حاشية فرائد الأصول - ج ١

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-015-2
الصفحات: ٦٩٤

إلّا من جهة شوبه بالعلم ، فالبحث عن كلتا المرتبتين لا ينفكّ عن ملاحظة كلتا الحيثيتين كما لا يخفى.

وحكي عن بعض الأساطين هنا كلام لا بأس بإيراده : وهو أنّ اعتبار العلم الإجمالي له مرتبتان يناسب إحداهما مسألة القطع والاخرى مسألة البراءة بوجه آخر لا كما حرّره المصنف.

المرتبة الأولى : أنّ العلم الإجمالي مقتض للحجية أم لا ، وهذه تناسب مسألة حجية القطع لأنّ اقتضاء الحجية ممحّض لجهة العلم لا ربط له بجهة الجهل.

والمرتبة الثانية : أنّ الجهل بالمكلّف به بعينه وشخصه هل هو مانع عن الحجية أم لا؟ وهذه تناسب مسألة البراءة ، لأنّ اقتضاء عدم الحجية والمنع عنها ممحّض لجهة الجهل لا يرتبط بجهة العلم.

قوله : أما فيما لا يحتاج سقوط التكليف فيه إلى قصد الإطاعة ففي غاية الوضوح (١).

(١) لأنّا نعلم في التوصّليات أنّ الغرض حصول المكلّف به في الخارج بأيّ وجه اتّفق ، إلّا أنّ المطلب في بعض التوصليات ليس بذلك الوضوح الذي أفاده المصنف مثل صيغ العقود والإيقاعات ونحوها مما يعتبر فيه القصد ولم يعتبر فيه القربة ، فإنّ إشكال الجزم في النية يأتي فيه كما في التعبّديات ، نعم إشكال نية الوجه مختص بالعبادات.

وأما في مثل تطهير الثوب والبدن فكفاية الامتثال الإجمالي في غاية

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٧١.

١٤١

الوضوح كما ذكره المصنف (قدس‌سره).

قوله : وأما فيما يحتاج إلى قصد الإطاعة فالظاهر أيضا تحقق الإطاعة (١).

(١) توضيحه : أنّ المطلوب في العبادات بعد فرض أنّه ليس إتيان المكلّف به بأيّ وجه اتّفق لا يكون إلّا إتيان ما يصدق معه الإطاعة والامتثال والموافقة للمكلّف به ، وحينئذ أنّا إذا راجعنا العقل والعقلاء نجد صدق الإطاعة بالاحتياط وإتيان محتملات المكلّف به غير متميّز لعينه ، ولا دليل على لزوم أزيد من صدق الإطاعة والامتثال سوى ما توهّمه الخصم وسيجيء بطلانه ، ولا فرق في ذلك بين الشبهة الحكمية كالظهر والجمعة أو الموضوعية كالقبلة المردّدة بين الجهات الأربعة ، وكذا لا فرق بين ما لو توقّف الاحتياط على التكرار وعدمه.

نعم ، لو كان الاحتياط بحيث يعدّ فاعله في العرف لاعبا بأمر المولى مستهزئا به لم يصدق الإطاعة والامتثال البتّة ، مثلا لو دخل الشخص في المسجد وأغمض عينيه مخافة أن يرى المحراب ويعلم بالقبلة وصلى إلى الجهات الأربعة لم يكن مثل هذا الشخص في العرف في مقام الإطاعة والانقياد لأمر المولى ، بل يعد لاعبا لاغيا أو سفيها معتوها.

قوله : ودعوى أنّ العلم بكون المأتي به مقرّبا معتبر حين الاتيان به ولا يكفي العلم بعده بإتيانه ، ممنوعة (٢).

(٢) وجه هذه الدعوى إمّا توهّم أنّ القصد للعبادة المأمور بها لا يتحقق بدون التميز ، وجوابه المنع من عدم تحقّق القصد بشهادة الوجدان على إمكان قصد

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٧١.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٧١.

١٤٢

إيجاد المأمور به في ضمن الشيئين ، وإن أريد عدم إمكان قصده بعينه فاعتبار مثل هذا القصد أوّل الدعوى.

وإمّا توهّم أنّ الأصل عدم سقوط الغرض الداعي للأمر إلّا بإتيانه متميّزا عن غيره كما سيشير إليه المصنف (رحمه‌الله) وسيأتي الكلام عليه عند تعرّض المصنف.

قوله : لكنّ الظاهر كما هو المحكي عن بعض ثبوت الاتّفاق على عدم جواز الاكتفاء بالاحتياط إذا توقّف على تكرار العبادة (١).

(١) الظاهر أنّ المراد من تكرار العبادة إيجاد نوع من العبادة تكرّرا كالصلاة إلى الجهات الأربعة مع اشتباه القبلة ، ويحتمل أن يكون المراد ما يشمل إيجاد جنس العبادة في نوعين كالاتيان بالظهر والجمعة مع اشتباه المكلّف به وتردّده بينهما.

