حاشية فرائد الأصول - ج ١

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-015-2
الصفحات: ٦٩٤

(١) بناء على ما مرّ من معنى الحجّة اصطلاحا وهو ما يكون طريقا وكاشفا عن الحكم الشرعي ، فلا نسلّم أنّ الحجّة ما يوجب القطع بالمطلوب حتى لا يطلق على نفس القطع ، بل ما يكون كاشفا ومثبتا للمطلوب فيشمل القطع أيضا.

قوله : وأمّا بالنسبة إلى حكم آخر فيجوز أن يكون القطع مأخوذا في موضوعه (١).

(٢) سواء كان القطع جزءاً للموضوع كأن يكون الموضوع الخمر المقطوع به كما مثّل في المتن ، أو كان تمام الموضوع كالمثال الذي ألحقه في الهامش في النسخ المتأخّرة وهو قوله وكترتّب وجوب الإطاعة على معلوم الوجوب لا الواجب الواقعي ، فعلى الأول موضوع الحكم مركّب ينتفي بانتفاء كلّ واحد من جزأيه ، بخلاف الثاني فإنّه بسيط وهو معلوم الوجوب وإن لم يكن في الواقع واجبا ، ولا فرق أيضا بين اعتبار كون القطع من حيث كشفه عن الواقع جزءاً للموضوع أو تمام الموضوع ، أو من حيث كونه صفة خاصة ، وهذا يثمر فيما سيأتي من قيام الأمارات مقامه وعدمه فلا تغافل.

قوله : وإن لم يطلق عليه الحجة إذ المراد بالحجّة في باب الأدلّة ما كان وسطا لثبوت (٢) متعلّقه شرعا لا لحكم آخر (٣).

(٣) هذه العبارة أيضا ممّا ألحقه (رحمه‌الله) في النسخ المتأخّرة ، ولعلّه يطابق ما ذكرنا في معنى الحجّة أو يقرب منه ، وحينئذ نقول : عدم إطلاق الحجة على القطع إذا كان تمام الموضوع واضح ، وأمّا إذا كان جزءاً للموضوع فيمكن أن

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٠.

(٢) في بعض النسخ توجد كلمة «حكم» أو «أحكام».

(٣) فرائد الأصول ١ : ٣٠.

٤١

يطلق عليه الحجّة باعتبار كونه دليلا لمتعلّقه الذي هو جزء موضوع الحكم ، ويترتب عليه الحكم في الجملة ولو بانضمام نفس القطع أيضا.

قوله : كما إذا رتّب الشارع الحرمة على الخمر المعلوم كونها خمرا لا على نفس الخمر (١).

(١) هذا مثال لما كان القطع مأخوذا في موضوع حكم الشرع ، وقد زاد في بعض النسخ مثال ما كان موضوعا لحكم العقل وهو قوله : وكترتّب وجوب الإطاعة إلى آخر ما مرّ في الحاشية السابقة ، إلّا أنّ كون القطع مأخوذا في موضوع حكم العقل محلّ تأمّل ، إذ الظاهر أنّ موضوع وجوب الإطاعة ليس إلّا موارد الأحكام الشرعية الواقعية ، لا مطلق معلوم الوجوب ولو كان جهلا مركّبا تبيّن خلافه بعد ذلك مثلا ، وإن أبيت إلّا أنّ موضوعه مطلق معلوم الوجوب فيرجع إلى المثال الآتي في المتن من قوله : كما في حكم العقل بحسن إتيان ما قطع العبد إلى آخره.

قوله : وبالجملة فالقطع قد يكون طريقا للحكم (٢).

(٢) طريقيّة القطع قد تكون مرسلة على ما هو مقتضى حكم العقل فيكون سببا للتنجّز عقلا مطلقا ويجوز قيام سائر الأمارات مقامه ، وقد تكون منحصرة في لسان الشارع بأن صرّح بانحصار ثبوت تنجّز الحكم بالقطع حتى يلزم منه عدم جواز قيام الأمارات مقامه ، فكان الشارع في مقام تضييق دائرة مقام التنجّز ، ولعل من ذلك ما يستفاد من بعض الأخبار من أنّ اعتبار الشّك في الصلاة بعد حفظ الركعتين الأوليين والعلم بهما ، يعني لا يكتفى بغير العلم في مقام تنجّز

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٠.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٣٠.

٤٢

أحكام الشك ، لا أنّ العلم بالأوليين موضوع بالنسبة إلى أحكام الشك حتى في صورة التخلّف عن الواقع أيضا.

قوله : وقد يكون مأخوذا في موضوع الحكم (١).

(١) قد مرّ أنّ القطع المأخوذ في موضوع الحكم قد يكون تمام الموضوع وقد يكون جزأه ، ويرجع إليه ما كان شرطا للموضوع كما تقدّم ، وكلّ منهما قد يؤخذ باعتبار كونه كاشفا عن المتعلّق وقد يؤخذ باعتبار كونه صفة خاصّة فتذكّر ، وكذا ما كان القطع شرطا لثبوت الحكم في موضوع آخر كما لو قيل إذا قطعت بحياة ولدك فتصدّق بدرهم ، فإنّ ذلك أيضا بحكم ما أخذ في الموضوع كما لا يخفى.

قوله : كما في حكم العقل بحسن إتيان ما قطع العبد بكونه مطلوبا لمولاه وقبح ما يقطع بكونه مبغوضا (٢).

