حاشية فرائد الأصول - ج ١

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-015-2
الصفحات: ٦٩٤

قوله : نعم لو لم نقل بدلالة آية النبأ من جهة عدم المفهوم لها (١).

(١) وعليه أيضا يبقى التعارض بين منطوق آية النبأ وإطلاق مدلول سائر الآيات بحاله ، فلا بدّ من التقييد بخبر العادل كمثل القول بدلالة الآية على المفهوم بعينه ، وضرب المصنف على مجموع هذه العبارة وأثبت

بدله ما لا ينافي ما ذكرنا ، فراجع وتدبّر.

قوله : منها ما ورد في الخبرين المتعارضين من الأخذ بالأعدل والأصدق إلى آخره (٢).

(٢) تقريب الاستدلال : أنّ هذه الطائفة من الأخبار تدل على أنّ مقتضى طبيعة الخبر أن يكون حجة ، إلّا أنّ وصف التعارض مانع عن العمل بكلا المتعارضين وأوجب ذلك السؤال عن علاج التعارض.

وتوهّم أنّ السؤال لعله عن تعارض مقطوعي الصدور قد أشار المصنف إلى دفعه بقوله من الأخذ بالأعدل والأصدق ، فإنّ جواب الإمام (عليه‌السلام) بالأخذ بالأعدل والأصدق يدل على أنّ قوّة الظن بالصدور من جهة الأعدلية والأصدقية مرجّحة لذيها لأنّ قول الأصدق والأعدل أقرب إلى الصدق ، وليس المراد الأخذ به تعبّدا من الشارع كما لا يخفى ، ولا أنّ قول الأعدل والأصدق يحصل منه العلم دون غيره وهو واضح.

نعم ربما يقال : إنّ الترجيح بالأفقهية لعله من جهة أنّه يحصل العلم من قول الأفقه ولذا لم يدخله المصنف هنا في تقريب الاستدلال ، وهو أيضا محل

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٩٦ في الهامش.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٢٩٧.

٤٨١

تأمل واضح.

قوله : مثل مقبولة عمر بن حنظلة حيث يقول الحكم ما حكم به أعدلهما (١).

(١) يمكن الاستدلال على المطلوب بما قبل هذه الفقرة منها من قوله (عليه‌السلام) : «انظروا إلى رجل منكم قد روى حديثنا وعرف أحكامنا» (٢) فإنّ المتبادر منها أنّ الرجل عرف أحكامنا من حديثنا وإلّا كان ذكر رواية الحديث في وصفه لغوا ، فدلت على حجية الحديث لذلك الرجل بحيث صار سندا للحكم النافذ الذي لا يجوز ردّه والراد عليه كالراد عليهم (عليهم‌السلام).

قوله : إلّا أنّ ملاحظة جميع الرواية تشهد بأنّ المراد بيان المرجّح للروايتين (٣).

(٢) وبضميمة عدم القول بالفصل بين الروايات التي هي مستند حكم الحاكم وبين غيرها يتم المطلوب.

قوله : إلّا أنّه لا إطلاق لها (٤).

(٣) ما ذكره من عدم الإطلاق إنّما يتمّ في المقبولة والمرفوعة وأما روايتا ابن أبي الجهم والحارث بن مغيرة فالإطلاق فيهما ظاهر لمكان قوله : «وكلاهما ثقة» في الأولى وإن كان في كلام الراوي ، لكنّ الإمام (عليه‌السلام) قرّره عليه ،

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٩٧.

(٢) الوسائل ٢٧ : ١٣٦ / أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ١ (مع اختلاف يسير).

(٣) فرائد الأصول ١ : ٢٩٧.

(٤) فرائد الأصول ١ : ٢٩٨.

٤٨٢

و «كلهم ثقة» في الثانية لدلالته على أنّ مناط الحجية في الخبر كون المخبر ثقة ، ولو سلّم عدم الإطلاق في الكل كما ذكره نقول إنّها تدل على حجية الخبر غير القطعي الصدور في الجملة ، ولا أقلّ أن تثبت حجية القدر المتيقّن منه كالخبر الصحيح الأعلائي المطابق لعمل المشهور ، وهذا المقدار يكفينا في مقابل قول السيد بالسالبة الكلية.

قوله : ومنها ما دلّ على إرجاع آحاد الرواة إلى آحاد أصحابهم (١).

(١) ربما يورد على الاستدلال بهذه الطائفة من الأخبار بأنّ إرجاع الإمام (عليه‌السلام) إلى آحاد الأصحاب لعله من جهة علمه (عليه‌السلام) بصدق ما يرويه هؤلاء بعلم الإمامة فلا يدل على جواز الرجوع إلى كل موثوق به من الرواة.

أقول : وهذا الإيراد ضعيف في الغاية سيما في مثل «أفيونس بن عبد الرحمن ثقة اخذ عنه معالم ديني» ، ومثل قوله : «العمري ثقة» ، وقوله : «العمري وابنه ثقتان» ونحوها فليتأمل.

