا يبقى محلّ لجريان الاستصحاب لارتفاع الشك بجريان القاعدة العقلية ، نظير الشك السببي والمسببي فإنّ إجراء الأصل بالنسبة إلى السببي لا يبقي محلا لإجرائه بالنسبة إلى المسبب.

قلت : فيه :

أوّلا : أنّه منقوض بقاعدة الطهارة والاستصحاب فإنّ موضوع القاعدة مجرد الشك ، فعلى ما ذكرت ينبغي أن تكون مقدمة على استصحاب النجاسة ولا يلتزم به أحد ، ولا فرق بين الاستصحاب الموافق للقاعدة أو المخالف كما لا يخفى.

وثانيا : بمنع ترتب موضوعي الأصلين في مورد يكون الشك مسبوقا باليقين ، فبمجرّد حصول الشك في الحجية يحصل موضوع حكم العقل بعدم

٢٩٤

الحجية وموضوع الاستصحاب ، إذ يصدق الشك في الحجية مسبوقا بالعلم بعدم الحجية ، فينبغي الحكم بجريان القاعدة والاستصحاب في عرض واحد ، بل يمكن أن يقال بتقدم الاستصحاب على القاعدة ، إمّا بناء على ما اختاره المصنف في تعارض الاستصحاب مع سائر الأصول من أنّه حاكم عليها وأنّ نسبة الاستصحاب إلى سائر الأصول كنسبة الأدلة إلى الأصول وإن كان في حكم الأصل بالنسبة إلى الأدلة فإنّ له منزلة بين المنزلتين ، وإمّا لأنّ موضوع القاعدة مقيّد بعدم ورود حكم من الشارع لمورد الشك لا ظاهرا ولا واقعا ، وهو كذلك لأنّ العقل لا يحكم بعدم الحجية إلّا بعد إحراز أنّه لم يصل من الشرع حكم الحجية ولا عدمها ، ولو علم أنّه في السابق لم يكن حجة في الشرع ثم علم أنّ ممّا ورد في الشرع وجوب إبقاء ما كان ، لا يحكم بعدم الحجية قطعا بل يحكم بوجوب متابعة الشرع.

والحاصل : أنّ موضوع حكم العقل المتحيّر من جهة حكم الشرع ، ومن يجري في حقّه الأصل ليس بمتحيّر من قبل الشرع ، وظهر من هذا البيان أنّ الأصل في المسألة تحقيقا هو استصحاب عدم الحجية ، وما تقدم في الحاشية السابقة من تقرير الأصل مبنيّا على حكم العقل مبنيّ على الإغماض عن جريان الاستصحاب أو تقدير عدمه.

قوله : وهذا نظير قاعدة الاشتغال الحاكمة بوجوب اليقين بالفراغ ، إلى آخره (١).

(١) إن أراد بالتنظير أنّ قاعدة الاشتغال كافية في الحكم بوجوب اليقين بالفراغ ولا يحتاج إلى استصحاب هذا الاشتغال ، لأنّ القاعدة بنفسها جارية في

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٢٨.

٢٩٥

الزمن الثاني كجريانه في الزمن الأول بعينه فحكم الزمن الثاني معلوم بالدليل لا بالأصل ، فهذا حقّ إلّا أنّ ما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، لأنّ عدم الحجية المستصحب لم يثبت بهذا الحكم العقلي الذي نتكلّم عليه ، بل بالعلم بأنّ جميع الحوادث مسبوق بالعدم.

وإن أراد أنّ قاعدة الاشتغال مقدم على استصحاب الاشتغال ، لأنّ موضوعها مجرّد الشك بالتقريب السابق ، ففيه ما مرّ من منع التقدم إن لم يكن الأمر بالعكس ، ولعله إلى ذلك أشار بقوله فافهم.

قوله : ومنها أنّ الأصل هي إباحة العمل بالظن لأنّها الأصل في الأشياء (١).