وكيف كان ، استدلّ على عدم جواز الاحتياط في صورة لزوم التكرار بظهور الاتفاق مع حكاية الاتفاق أيضا عن بعض ، إلّا أنّ ظهور الاتفاق مع ما حكاه بعده من مخالفة صاحب المدارك (رحمه‌الله) فيه ما لا يخفى ، مضافا إلى منع ثبوت الإجماع بذلك ، والمحكيّ من الإجماع ليس بحجّة كما هو رأي المصنف (رحمه‌الله) فضلا عن محكيّ الاتّفاق أو محكيّ ظهور الاتفاق ، فهذا الاستدلال ساقط كالاستدلال بالسيرة المستمرّة على عدم التكرار لتحصيل الواجب بالعلم الإجمالي مع التمكّن من الامتثال التفصيلي بتحصيل العلم التفصيلي بالواجب ثم إتيانه كما سيشير إليه المصنف (رحمه‌الله) في آخر المسألة ، إذ لا نسلّم السيرة المذكورة ، وعلى فرض التسليم ليس مثل هذه السيرة

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٧١ ـ ٧٢.

١٤٣

كاشفا عن ثبوت الحكم في الواقع ، لأنّ ذلك على طريق العادة المتعارفة ، وأنّ تحصيل العلم بالمطلوب مفصّلا ثم إتيانه مميّزا أسهل على كل أحد من إتيان جميع محتملات المطلوب مع ترك تحصيل العلم التفصيلي ، وليست السيرة الكاشفة إلّا ما كان على خلاف العادة المتعارفة بين الناس في سائر أمورهم.

قوله : بل ظاهر كلام السيد الرضي (رحمه‌الله) في مسألة الجاهل بوجوب القصر (١).

(١) الأظهر أنّ كلام الرضي (رحمه‌الله) لا ربط له لما نحن فيه ، بل مراده أنّ الإجماع واقع على بطلان صلاة من جهل بأحكام الصلاة ومن جملتها القصر والإتمام ، إذا لم يأت بها على الوجه الذي أمر بها في الواقع ، وحينئذ استشكل في صحّة صلاة الجاهل بالقصر الواجب عليه وإتيان الصلاة تماما مخالفا لما أمر به ، وليس مراده دعوى الإجماع على بطلان صلاة الجاهل بأحكام الصلاة لو أتى بالمأمور به الواقعي بوجه الاحتياط أو اتفاقا ، وما ذكرنا يظهر من التأمل في تمام كلامه (رحمه‌الله) وجواب أخيه السيد المرتضى (قدس‌سره) ، ولا بأس بنقل كلامهما (رحمهما‌الله) حتى يظهر ما استظهرنا منهما.

نقل الشهيد (رحمه‌الله) في الذكرى (٢) على ما حكي عنه عن السيد الرضي (رحمه‌الله) أنه سأل أخاه المرتضى (قدس‌سره) فقال : إنّ الإجماع واقع على أنّ من صلى صلاة لا يعلم أحكامها فهي غير مجزئة ، والجهل بأعداد الركعات جهل بأحكامها فلا تكون مجزئة ، فأجاب المرتضى (رحمه‌الله) بجواز تغيير الحكم الشرعي بسبب الجهل وإن كان الجاهل غير معذور ، انتهى.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٧٢.

(٢) ذكرى الشيعة ٤ : ٣٢٥.

١٤٤

وعلى تقدير كون دعوى الإجماع المذكور كما ذكره المصنف لا حجيّة فيها كما مرّ آنفا كما لا حجية في الشهرة التي ادّعاها المصنف.

بقي الكلام في الاستدلال للمنع عن الاحتياط بالتكرار من جهة اعتبار قصد الوجه ، والحق أنّه لا دليل على اعتباره سوى ما قيل من إجماع المتكلّمين على ذلك ، ولا يبعد أن يكون مرادهم اعتبار قصد القربة الذي نقول به كما يظهر من مراجعة كلماتهم ، وعلى تقدير إرادتهم وجه الوجوب أو الندب الوضعي أو الغائي المعروف نمنع حجية إجماعهم لأنّه من مقتضى أحكام عقولهم التي لا تحكم به عقولنا ، لا ممّا أخذوه من إمامهم ورئيسهم ليكون حجة على غيرهم.

ومما يكاد يوجب القطع بعدم اعتبار قصد الوجه أنّه ليس في الكتاب ولا في السنّة منه عين ولا أثر ، بل نرى أنّ الواجبات والمستحبات واقعة في الكتاب والسنّة على سياق واحد غير متميّز واجباتهما عن مستحباتهما ، ولو كان قصد الوجه واجبا لزم بيان الواجب عن المستحبّ حتى يتمكّن من قصد الوجه ومن الإطاعة الواجبة ، هذا.