(٢) هذا مثال لاعتبار القطع بإطلاقه موضوعا لحكم العقل ولا إشكال فيه ، لكن على فرض تسليم حكم العقل على هذا النحو يلزمه حرمة التجرّي خصوصا بملاحظة قوله : فإنّ مدخليّة القطع بالمطلوبية أو المبغوضية في صيرورة الفعل حسنا أو قبيحا ، فإنكار المصنف وتردّده فيما سيأتي ينافي ذلك ، إلّا أن يقال إنّه لم يظهر من المصنف هنا تصديق هذا الحكم العقلي على النحو المذكور ، وإنّما فرضه لأجل التمثيل به ، هذا.

وقد يقال : إنّ موضوعات الأحكام العقلية بأسرها هي القطع ، مثلا إذا قطع بوجوب شيء يحكم العقل بوجوب مقدّمته فموضوع حكمه بوجوب المقدّمة القطع بوجوب ذيها وهكذا.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٠ ـ ٣١.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٣١ ـ ٣٢.

٤٣

وفيه منع بيّن ، إذ حكم العقل بقبح الظلم مثلا موضوعه الظلم الواقعي لا ما قطع بكونه ظلما ، ألا ترى أنّه لو كان موضوع حكم العقل منحصرا في القطع لما كان لمسألة الملازمة بين حكم العقل والشرع تصوير معقول ، إذ موضوعات الأحكام الشرعية غير القطع قطعا فيختلف مع موضوعات الأحكام العقلية فكيف يتصوّر تطابقهما حتى يثبت الملازمة بأدلتها أو ينكر.

وكيف كان ، فكون القطع موضوعا لحكم العقل في المثال المذكور صحيح ومرجعه إلى حكم العقل بوجوب متابعة القطع وحجّيته ، وهذا المثال لا مناقشة فيه على ما قرّرنا ، وكذا المثال الثاني على مذهب صاحب الحدائق ، بخلاف باقي الأمثلة فإنّها محل المناقشة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

ولا بأس بذكر بعض أمثلة القطع الموضوعي الذي ظفرنا به :

منها : القطع الذي اعتبر موضوعا لحكم الاستصحاب ، فإنّ موضوع حكم حرمة النقض في قوله «لا تنقض اليقين» هو اليقين السابق.

ومنها : الاعتقادات الواجبة فإنّ موضوع حكم الوجوب نفس العلم ، وكذا العلم بالمسائل الفرعية مقدمة للعمل بها.

ومنها : العلم بالعوضين المأخوذ في صحّة المعاملة فإنّه مأخوذ على وجه الموضوعية ، لأنّ ارتفاع الغرر الذي هو مناط الصحّة لا يحصل إلّا بالعلم بالعوض وجودا وجنسا ووصفا وقدرا ، لا بنفس التعيّن الواقعي.

ومنها : العلم بالضرر المأخوذ في جواز إفطار الصائم وحرمة السفر ونحوهما.

٤٤

قوله : وكما في حكم الشرع بحرمة ما علم أنّه خمر أو نجاسته بقول مطلق ، إلى آخره (١).

(١) هذا مثال لاعتبار القطع بإطلاقه موضوعا لحكم الشرع على مذهب صاحب الحدائق ، لكن المذكور في مقدّمات الحدائق (٢) على ما حكاه بعض الثقات ليس إلّا ما يستفاد منه اعتبار العلم في موضوع النجاسة لا موضوع حرمة الخمر ، والمعروف منه أيضا على ما يسندون إليه في كتاب الطهارة اختياره ترتّب حكم النجاسة على ما هو المعلوم منها ، وغير ذلك غير معروف عنه ولا محكيّ عنه فيما نعلم والله أعلم.

قوله : مثل ما ذهب إليه بعض الأخباريّين من عدم جواز العمل في الشرعيات (٣).

(٢) قد مرّ أنّ الأخباريّ المنكر للملازمة بين حكم العقل والشرع لا يجعل موضوع حكم الشرع غير موضوع حكم العقل ثم ينكر الملازمة ، إذ إنكار مثل هذه الملازمة لا يختصّ بهم بل اتفاقي ، بل ينكر الملازمة بين حكم العقل والشرع في موضوع واحد وهو نفس الواقعيّات من غير أخذ العلم فيه ، كيف ولو أخذ الأخباري العلم في موضوع الحكم لزمه الالتزام بخلوّ الواقعة عن الحكم على تقدير عدم العلم وهو التصويب الباطل ، والأظهر أنّ الأخباريّ يقول بانحصار الطريق الموصل إلى الحكم في مقام تنجّز التكليف في الكتاب والسنّة ، ومنع الطرق الأخر على ما يقتضيه استدلاله على مدّعاه بقوله تعالى : (وَما كُنَّا

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٢.

(٢) الحدائق الناضرة ١ : ١٣٦ ـ ١٤٠.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٣٢.

٤٥

مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(١) وأضرابه ، فإنّه ظاهر في عدم فعلية العذاب بدون بعث الرسول وإن كان الحكم ثابتا في نفس الأمر. وكيف كان لو صحّ المثال كان مثالا للقطع المقيّد بالسبب.

قوله : وما ذهب إليه بعض من منع عمل القاضي ، إلى آخره (٢).