(١) التحقيق في جوابه أن يقال : لو كان الشك في ثبوت الحرمة النفسية للعمل بالظن أو عدمها كان التمسك بأصالة الإباحة في محلّه ، لكن الكلام في ثبوت الحرمة الغيرية التي تعبر بعدم الحجية وعدم لزوم المتابعة ، ومن المعلوم أنّ أصالة الإباحة لا مسرح لها في هذا المقام ، فإذا حصل الظن بشرطية شيء للصلاة أو جزئية شيء لها فأيّ معنى لأصالة إباحة العمل بالظن هنا ، فهل ترى أنّ أصالة الإباحة قاضية بأنّ ذلك الشيء شرط أو جزء أو ليس بجزء ولا شرط.

قوله : وفيه على تقدير صدق النسبة أوّلا : أنّ إباحة التعبّد بالظن غير معقول (٢).

(٢) توضيحه : أنّه يجب على المكلف في كل واقعة أن يبني على شيء إما الظن أو الأمارة أو الأصل ، بعد العلم بأنّ الله تعالى لم يتركه سدى ، ثم العمل بمقتضى

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٢٨.

(٢) فرائد الأصول ١ : ١٢٨.

٢٩٦

ذلك البناء ، فالعمل بالظن واجب على تقدير جوازه إمّا تعيينا أو تخييرا ، فلا يعقل إباحة العمل بالظن.

ويرد عليه : أنا نتعقّل إباحة العمل بالظن بمعنى جواز الأخذ به والعمل بمقتضاه وجواز ترك الأخذ لا إلى بدل ، ولا ينافي ذلك كون حكمه الرجوع إلى الأصل على تقدير عدم الأخذ به ، لأنّه على هذا التقدير يدخل في موضوع من لا دليل له وحكمه الرجوع إلى الأصل.

وبالجملة : ليس العمل بالأصل في عرض العمل بالدليل أو الظن بل في طوله ، لأنّ عدم وجود الدليل مأخوذ في موضوعه ، فيجوز في الرتبة الأولى أن يكون حكم العمل بالظن الإباحة ، فله أن يأخذ به ويدخل نفسه في موضوع من له دليل ، فيجب أن يعمل بدليله ، وألا يأخذ به ويدخل نفسه في موضوع من ليس له دليل فيجب عليه أن يعمل بالأصل ، وليس هذا تخييرا بين العمل بالظن وبين العمل بالأصل وإلّا لزم أن يكون من يباح له السفر مخيّرا بين القصر والإتمام والصوم والإفطار وهو متّضح الفساد.

قوله : غاية الأمر التخيير بين التعبّد بالظن والتعبد بالأصل (١).

(١) للسيد الكاظمي أن يقول إنّ مقتضى أصالة الإباحة جواز العمل بالظن إلّا أن يمنع الشارع منه ، فما لم يصل المنع فالظن دليل لا يعارضه أصل يحكم بينهما بالتخيير.

قوله : أو الدليل الموجود هناك (٢).

(٢) لو كان الدليل عموما أو إطلاقا يكون مرجعا على تقدير عدم حجية الظن ،

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٢٨.

(٢) فرائد الأصول ١ : ١٢٨.

٢٩٧

فحاله حال الأصل في ورود الظن عليه كما مرّ ، وإن كان معارضا للظن على تقدير حجيته بأن كانا متباينين فحينئذ يتصور التخيير.

قوله : وثانيا : أنّ أصالة الإباحة إنّما هي فيما لا يستقل العقل بقبحه (١).

(١) قد عرفت سابقا أنّ حكم العقل بعدم جواز الاعتماد على الظن مقصور على ما إذا لم يكن هناك ترخيص من الشارع ، وأصالة الإباحة على تقدير صحّة جريانها في المقام ترخيص من الشارع فلا يحكم العقل بالحرمة في مورده.

قوله : ومنها أنّ الأمر في المقام دائر بين وجوب تحصيل مطلق الاعتقاد (٢).

(٢) التحقيق في جوابه أن يقال :

أوّلا : أنّ الدوران المذكور فرع الشك ، ونحن لا نشك بحكم العقل المستقلّ بعدم جواز الاكتفاء بالظنّ بعد العلم بثبوت التكليف الواقعي في الواقعة ، لأنّ الاشتغال اليقيني موجب لليقين بالفراغ بحكم العقل.

