حاشية فرائد الأصول - ج ١

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-015-2
الصفحات: ٦٩٤

الكلام في الظن

الكلام في الظن قوله : أحدهما في إمكان التعبد به عقلا (١).

(١) يعني إمكان كون الظنّ حجة أي لازم الاتباع في الجملة.

واعلم أنّ الإمكان قد يطلق على الإمكان الذاتي في مقابل الممتنع الذاتي ، فالممكن بهذا المعنى ما لا يستحيل وقوعه بالنظر إلى ذاته وإن عرض له الاستحالة لأمر خارج عن ذاته ، وقد يطلق على الإمكان الوقوعي ويراد به عدم تحقق مانع من وقوعه فعلا لا من جهة ذاته ولا من جهة أخرى خارجة عن ذاته ، فمثل الأمر بالجمع بين الضدين ممكن بالمعنى الأول غير ممكن بالمعنى الثاني لأنّه عبث يقبح صدوره عن الحكيم ، فيستحيل وقوعه من هذه الجهة لا من جهة ذاته ، ولذا لو كان الامر غير حكيم يفعل القبيح قد يأمر به ، ولا ريب أنّ الإطلاق على المعنى الأول أكثر وأشهر ولذا يحمل مطلقه عليه ، كما أنّ الظاهر من الإمكان الذاتي هو الواقعي لا الاحتمالي ، وكذا الظاهر من الإمكان الوقوعي أيضا هو الواقعي ، لكن قد يطلق الإمكان على الإمكان الاحتمالي

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٠٥.

٢٤١

بالنسبة إلى كلا المعنيين ومرجعه إلى احتمال كون الشيء ممكنا ذاتيا أو وقوعيا بمعنى عدم علمنا بامتناعه بأحد الوجهين ويجوز كونه في الواقع ممتنعا لوجه لا نعلمه ، ويحمل على هذا المعنى ما اشتهر حكايته عن ابن سينا من قوله : كلّ ما قرع سمعك من الأكوان ولم يذده قاطع البرهان فذره في بقعة الإمكان ، يعني ضعه في حيّز الاحتمال ولا تردّه بمجرّد عدم البرهان عليه ، وإلّا فلا معنى للحكم بالإمكان بمجرّد عدم العلم بوجه الامتناع وهذا واضح.

فالذي يمكن أن يكون محلا للنزاع في مسألتنا هو الإمكان الواقعي بأحد المعنيين أو كليهما ، فالمثبت يقول أنا أعلم بعدم استحالة التعبّد بالظن ذاتا وأعلم بعدم قبحه من جهة نقض الغرض أو خلاف اللطف أو العبث أو غيره مما يدّعيه المنكر ، والمنكر يجوز أن يدّعي العلم بالاستحالة بأحد الوجهين أو يدّعي عدم العلم بالإمكان الذي يدّعيه المثبت ، ولو ادّعى المثبت الإمكان الاحتمالي فذلك لا يفيده شيئا ، إذ مرجعه إلى التوقّف ، لأنّ معناه أنّه لا يدري هل هو ممكن أو ممتنع مردّد في اعتقاده بينهما ، هذا.

ويمكن أن يقال : إن إثبات الإمكان الاحتمالي أيضا يفيدنا ، لأنّا وإن لم نحكم بالإمكان بمجرّد الاحتمال لكن لو فرض ورود دليل شرعي على ثبوت ما هو ممكن بهذا المعنى أي محتمل الوقوع نأخذ بذاك الدليل ونحكم بالإمكان ثم بالوقوع ولا نطرح ذلك الدليل ، بخلاف ما إذا لم يكن ممكنا بهذا المعنى أي غير محتمل الوقوع في اعتقادنا فيجب طرح ذلك الدليل أو تأويله.

قوله : أما الأول فاعلم أنّ المعروف هو إمكانه (١).

(١) الظاهر هو الإمكان الذاتي ، ولا يبعد أنّهم أرادوا الإمكان الوقوعي بقرينة

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٠٥.

٢٤٢

أنّ المعروف قائلون بالوقوع في الخارج ، فلا مانع عندهم من وقوع التعبّد لا من حيث الذات ولا خارجا عنه وإلّا لما وقع ، ويمكن على بعد إرادتهم الإمكان الاحتمالي ويفيدهم ذلك بالتقريب الذي مرّ آنفا ، وسيأتي ما يوضح أنّ مخالفة محمّد بن عبد الرحمن بن قبة في الإمكان بأيّ المعنيين فانتظر.

قوله : ويظهر من الدليل المحكي عن ابن قبة (١).

(١) يعني من دليله الثاني وهو تحليل الحرام وعكسه ، وإلّا فدليله الأول مختصّ بالخبر الواحد كما لا يخفى.

قوله : والثاني أنّ العمل به موجب لتحليل الحرام وتحريم الحلال (٢).

(٢) يريد أنّ التعبد به موجب لذلك ، يعني جعل الشارع خبر الواحد حجة يوجب تحليل الحرام ، وإلّا فنفس العمل بالخبر لا يوجب تحليل الحرام وذلك واضح ، وفي التعبير المذكور مسامحة.

ثمّ إنّه لم يبيّن وجه فساد تحليل الحرام وعكسه وهو يحتمل وجوها :

أحدها : أنّ ذلك من جهة استلزامه نقض الغرض ، فإنّ من يحرّم شيئا لغرض ثم يرخّص في فعله فقد نقض غرضه الأول وذلك قبيح.