وبالجملة أنا نعلم أنّ الإمام (عليه‌السلام) لم يرد بإرجاعه إلى هؤلاء إخباره بأنّهم معصومون من الخطأ والسهو والكذب عن عمد.

قوله : إلى غير ذلك من الأخبار التي يستفاد من مجموعها رضا الأئمة (عليهم‌السلام) بالعمل بالخبر وإن لم يفد العلم (٢).

(٢) ملخّصه : أنّ الاستدلال بهذه الأخبار على حجية الأخبار لا يستلزم

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٩٩.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٣٠٩.

٤٨٣

الدور ، لأنّا ندعي العلم من مجموع هذه الأخبار برضا الإمام (عليه‌السلام) بالعمل بخبر الثقة مطلقا لأجل تواتر هذا القدر المشترك بينها ، والانصاف أنه كذلك ، وهذا أقوى أدلة حجية خبر الواحد.

قوله : وطريق تحصيله أحد وجهين على سبيل منع الخلو (١).

(١) بل أحد وجوه ثلاثة ، ثالثها تتبع أقوال جملة من العلماء وجملة من الإجماعات المنقولة مثلا ، فيحصل من ملاحظة المجموع القطع برأي الإمام (عليه‌السلام).

قوله : الرابع : استقرار سيرة العقلاء طرّا على الرجوع إلى خبر الثقة في أمورهم العادية (٢).

(٢) الفرق بينه وبين الوجه الثالث أنّ هذا الوجه يحتاج إلى انضمام تقرير الشارع وعدم ردعه لينهض حجة على المطلوب ، إذ لا حجية في سيرة العقلاء بنفسها ، بخلاف الوجه الثالث فإنّ استقرار سيرة المسلمين على شيء بنفسه كاف في الحجية والكشف عن رضا الشارع ، بل عن أنهم أخذوا هذه السيرة عن رئيسهم في الدين.

ثم لا يخفى أنّ جعل سيرة العقلاء بضميمة تقرير الشارع لهم وعدم ردعهم عنها من وجوه تقرير الإجماع لا يخلو من مسامحة.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣١١.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٣٤٥.

٤٨٤

قوله : قلت : قد عرفت انحصار دليل حرمة العمل بما عدا العلم في أمرين (١).

(١) قد عرفت سابقا أنّ أدلة حرمة العمل بما عدا العلم ليست ناظرة إلى أحد الأمرين المذكورين ، بل إلى أنّ الظنون الحاصلة من مثل الخرص والتخمين التي يعتمد عليها من لا يبالي بتخلّفها عن الواقع كأكثر الناس لا يجوز الاعتماد عليها ، بل لا بدّ من التحقيق والتدقيق والاتقان ، فلا تشمل مثل الخبر الموثوق به الذي بناء العقلاء المدققين للمطالب المتقنين لأمورهم على الاعتماد عليه ، وقد مرّ بيانه مستوفى عند تعرض المصنف للآيات الناهية في محله ، بل نقول إنّ من يعمل بالظن مطلقا ولو من جهة الخرص والتخمين لا يعمله بقصد التشريع غالبا ، بل بناء على أنّه يوصله إلى الواقع ، وفرض قصد التشريع نادر جدا فلا يحمل الآيات على النهي عن مثله ، وكذا نقول إن من يجعل طريقا تعبديا لأحكامه لا يتوجّه نظره أصلا إلى طرح الأصول المجعولة على تقدير عدم هذا الطريق ، يعرف ذلك بملاحظة جعل الموالي العرفية طريقا لأحكامهم بالنسبة إلى عبيدهم كما لا يخفى.

وبمثل ذلك يجاب عما اختاره المصنف في باب التراجيح من حكومة الأدلة الاجتهادية على الأصول بدعوى أنّ معنى جعل خبر الواحد مثلا حجة طرح الأصول المخالفة لمضمونه ، فنقول هنا أيضا بمنع ذلك وأن معنى جعله تنزيل مضمونه منزلة الواقع ، ليس ناظرا إلى غيره وإن لزم منه طرح الأصول قهرا كما فيما نحن فيه.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٤٦.

٤٨٥

قوله : وثالثا أنّ مقتضى هذا الدليل ـ إلى قوله ـ وأما الأخبار الصادرة النافية للتكليف فلا يجب العمل بها (١).

(١) يمكن دفعه بعدم القول بالفصل بين الأخبار المثبتة للتكليف والنافية له ، وحينئذ يحتاج الدليل إلى ضم هذه المقدمة إليه لينتج تمام المطلوب.

قوله : وكذلك لا يثبت به حجية الأخبار على وجه ينهض لصرف ظواهر الكتاب والسنة (٢).