قوله : وهل يلحق بالعلم التفصيلي الظنّ التفصيلي المعتبر فيقدّم على العلم الإجمالي أم لا؟ (١)

(١) الأظهر الأخصر الموافق للتحقيق أن يقال : إن كان المانع عن الامتثال الاجمالي الإجماع أو السيرة على عدم التكرار في صورة لزوم التكرار وعدم تميّز المكلّف به فلا فرق بين العلم التفصيلي والظن التفصيلي المعتبر ، فإن قلنا بالمنع في الأول نقول في الثاني أيضا وإلّا فلا ، والوجه واحد كما لا يخفى ، وحيث أجبنا في السابق عن منع الأمور المذكورة للعمل بالاحتياط في المسألة

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٧٣.

١٤٥

الأولى نقول بمثله في مسألة الظنّ طابق النعل بالنعل ، ولا فرق في ذلك بين الظن الخاص والمطلق بوجه.

وإن كان المانع اعتبار قصد الوجه فعلى ما اخترنا سابقا من عدم اعتبار قصد الوجه فكالأول يكفي الامتثال الإجمالي لعدم المانع ، وأما على القول بلزوم قصد الوجه فالحقّ التفصيل ، فإن قوبل الاحتياط بالظن الخاص فالأظهر عدم جواز الاحتياط ولزوم العمل بالظن لاستدراك قصد الوجه ، فإنّه يمكن العلم بالوجوب الشرعي الثابت بدليل حجية الظنّ فيمكن قصده فيجب أخذه وترك العمل بالاحتياط ، وإن قوبل بالظنّ المطلق فإن قلنا بالكاشفية بمعنى أنّ العقل بمقدمات دليل الانسداد يحكم بأنّ الظن في حال الانسداد طريق تعبّدي جعله الشارع حجّة وقد كشف عنه العقل فكالظنّ الخاص مقدّم على الاحتياط بالتقريب المذكور من غير تفاوت ، لاشتراكهما في أنّ كلا منهما طريق تعبدي ثبتت حجيّته بالدليل المعتبر ، غاية الأمر أنّ الظن الخاص معتبر مطلقا والمطلق في خصوص حال الانسداد.

فإن قلت : بناء على الظن المطلق بدليل الانسداد يسقط اعتبار نيّة الوجه بالمرّة ، لأن الاحتياط بحسب المرتبة مقدّم على الظنّ بحكم العقل والعقلاء كما صرّحوا به ، ولو لا مثل دليل العسر والحرج ونحوه الحاكم بعدم لزوم الاحتياط لتعيّن العمل به ويلزمه سقوط اعتبار نيّة الوجه لعدم إمكانها ، فإذا نهض دليل العسر والحرج أو غيره بعدم وجوب الاحتياط وجواز الاكتفاء بالظنّ فبأيّ وجه يحكم باعتبار نيّة الوجه الساقط حكمه قبل ذلك.

قلنا : إطلاق دليل اعتبار قصد الوجه يقتضي اعتباره ما دام ممكنا ، فإن كان العمل بالاحتياط متعيّنا لم يمكن قصد الوجه فيسقط اعتباره ، وإن جاز

١٤٦

العمل بالظن أيضا ولم يتعيّن العمل بالاحتياط أمكن قصد الوجه فلا وجه لسقوطه.

فإن قلت : على هذا البيان يتعيّن العمل بالظنّ وترك الاحتياط لاستدراك قصد الوجه ، مع أنّ نتيجة دليل الانسداد على ما صرّحوا به جواز العمل بالظنّ لا لزومه ، لأنّ دليل العسر والحرج وشبهه إنّما ينهض على عدم لزوم الاحتياط لا عدم جوازه.

قلت : لا منافاة بين القول بأنّ مقدمات دليل الانسداد لا تنتج سوى جواز العمل بالظنّ وعدم لزوم الاحتياط ، وبين القول بلزوم العمل بالظن وترك الاحتياط بدليل آخر خارجي مثل دليل اعتبار قصد الوجه لو قلنا به ، هذا.

وإن قلنا بالحكومة بمعنى أنّ العقل بمقدمات دليل الانسداد يحكم بأنّ الظنّ في حال الانسداد لازم الاتباع ، فهذا يتصوّر على وجهين :

الأول : أن يحكم العقل بالأخذ بالظنّ من باب أنّه طريق إلى الواقع في حال الانسداد ، فهو حجّة في هذه الحالة.

الثاني : أن يحكم بوجوب الأخذ بالظنّ من باب أنّه لا شيء أقرب إلى الواقع وأرجح من الظنّ فلا يعذر من ترك العمل به ، وهذا نظير التبعيض في الاحتياط الذي يقول به المصنف في نتيجة دليل الانسداد ، والفرق أنّ المصنف يقول بأنّ نتيجة دليل الانسداد لزوم الاحتياط إلّا في الموهومات التي يعسر الاحتياط فيها ، ونحن نقول بأنّ النتيجة لزومه في غير الموهومات والمشكوكات ، لا أنّ الظنّ حجّة شرعية في حال الانسداد ، فعلى الوجه الثاني لا يمكن قصد الوجه لعدم العلم بالوجه لا واقعا ولا شرعا لعدم قيام حجة عليه ، فلا مانع من العمل بالاحتياط لعدم إمكان قصد الوجه على كلا تقديري العمل

١٤٧

بالاحتياط والعمل بالظنّ ، وعلى الأوّل يقدّم العمل بالظنّ أيضا لاستدراك قصد الوجه لإمكان العلم بالوجه بقيام الحجّة العقلية عليه.