ثانيها : أنّ ذلك مستلزم للنهي عن ذي المصلحة أو الرخصة في ذي المفسدة ، لأنّ الفعل لا يخلو عن كونه في الواقع ذا مصلحة أو ذا مفسدة ، فإن كان الأول فالنهي قبيح وإن كان الثاني فالرخصة قبيحة ، وعلى هذين الوجهين فإنّه لم ينكر الإمكان الذاتي بل العرضي من حيث لزوم القبح الذي لا يجوز على

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٠٥.

(٢) فرائد الأصول ١ : ١٠٥.

٢٤٣

الحكيم.

ثالثها : أنّ ذلك من جهة تضاد الحكمين كما في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، وحينئذ فإن قلنا بأنّ الطلب عين الإرادة فيكون تحليل الحرام محالا ذاتيا لاستحالة تعلّق الإرادة والكراهة بفعل واحد واقعا ، وإن قلنا بأنّ الطلب هو الإنشاء أو الإرادة الإنشائية وهو غير الإرادة النفسية يكون تحليل الحرام على هذا قبيحا كالأمر برفع النقيضين والجمع بين الضدين فإنّه ليس بمحال ذاتي إلّا أنّه محال بالعرض لأنّه قبيح لا يصدر عن الحكيم ، وإلّا فالإرادة النفسية متعلّقة بأحدهما دون الآخر.

والتحقيق أنه على هذا القول أيضا محال ذاتي ، لأنّ الطلب الحقيقي والإنشاء الواقعي لا يتعلق بتحليل ما هو حرام في الواقع ، وكذا لا يتعلق بالجمع بين الضدين ، وإن كان هنا طلب ظاهرا فإنّما هو طلب صوري ، فإن كان معنى الطلب هو هذا الإنشاء الصوري فتحريم الحلال بهذا المعنى ليس بمحال ذاتي ولا عرضي يصح وقوعه إذا كان مشتملا على مصلحة.

قوله : وفي هذا التقرير نظر ـ إلى قوله ـ وهو غير حاصل فيما نحن فيه (١).

(١) إحاطة العقول بجميع الجهات المحسّنة والمقبّحة وعلمه بانتفائها ليس من المستبعد في مثل هذه الأمور المعقولة كما نحكم بإمكان الاشتراك اللفظي الذي أحاله شرذمة ، وكذا إمكان الواجب الموسع وإمكان اجتماع الأمر والنهي وغير ذلك ، فإنّ الجهات المحسّنة والمقبّحة في مثل هذه الأمور التي حقائقها معقولة لنا وبمرأى ومسمع منّا ليست مما لا يدركه عقولنا ولا يمكن الإحاطة بها ، مثلا

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٠٦.

٢٤٤

أنّا نجد بالعيان أنّ اجتماع الأمر والنهي لا وجه لاستحالته إلّا اجتماع موردهما في الخارج ، فإذا علمنا بأنّ هذا ليس مانعا عن الاجتماع نقطع بجواز الاجتماع واقعا ، وبمثل ذلك ندّعي فيما نحن فيه.

قوله : فالأولى أن يقرّر هكذا (١).

(١) هكذا قرّره صاحب الفصول (رحمه‌الله) (٢) بعد ما أورد على الدليل المعروف بما أورد المصنف ، ولا ريب أنّ هذا التقرير لا يثبت إلّا الإمكان الاحتمالي ، والمطلوب هو الإمكان الذاتي والوقوعي ، وإن كان الإمكان الاحتمالي أيضا يفيدنا فيما نحن بصدده بعد ورود الدليل الشرعي على وقوعه على ما سيأتي كما مرّ بيانه قبل ذلك ، ولعل هذا التقرير ناظر إلى العبارة المعروفة المنسوبة إلى ابن سينا كلّ ما قرع سمعك إلى آخره ، وقد عرفت أنّه لم يرد سوى الإمكان بمعنى الاحتمال ، وما ذكره من أنّ هذا طريق يسلكه العقلاء في الحكم بالإمكان ممنوع أشدّ المنع إن أريد بالإمكان الواقعي ، وإن أريد الإمكان الاحتمالي فهو كذلك.

وقد يتمسّك في الحكم بإمكان ما لم يعلم استحالته ، بأنّ الغالب في المعقولات المعلومة هو الممكنات ، ويجب إلحاق غير المعلوم بالمعلوم ويحكم بإمكانه. وفيه : أنّ الغلبة غير معلومة ، وعلى فرض التسليم فلا حجيّة فيها سيّما فيما يطلب فيه العلم ولا يكتفى بالظنون أصلا.

والأولى أن يتمسّك في الحكم بالإمكان فيما نحن فيه بالوقوع ، فإنّ التعبّد بغير العلم كالفتوى والبيّنة واليد والسوق وأصل البراءة وأمثالها مما لا ينكر حتى

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٠٦.

(٢) الفصول الغروية : ٢٧١.

٢٤٥

عند ابن قبة ، وجهة المنع لو كانت مشتركة بينها وبين التعبّد بخبر الواحد وغيره من الأمارات غير العلمية ، فلمّا وقع بعضها علمنا أنّ الجميع من الأمور الجائزة.

قوله : والجواب عن دليله الأول أنّ الإجماع (١).

(١) الأولى أن يقال في مقام الجواب عن هذا الدليل إنّه إن أراد الجواز في قوله لو جاز لجاز ، الجواز الشرعي كما يناسبه التمسك في بطلان التالي بالإجماع فلا كلام لنا فيه الآن ، وإن أراد الجواز العقلي ففيه منع الملازمة ومنع بطلان التالي على تقديره.