(١) هذا المثال وإن أمكن أن يجعل ممّا أخذ العلم في موضوعه ، لكن يمكن جعله أيضا من باب تعيين طريق والمنع عن طريق آخر كما أشرنا سابقا ، ولعل الثاني هو الأظهر ، وهذا أيضا كالمثال السابق مثال للقطع المقيد بالسبب لو صحّ ، وهذا المثال وسابقه ممّا ألحقه المصنف في النسخ المتأخّرة ، ولعل وجه الإلحاق أنّ الأمثلة الآتية أمثلة لكون القطع موضوعا لحكم غير القاطع فأراد أن يذكر مثالا لما إذا كان القطع موضوعا لحكم نفس القاطع فتشبث بهذين المثالين.

قوله : كحكم الشارع على المقلّد بوجوب الرجوع إلى الغير (٣).

(٢) هذا أيضا من باب التقييد بالسبب إلّا أنّ الأظهر أنّه من باب تعيين الطريق ، إذ فتوى المفتي طريق إلى الحكم بالنسبة إلى المقلّة لا أنّه مكلّف بالعمل بالفتوى كيف ما كان ، لأنّ المقلّد كالمفتي مكلّف بالواقع ويفترقان في أنّ المفتي يتوصّل إليه بالكتاب والسنّة والمقلّد يتوصّل إليه بقول المفتي ، وهكذا حال المثالين الأخيرين فتدبّر.

__________________

(١) الإسراء ١٧ : ١٥.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٣٢.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٣٣.

٤٦

قوله : وكذلك العلم الحاصل للمجتهد الفاسق ، إلى آخره (١).

(١) هذا مثال لتقييد القطع بحصوله من شخص خاصّ.

تتمّة : لو شكّ في أنّ القطع مأخوذ على وجه الطريقية أو الموضوعية فهل يكون هناك أصل يرجع إليه أم لا؟ فنقول لا شكّ في أنّه إذا لم يذكر القطع في دليل الحكم كما لو قال : الكلب نجس والخمر حرام فالقطع يكون طريقا لا موضوعا ، لأنّ موضوع الحكم في الدليل نفس الكلب والخمر بالفرض ، وكذا لو ذكر القطع في موضوع الحكم فالظاهر كونه موضوعا ، ولو شكّ فيه كما لو ذكر القطع في الموضوع وكانت هناك قرينة توجب التردّد فقد يقال إنّه يحمل على الطريقية لأنّه الأغلب ، وقد يقال : يحمل على الموضوعية لأنّه الأغلب في كل مقام يذكر العلم في الموضوع.

والأظهر أنّه لا اعتبار لهذه الغلبة لو فرض تحقّقها لعدم الدليل على اعتبارها ، فإذن لا أصل في المقام حتى يكون مرجعا ، فيرجع إلى الأصول الجارية بالنسبة إلى الآثار المشكوكة على ما يقتضيه المورد ، مثلا بالنسبة إلى أثر قيام الأمارات مقامه نقول الأصل عدم قيامها مقامه ، وبالنسبة إلى تعلّق التكليف بدون تحقّق العلم نقول : الأصل عدم التعلّق وهكذا.

قوله : ثم من خواص القطع الذي هو طريق إلى الواقع قيام الأمارات الشرعية و (٢) الأصول العملية مقامه (٣).

(٢) المراد بالأمارات هنا أعمّ من الأدلّة المتعلّقة بالأحكام والأمارات

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٣.

(٢) [يوجد في بعض النسخ كلمة «بعض»].

(٣) فرائد الأصول ١ : ٣٣.

٤٧

المتعلّقة بالموضوعات ، وإن كان قد يطلق الأمارة في مقابل الدليل ويراد منه خصوص ما تعلّق بالموضوعات كما يراد من الدليل في مقابلها ما تعلّق بالحكم ، والسرّ في قيام الأمارات والأصول مقام القطع الطريقي أنّه لمّا كان الحكم الواقعي مترتّبا على موضوعه الواقعي وكان العلم طريقا إليه ، فإذا قال الشارع مثلا توصّل إلى الواقع بخبر العادل أو البيّنة ، فهو بمعنى جعل مؤدّى الخبر أو البيّنة واقعا تنزيلا ، ويلزمه جعل نفس الخبر أو البيّنة طريقا تنزيلا ، وقد يكون بالعكس كما لو فرض أنّه قال : الظنّ حجّة ، فمعناه أنّ الظنّ عندي كالعلم في وجوب المتابعة ، فالظنّ علم تنزيلا ويلزمه تنزيل مؤدّاه منزلة مؤدّى العلم ، وعلى الوجهين لزم قيام الأمارة مقام العلم ، وكذا في الأصول ، مثلا لمّا قال الشارع : «لا تنقض اليقين بالشكّ» فقد حكم بحرمة نقض المتيقّن كالطهارة مثلا والبناء على بقائه بالنسبة إلى الآثار ، فهو باق تنزيلا ويلزمه الحكم بأنّ الاستصحاب قطع تنزيلا ، وهذا البيان مطابق لما يراه المصنف في معنى هذه العبارة كما سيأتي في رسالة الاستصحاب.

وأمّا على التحقيق الذي نراه هناك فمعنى عدم نقض اليقين هو الحكم ببقاء اليقين تنزيلا ليلزمه الحكم ببقاء المتيقّن تنزيلا ، وعلى الوجهين قيامه مقام القطع واضح ، هذا كلّه إذا لم يدل دليل على انحصار الطريق في القطع وإلّا فذلك الدليل حاكم على أدلّة الأصول والأمارات ، وقد أشرنا إلى ذلك سابقا فتذكر.