(٢) هذا جواب رابع لأصل الاستدلال ينبغي ذكره منفصلا عن الجواب الثالث وبيانه : أنّ مقتضى هذا الدليل هو الأخذ بالأخبار المظنونة الصدور احتياطا للتوصل إلى الأخذ بالأخبار الصادرة بحسب نفس الأمر ، ولا يثبت بذلك حجية آحاد الأخبار كما هو المطلوب بحيث تصلح لصرف ظواهر الكتاب والسنة وتخصيص عموماتهما وتقييد مطلقاتهما ، إذ الأخذ بكل واحد من الأخبار حينئذ من باب الأخذ بما يحتمل كونه حجة وهو لا يزاحم الظواهر الثابتة الحجية بالفرض.

قوله : الثاني ما ذكره في الوافية مستدلا على حجية الخبر الموجود في الكتب المعتمدة للشيعة كالكتب الأربعة مع عمل جمع به من غير ردّ ظاهر (٣).

(٣) لم نجد في الوافية من هذه القيود عينا ولا أثرا ، وإنّما عنون الخبر المجرد عن القرائن القطعية وذكر فيه قولين واختار هو الحجية مستدلا بوجوه أولها أنا

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٦٠.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٣٦٠.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٣٦١.

٤٨٦

نقطع ببقاء التكليف إلى يوم القيامة إلى آخر ما ذكره في المتن بعين عبارته ، وحينئذ يسقط ما أورد عليه المصنف أوّلا بأنّ أطراف العلم الإجمالي جميع الأخبار لا خصوص الأخبار المشروطة بما ذكره كما لا يخفى.

نعم ينبغي أن يقرر الإيراد على نحو ما قرره في الجواب عن الدليل الأول من أنّ أطراف العلم الإجمالي جميع الأمارات الظنية لا خصوص الأخبار إلى آخره ، ثم ما أورده عليه ثانيا بأنّ الدليل أخصّ من المدّعى يمكن دفعه بعدم القول بالفصل فتأمل.

قوله : وملخصه أنّ وجوب العمل بالكتاب والسنة ثابت بالإجماع بل الضرورة (١).

(١) هذا التلخيص لا يخلو عن الاخلال :

أما أوّلا : فلأنّه ليس في كلام صاحب الحاشية دعوى الضرورة وإنما ادعى إجماع الشيعة ثم ادعى اتفاق الأمة أيضا.

وأما ثانيا : فلأنّه يستفاد من كلامه تفصيل ليس في المتن إشارة إليه ، فإنه بعد فرض انسداد باب العلم بالواقع والطريق حكم بتعين الأخذ بالظن بالطريق ومع فرض عدمه الأخذ بالظن بالواقع ، ثم قوله : «وبقاء هذا التكليف أيضا ثابت بالأدلة المذكورة» يستفاد من كلامه في جواب بعض الإيرادات التي أوردها على نفسه وأجاب عنها.

وكيف كان دعواه وجوب العمل بالكتاب والسنة يحتمل وجوها :

الأول : أن يكونا حجة على وجه الموضوعية أي يكون التكليف متعلّقا

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٦٣.

٤٨٧

بمؤداها صادف الواقع أم لا.

الثاني : أن يؤخذ قيدا للأحكام الواقعية فيكون المكلف به الأحكام الواقعية مقيدة باستفادتها من الكتاب والسنة.

الثالث : أن يكون المكلف به نفس الواقع غير مقيد بالطريق إلّا أنه يدعى انحصار طريق الوصول إلى الواقع في الكتاب والسنة بالأدلة التي ذكرها.

ثم إرادته للاحتمال الأول بعيد عن ساحته مخالف لظاهر كلماته ، فتعين أحد الأخيرين ، والأظهر من كلامه هو الاحتمال الثاني ، والأنسب بمراده ومساق استدلاله هو الاحتمال الثالث.

وكيف كان ، يرد عليه مضافا إلى ما أورد عليه المصنف ، أنا نعلم علما قطعيا بأنا مكلفون بالأحكام الواقعية يجب تحصيل العلم بها أو ما في حكمها بأيّ وجه كان من الكتاب أو السنّة أو غيرهما ، وعلى فرض انسداد باب العلم بها أو طريقها يكتفى بالظن من أي سبب حصل الظن ، ودعوى تقييد الأحكام الواقعية بطريق خاص مثل الكتاب والسنة ممنوعة أشد المنع كدعوى قيام الإجماع ودلالة الأخبار المتواترة على ذلك فتدبّر.

ودعوى انحصار الطريق في الكتاب والسنة مدفوعة بأنه إن أراد انحصار الطريق واقعا وفي نفس الأمر فيهما فيكذبه الوجدان ، فإنا نقطع ونظن كثيرا ببعض الأحكام من غيرهما من إجماع وسيرة وشهرة وإجماع منقول ونحوها ، وإن أراد انحصار الطريق تعبدا كما يشهد به تمسكه بالإجماع والأخبار المتواترة ، ففيه منع نهوضهما لإثبات الانحصار ، وغاية ما يسلم دلالتهما على كون الكتاب والسنة طريقين للأحكام يجب الرجوع إليهما ، أما عدم جواز الرجوع إلى غيرهما فلا ، فنقول إنهما في عرض سائر الأسباب المورثة للعلم أو

٤٨٨

الظن فلم تثبت حجية الخبر بالخصوص كما نحن بصدده.