قوله : والعجب ممّن يعمل بالأمارات من باب الظن المطلق ثم يذهب ، إلى آخره (١).

لا عجب منه بناء على اعتبار نيّة الوجه وعلى أنّ نتيجة دليل الانسداد حجّية الظن من باب الحكومة كما هو مختار المصنف ، والعجب أنّ المصنف يقول بمثله بعينه من باب الاحتياط بعيد ذلك بعد اختياره عدم اعتبار قصد الوجه ، فتدبّر.

هذا كلّه لو أريد بقصد الوجه المعتبر في صحّة العبادة الوجه الواقعي ، وأما لو أريد الوجه الفعلي الداعي للمكلّف على إتيان الفعل كما لا يبعد إرادته في كلام المتكلّمين ، فيمكن قصد الوجه في صورة الاحتياط اللازم وهو فيما لا يمكن تحصيل العلم أو الظنّ التفصيلي بمعنى قصد الوجوب الثابت بدليل لزوم الاحتياط ، وكذا فيما يمكن الظنّ التفصيلي الثابت حجيّته بدليل الانسداد بل بغير دليل الانسداد أيضا إذا كان مفاد الدليل جواز العمل بالظن لا لزومه ، إذ مقتضى الدليل حينئذ وجوب العمل بالظن أو الاحتياط تخييرا ، فيمكن قصد الوجه الفعلي يعني الوجوب التخييري في كلّ منهما في عرض واحد.

وحكي عن بعض الأساطين (رحمه‌الله) إمكان قصد الوجه الواقعي في الاحتياط ، بتقريب أنّ المتعذّر قصد الوجه معيّنا وهو غير لازم ، بل اللازم قصد أصل الوجه وهو ممكن ، فيقصد الواجب الواقعي الموجود فيما بين المحتملات لوجوبه فما هو متعذّر غير واجب وما هو واجب غير متعذّر.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٧٣.

١٤٨

والجواب : أنّ المراد من الوجه المعتبر عند من اعتبره غير هذا المعنى الذي يجامع الاحتياط على ما ذكر ، لأنّ مرادهم على ما يستفاد من كلامهم أنّ كلّ عمل يوجد في الخارج يشترط في صحّته قصد وجه ذلك العمل مقارنا له. مثلا لو تردد الواجب بين الظهر والجمعة فلا يمكن إتيان الظهر أوّلا لوجوبه الواقعي ولا إتيان الجمعة ثانيا لوجوبه الواقعي ، لعدم العلم بالوجه في واحد من الفعلين.

وبعبارة أخرى : لو سئل في حال اشتغاله بالظهر لم تفعل هذا الفعل فلا يمكنه الجواب بقوله أفعله لوجوبه ، وكذا لو سئل في حال اشتغاله بالجمعة عن علّة هذا الفعل لما أمكنه أن يجيب بأنّي أفعله لوجوبه ، نعم يمكنه أن يقول : أفعل ذينك الفعلين لوجوب واجب موجود في البين لا أعرفه بشخصه ، فإن أراد من يعتبر قصد الوجه أنّ الواجب الواقعي يجب أن يكون مقصودا لوجوبه كيف ما اتفق ولو لم يكن مقصودا بهذا الوجه حين الفعل معيّنا ، كان له وجه إن ساعده دليله ، والله العالم.

قوله : وأما لو توقّف الاحتياط على التكرار ففي جواز الأخذ به وترك تحصيل الظنّ بتعيين المكلف به أو عدم الجواز وجهان ـ إلى قوله ـ : مع إمكان أن يقال (١).

(١) يظهر من كلامه هذا من أوّله إلى آخره اختيار جواز العمل بالاحتياط في صور دوران الأمر بينه وبين العمل بالظنّ الخاص أو المطلق ، لكن بضرب من التردّد في صورة التكرار نظرا إلى السيرة المستمرة ، ثم اختياره الجواز في آخره ، غاية الأمر أنّه جعل الاحتياط في ترك العمل بالاحتياط نظرا إلى شبهة

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٧٣ ـ ٧٥.

١٤٩

اعتبار قصد الوجه ، وعدم التكرار في صورة التكرار ، وهذا المطلب يمكن تأديته بعبارة أخصر وأوفى ممّا ذكره من الترديد بين الظنّ المطلق والظنّ الخاص مع اتحاد بيانه في القسمين واتّحاد حكمهما في نظره ، فلا يحتاج إلى هذا الإطناب ، ولكنه أعلم بما أفاده (رحمه‌الله) والله الموفّق للصواب.