وثانيا : أنّ مورد قاعدة الاشتغال أو البراءة في الشك بين التخيير والتعيين إنّما هو في التكليفيات لا الوضعيات ، وكون الظن طريقا أو ليس بطريق حكم وضعي وليس مورد القاعدة ، نعم من جعل المقام من الشك في حرمة العمل بالظن تكليفا كما يظهر من المصنف وقد مرّ ما فيه ، فالجواب الثاني ساقط ويبقى الجواب الأول.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٢٩.

(٢) فرائد الأصول ١ : ١٢٩.

٢٩٨

قوله : ولا معنى لتردد العقل في موضوع حكمه وأنّ الذي حكم هو بوجوبه تحصيل مطلق الاعتقاد أو خصوص العلم (١).

(١) يريد به كما صرّح في غير موضع أنّ العقل يلاحظ جميع خصوصيات الموضوع مما له دخل في ثبوت الحكم ثم يحكم عليه ، وحينئذ لا معنى لتردده في موضوع حكمه ، إذ مع هذا التردد لا حكم له ، وقد بنى على هذا الأصل أمورا كثيرة منها ما نحن فيه ، ومنها عدم تصوير كون نتيجة دليل الانسداد قضية مهملة كما أشار إليه هنا وسيأتي في محلّه مفصّلا. ومنها عدم تصوير استصحاب حال العقل قد صرّح به في رسالة الاستصحاب ، إلى غير ذلك.

لكن يرد عليه : أنا إذا راجعنا وجداننا نجد أنّه يجوز أن يحكم العقل بشيء على موضوع مجمل لا يعرف جميع حدود الموضوع وخصوصياته مثل أن يحكم فيما نحن فيه بأنّ العمل على الاحتمال المرجوح والمساوي غير جائز بل يجب تحصيل اعتقاد والعمل عليه ، وأما أنّ العمل على هذا الاعتقاد الراجح هل يجب أن يكون مختصا بالاعتقاد الجازم أو أعم منه ومن الظن فلا يحكم به نفيا وإثباتا.

وبالجملة : يجوز أن يحكم بشيء وهو وجوب الاعتقاد الراجح والعمل عليه ولا يحكم بشيء وهو وجوب الاعتقاد العلمي والعمل عليه فقط ، ولعل المتأمّل في نظائر المقام لا يخفى عليه ما ذكرنا ، مثلا يجوز أن يحكم العقل بقبح الكذب في الجملة ، وأما أنّ هذا القبح في خصوص الكذب الضار أو أعمّ منه ومن النافع فلا يحكم به.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٣٠.

٢٩٩

قوله : وأما ثانيا فلأنّ العمل بالظن في مورد مخالفته للأصول والقواعد (١).

(١) قد يورد عليه : بأنّ العمل بالظن في مقابل الأصول والقواعد أيضا مخالفة احتمالية لتلك الأصول والقواعد ، لأنّ الظن على تقدير حجيته مقدم على الأصول والقواعد فلا حجية في الأصل المقابل ، وعلى تقدير عدم الحجية فالأصل المقابل حجة ، فالشك في حجية الظن يوجب الشك في حجية الأصل المقابل ، فالأصل ليس حجة قطعية مطلقا حتى يوجب العمل بالظن طرح ما يقابله من الحجة ويلزم المخالفة القطعية ، بل يلزم المخالفة على تقدير وعدم المخالفة على تقدير ، ولأجل الجهل بتحقيق واحد من التقديرين يلزم المخالفة الاحتمالية.

وقد يجاب : بأنّ مورد التمسك بالأصل والقاعدة ليس إلّا في مقام الشك في ورود الدليل أو المخصّص كما نحن فيه ، فالأصل والقاعدة مقطوع الحجية في المقام ، فالعمل بالظن في مقابلهما مخالفة لمقطوع الحجية وهو المعني بالمخالفة القطعية.

ويمكن دفعه : بأنّ ما ذكر مسلّم لو كان الشك في ورود الدليل أو المخصص ، وأما إذا كان الشك في حجية الدليل أو المخصّص فهذا الشك يسري في حجية الأصل أو العموم المقابل ، ويصير كل منهما مشكوك الحجية كما ذكره المورد.

والتحقيق أنّ الإيراد ساقط من أصله ، لأنّ شرط حجية ظهور العموم والأصل المقابل عدم ثبوت دليل معلوم الحجية على خلافه لا عدم ثبوت حجة

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٣٠.

٣٠٠