قوله : فإن ظهر منه أو من دليل خارج اعتباره على وجه الطريقية للموضوع (١).

(١) كأن يقول : الخمر المعلوم حرام ، ويراد به ترتّب الحرمة على الخمر بشرط

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٣.

٤٨

كونه مكشوفا بالعلم ، وهذا يتصوّر على وجهين :

أحدهما : أن يؤخذ مطلق الكشف في الموضوع فكأنّه قال : الخمر المكشوف حرام ، ويكون ذكر العلم لأنّ الانكشاف منحصر فيه ومنطبق عليه.

ثانيهما : أن يؤخذ الكشف العلمي في الموضوع فكأنه قال : الخمر المكشوف بخصوص العلم حرام لا على وجه الانحصار بحيث يلزمه عدم قيام غيره مقامه كما أشرنا إليه سابقا.

والظاهر أنّ مراده الثاني وإن قيل يتعيّن إرادته الأول.

قوله : كالأمثلة المتقدّمة (١).

(١) كون جميع الأمثلة المتقدّمة من هذا القبيل محلّ نظر بل منع ، نعم يتمّ في المثالين الأوّلين وهما حكم العقل بحسن إتيان ما قطع العبد إلى آخره ، وحكم الشرع بحرمة ما علم أنه خمر أو نجاسته ، أما الأمثلة الباقية فالظاهر كون القطع والظن أو أمارة أخرى معتبرا في الموضوع في مرتبة واحدة ، لا أنّ القطع مأخوذ في الموضوع ويراد جعل أمارة مقامه ، مثلا قول بعض الأخباريين بوجوب العمل بالعلم الحاصل من الكتاب أو السنّة الظاهر أنّه يريد وجوب العمل بالعلم أو الظن الحاصل من الكتاب أو السنّة ، لا أنّه يجب أوّلا العمل بالعلم وثانيا ببدله أي الظنّ أو أمارة أخرى ، وكذا الحكم على المقلّد بوجوب الرجوع إلى المجتهد العالم بالطرق الاجتهادية المعهودة أو إذا كان عادلا إماميّا ، يراد به أوّلا المجتهد العالم أو الظان مثلا لا أنّه يجب أوّلا الرجوع إلى العالم وثانيا الرجوع إلى الظان بدليل جعل الظن.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٣.

٤٩

والحاصل أنّ المتكفّل للرجوع إلى علمه أو ظنّه دليل واحد غير أدلّة جعل الأمارات ، فإذن المثال الصحيح هو المثالان الأوّلان ، وما تقدّم من قوله الخمر المعلوم حرام بناء على اعتبار العلم باعتبار كشفه جزءاً للموضوع ، إلّا أنّ هذا مثال فرضيّ لا واقعي.

نعم يمكن التمثيل لهذا القسم من القطع الموضوعي بمثل قوله لا تنقض اليقين إلّا بيقين ، فإنّ اليقين الناقض والمنقوض كلاهما اعتبر موضوعا للحكم الظاهري مع أنه طريق إلى الحكم الواقعي ، وكذا قوله في أدلّة أصل البراءة : «كل شيء حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه» (١) وكذا قوله في دليل أصالة الطهارة «كل شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر» (٢) فإنّ العلم الذي هو طريق إلى الحرمة والقذارة الواقعية قد جعل غاية للحكم بالحلية والطهارة الظاهرية ، وقد ضرب المصنف في النسخ المتأخّرة على قوله كالأمثلة المتقدّمة ، ولعلّه تفطّن لما ذكرنا من عدم مطابقة أكثر الأمثلة لما أراده.

قوله : قامت الأمارات والأصول مقامه (٣).

(١) أمّا قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي المأخوذ على وجه الطريقية على التصوير الأوّل من الوجهين المتقدّمين وهو ما أخذ مطلق الكشف في الموضوع ، فلأنّه بعد جعل الشارع الظنّ أو البيّنة مثلا بمنزلة العلم يتحقق مصداق آخر للموضوع ، إذ الموضوع كان ما أخذ فيه مطلق الكشف ، وانحصر أفراده بحكم العقل في العلم ، فلمّا جعل الشارع غير العلم أيضا بمنزلته في الكشف

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٨٩ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ٤.

(٢) المستدرك ٢ : ٥٨٣ / أبواب النجاسات ب ٣٠ ح ٤.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٣٣ ولكن في بعض النسخ «وبعض الأصول».

٥٠

تحقق نفس الموضوع في فرد آخر لا محالة ، ويرجع ذلك في اللبّ إلى توسّع في الموضوع ، فكأنّه أخذ في الموضوع إمّا العلم أو الظنّ أو البيّنة ابتداء ، ويتّضح ذلك فيما لو صرّح أوّلا بأنّ الموضوع مطلق الكشف ولو تنزيلا.

وببيان آخر نقول : لا شكّ أنّ القطع الذي أخذ باعتبار الكشف في الموضوع بالنسبة إلى متعلّقه طريق محض ويقوم مقامه الأمارات ، فإذا أخذ ذلك القطع بذلك الاعتبار جزءاً للموضوع يلزمه قهرا أن يكون الموضوع إمّا نفس ذلك القطع أو ما يقوم مقامه ، وذلك ما أردنا (١).