قوله : مع إمكان أن يقال : إنه إذا شك بعد القطع بكون داعي الأمر (١).

(١) لو قطعنا بعدم سقوط الغرض الداعي للأمر بمجرّد إتيان المأمور به في ظاهر الدليل نحكم بلزوم إتيان ما يقطع به سقوط الغرض من جزء أو شرط يؤخذ في المأمور به أو كيفية تؤخذ في طريق الامتثال ، لأنّ تحصيل غرض المولى واجب بحكم العقل المستقلّ ، لكن فرض القطع بعدم سقوط الغرض بالتعبّد بإيجاد ما أمر به في ظاهر الدليل فرض غير واقع بالنسبة إلى أوامر الشارع التي نتكلّم عليها ، نعم يمكن فرضه في أوامر الموالي العرفية كما لو أمر المولى عبده أن يسقيه ماء وقطع العبد بعدم سقوط غرضه إلّا بالماء البارد ، أو بإتيانه بالماء حافيا خاضعا ، وترك المولى بيان هذه الخصوصية غفلة أو نسيانا أو لمانع آخر ، فلا ريب أنّ العقل يحكم بوجوب تحصيل غرض المولى بإتيان المأمور به بتلك الخصوصية ، ولا يمكنه الاعتذار بإطلاق الأمر أو بأصالة البراءة العقلية أو الشرعية كما لا يخفى.

لكن لم نتحقّق مثل هذا الفرض بالنسبة إلى أوامر الشارع ، لأنّا نعلم أنّه لا مانع له من بيان أغراضه بالنسبة إلى ما اعتبره في المأمور به أو في طريق الامتثال ، وحيث لم يصل إلينا ما يفيد أنّ الغرض لا يحصل بمجرّد إتيان المأمور به فكيف نقطع بعدم حصول الغرض بذلك.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٧٥.

١٥٠

نعم ، ربّما نشكّ في سقوط الغرض بالإتيان بما وصل إلينا من أجزاء المأمور به وشرائطه من جهة اختفاء بعض الأدلة أو القرائن ، وهذا هو الذي فرضه المصنف (رحمه‌الله) وبنى المسألة عليه هنا ، ومحصّل كلامه أنّه بعد القطع بأنّ للشارع غرضا في أوامره التعبدية ، ولا نعلم ذلك الغرض بجميع خصوصياته بل نتردد في أنّه مجرّد التعبّد بالمأمور به بأيّ وجه حصل أو التعبّد به بوصف كونه متميّزا عن غيره أو بوصف كونه مقرونا بقصد الوجه ، لو شككنا في هذا الوصف أيضا ولم نجزم بعدم اعتباره فأصالة الاشتغال بتحصيل الغرض الذي نعلم بثبوت التكليف به قاضية بعدم سقوط الغرض إلّا بإتيان كلّ ما يحتمل مدخليّته في سقوط الغرض ، فلا جرم يتعيّن العمل بالظنّ في فرض المسألة حتى يتعبّد بالمأمور به متميّزا مع قصده وجهه لكي يحصل العلم بسقوط الغرض الداعي للأمر.

وقد ظهر بهذا البيان أنّه لا فرق بين كون الشك في سقوط الغرض من جهة الشك في مدخلية شيء في المأمور به من جزء أو شرط ، أو من جهة الشكّ في مدخلية شيء في كيفية الامتثال ، في أنّ الأصل عدم سقوط الغرض إلّا بإتيان المأمور به بجميع الأمور المشكوكة ، لكن المصنف يزعم أنّ أصالة الإطلاق في دليل تلك العبادة لو كان هناك إطلاق ، وكذا أصالة البراءة لو لم يكن هناك إطلاق يرفعان الشكّ إن كان لأجل احتمال مدخليّة شيء في المأمور به جزءاً أو شرطا كما حقّقه في رسالة أصل البراءة ، ويبقى ما كان الشكّ في سقوط الغرض لاحتمال مدخليّة شيء في كيفية الامتثال على الأصل أي أصالة الاشتغال بوجوب تحصيل الغرض ، ويدعي أن الشك فيما نحن فيه لأجل اعتبار التميّز أو قصد الوجه من قبيل الثاني لا الأول ، وسنذكر ما استدلّ به على ذلك مع جوابه ، ثمّ يدّعي أنّ أصالة البراءة وأصالة الإطلاق لا تجريان في الشكّ في كيفية

١٥١

الامتثال ، إذ ليس ذلك شكا في التكليف ولا في المكلّف به.

وفيه : نظر ، إذ كما أنّ العقل يحكم بقبح العقاب على ما لم يصل إلينا بيانه ممّا يعتبر في أصل التكليف كذلك يحكم بقبح العقاب على ما لم يصل بيانه مما يعتبر في طريق الامتثال ، سواء كان اعتباره في الطريق بجعل الشرع أو كان معتبرا في الطريق واقعا عقلا ولكن لا تدركه عقولنا ، فإنّ بيان ذلك أيضا كأصل التكليف من وظيفة الشارع جزما ، وحيث لا بيان يحكم العقل بالبراءة قطعا لو قلنا بذلك في أصل التكليف. وبالجملة لا نجد فرقا بينهما في حكم العقل بالمرّة.