ودعوى قيام الإجماع من القائلين باعتبار مطلق الظن والظن الخاص وغيرهم على اعتبار الظن الحاصل من الكتاب والسنة مدفوعة :

أوّلا : بأنّ هذا الإجماع على فرض تسليمه إجماع تقييدي لا حجية فيه ، لأنّا نعلم بسند أقوال المجمعين وبعدم تماميته فلا يكشف مثله عن رأي الإمام (عليه‌السلام).

وثانيا : أنّ قيام هذا الإجماع لا يجعل الظن الحاصل من الأخبار من الظنون الخاصة كما هو المدعى ، لأنّ بعض المجمعين يعني أرباب الظنون المطلقة يرى الظن الحاصل من الأخبار في عرض غيره من الظنون سواء لا من حيث خصوصية فيه ، فكيف ندعي قيام الإجماع على حجية الأخبار بالخصوص.

قوله : هذا تمام الكلام في الأدلة التي أقاموها على حجية الخبر (١).

(١) يمكن الاستدلال على حجية خبر الواحد بوجه عقلي غير ما ذكر سالم عما أورد على الوجوه المذكورة : وهو أنّا نعلم بثبوت الشريعة وبقائها إلى يومنا هذا وهذا مما لا ينكر ، ثم لا شكّ ولا ريب أنّه إذا حصل العلم بتفاصيل أحكام الشريعة من أي سبب كان فهو المتبع ، وإن لم يحصل العلم يحكم العقل المستقل باتباع طريقة العقلاء في كشف الأمور التي انسد باب العلم فيها في أعمالهم وتجاراتهم وغيرها ، ولا ريب أنّ طريقة العقلاء في كشف الأمور الواقعة في الأزمنة السابقة والأمكنة البعيدة ونحوها هي الرجوع إلى أخبار الثقات ، وهي

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٦٦.

٤٨٩

طريقة معهودة مألوفة لا يلام من سلكها بل يذمّ من سلك غيرها من الطرق غير المتعارفة.

فإن قلت : بعد انسداد باب العلم بتفاصيل الشريعة يحكم العقل بلزوم الاحتياط وتحصيل العلم الإجمالي ، وعلى تقدير عدم إمكانه أو عدم لزومه بدليل يرجع إلى الظن ، فهذا يرجع إلى دليل الانسداد المعروف.

قلت : إنّ حكم العقل بالاحتياط مترتب على عدم وجود طريق معتبر هنا يرتضيه العقل والعقلاء ، وحيث كان الرجوع إلى خبر الثقة طريقا عقلائيا حكم العقل بمتابعته لم يوجد موضوع حكم العقل بالاحتياط.

فإن قلت : إنّ طريقة العقلاء بعد انسداد باب العلم هو الرجوع إلى الظن الفعلي ، ورجوعهم إلى أخبار الثقات أيضا من هذا الباب لأنّها تورث الظن الفعلي غالبا ، ولا نسلّم رجوعهم إلى خبر الثقة على تقدير حصول الظن الفعلي على خلافه من الشهرة ونحوها.

قلت : ليس الأمر كذلك بل طريقة العقلاء مستقرة على الرجوع إلى خبر الثقة الخبير في جميع أمورهم تعبدا عقلائيا ، بل النفوس كأنها مجبولة على ذلك (١).

ثم اعلم أنّه لا يبعد أن يدعى أنّ العمل بالشهرة أيضا طريقة العقلاء ، فبمقتضى الدليل المذكور تكون هي أيضا من الظنون الخاصة فتدبّر.

__________________

(١) أقول : الانصاف أنّ بناء العقلاء على العمل بالظن المطلق الفعلي في أمورهم ، نعم ربما كان بعضهم ممن يتهم في نفسه بالنسبة إلى رأيه وظنه نوعا فلذلك لا يعتمد على ظنه الفعلي بل يرجع إلى خبر الثقة.

٤٩٠

في الأدلة العقلية على حجية مطلق الظن قوله : وإن اقتضاها دليل آخر (١).

(١) يعني لا يصير بذلك الظن الخبري من الظنون الخاصة ، إذ المراد بالظن الخاص ما يدل الدليل على حجيته بعنوانه الخاص ككونه خبر العدل مثلا ، لا أن يدل الدليل على حجية عنوان الظن ثم انحصر الظن في الظن الحاصل من خبر العادل واقعا أو بدليل آخر غير دليل حجية الظن.

قوله : الأول أنّ في مخالفة المجتهد لما ظنه من الحكم الوجوبي أو التحريمي مظنة للضرر (٢).