أمّا الأول ، فإنّه لم يقم عليها برهان بل الفرق بينهما غير خفي ، فإنّ إثبات أصل الدين وجميع فروعه بالظنّ مما لا يرتضيه العقل والعقلاء ، بخلاف إثبات بعض فروعه المشتبهة بعد ثبوت أصله بالقطع والأدلة القطعية ، مضافا إلى ما ذكره في الفصول من أنّ الدواعي في الإخبار عن الله كاذبا كثيرة ، لأنّه يثبت المدّعي منصب النبوّة والرئاسة العامة ، بخلاف الاخبار عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وأنّ الاخبار عن الله لا يكون إلّا إذا كان المخبر مؤيّدا بمزيد عناية الله وألطافه المخصوصة التي لا يتيسر لكل أحد بخلاف الإخبار عن النبي.

وأما الثاني ، فلا مانع عقلا من جواز التعبّد بالخبر في الاخبار عن الله ، وإن تمسّك بذيل الإجماع فيقال إنّه قائم على عدم الوقوع لا عدم الجواز ، مضافا إلى أنّ التمسك بالإجماع التعبدي في المسائل العقلية كما ترى ، ولو أريد به إجماع العقلاء ليستكشف به أنّ حكم العقل كذلك كان جوابه المنع ، فتأمّل.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٠٦.

٢٤٦

قوله : وأخرى بالحلّ بأنّه إن أريد تحريم الحلال الظاهري أو عكسه فلا نسلّم لزومه (١).

(١) قد عرفت أنّ محذور تحليل الحرام إمّا عدم جواز اجتماع الحكمين في موضوع واحد وإما لزوم القبح من نقض الغرض أو الأمر بذي المفسدة والنهي عن ذي المصلحة ، وظاهر هذا الجواب أنّه ناظر إلى الوجه الأوّل وأنّ الممتنع هو اجتماع الحكمين الواقعيين أو الظاهريين ، وإن كان أحدهما واقعيا والآخر ظاهريا فلا امتناع في الاجتماع ، لكن صاحب الفصول (٢) مع أنّه صرّح في تقريب الاستدلال بكون محذور تحليل الحرام هو القبح لا التناقض اختار هذا الجواب ، فتأمل.

وكيف كان ، يمكن تقرير هذا الجواب بناء على أنّه ناظر إلى رفع التناقض واجتماع الحكمين بوجوه :

الأول : ما يظهر من المصنف في أول رسالة أصل البراءة من أنّ موضوع الحكم الظاهري والواقعي مختلف ، ولا ريب أنّ الممتنع من اجتماع الضدين والنقيضين أن يكون في موضوع واحد كأن يقال شرب التتن مثلا في حدّ نفسه حكمه الحرمة وهو بوصف أنّه مشكوك الحكم الواقعي أو بوصف أنّه مظنون الحلية بخبر الواحد أو غيره حكمه الحلّية ، فموضوع الحرمة شرب التتن في نفسه وموضوع الحلية شرب التتن المقيّد بكونه مشكوك الحكم أو مظنون الحلية.

وهذا الجواب بظاهره فاسد ، لأنّه لو كان حكم شرب التتن في نفسه هو

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٠٧.

(٢) الفصول الغروية : ٢٧١ ـ ٢٧٢.

٢٤٧

الحرمة غير مقيّد بوصف من الأوصاف ، فلا ريب أنّ هذا الموضوع متحقق في حال جميع الأوصاف الملحوظة ، وشرب التتن المشكوك الحكم فرد من أفراد هذا الموضوع ، فيعود محذور اجتماع الحكمين في موضوع واحد.

لا يقال : إنّ قولنا شرب التتن حرام وشرب التتن المشكوك حكمه حلال قضيّتان مختلفتا الموضوع بالحسّ والوجدان.

لأنّا نقول : المراد باختلاف الموضوع اختلاف معروض الحكم لا اختلاف ما وقع في لسان الدليل موضوعا ، فربّ وصف وقيد مأخوذ في لسان الدليل في الموضوع وليس مأخوذا في معروض الحكم ، مثلا ورد أنّ الكافر نجس فموضوع حكم النجاسة في لسان الدليل الشخص المتّصف بالكفر ، لكنّا نعلم أنّ معروض النجاسة هو ذات الشخص لا الكفر وإن كان الكفر سببا لثبوت الحكم في المتّصف به ، وهكذا نقول فيما نحن فيه فإنّ معروض الحلية هو شرب التتن لا شرب التتن المشكوك الحكم وإن كان وصف كونه مشكوك الحكم دخيلا في ثبوت الحكم وعلة له.

الثاني : أنّه وإن اتّحد موضوع الحكم الواقعي والظاهري لكنّ المحمول فيهما مختلف ، فإنّ المحمول في الحكم الواقعي الحكم غير المنجّز ، وفي الحكم الظاهري الحكم المنجّز ، مثلا نقول : شرب التتن حرام غير منجّز وحلال منجّز ، ولا تنافي بين الحرمة غير المنجّزة وعدم الحرمة المنجّزة ، ونظير ذلك ما حكي عن الشيخ محمد تقي (رحمه‌الله) في حاشية المعالم من جواز اجتماع الأمر والنهي إذا كان أحدهما واقعيا والآخر ظاهريا ، وفرّع عليه صحة صلاة من صلى في المكان المغصوب جاهلا بالغصب ، وكذا صحة الوضوء الضرري جاهلا بالضرر ، فإنّ النهي عنهما واقعا لا ينافي الأمر بهما ظاهرا حتى لو انكشف الواقع

٢٤٨

أيضا بعد ذلك لم يقدح في الصحة ، لا لأنّ الأمر الظاهري مفيد للإجزاء بل لعدم التنافي بين الحكمين ، وما نحن فيه أولى بالجواز لو قيل به ثمّة ، لأنّ الأمر بالصلاة والوضوء في المثالين ظاهري وواقعي أيضا للحكم بالصحة حتى مع كشف الواقع ، بخلاف ما نحن فيه فإنّ أحد الحكمين من الحلية والحرمة واقعي والآخر ظاهري فقط.