فإن قلت : إنّ دليل حجيّة الأمارات لا يفيد المقصود من تحقّق الموضوع لأنّ مفاده ليس إلّا جعل مؤدّاه واقعا لا واقعا مكشوفا ، مثلا إذا قال : الخمر المعلوم حرام ، وقال : قول العادل حجة ، فأخبر العادل بأنّ هذا المائع خمر فدليل حجيّة قول العادل لا يفيد سوى الحكم بخمرية هذا المائع لا أنّه خمر معلوم ، إذ المخبر به هو الخمرية لا الخمرية المعلومة وموضوع الحكم هو الثاني لا الأول ، فما هو موضوع الحكم لم يخبره العادل فلم يثبت ، وما أخبره ليس موضوعا ولا أثر له ، فكيف يقوم الأمارة مقام القطع في تحقّق الموضوع.

قلت : لمّا كان ما أخذ في الموضوع هو القطع بوصف كونه طريقا ، والمفروض أنّ الشارع نزّل قول العادل منزلة القطع في الطريقية ، يفهم منه ثبوت الواقع المخبر به وثبوت الطريق إليه أيضا بهذا الجعل والتنزيل ، فكأنّه قال : اجعل إخبار العادل بالخمرية مثلا بمنزلة علمك بالخمرية في جميع ما يترتب على العلم بالخمرية من حيث كونه طريقا.

__________________

(١) أقول : هذا إنّما يتمّ لو جعل الموضوع القطع باعتبار الكشف وما يقوم مقامه أوّلا ، وإلّا فالمتكفّل لقيام الأمارات مقام القطع دليل الأمارات فيرجع إلى البيان الأوّل.

٥١

فإن قيل : إنّ الذي أخذ جزءاً للموضوع هو القطع الوجداني لا القطع التنزيلي.

قلت : دليل حجية الأمارة يوجب توسّع الموضوع بالتنزيل على ما مرّ بيانه سابقا.

أقول : والإنصاف أنّ الإشكال بعد باق بحاله ، لما مرّ سابقا من أنّ الظاهر من أدلّة الأمارات بل الأصول هو التنزيل الطريقي فقط وإن قلنا بإمكان جعلها على وجه تفيد التنزيل الطريقي والموضوعي معا إلّا أنّه خلاف مفاد الأدلّة ، وحينئذ فلا مناص في مقام تصحيح كلام المصنف من صحّة قيام الأمارات مقام القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقية إلّا بالتزام أنّ مفاد أدلّة الأمارات جعل الأمارة قائما مقام القطع طريقا وموضوعا ، أو بالتزام أنّ المأخوذ في الموضوع هو العلم بمعنى مطلق الانكشاف سواء كان واقعيا أو تنزيليا ، بل لا محيص عن الالتزام بأحدهما حتى مع قطع النظر عن تصحيح كلام المصنف ، لأنّا نعلم بانّ الشارع أخذ العلم على وجه الطريقية في الموضوع في مثل قوله : كل شيء أو ماء طاهر حتى تعلم أنّه قذر ، وكل شيء حلال حتى تعرف أنّه حرام ، ولا تنقض اليقين إلّا بيقين مثله ، وأمثال ذلك ، مع أنّه يقوم سائر الأمارات والأصول مقامه بلا خلاف ولا إشكال من أحد ، فإنّ ما قامت البيّنة على نجاسته أو حرمته لا يحكم عليه بالطهارة والحلّية الظاهرية قطعا ، هذا (١).

__________________

(١) أقول : يمكن دفع الإشكال بوجه أحسن وأتمّ بأن يقال : بعد فرض أنّ الأمارة تقوم مقام القطع الطريقي ويثبت مؤدّاه بحكم الشارع تنزيلا ، يحصل القطع الوجداني بثبوت مؤدّى الأمارة فيحصل الموضوع الذي نريده ، مثلا إذا قامت البيّنة على نجاسة هذا الشيء مثلا يحكم بأنّه قذر بحكم الشارع ، فيتوسّع بذلك موضوع القذر شرعا عمّا هو قذر في الواقع ،

٥٢

وهناك إشكال آخر : وهو أنّ أدلّة حجيّة الأمارات لا تشمل ما نحن فيه بوجه ، إذ من الحق المحقّق في محلّه أنّ معنى حجيّة الأمارة ترتيب آثار الواقع على ما قام به الأمارة ، وذلك لا يتصوّر إلّا فيما كان لمؤدّى الأمارة أثر وحكم مع قطع النظر عن كونه مؤدّى الأمارة ، كأن يكون الخمر حراما مثلا في الواقع وقامت البيّنة على أنّ هذا خمر ، فيترتّب أثر الخمر يعني الحرمة على مؤدّى الأمارة ، وفيما نحن فيه ليس كذلك ، لأنّ مؤدّى الأمارة يعني خمرية هذا المائع مثلا لا أثر له شرعا بالفرض حتى يترتّب بعد قول العادل بأنّه خمر ، بل الحكم مترتّب على معلوم الخمرية الذي لا يتحقّق إلّا بعد فرض شمول حجية الأمارة للمورد ، فشمول الأمارة للمورد متوقّف على وجود الأثر قبلها ، ووجود الأثر متوقّف على شمولها له وهذا دور ظاهر.

والجواب عنه :

أوّلا : أنّ كون الخمرية في المثال المذكور جزءاً للموضوع لحكم من الأحكام يكفي في كونها موردا للأمارة وإن كان ذلك الحكم أثرا مترتّبا على مجموع الموضوع لا خصوص هذا الجزء ، كما يثبت أجزاء سائر الموضوعات المركّبة جزءاً جزءاً بالأمارات المثبتة لها.