(٢) اعلم أنّ المستدل بهذا الدليل ينبغي أن يضم إليه مقدمة أخرى لينتج وجوب متابعة الظن وإلّا فأدلة البراءة تؤمننا عن الضرر ما لم نعلم به ، فله أن يقول إنّ أدلة البراءة الشرعية منصرفة عن صورة الظن بالحكم ، والعقلية كقبح العقاب بلا بيان لا تجري مع الظن بالحكم وحكم العقل بلزوم دفع الضرر

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٦٧.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٣٦٧.

٤٩١

المظنون ، لأنّ هذا الحكم العقلي يكفي في كونه بيانا رافعا لموضوع حكم العقل بالبراءة ، أو يقول بأنّ أصالة البراءة حجة من باب الظن لا التعبّد ، ومع الظن بخلافها كيف يحصل الظن بالبراءة ، لكن الظاهر أنّ من يقول بحجية أصل البراءة من باب الظن يريد الظن النوعي لا الشخصي ، فحينئذ يمكن اجتماع الظن النوعي على البراءة مع الظن الشخصي على خلافه ، إلّا أن يقال إنّ دليل حجية الظن بالبراءة يقتصر الحكم على ما لم يظن بخلافه فعلا.

ثم اعلم أنّ مقتضى هذا الدليل على فرض تماميته حجية الظن في الموضوعات أيضا كالأحكام لجريان الدليل فيها بعينه ، وأيضا ليس الدليل مبنيا على الانسداد الغالبي في الأحكام كما في الدليل الرابع ، بل لو كان باب العلم منفتحا في جميع المسائل سوى واحدة وظن فيها الحكم الإلزامي يجب العمل بالظن فيها بحكم هذا الدليل.

قوله : أما الصغرى فلأنّ الظن بالوجوب ، إلى آخره (١).

(١) قد أحال المستدل ثبوت الكبرى إلى وضوح استنادها إلى حكم العقل المستقل بلزوم دفع الضرر المظنون ، وأخذ في بيان إثبات الصغرى ، وهو كذلك فإنّ العقل مستقل بلزوم دفع الضرر المظنون بل المحتمل احتمالا عقلائيا إذا كان الضرر عظيم الخطر كالعقاب الاخروي وجملة من أفراد الضرر الدنيوي ، ويمكن أن يجعل كبرى القياس ما لا يحتاج إلى إثبات كون مخالفة الحكم المظنون ضررا وهو أن طاعة المولى واجب ومخالفته قبيح بحكم العقل المستقل ولو لم يكن هناك عقاب أصلا قضية العبودية وأنّ المولى مستحق للعبادة والإطاعة ، مضافا إلى اقتضاء جهة المربوبية ذلك أيضا ، فكل ما علم أو ظنّ أو

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٦٧.

٤٩٢

احتمل احتمالا صحيحا بأنّ هذا مطلوب المولى ومراده يحكم العقل الحاكم بوجوب إطاعة المولى وحرمة مخالفته بوجوب تحصيل العلم بحصول غرض المولى ومراده والعلم بعدم حصول المخالفة ، ولو جعل هذا التقرير دليلا آخر برأسه كان حسنا.

وما ذكرنا من حكم العقل بوجوب إطاعة المولى ولو لم يكن هناك عقاب يعرف بالتأمل ، كيف ولو لم يكن كذلك وكان حكمه بوجوب الإطاعة من أجل التخلّص عن العقاب لما كان فرق في حكم العقل بين المولى المستحق للعبادة والظالم الذي يعاقب على مخالفة حكمه بالقهر والظلم مع أنّ الفرق لعله بديهي.

ثم اعلم أنّ حكم العقل بوجوب دفع الضرر المظنون أو الموهوم أيضا إرشادي لا يترتب عليه إلّا الوقوع في الضرر على تقدير المخالفة ومصادفة الضرر.

وقد يقال إنّ الضرر المظنون إن كان ضررا دنيويا يحكم العقل بوجوب دفعه وجوبا شرعيا مولويا لأنّه يرجع إلى الظلم على النفس ، وحكم العقل بقبح الظلم مطلق ، ووجوب تركه مولوي ، وكذا إذا كان الضرر المظنون أخرويا غير العقاب بعين التقريب. وأما إذا كان أخرويا هو العقاب فيحكم العقل بوجوب دفعه إرشادا إلى التحرّز عن العقاب ، كما يحكم بوجوب التحرّز عن الضرر العقابي المقطوع به ، لأنّ حكمه هذا إن كان شرعيا يلزم التسلسل بتقريب أنّ العقل يحكم ثانيا بوجوب دفع العقاب المترتب على مخالفة دفع الضرر الواجب ويكون هذا الحكم أيضا واجبا شرعيا ، فيحكم العقل بوجوب دفع عقاب مخالفة هذا الحكم ويكون حكمه هذا أيضا شرعيا وهلم جرّا.