وكذا لا فرق بينهما في البراءة الشرعية الثابتة بمثل «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» (١) كما لا يخفى ، وكما أنّ الشك في جزئية شيء أو شرطيته للمأمور به يرتفع بإطلاق الأمر من حيث المادة كذلك الشكّ في اعتبار شيء في طريق الامتثال يرتفع بإطلاق الهيئة ، مثلا إذا أمر بقوله : صلّ ومعناه أوجد الصلاة ، فكلّ ما شكّ في اعتباره في الصلاة من جزء أو شرط يدفع بإطلاق الصلاة المستفاد من مادة الأمر ، وكلّ ما شكّ في اعتباره في كيفية الإيجاد يدفع بإطلاق أوجد المستفاد من هيئة الأمر ، هذا كلّه على تقدير تسليم أنّ قصد الوجه والتميّز ونحوهما مما هو من كيفيّات النية كأصل النية لا يمكن اعتبارها في المأمور به فيجب أن تكون معتبرة في طريق الامتثال على ما اختاره المصنف وقد أشار إليه هنا أيضا في :

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٦٧.

١٥٢

قوله : وهذا ليس تقييدا في دليل تلك العبادة حتى يرفع (يدفع) بإطلاقه كما لا يخفى (١).

(١) استدلّ لهذه الدعوى بوجهين يحكى أحدهما عن المصنف (قدس‌سره) والآخر عن بعض الأساطين من أتباعه.

أما المحكيّ عن المصنف (رحمه‌الله) هو لزوم الدور على تقدير اعتبار الأمور المذكورة في المأمور به بتقريب أنّ النيّة بمعنى قصد الأمر متوقّف على وجود الأمر بالضرورة ، ووجود الأمر متوقّف على قصد الأمر الذي هو من أجزاء المأمور به ، ضرورة توقّف الحكم على موضوعه والعرض على معروضه.

والجواب : أنّ طرفي الدور مختلف ، لأنّ قصد الأمر الذي يتوقّف عليه الأمر باعتبار وجوده الذهني لا الخارجي ، والذي يتوقّف على الأمر هو باعتبار وجوده الخارجي لا الذهني ، ولعلّ هذا من الواضحات.

وقد يقال : إنّ توقّف قصد الأمر باعتبار وجوده الخارجي على الأمر كاف في عدم جواز اعتباره في المأمور به بملاحظة أنّه يجب أن يكون المأمور به بنفسه مقدورا للمكلّف ، وما اعتبر فيه قصد الأمر جزءاً أو شرطا غير مقدور في نفسه بدون الأمر للمكلّف حتى يتعلّق به الأمر.

ويجاب بأن القدرة المعتبرة في صحّة التكليف هي القدرة حين العمل لا حين الأمر على ما صرّحوا به ، والمكلّف هنا حين العمل يمكنه قصد الأمر باعتبار تقدّم صدور الأمر ، غاية الأمر أنّ صدور هذا الأمر سبب لحصول القدرة للمكلّف على المكلّف به بحيث لو لم يكن هذا الأمر لم يقدر المكلّف على قصد

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٧٥.

١٥٣

الأمر ، وهذا لا محذور فيه.

ومن هنا تقدر على دفع الدور بتقرير آخر وهو أن يقال : إنّ الأمر بشيء يتوقّف على مقدوريّة ذلك الشيء توقّف المشروط على الشرط ، فلو توقّف مقدورية المأمور به كتوقّف ما اعتبر فيه قصد الأمر فيما نحن فيه على الأمر توقّف المعلول على العلّة لزم الدور.

ووجه الدفع أنّه لا استحالة في كون الأمر سببا لقدرة المكلف على إتيانه المكلّف به حين يعمل به ولا يحتاج إلى قدرة سابقة ولا قدرة مسبّبة عن غير الأمر ، ونحن نرى بالوجدان إمكان ذلك ، ولو كان ذلك مستلزما للدور الباطل كان ممتنعا ، والسر في ذلك أنّ المقدورية والأمر كلاهما يوجد بإيجاد واحد ، فهما معلولا علّة واحدة فيكون الدور معيّا.

وأمّا المحكيّ عن بعض الأساطين (رحمه‌الله) فهو أنّه يلزم من اعتبار قصد الأمر في المأمور به جزءاً أو شرطا عدم اعتباره ، وما يستلزم وجوده عدمه فهو باطل ، تقريره : أنّ قصد الأمر لو كان داخلا في المأمور به يلزم أن يكون متعلّق القصد بقية الأجزاء غير القصد ، إذ لا يتعلّق القصد بتمام الأجزاء التي منها هذا القصد ، مثلا يفعل أجزاء الصلاة من غير هذا القصد بداعي الأمر المتعلّق بالمنويّ ، فيلزمه تعلّق هذا الأمر بغير قصد الأمر من الأجزاء ، فيكون القصد خارجا وقد فرضناه داخلا ، هذا خلف.