وفيه : أنّ ذلك إنّما يتم لو كان الحكم الواقعي والحكم الظاهري نوعين من الحكم كأن يكون المراد بالحكم الواقعي مجرّد المصلحة والمفسدة أو المحبوبية ، وبالحكم الظاهري إنشاء طلب الفعل أو الترك مثلا ، وأما بناء على ما هو التحقيق من أنّ الحكم الواقعي أيضا إنشاء طلب الفعل أو الترك حقيقة من المكلف كالظاهري غير أنّ ما يصح العقاب على مخالفته لعلم المكلف به يسمى ظاهريا وما لا يصح العقاب على مخالفته لجهل المكلف به يسمى واقعيا فقط ، فالتناقض بحاله لأنّ الحكمين من سنخ واحد لا يجوز اجتماعهما في محلّ واحد ، وما ذكر من النظير فإنّه مردود على قائله لعين ما ذكرنا ، بل لو قلنا فيما نحن فيه بجواز الاجتماع لا نقول هناك لما عرفت من أنّ الحكم الظاهري هناك واقعي أيضا ، فباعتبار كونه واقعيا يحصل التنافي بين الحكمين اتفاقا.

الثالث : أنّ الحكم الواقعي حكم شأني وبالقوّة والحكم الظاهري حكم فعلي ، ومن شرائط تحقق التناقض اتحاد القضيتين في القوة والفعل ، فإذا كان أحد الحكمين المتنافيين بالقوة والآخر بالفعل لم يتحقق التناقض كأن يقال : زيد كاتب بالقوة ليس بكاتب بالفعل ، وهنا يقال : شرب التتن حرام بالقوّة ليس بحرام بالفعل فلا تنافي بينهما.

وفيه : أيضا نظر ، لأنّ المراد بالقوة في مثال الكاتب هي قابلية اتصاف زيد

٢٤٩

بالكتابة وإلّا فهو ليس بكاتب البتّة ، وأما الحكم الواقعي فيما نحن فيه ليس هو قابلية ثبوت الحكم لو كان المكلف عالما ، بل المراد منه هو الحكم الثابت حقيقة في حال الجهل وإن كان المكلف معذورا في مخالفته.

الرابع : أنّ الحرمة الواقعية مثلا لكونها في وعاء الواقع لا تنافي عدم الحرمة الظاهرية لكونه في وعاء الظاهر ، ومنشأ عدم التنافي عدم اتّحاد الوعاءين تشبيها باختلاف المكان.

وفيه : أنا لا نعقل الاختلاف بين الحكم الظاهري والواقعي سوى تنجّز أحدهما بمعنى صحة العقاب على مخالفته وعدم تنجّز الآخر بمعنى عدم صحة العقاب على مخالفته ، فأين اختلاف الظرف والوعاء ، وأيضا لو كان هناك اختلاف وعاء بالفرض فإنّما هو بالنسبة إلى المكلّف وأما بالنسبة إلى الامر فإنشاء الحكم الظاهري والواقعي على نسق واحد فكيف يصح للامر أن يقول :

لا تشرب التتن ثم يقول اشرب التتن.

الخامس : أنّ الحكم الظاهري ليس في مرتبة الحكم الواقعي وفي عرضه حتى لا يمكن اجتماع حكمين مختلفين من النوعين في موضوع واحد ، بل الحكم الظاهري في طول الحكم الواقعي مترتب عليه ، مثلا نفرض أنّ الشارع أنشأ أوّلا حرمة شرب التتن بقوله : لا تشرب التتن مطلقا غير مقيّد بالعلم والجهل ثم قال : إن لم تعلم بما حكمت في شرب التتن وكنت معذورا بالنسبة إليه فاشربه ، فحكم الحلية مترتب على حكم الحرمة ثابت على بعض التقادير والأحوال المتعلّقة بالمكلّف بالنسبة إلى الحكم الواقعي ، ولا تنافي بين هذين الحكمين على هذا النحو.

ونظير ذلك ما اختاره الشيخ محمّد تقي (رحمه‌الله) في حاشية المعالم في

٢٥٠

مسألة اجتماع الأمر والنهي (١) من صحة صلاة من صلى في المكان الغصبي مع القول بعدم جواز اجتماع الأمر والنهي بالترتب بأنّ الشارع أوّلا قال : لا تغصب مطلقا ثم قال : فإن عصيت وخالفت هذا النهي فصلّ في المكان الغصبي ، فالأمر بالصلاة المتضمّن للغصب المنهي عنه مترتّب على مخالفة النهي والتزام عقابه وعلى تقديره ، ولا منافاة بينهما.

ونظيره أيضا ما قاله كاشف الغطاء (رحمه‌الله) (٢) في مسألة معذورية الجاهل بالجهر والإخفات أو القصر والإتمام من أنّ الجاهل المذكور معاقب على ترك الواقع إذا كان مقصّرا مع صحّة صلاته.