والحق أنّ حكم العقل في الكل كما ذكرنا إرشادي ، يشهد بذلك أنّ حكم

٤٩٣

العقل بوجوب دفع الضرر المقطوع والمظنون والمحتمل دنيويا كان أو أخرويا على نسق واحد ظاهرا وبوجه واحد ، فلو سلّمنا أنّ حكمه في الضرر العقابي المقطوع به إرشادي كما اعترف به القائل المذكور فكذا في غيره. مضافا إلى أنا إذا راجعنا وجداننا لا نجد في عقولنا سوى الحكم بأنّ من أقدم على الضرر ووقع فيه فلا يلومنّ إلّا نفسه التي أوقعته في الضرر ، لا أنّه يترتب عليه ضرر آخر حتى لو تخلّف ظنه ولم يقع في الضرر المظنون يلحقه الضرر الآخر ، وليس حكمنا في صورة القطع بضرر العقاب بأنّ وجوب دفعه إرشادي لا شرعي من جهة لزوم التسلسل على تقدير مولويته كما توهمه هذا القائل ، بل لأجل أنّ العقل لا يحكم أزيد من الوجوب الإرشادي ، ولذا لو كان العقاب مظنونا لا مقطوعا لا يلزم التسلسل مع أنّه يقول بإرشادية حكم العقل فيه ، ووجه عدم لزوم التسلسل فيه واضح ، إذ لو كان وجوب دفع ضرر العقاب المظنون واجبا شرعيا يقطع بترتب العقاب على تركه فلا يحدث موضوع آخر لوجوب دفع الضرر المظنون حتى يتسلسل ، هذا فاحتفظ به ينفعك فيما سيأتي.

قوله : أو لأنّ الظن بالوجوب ظن بوجود المفسدة في الترك (١).

(١) هذا بناء على ما ذهب إليه العدلية من أنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد النفس الأمرية في المأمور به ، وهل المصالح والمفاسد الكائنة في الأفعال الموجبة لتعلّق الأحكام بها وترتبها عليها مشروطة بحصول العلم بها أو أنّها ثابتة في نفس الأمر علمت أو لم تعلم تترتب على الأفعال مطلقا.

وعلى الثاني لا يجوز للشارع أن يرخص في ترك الاحتياط منها بجعل حكم البراءة في صورة ظن وجود المفسدة أو احتماله إلّا بأن يتدارك ضرر

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٦٧ ـ ٣٦٨.

٤٩٤

الفعل أو الترك على تقدير مصادفته بأن يدفعه بالترياق لو كانت المفسدة أخروية أو يجازيه في الآخرة بدله لو كانت دنيوية ، فليكن هذا على ذكر منك لعله ينفعك في بعض الأجوبة الآتية.

قوله : أحدها ما عن الحاجبي وتبعه غيره من منع الكبرى وأنّ دفع الضرر المظنون إذا قلنا بالتحسين والتقبيح (١).

(١) ابتناء المسألة على القول بالتحسين والتقبيح العقليين فاسد ، لما مرّ من أنّ حكم العقل بوجوب دفع الضرر مطلقا من قبيل الحكم بوجوب الإطاعة ووجوب المقدمة وحرمة الضد ونحوها مما لا ينكرها الأشاعرة المنكرين للتحسين والتقبيح العقليين ، وليس من قبيل وجوب ردّ الوديعة وحرمة الظلم متفرعا على القول بالتحسين والتقبيح ، لأنّ حكمه هذا إرشاد إلى التحرز عن الضرر ، ومثل هذا الحكم من العقل لا ينكره أحد.

نعم للأشاعرة منع الصغرى بناء على أنّ المراد من الضرر المظنون المفسدة في نفس الفعل والترك لا العقاب ، لإنكارهم المصالح والمفاسد في الأفعال مع قطع النظر عن حكم الشارع.

قوله : بناء على أنّ المراد العذاب والفتنة الدنيويّان (٢).

(٢) وجه هذا الابتناء غير ظاهر ، إذ لو جعل المراد أعم من العذاب والفتنة الدنيويين والاخرويين كما هو الظاهر فهو أبلغ في المطلوب.

وقد يوجّه بأنّه لو كان المراد خصوص الاخرويين لم يستفد من الآية سوى وجوب الحذر عن المخالفة ، لأنّ الاخبار عن عقاب الفعل غالبا لبيان

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٦٨.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٣٦٩.

٤٩٥

إفادة الوجوب ، وهذا بخلاف العذاب والفتنة الدنيويين فإنّه لا يصير منشأ لوجوب الفعل الموجب لهما شرعا ، فإذا أوجب الحذر عما يوجبهما كشف عن وجوب دفع الضرر المظنون.

وفيه ما لا يخفى إذ يكفي في إفادة الوجوب الأمر بالحذر على التقدير الأول ولا يحتاج إلى انضمام الاخبار بالعقاب.