فإن قلت : فرق بينها وبين ما نحن فيه ، لأنّ إثبات الجزء في سائر الموضوعات المركّبة بالأمارة بعد فرض ثبوت سائر الأجزاء بحيث يترتّب

__________________

فيحصل العلم الوجداني بالقذر الشرعي وإن لم نعلم بأنّه قذر واقعي ، ويحصل بالعلم الوجداني بالقذر الشرعي غاية الحكم الظاهري في قوله : «كل شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر».

لا يقال : لا حجية في قول البيّنة هنا لعدم كون مقوله ممّا له حكم يمكن إثباته بها ، لأنّا نقول مرجع هذا الكلام إلى الإشكال الآتي مع جوابه.

٥٣

الأثر بثبوت هذا الجزء الأخير ، بخلاف ما نحن فيه فإنّ الجزء الآخر للموضوع غير الخمرية ـ أعني العلم ـ لم يثبت بعد بل يراد إثباته بعد جريان الأمارة بنفس الأمارة.

قلت : إنّ الفرق غير فارق ، إذ لا تفاوت بين إثبات سائر الأجزاء بدليلها بعد هذا الجزء الذي قامت عليه الأمارة أو قبلها كما لا يخفى.

وثانيا : وهو العمدة ويندفع به أصل الإشكال رأسا ، أنّه لا يلزم أن يكون مؤدّى الأمارات وكذا الأصول له حكم مع قطع النظر عن جريان الأمارة ، بل يكفي كونه محلّا للحكم ولو بعد جريان الأمارة بجريانها ، فيكفي في المثال المذكور كون ما قام به البيّنة بأنّه خمر موضوعا للحكم بعد قيام البيّنة بحيث يكون قيام البيّنة به دخيلا في تحقّق الموضوع ، وضابطه ألا يكون جعل الأمارة في مورده لغوا لا يترتّب عليه أثر أصلا.

والحاصل أنّه لا يلزم أن يكون مورد الأمارة ذا أثر قبل جريانها ومع قطع النظر عنها كما توهّمه المستشكل ، ولذلك نظائر :

منها : ما ذكره من لزوم أن يكون متعلّق التكليف مقدورا مع قطع النظر عن التكليف ، فأشكل عليهم بتعلّق التكليف بالعبادات المعتبرة فيها نيّة القربة جزءاً أو شرطا مع عدم القدرة على فعلها قبل الأمر بها لاستحالة قصد الأمر بدون الأمر ، وقد وقعوا في مقام دفع هذا الإشكال في حيص وبيص.

والتحقيق في الجواب : أنّ شرط صحّة التكليف أن يكون الفعل مقدورا حين إتيان المكلّف به في مقام الامتثال وإن حدثت القدرة بنفس التكليف.

ومنها : ما ذكروه من أنّ متعلّق النذر يشترط أن يكون راجحا في نفسه ، فأشكل عليهم بجواز نذر الصوم في السفر بالنصّ والإجماع مع أنّه مرجوح في

٥٤

نفسه إجماعا.

والجواب : أنّ كونه راجحا ولو بعد النذر بسببه كاف ، وهنا كذلك فإنّ النصّ الوارد بصحّة هذا النذر يكشف عن أنّ الصوم الذي تعلّق به النذر بعد تعلّق النذر يصير راجحا.

وما يتوهّم من أنّه على هذا الاحتمال يمكن أن يصير كلّ مرجوح بعد تعلّق النذر به راجحا بالنذر فيسقط شرط كون المتعلق راجحا بالمرّة ، مندفع بأنّ تحقّق هذا الأمر الممكن يحتاج إلى دليل وكاشف من الشارع ولم يثبت في غير الصوم في السفر ، فإن ثبت في غيره أيضا فلا كلام.

وأما قيام الأصول مقام القطع الموضوعي على هذا النحو ففيه إشكال ، لأنّه بعد فرض كون الموضوع ما قطع بخمريّته وشكّ في الخمرية يقطع بعدم بقاء الموضوع ، وغاية ما يثبته دليل حجيّة الأصول ترتيب آثار الخمرية لا ترتيب آثار القطع بها.

ويمكن أن يوجّه قيام خصوص أصل الاستصحاب مقام هذا القطع الموضوعي بأن يقال : مفاد قوله : «لا تنقض اليقين» حرمة نقض المتيقّن بوصف كونه متيقّنا ، وحينئذ يثبت بالاستصحاب في مثال ما نحن فيه متيقّن الخمرية وهذا هو الموضوع.

وفيه : أنّ مفاد «لا تنقض» إبقاء ذات المتيقن لا وصفه ، هذا على ما يراه المصنف في معنى لا تنقض ، وأمّا على ما نراه من أنّ مفادها حرمة نقض اليقين والحكم ببقاء اليقين تنزيلا فالتوجيه المذكور أوضح وسالم عن الإيراد المذكور ، لكن يرد عليه أيضا أنّه في مقام الحكم ببقاء اليقين في إراءة متعلّقه حكما لا من حيث كونه موضوعا ، اللهمّ إلّا أن يقال إنّه لمّا جعل موضوعا من

٥٥

حيث إراءة الواقع فالعبارة المذكورة كافية في إثباته ، هذا غاية التوجيه (١).