وتوجيهه : أنّ المكلّف واقعا مأمور بالصلاة الجهرية مثلا أو القصر في الرتبة الأولى ، ومأمور أيضا بالصلاة الإخفاتية أو الإتمام على تقدير الجهل بالحكم الأولي في الرتبة الثانية ، فيعاقب المكلف لمخالفته الأمر الأول وتصح صلاته لموافقته الأمر الثاني ، وإن شئت الاستيناس بتصوير هذا الوجه وصحّته فلاحظ صحة الأمر بارتكاب أقلّ القبيحين لو دار الأمر بينهما تجد أنّ القبيح غير مراد للامر مطلقا في الرتبة الأولى حتى الأقلّ قبحا ، ولكن لمّا لم يكن مناص عن أحد القبيحين صحّ أن يأمر حقيقة بارتكاب الأقلّ قبحا في الرتبة الثانية.

والتحقيق أن يقال : إنه إن قلنا بأنّ الطلب غير الإرادة النفسية كما هو التحقيق المحقّق في محلّه ، وأنّه عبارة عن إرادة إنشائية أو إظهار الإرادة فلا مانع من اجتماع حكمين في شيء واحد من جهة التناقض أو اجتماع الضدين ،

__________________

(١) هداية المسترشدين ٣ : ١٠٤.

(٢) كشف الغطاء ١ : ١٧١.

٢٥١

بل المانع إن كان هو القبح من جهة عدم قدرة المكلف على موافقة الحكمين ، ومن هنا نقول بجواز اجتماع الأمر والنهي مع تعدد الجهة لعدم لزوم قبح على الامر مع فرض وجود المندوحة للمأمور ، وحينئذ نقول فيما نحن فيه لا مانع من كون شرب التتن حراما في الواقع حلالا في الظاهر من جهة التناقض بين الحكمين ، إذ لا تناقض بين الإنشاءين.

نعم ، لو كان كلا الحكمين منجّزا كان ذلك قبيحا لا ينبغي صدوره من الحكيم ، لكن لمّا كان أحد الحكمين غير منجّز والمكلّف معذور في مخالفته لم يلزم قبح ، وجهل المكلّف الذي صار سببا لمعذوريته رافع للقبح كالمندوحة في الفرض الأول.

وإن قلنا بأن الطلب عين الإرادة النفسية أو إنشاء منبعث عنها لا ينفكّ عنها حتى يكون محذور اجتماع الأمر والنهي على هذا التناقض وأن جمع الطلبين محال ، لامتناع تحقّق إرادة الفعل والترك معا في ان واحد ، فحينئذ نقول في مسألة اجتماع الأمر والنهي إذا تعددت الجهة الحق الجواز أيضا ، لتعلّق إرادة الفعل بطبيعة وإرادة الترك بطبيعة أخرى وإن اتّحد بعض مصاديقهما ، فلم تتعلق إرادة الفعل والترك بشيء واحد في طلب الامر حتى يكون محالا ، ونقول فيما نحن فيه يمكن تصحيحه بالترتب بأن يقال شرب التتن حرام في نفسه أراد الشارع تركه بعنوانه الأولي ، وإذا كان مجهولا للمكلّف وقد أدى الدليل إلى حلّيته فهو بهذا العنوان الثانوي حلال أراد الشارع ارتكابه ، فكأنه قال : لا تشرب التتن ولو جهلت حكم شرب التتن فاشربه ، والغرض من فرض الترتب مقيدا بالجهل بالحكم الأول حصول عنوان آخر لأصل الفعل حتى يصح تعلّق الإرادة المخالفة للإرادة الأولى به ، وإلّا كان شرب التتن شيئا واحدا متّحد الجهة لم يمكن أن يكون محلا لإرادة الفعل والترك معا.

٢٥٢

والحاصل أنّ قول الشارع لا تشرب التتن مع قوله اعمل بخبر العادل فيما لو جهلت الحكم الواقعي ، وقد أخبر العادل بحلية شرب التتن ، مثل قوله لا تغصب مع قوله صلّ ، فكما لا تناقض بين الحكمين في الثاني لا تناقض في الأول ، ويرجع هذا الجواب في الحقيقة إلى الوجه الأول من الجواب وهو الاختلاف في موضوع الحكمين ، وقد عرفت هناك ما فيه من أنّ معروض الحكم نفس الفعل مثل شرب التتن مثلا لا العمل بقول العادل أو المخبر به بخبر العادل المنطبق على شرب التتن ، مضافا إلى أنّ الظاهر من أدلة الطرق الطريقية والكاشفية عن الواقع بمعنى كونها موصلا إلى الواقع كالعلم ، والمستدرك من العمل بها هو الحكم الواقعي لا غيره.

السادس : أنّ الأحكام الظاهرية مطلقا من مؤدّيات الطرق أو الأصول أعذار شرعية وليست بأحكام حقيقية ، وإن شئت توضيحه فلاحظ الأعذار العقلية ، مثلا لو علم المكلّف بعدم وجوب شيء وتركه ثم تبين أنّ علمه كان جهلا مركّبا وكان الشيء واجبا في الواقع نقول : إنّ حكم الواقعة هو الوجوب لا غير والمكلّف معذور في تركه للجهل بالحكم والاعتقاد بعدم وجوبه ، ولا نقول إنّ الشيء لم يكن واجبا حين علم المكلّف بعدم وجوبه أو بقيد علمه بعدم وجوبه ، وهكذا نقول بالنسبة إلى مؤدّيات الطرق والأمارات والأصول لو خالفت الواقع فإنّها أعذار شرعية ، وقد عرفت ظهور أدلة الطرق في الكاشفية عن الواقع بحيث لو تخلّف عن الواقع لم يستدرك بها شيء ، غاية الأمر كون المكلّف معذورا في مخالفة الواقع ، وهكذا نقول بالنسبة إلى الأصول.