والجواب : أنّ تعلّق القصد ببقية الأجزاء لا يستلزم أن يكون الأمر أيضا متعلقا بتلك البقية ، لم لا يجوز أن يكون المأمور به في الصلاة مثلا التكبير والقيام والركوع والسجود والتشهد وقصد الأمر المتعلّق بهذه الجملة ، والمراد بالأمر المتعلّق بهذه الجملة هو عين الأمر المتعلّق بمجموع المأمور به الذي يدخل فيه

١٥٤

قصد هذه الجملة ، ولكن قصد الأمر المعتبر في المأمور به ليس إلّا باعتبار تعلّق ذلك الأمر بغير هذا القصد من الأجزاء ، غاية الأمر أنّ الأمر المتعلّق بالبقية أمر غيريّ ولا دليل على اشتراط قصد الأمر النفسي المتعلّق بتمام الأجزاء في مقام الامتثال والإطاعة ، وما يحكى عن المصنف (رحمه‌الله) من أنّ قصد الأمر الغيري لا يحصل به القرب في محل المنع ، مضافا إلى منع كون الأمر بالنسبة إلى بقية الأجزاء أمرا غيريا ، بل الأمر بهذا الاعتبار أيضا نفسي إذ الأمر النفسي المتعلّق بالكلّ متعلّق بكل واحد من الأجزاء في ضمن الكل.

وبالجملة : لم يلزم من خروج قصد الأمر عن متعلّق القصد خروجه عن متعلق الأمر ، ونظير ذلك التوصّليات والوضعيات التي يشترط فيها القصد ، مثلا البيع عبارة عن إنشاء التمليك بالعوض مع القصد ، فإذا قيل يشترط في البيع القصد يعني قصد البيع لا يراد منه قصد أجزائه حتى القصد ، بل يراد منه قصد ما سوى القصد من أجزائه ، ولا يلزم من ذلك أن يكون القصد ولو باعتبار تقيّده خارجا عن البيع كما لا يخفى.

وإذا تحقّق أنّه لا امتناع في كون النية وكيفياتها من الوجه والتميّز معتبرة في نفس المأمور به حتى نلجأ إلى اعتبارها في كيفية الامتثال فنقول : إنها معتبرة في المأمور به ، فلو شكّ في شيء منها نتمسّك في رفعها بإطلاق الأمر كما هو مسلّم عند المصنف أيضا على هذا التقدير.

ولو سلّم استحالة اعتبار قصد الأمر في المأمور به بالأمر المتعلّق ببقية الأجزاء لأجل لزوم الدور أو غيره نقول يمكن اعتباره في المأمور به بأمر آخر ، كأن يقول صلّ واقصد الأمر المتعلّق بالصلاة ، ويكون مجموع الأمرين وافيا بتمام المأمور به النفسي ، ويكون كلّ واحد من الأمرين غيريا متعلّقا ببعض

١٥٥

المأمور به النفسي لمّا لم يمكن إنشاؤه بأمر واحد للزوم الدور ، نعم على هذا الوجه بل الوجه السابق لقائل أن يقول : سلّمنا إمكان اعتبار قصد الأمر في المأمور به فمن أين يتعيّن ذلك حتى يصحّ التمسّك بالإطلاق في موضع الشكّ ، ولعله معتبر في طريق الامتثال ولا ينفعه الإطلاق ، إلّا أنّ ذلك يندفع بالوجه الثالث من الجواب وهو أنّا نقول : لا يعقل أن يكون شيء معتبرا في طريق الامتثال ولم يعتبر في المأمور به جزءاً أو شرطا ، إذ لو فرضنا عدم أخذ شيء في المأمور به بوجه من الوجوه فإما أن يحصل غرض الامر بمجرّد إتيانه ، فهو خلاف الفرض من اعتبار شيء في طريق الامتثال بالنسبة إلى تحصيل الغرض ، وإمّا ألا يحصل الغرض بمجرّد ذلك ، وحينئذ فإن لم يكن هناك أمر عقلي أو شرعي آخر متعلّق بتحصيل الغرض فلا يجب إلّا الإتيان بنفس المأمور به ، وإن كان هناك أمر آخر عقلي أو شرعي متعلّق بتحصيل الغرض غير مرتبط بالأمر الآخر لزم سقوط الأمر الأول بمجرد إتيان نفس المأمور به وحصول المخالفة بالنسبة إلى الأمر الثاني ، إذ على هذا التقدير هناك أمران نفسيان يتعلّق كل منهما بشيء غير مرتبط أحدهما بالآخر ، والتالي باطل باعتراف المصنف وغيره من أنّ فعل العبادة بدون قصد الأمر لغو صرف ، مضافا إلى أنّ ذلك يرجع إلى الوجه السابق من التزام تعدّد الأمر بوجه آخر ، وإن كان هذا الأمر المتعلّق بتحصيل الغرض على وجه يرتبط ما أمر به بما أمر بالأمر الأول ، فلا جرم يتقيّد المأمور به بالأمر الأول بخصوصية وقيد لا يحصل الامتثال به إلّا بتحصيل ذلك القيد ، وذلك ما أردناه ، هذا كله.