وأمّا قيام الأصول والأمارات مقام القطع الموضوعي على وجه الطريقية بالتصوير الثاني فتقريبه كما مرّ في الوجه الأوّل ، إلّا أنّ به خفاء من جهة أخذ خصوص الكشف العلمي فيه ، لكن يسهّل الخطب أنّه لم يكن بحيث يفهم منه انحصار الطريق فيمكن قيام الطريق الجعلي مقامه فتدبّر.

قوله : وإن ظهر منه اعتبار القطع في الموضوع من حيث كونها صفة خاصّة قائمة بالشخص (٢).

(١) والسرّ في عدم قيام الأصول والأمارات مقامه :

أمّا في الأصول فلأنّ موردها الشك في المتعلّق ، وبمجرّد الشكّ يقطع بعدم الموضوع ، فكيف يقوم الأصل مقام القطع كي يتفرّع عليه تحقّق الموضوع ، مثلا إذا قال : الخمر المعلوم حرام ويراد به الحكم بحرمة الخمر ما دام صفة القطع به حاصلا ، فلو شكّ في الخمرية ارتفع الموضوع بالوجدان ، إذ غاية ما يفيده الأصل الجاري في المقام هو الحكم بوجود الخمر تنزيلا ، وذلك لا يوجب الحكم بوجود العلم بالخمرية الذي أخذ في الموضوع.

وأمّا في الأمارات ، فلأنّ مؤدّاها إراءة الواقع تنزيلا ، فلا يثبت بها صفة القطع التي هي مأخوذة في موضوع الحكم ، مثلا لو أخبر عادل بأنّ هذا المائع

__________________

(١) أقول : يمكن التوجيه بوجه آخر ذكرناه أخيرا في قيام الأمارات : وهو أنّ دليل الأصل يثبت المتعلّق تنزيلا ويتعلّق به العلم الوجداني ويتحقّق به الموضوع ، والسيّد الأستاذ (دام بقاه) لا يرضى بهذا الوجه قائلا : إنّ الموضوع هو القطع الوجداني بالمتعلّق التحقيقي لا التنزيلي. قلت : نعم ، ولكن دليل الأصل يكون منشأ للتوسّع في الموضوع فتأمّل جيدا.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٣٤.

٥٦

خمر ثبت بهذا الخبر أنّه خمر تنزيلا لا أنّه خمر معلوم حتى يتحصّل به موضوع الحكم.

نعم ، يمكن جعل الموضوع تنزيلا بنحو آخر كأن يقول الشارع مثلا : الظنّ علم أو بمنزلة العلم كما يمكن جعل سائر الموضوعات غير العلم مثل ما ورد من أنّ «الطواف بالبيت صلاة» (١) والتيمم وضوء (٢) ونحو ذلك ، وحينئذ فالمراد من عدم قيام الأصول والأمارات مقام هذا القسم من القطع الموضوعي أنّ هذه الأصول والأمارات الموجودة المجعولة بهذا النحو بأدلّتها الخاصّة لا تقوم مقامه ، لا أنّه لا يمكن جعل ما يقوم مقامه ولو على نحو التنزيل الموضوعي كما ذكرنا وسيشير إليه المصنف أيضا.

والحاصل أنّ الأصول والأمارات التي تقوم مقام القطع الطريقي لا تقوم مقام هذا القسم من القطع الموضوعي ، وما يمكن أن يقوم مقام القطع الموضوعي لا يقوم مقام القطع الطريقي إذ كيفيّة الجعل فيهما مختلفة كما عرفت.

فإن قلت : هل يمكن جعل الأمارة على وجه تقوم مقام القطع الطريقي والموضوعي بلسان واحد كأن يقول مثلا : الظن بمنزلة العلم ، ويريد به أنّ مؤدّى الظن كمؤدّى العلم فيما إذا كان القطع مأخوذا على وجه الطريقية ، وصفة الظن كصفة العلم فيما إذا كان مأخوذا على وجه الموضوعية.

قلت : قد يقال أو قيل : لا يمكن ذلك للزوم استعمال اللفظ في المعنيين

__________________

(١) المستدرك ٩ : ٤١٠ / أبواب الطواف ب ٣٨ ح ٢.

(٢) لم نجده بلفظه وإنما ورد مضمونه في الوسائل ٣ : ٣٨١ / أبواب التيمم ب ٢١ ح ١ ، والصفحة ٣٥٤ ب ٩ ح ٦. نعم ورد في دعائم الإسلام ١ : ١٢٠ ما نصه «التيمم وضوء الضرورة».

٥٧

وهو غير جائز.

بيان ذلك : أنّ القطع الطريقي مأخوذ على وجه الطريقية والكاشفية وعلى نحو المرآتية عن الواقع ، فهو معنى حرفي آلة لملاحظة حال الغير ، وكذا ما يجعل قائما مقامه مأخوذ على هذا النحو ، والقطع الموضوعي مأخوذ باعتبار أنّه صفة من الصفات ، فهو معنى اسمي مستقلّ وكذا ما يقوم مقامه ، ولا يمكن إرادة المعنيين من لفظ واحد لتغايرهما في اللحاظ ، ولا جامع لهما إلّا باستعمال اللفظ في المعنيين وهو غير جائز ، ونظيره ما ذكره المصنف في رسالة الاستصحاب من عدم إمكان إجراء أخبار الباب دليلا على قاعدة اليقين كما أنّها أدلّة على قاعدة الاستصحاب ، بدعوى أنّ المطلوب في الاستصحاب هو الحكم ببقاء المتيقّن السابق ، وفي قاعدة اليقين الحكم بحدوث المتيقّن السابق ، ولا يمكن الجمع بينهما في عبارة واحدة إلّا باستعمال اللفظ في معنيين ، هذا محصّل مرامه.