أمّا أصالة الاحتياط فواضح ، لأنّ حقيقة معنى الاحتياط الاتيان بما يحتمل كونه واقعا برجاء إدراك الواقع ، ولازمه أنه لو أخطأ الواقع لغى ، ومن هنا قال المصنف على ما حكي عنه : لا يجوز للمحتاط بالنسبة إلى الواجب المحتمل

٢٥٣

أن ينوي فعله واجبا إن أصاب ومندوبا إن أخطأ ، بل لا بدّ أن ينوي بفعله أنّه واجب إن أصاب وإلّا يكون لغوا محضا. وهذا الكلام وإن كان غير مرضي لنا من جهة أنّ اللغوية بملاحظة الحكم المحتمل يعني الوجوب لا ينافي عدم كونه لغوا من جهة حكم آخر ندبي ، إلّا أنّه يوافقنا بالنسبة إلى فهم حقيقة معنى الاحتياط.

وأمّا أصالة البراءة ، فلأنّ الثابت بها ليس إلّا رفع العقاب على تقدير ثبوت الحكم في الواقع لا ثبوت حكم مخالف للواقع ، وهكذا نقول بالنسبة إلى أصالة التخيير والاستصحاب إنّ مؤدّاهما لزوم الأخذ بأحد الاحتمالين أو الاحتمال الموافق للحالة السابقة ، فإن طابق الواقع وإلّا كان معذورا.

ولكنّ الإنصاف أنّ الظاهر من دليل التخيير والاستصحاب وكذا أصالة البراءة الشرعية المأخوذة من قوله : «كل شيء حلال» ونحوه أنّها أحكام شرعية ، نعم أصالة البراءة العقلية المأخوذة من قبح العقاب بلا بيان ليست بحكم كما ذكر ، لكن لا بأس بالتزام مثل هذا المخالف للظاهر دفعا للتناقض لولاه.

والحاصل : أنّه كما لا تناقض بين الحكم الشرعي وبين الحكم العقلي الخطائي بخلافه كما هو كذلك في العذر العقلي ، كذلك لا تناقض بين الحكم الواقعي الشرعي وبين جعل العمل على خلافه عذرا للمكلّف على بعض التقادير ، وقد مرّ بعض الكلام في ذلك في أوّل رسالة القطع في مقام تصوير إمكان مجعولية القطع وعدمه ، هذا غاية توجيه هذا الجواب.

وفيه : نظر ، لأنّ إطلاق الأمر بالأخذ بالطريق أو الأصل يقتضي وجوب متابعته سواء طابق الواقع أم لا ، وليس وجوب المتابعة مقيّدا بصورة المصادفة وإلّا لم يمكن موافقة هذا الأمر لفرض الجهل بها فلم يمكن الأمر بها ، وحينئذ لو

٢٥٤

تخلف الطريق عن الواقع وجب الأخذ به أيضا بمقتضى إطلاق الأمر ويبقى التناقض بحاله ، لا أقول إنّ مؤدّى الطريق على هذا يكون مطلوبا نفسيا لحكمة كونه موصلا إلى الواقع أحيانا أو غالبا ، لأنّه يخرج الطريق على هذا عن كونه طريقا بل يكون موضوعا واقعيا آخر في عرض الواقع ، لكن أقول وإن كان مأخوذا على وجه الطريقية للواقع إلّا أنّ سلوك هذا الطريق لازم على أي تقدير بمقتضى إطلاق الأمر بالطريق ، غاية الأمر أنّ وجوب متابعة الطريق وجوب غيري مقدمي لإدراك الواقع ، ففي مورد التخلّف عن الواقع يجتمع الوجوب الغيري والحرمة النفسية أو العكس ، وكما لا يجوز اجتماع الحكمين النفسيين كذلك لا يجوز اجتماع الحكمين الغيريين والمختلفين على ما بيّن في محلّه ، ومقايسة المجيب ما نحن فيه بالعذر العقلي ليس في محلّه ، لأنّ الحكم العقلي الخطائي هناك لا يمكن أن ينسب إلى الشارع حتى يلزم التناقض في حكمه ، بخلاف ما نحن فيه فإنّ وجوب العمل بمؤدّى الطريق مطلقا مقتضى كون الطريق مجعولا للشارع مطلقا ، فيلزم التناقض في حكم الشارع.

فإن قلت : يلزم مثل هذا التناقض في العذر العقلي أيضا لمكان الملازمة بين حكم العقل والشرع بعد فرض أنّ العقل قد حكم بخلاف الواقع خطأ.

قلت : مورد القاعدة ليس إلّا الأحكام الصحيحة للعقل لا مطلق أحكامه حتى أحكامه الخطائية.

فتحصّل : أنّ الأحكام الظاهرية لا بدّ أن تكون أحكاما شرعية في مقابل الأحكام الواقعية ، ويبقى التناقض بحاله.

ودعوى أنّ جعل الأحكام الظاهرية معناه كون الشيء كخبر الواحد أو الاستصحاب مثلا طريقا إلى الواقع عند الشارع ، ولا يستفاد من مجرّد ذلك

٢٥٥

حكم ينسب إلى الشارع حتى يلزم التناقض في حكمه.