ثم إنّ دلالة الآية بل سائر الآيات على وجوب دفع الضرر المظنون محلّ نظر بل منع ، لأنّها آمرة بوجوب الحذر عن مخالفة الأمر ، ولا بدّ من العلم بالمخالفة حتى يحكم عليها بترتب العذاب والفتنة ، وكذا لا بدّ من العلم بحصول التهلكة حتى يشمله نهي لا تلقوا ، وهكذا في الباقي كما لا يخفى على من تأمّلها.

ثم إنّه يستفاد من تمسك المصنف لإثبات الكبرى بالأدلة الشرعية تقرير الحاجبي على ابتناء حكم العقل بها على التحسين والتقبيح ، وقد عرفت عدم الابتناء.

قوله : أو يريد أنّ المضار غير الدنيوية وإن لم يكن خصوص العقاب مما دل العقل والنقل على وجوب إعلامها على الحكيم (١).

(١) إنّ المضرّة الاخروية إن كانت مفسدة غير العقاب ، فإن كان ترتبها مقيدا بالعلم كما هو أحد الاحتمالين السابق ذكرهما فهي منتفية لفرض عدم العلم بها ، وإن كان ترتبها غير مقيد بالعلم فيجب على الشارع الحكيم إعلامها من باب اللطف ببيان واصل إلى المكلف ، بل وكذا المضار الدنيوية التي انسد طريق علمنا به ، فإذا لم نجد بيانا لثبوت المفسدة نحكم بعدمها أو تداركها على ما مرّ بيانه

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٧٠.

٤٩٦

ونأمن من الوقوع فيها ، كما نحكم بعدم ترتب العقاب من غير بيان ، وسيأتي توضيح الحال في الجواب المرضي عند المصنف.

وللمحقق القمي هنا كلام طويل الذيل أورده صاحب الحاشية (١) مع ما يرد عليه أعرضنا عن التعرض له مخافة الاطناب من شاء فليراجع إلى كتابيهما.

قوله : ويضعّف الأول بأنّ دعوى ـ إلى قوله ـ خلاف مذهب الشيعة (٢).

(١) لو صحّت هذه الدعوى كان ذلك جواب أصل الاستدلال أيضا ، فإنّ العمل بكل ظن حتى الحاصل من الرؤيا والاستخارة وأمثالهما خلاف مذهب الشيعة قطعا ، فينبغي أن يجعل ذلك جوابا عن أصل الاستدلال أيضا (٣).

قوله : لأنّه من الاحتياط الذي استقل العقل بحسنه (٤).

(٢) لو أخذ بالظن القياسي من باب الاحتياط اللازم وعدم التخطّي عنه ويفتى بهذا الاحتياط في مقابل أصل البراءة وغيره من الأصول الثابتة الحجية ، يمكن أن يكون فيه الضرر الأعظم الذي ادّعاه المجيب ، ودعوى عدم تصور الضرر فيه أصلا ممنوعة.

نعم لو أخذ به من باب الاحتياط الراجح ويفتى برجحان الاحتياط وجواز تركه أيضا فهذا مما لا ضرر فيه ، وهذا في الحقيقة يرجع إلى إلغاء جهة

__________________

(١) هداية المسترشدين ٣ : ٤٣٣.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٣٧١.

(٣) أقول : هذا الكلام لم يزد على إثبات النقض ، ومن المعلوم أنّ أصل النقض جواب عن أصل الاستدلال.

(٤) فرائد الأصول ١ : ٣٧١.

٤٩٧

الظن وترتيب أثر الاحتمال المحض على المظنون.

قوله : توضيحه : أنا قدّمنا لك في تأسيس الأصل في العمل بالمظنة (١).

(١) إنا قدمنا في ذلك المقام أنّ الأدلة الناهية عن العمل بالظن ناظرة إلى المنع عن العمل بالظن على الوجه المعهود بين الناس سيّما أهل الكتاب الذين هم مورد الآيات الناهية ، وهو الأخذ بالظن طريقا إلى الواقع وإلغاء احتمال خلافه والتزام العمل به لا التدين به والتشريع ، وهكذا نقول في النهي عن العمل بالقياس هنا ، بل نقول إنّ الأدلة الناهية عن القياس ظاهرة في عدم جواز الاعتناء بالقياس حتى بالأخذ به من باب الاحتياط اللازم ، وأين هذا من المنع عن التدين بالقياس.

قوله : وإن أراد ثبوت الضرر في العمل بها بمعنى إتيان ما ظن وجوبه (٢).

(٢) بناء على هذا الاحتمال كما يندفع جواب النقض يندفع أصل النقض أيضا ، إذ بعد فرض أنّ النواهي المتعلّقة بالقياس ناظرة إلى منع التشريع والتدين بالظن القياسي فلا دليل على منع الأخذ به من باب الاحتياط فتشمله قاعدة وجوب دفع الضرر المظنون ولا محذور فيه ولا نقض.