والحق جواز الجمع بين المعنيين في الموضعين ، أمّا في أخبار الاستصحاب فلأنّ المستفاد منها عدم نقض المتيقن السابق ، أو المتيقّن السابق في زمان الشك والحكم ببقاء اليقين ، أو المتيقن السابق تنزيلا ، سواء كان اليقين المتعلق بالزمان السابق موجودا في زمان الشك حتى يكون موردا للاستصحاب أم كان زائلا ليكون مورد قاعدة اليقين.

نعم ، لو أريد جعل قاعدتين بعنوانهما المخصوص المذكور في كلام العلماء المأخوذ في إحداهما الحكم بالبقاء وفي الاخرى الحكم بالحدوث تمّ ما ذكره ، إلّا أنّ الشأن في إثبات أنّهما قاعدتان ، لم لا يكون هنا قاعدة واحدة جامعة للمعنيين يستغنى بها عن جعل قاعدتين.

وأمّا فيما نحن فيه فلأنّ طريقية القطع الطريقي مأخوذة في دليله ،

٥٨

وموضوعية القطع الموضوعي أيضا مأخوذة في دليله ، فلو قال الشارع مثلا : الظن بمنزلة العلم ، ويراد به عموم المنزلة في جميع ما للعلم من الطريقية في مقام والموضوعية في مقام آخر فمن أين يلزم استعمال اللفظ في معنيين ، وفي أي لفظ من ألفاظ القضيّة المذكورة يلزم ذلك في لفظ الظنّ أو في لفظ المنزلة أو لفظ العلم ، وهذا نظير أن يقال مثلا : وضعت لفظة عن للمجاوزة تارة ولمعنى الجانب أخرى ، ثم يقال وضعت لفظة من كعن يعني في معنييه الحرفيّ والاسمي ، وظاهر أنّه لا يلزم استعمال لفظ في معنييه كما لا يخفى.

ثم بعد ما عرفت إمكان جعل الطريق التنزيليّ والموضوع التنزيلي بلسان واحد فهل يوجد في أدلّة جعل الأمارات والأصول ما يفيد ذلك في ظاهر الدليل لكي نحمله على ظاهره أم لا ، الظاهر لا ، لأنّ أدلة الأمارات على ما بأيدينا لا تفيد إلّا جعل مؤدّاها بمنزلة الواقع ولم يؤخذ فيها لفظ علم وقطع ، وكذا أدلّة الأصول لا يستفاد منها إلّا وجوب العمل على طبقها.

نعم ، قد أخذ في دليل الاستصحاب لفظ اليقين ، ويمكن بالنظر البدويّ إرادة الجامع بين المعنيين كأن يكون معنى «لا تنقض اليقين» أحكم ببقاء اليقين طريقا فيما كان اليقين طريقا ، وموضوعا فيما كان موضوعا ، لكن الظاهر المنساق إليه اللفظ هو الأول (١).

تنبيهان :

الأول : أنّه قد توهّم بعضهم انحصار القطع الموضوعي في هذا القسم الثاني

__________________

(١) أقول : لا يبعد إرادة الجامع بناء على ما قدّمنا من أنّ معنى «لا تنقض اليقين» أحكم ببقاء اليقين تنزيلا ، لا ما ذكره المصنف من أنّ معناه الحكم ببقاء المتيقّن فليتأمّل.

٥٩

وقال : بأنّ القسم الأوّل أي ما أخذ في الموضوع على وجه الطريقية غير متصوّر للتنافي والتضاد بين الطريقية والموضوعية فكيف يكون ما أخذ موضوعا للحرمة مثلا طريقا إليها؟

وفساد ما توهّم واضح ، لأنّ ما أخذ طريقا إلى حكم مثلا لا يؤخذ موضوعا لذلك الحكم بعينه بل لحكم آخر ، كأن يقول : إذا علمت بحرمة الخمر فتصدّق بدرهم ، فهذا العلم طريق إلى الحرمة ، موضوع بالنسبة إلى وجوب التصدّق ، وذلك ظاهر.

الثاني : أنّه قد توهّم بعض أيضا بانحصار القطع المأخوذ في الموضوع في قسم واحد على مذاق المصنف وقال : إنّ المصنف أراد بقوله : فإن ظهر منه اعتباره على وجه الطريقية للموضوع إلى آخره ، أنّه إذا وقع لفظ العلم أو القطع في كلام الشارع فإن ظهر منه أنّه اعتبره طريقا تقوم مقامه الأصول والأمارات كأن يقول : كلما علمت بوجوب الصلاة فصلّ ، فإنّ الظاهر منه بيان وجوب الصلاة ، وذكر العلم بالوجوب إرشاد إلى ما يحكم به العقل ، وإن ظهر منه أنّه اعتبره موضوعا لا يقوم مقامه غيره.

وفساد هذا التوهّم أيضا غير خفي ، لأنّ المصنف قسّم القطع الموضوعي الذي جعله قسيما للقطع الطريقي سابقا ومثّل له بالأمثلة السابقة على قسمين ، وذلك واضح.

٦٠