مدفوعة بأنّه إن أريد بذلك أنّ الشارع أخبر بأنّ الاستصحاب وخبر الواحد أو غيرهما طريق إلى الواقع فهو خلاف الواقع قطعا لعدم كونها طريقا في الواقع بضرورة الوجدان ، وكذا لو أريد به أنّ الشارع حكم

إرشادا للحكم العقلي بطريقية المذكورات فهو أيضا خلاف الواقع ، لأنّ الطريق إلى الواقع منحصر في نظر العقل بالقطع ليس إلّا ، وإن أريد به أنّ جعل الطريق من قبيل جعل الأحكام الوضعية بل هو منها فالطريقية كالشرطية والمانعية من الأحكام الوضعية ، فلا تناقض الأحكام التكليفية الثابتة في الواقع لذي الطريق فهو فاسد ، لأنّا إن بنينا على مذاق المصنف من أنّ مجعولات الشرع منحصرة في الأحكام التكليفية وأنّ الأحكام الوضعية راجعة إليها ، وإنّما هي مجرّد انتزاعات عقلية لا يمكن أن تكون مجعولة لجاعل ، فيرجع كون الخبر مثلا طريقا إلى كون مؤدّاه واجب العمل ويكون ذلك حكما شرعيا ويعود المحذور. وإن بنينا على ما هو التحقيق من كون الأحكام الوضعية من مجعولات الشرع مستقلا ، فلا ريب أنّها تستتبع التكاليف المترتبة عليها ، وحينئذ فجعل الخبر الواحد طريقا يستتبع وجوب العمل على طبق المخبر به جزما ، وبذلك يعود التناقض بحاله ، إذ كما أنّ جعل الحرمة والحلية في شيء واحد متناقضان كذلك جعل الحرمة وملزوم الحلية أيضا متناقضان.

ثم لا يخفى أنّه لا فرق في تحقق التناقض المزبور بين كون مستند الحكم الظاهري هو الدليل الشرعي كخبر الواحد مثلا وبين كون المستند حكم العقل كالظن في حال الانسداد وكأصالة الاحتياط في مورد العلم الإجمالي وأصالة البراءة في الشبهة البدوية وأصالة التخيير في مورده ، لأنّ ما حكم به العقل حكم به الشرع بقاعدة الملازمة ، فلا يتوهم أنّه لو كان المستند حكم العقل يكون من

٢٥٦

قبيل الأعذار العقلية لا يستند إلى الشارع حتى يلزم التناقض.

والفرق أنّ العذر العقلي بعد تبيّن عدم المصادفة يحكم بأنّه خطأ من العقل ، والأحكام المذكورة يحكم بعد تبيّن تخلّفها عن الواقع أنّ الحكم كان كذلك في تلك الحالة وأنّه حكم صحيح وقع في محلّه ، إلّا أنّ شأن مثل هذه الأحكام أنّها قد تصيب الواقع وقد تتخلّف عنه.

وحيث لم يتمّ هذا الجواب السادس فلا مناص ، إلّا أن نرجع إلى الجواب الخامس ومحصّله : أنّا إن قلنا بأنّ الطلب غير الإرادة كما هو الحقّ المحقّق في محلّه وأنه إرادة إنشائية ، فلا تناقض بين الحكمين المختلفين بالنسبة إلى شيء واحد شخصي ولو كان متّحد الجهة فضلا عما لو كان متعدّد الجهة ، ضرورة إمكان تحقق الإنشاءين غاية الأمر أنه قبيح في غير ما نحن فيه لكونه تكليفا بما لا يطاق ، ولا قبح فيما نحن فيه لأنّ أحد الحكمين غير منجّز بالفرض وهو الحكم الواقعي.

وإن قلنا بأنّ الطلب عين الإرادة كما هو مذهب الجماعة فنجيب بأنّ الحكم الظاهري ليس في عرض الحكم الواقعي بل في طوله ، ولا منافاة بين كون الشيء حراما مطلقا أريد تركه مطلقا من حيث هو هو وكونه حلالا أريد فعله على تقدير الجهل بحكمه الأولي وكونه مما أخبر العادل بحلّيته ، وقد مرّ تنظيره بوجوب ارتكاب أقلّ القبيحين كأكل مال الغير أو الميتة في المخمصة مثلا ، فإنّه مبغوض غير مراد الشارع مطلقا حتى في المخمصة ، لكن لما عارضه الغرض الأهمّ وهي مصلحة حفظ النفس المحترمة صار محبوبا مرادا للشارع مع بقاء تلك المفسدة والمبغوضية الذاتية ، أو نقول : محل الحرمة والمبغوضية طبيعة الفعل من حيث هي ، ومحلّ الحلية والمحبوبية طبيعة مؤدّى الأمارة ، ولا

٢٥٧

منافاة بينهما وإن اتّحدا في بعض مصاديقهما على ما حرّر في جواز اجتماع الأمر والنهي ، إلّا أن يقال : إنّ ما يصحّ القول بجوازه من اجتماع الأمر والنهي إنّما هو في مورد يكون الاجتماع بسوء اختيار المكلف.

وبعبارة أخرى أن تكون له مندوحة عنه ، وما نحن فيه ليس كذلك ، بل يكون الاجتماع امريا لا مأموريا ، فالوجه هو الوجه الأول ، فتدبّر.

قوله : والأولى أن يقال إنّه إن أراد امتناع التعبّد بالخبر في المسألة التي انسدّ فيها باب العلم (١).

(١) لعل وجه الأولوية أنّ الجواب المذكور في السابق ناظر إلى التناقض كما حرّرناه ، والظاهر من الدليل أن يكون ابن قبة ناظرا إلى محذور القبح من نقض الغرض والأمر بذي المفسدة.