قوله : فتأمّل (٣).

(٣) لعله إشارة إلى أنّ الأدلة الناهية عن القياس بعد صرفها إلى المنع عن

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٧٢.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٣٧٢.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٣٧٣.

٤٩٨

التشريع لا تشمل العمل بالظن القياسي من باب الاحتياط حتى يكشف عن تدارك ضرر تخلف الواقع فافهم.

قوله : لكنه رجوع عن الاعتراف باستقلال العقل وقيام الإجماع على عدم المؤاخذة على الوجوب والتحريم المشكوكين (١).

(١) للقائل أن يقول باستقلال العقل على عدم المؤاخذة على الوجوب والتحريم المشكوكين بواسطة الجهل المركّب أو البسيط بالحكم ويكون الضرر حينئذ مقطوع العدم ، ويقول بوجوب دفع الضرر المحتمل في مظنون الوجوب والحرمة لفرض عدم حكم العقل فيه بقبح العقاب على الواقع المظنون ، ولا يكون هذا رجوعا عما اعترف به أوّلا ، إذ ما اعترف به أوّلا استقلال العقل على قبح عقاب مشكوك الوجوب والحرمة لا مشكوك الضرر للقطع بعدم الضرر بواسطة هذا الحكم العقلي ، وهذا غير ما يلتزم به أخيرا من وجوب دفع الضرر المشكوك في مظنون الوجوب والحرمة الذي لا يستقل العقل بقبح العقاب عليه كما هو مفروض المتن.

بقي الكلام فيما أفاده من استقلال العقل بقبح العقاب على الوجوب والتحريم المشكوكين وعدم استقلاله في مظنون الوجوب والحرمة ، والحق عدم الفرق ، فإن كان يحكم بقبح المؤاخذة يحكم في الموضعين ، وإلّا لا يحكم في الموضعين ، وقد أفرط المصنف في رسالة أصل البراءة حيث حكم باستقلال العقل بقبح العقاب على الحكم المجهول حتى في الشبهات الموضوعية.

والتحقيق أن يقال : إنّ العقل لا يستقل بقبح العقاب على الحكم المجهول في الشبهات الموضوعية أصلا ، إذ موضوع حكم العقل بالقبح هو العقاب بلا

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٧٤.

٤٩٩

بيان ، والمفروض في الشبهة الموضوعية ثبوت البيان من الشارع لما هو من وظيفته وهو بيان أصل الحكم ، وإنّما المجهول موضوع الحكم الذي ليس بيانه وظيفة الشارع ، وهذا واضح.

وأما في الشبهة الحكمية فإن علم بعدم البيان من الشارع وعلم أيضا أنّه لم يكن مانع عن البيان فلا ريب أنّ العقل يحكم بعدم العقاب ، بل يحكم بعدم الحكم في الواقع وإلّا لزم الإخلال بالحكمة الذي نقول بقبحه واستحالته من الشارع الحكيم ، أما إذا لم نعلم بعدم البيان واحتملنا صدور البيان اللازم واختفاءه لظلم الظالمين كما هو حالنا في مثل هذه الأزمنة بالنسبة إلى الأحكام الشرعية ، أو لم نعلم بعدم المانع عن البيان واحتملنا وجود مانع عن البيان من تقية ونحوها ، فالإنصاف أنّ العقل لا يحكم بقبح العقاب على محتمل الوجوب والحرمة ، وإن قلنا بأنّه لا يحكم بوجوب الاحتياط أيضا.

نعم يدل على البراءة حينئذ الأدلة الشرعية المذكورة في محلّها وهو كلام آخر ، ولما ذكرنا مثال في العرف وهو أنّه لو فرض بالنسبة إلى الموالي والعبيد العرفيين أنّ العبد كان ملازما لحضرة المولى في الخلأ والملأ ، وعلم العبد بعدم تحقق مانع للمولى في بيان أوامره ونواهيه من خوف أو حياء ونحوه فلا يجوز للمولى مؤاخذة هذا العبد بعدم إتيانه ما هو مراده ، مع أنّه لم ينبّه مع قدرته على البيان ، ولو عاقبه على ذلك لذمّه العقلاء ذما شديدا ، وأما إذا احتمل العبد أنّ المولى يريد منه كذا لكن منعه مانع من الأمر به من خوف من أحد أو حياء فلا يبعد أن يقال إنّ عقله يحكم بوجوب الاحتياط ، ولو عاقبه المولى على أنّه لم يأت بمراده لا يلام على ذلك ، وكذا إذا كان العبد غائبا عن حضرة المولى وأرسل إليه طومارا مشتملا على أوامر ونواه واتفق أنه بلغ الطومار حادثة قد انمحى منه بعض رسمه واحتمل العبد أو ظن أنّ المولى يريد منه الشيء الفلاني

٥٠٠