ومحصّل الجواب عنه : أنّه إن أريد امتناع التعبّد بالخبر في حال الانسداد وأنّه قبيح يمتنع صدوره عن الحكيم ، ففيه أنّ تحليل الحرام وعكسه في هذا الفرض لازم من غير جهة التعبّد بالخبر ، إذ على تقدير عدم التعبّد بالخبر مع فرض بقاء التكليف لم يكن للمكلّف مناص إلّا إلى العمل بالظنّ الذي قد لا يصادف الواقع ويلزم تحليل الحرام أو عكسه ، ولا يزيد في التعبّد بالخبر على ما كان شيء من تحليل الحرام ، بل قد يجب التعبّد بظنّ خاصّ كخبر الواحد مثلا فيما لو علم الشارع أنّ الظنّ الحاصل من الخبر أغلب مصادفة للواقع من الظنون التي يستعمله المكلّف في نفسه ، وإن أريد امتناع التعبّد بالخبر في حال الانفتاح ، ففيه أنّه يمكن أن يفرض له مصلحة يخرجه عن القبح على الوجهين المذكورين في المتن.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٠٧.

٢٥٨

قوله : إذ مع فرض عدم التمكّن من العلم بالواقع إما أن يكون للمكلّف حكم في تلك الواقعة (١).

(١) الظاهر أنّه أراد أنّ مع فرض عدم التمكن من العلم بالواقع إمّا أن يكون للمكلّف حكم ظاهري في تلك الواقعة وإما ألا يكون له حكم ظاهري ، وعلى هذا ينتظم ما فرّع على شقّي الترديد ، وكذا قوله بعد ذلك : فإن التزم أنّ مع عدم التمكّن من العلم لا وجوب ولا تحريم إلى آخره ، يعني لا وجوب ولا تحريم واقعا لكونهما مقيّدين بالعلم في الواقع ولم يحصل.

ومحصّل وجوه الترديد ، أنّه إمّا ألا يكون حينئذ للمكلّف حكم في الواقع لكونه مقيّدا بالعلم فلا يلزم شيء من تحليل الحرام وعكسه ، أو يكون له حكم في الواقع وحينئذ إمّا ألا يكون له حكم ظاهري أو يكون ، فإن كان الأول يلزم ما فرّ المستدل منه من ترخيص ترك الواجب الواقعي وفعل المحرّم الواقعي ، وإن كان الثاني فلا مناص عن رجوعه إلى ما لا يفيد العلم ، وليس ذلك من قبيل التعبّد بغير العلم من الشارع بل لا يعقل غيره.

قوله : وحيث انجرّ الكلام إلى التعبّد بالأمارات غير العلمية (٢).

(٢) ولا بأس بأن نشير إلى وجه التعبّد بالأصول أيضا مقدمة ، والمراد بالأصل هو الحكم المجعول للشاك حال شكّه وعدم الدليل على الواقع موافقا لأحد المحتملات ، وإنّما قيّدنا بكونه موافقا لأحد المحتملات نظرا إلى الواقع من الأصول التي بأيدينا ، وإلّا فيمكن جعله مخالفا للمحتملات بأسرها يعني أنّه أمر معقول غير واقع.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٠٧.

(٢) فرائد الأصول ١ : ١١٢.

٢٥٩

فنقول : لا ريب أنّه ليس وجه التعبد بالأصول أنّها كاشفة عن الواقع ، إذ لا كشف فيها قطعا في نفسها ، وليس لسان أدلّتها الأخذ بها لكونها موصلة إلى الواقع وذلك واضح ، بل الوجه فيه أنّها مأخوذة على وجه الموضوعية ، إلّا أنّ ذلك يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يجعل الشارع وجوب الأخذ بأحد طرفي الشك أو أحد أطرافه لكونه عسى أن يدرك به الواقع ، ولا يكون في نفس المحتمل مصلحة أصلا بل المصلحة في نفس الجعل فقط.

وثانيهما : أن يكون في المحتمل المذكور مصلحة أوجبت حكم الشارع بوجوب الأخذ به حتى لو تخلّف عن الواقع فهو واجد لتلك المصلحة ويجب الأخذ به لذلك ، فإن كان على الوجه الأول فلا يمكن القول بإفادة مثل هذا التكليف الظاهري الإجزاء ، لأنّ المفروض أنه وجب الأخذ به على وجه الاحتياط الصرف ، ويلزمه أنّه لو تخلّف عن الواقع كان لغوا محضا ، غاية الأمر أنّ المكلف معذور ما دام لم ينكشف الواقع.

وإن كان على الوجه الثاني فيمكن القول بالإجزاء ، بدعوى أنّه يستفاد من وجوب الأخذ بالمحتمل كيف كان أنّه يجزي عن الواقع على تقدير التخلّف عنه وأنّه بدل عن الواقع مطلقا ، ويمكن القول بعدم الإجزاء بدعوى أنّه لا يستفاد من وجوب الأخذ بالمحتمل إلّا أنّه بدل عن الواقع ما دام عدم انكشاف الواقع ، فلو انكشف الواقع يترتّب عليه آثاره التي منها الإعادة والقضاء.

أما الوجه الأول ، فلا يساعد عليه أدلة الأصول سوى أصالة الاحتياط ، وأدلّة سائر الأصول كأصل التخيير والاستصحاب وأصالة البراءة الشرعية إنّما تساعد الوجه الثاني ظاهرا ، ولو شكّ في الاستفادة المذكورة فمحلّ الثمرة

٢٦٠