مضافا إلى أنّا لا نعقل في مثل الأمر بالصلاة والصوم سوى وجوب فعل الصلاة والصوم ، وطريق الامتثال ليس إلّا نفس فعلهما ، كما أنّ المأمور به أيضا نفس الفعلين ، نعم لو كان المأمور به مثل الكون على السطح الذي يتوقّف عقلا

١٥٦

على نصب السلّم أمكن أن يقال إنه يعتبر في كيفية نصب السلّم شيء لم يعتبر في الكون على السطح ونصب السلّم طريق للامتثال.

وفيه أيضا : ما لا يخفى من الوجوه السابقة وغيرها ، ومحصل هذه الوجوه الأربعة أنّه لو كان هناك قيد من التميّز أو قصد الوجه أو غيره لا بدّ أن يكون معتبرا في المأمور به ، فلو شكّ فيه يندفع بأصالة الإطلاق لو كان هناك إطلاق ، وإلّا فبأصالة البراءة فليتأمل جيدا (١).

__________________

(١) أقول : في الوجه الرابع نظر بيّن ، لأن المراد بطريق الامتثال ما يحكم به العقل من وجوب إطاعة المولى ولزوم موافقته في أحكامه ، وهذا غير إتيان نفس المأمور به ، لأنّ عنوان الإطاعة عنوان ثانوي لفعل المأمور به قد أخذ في موضوعه أمر المولى ولم يؤخذ ذلك في نفس المأمور به ، غاية الأمر أنّ الحاكم بوجوب هذا العنوان هو العقل ، وهذا الحكم العقلي لا يشبه حكمه بوجوب ردّ الوديعة ونحوه ممّا يستقلّ به العقل من باب التحسين والتقبيح العقليين ، فإنّه حكم بالوجوب باعتبار العنوان الأولي كحكم الشرع في الصورة الأولى ، فما ذكر في الوجه الرابع من عدم معقولية انفكاك طريق الامتثال عن فعل المأمور به لا وجه له ، إلّا أنّ هذا المقدار لا يثمر في القول باعتبار النية وكيفياتها في طريق الامتثال لا في المأمور به ، بل نقول لا يمكن اعتبار قيد في الإطاعة الواجبة من دون اعتباره في المأمور به بالأمر الأول المتعلّق بالعنوان الأولي.

وبيان ذلك يتوقّف على تمهيد مقدمتين :

الأولى : أنّ الإطاعة يطلق على معنيين :

الأول : مجرّد موافقة المأمور به كيف ما كان الداعي للموافقة ولو رياء.

الثاني : موافقة المأمور به بداعي أمر المولى ، والقدر المسلّم من حكم العقل بوجوب الإطاعة هو المعنى الأول ، وهذا المعنى مشترك في التعبديات والتوصليات ، ولو سلّم حكمه بالمعنى الثاني أيضا فهو مجرّد وجوب تكليفي لا الوضعي الذي يترتب عليه فساد المأتي به بدون ذلك الداعي.

المقدمة الثانية : أنّه يمكن أن تكون دائرة المطلوب أوسع من دائرة الطلب كما لو أمر

١٥٧

__________________

بغسل الثوب مثلا ، وفرض العلم بأنّ الغرض من هذا الأمر ليس إلّا حصول طهارة الثوب مقدمة لحصول شرط الصلاة فلو علم بأنّه تحصل الطهارة من غير غسل المكلّف بسبب آخر اتفاقا ، فإنّ العقل لا يحكم بوجوب الإطاعة والحال هذه لحصول الغرض بدونها ، ويمكن أن تكون دائرة المطلوب أضيق من دائرة الطلب كما لو فرض أن غرض الامر لا يحصل إلّا بإتيان مركّب لا يمكنه أن يأمر بجميع أجزائه وشرائطه وقد أمر ببعض ما يحصل به الغرض وأدرك العقل بعضه الآخر ، فإنّ العقل يحكم بوجوب تحصيل الغرض بإتيان مجموع المركّب بأجزائه وشرائطه وإن لم يتعلّق الطلب إلّا بالبعض المجامع لوجود البعض الآخر وعدمه.

إذا تمهّد ذلك فنقول : لا يمكن اعتبار قيد في الإطاعة لم يكن معتبرا في نفس المأمور به ، إذ لا يخلو إما أن يكون نفس إتيان المأمور به وافيا بغرض المولى أم لا ، فإن كان الأول فلا وجه لاعتبار أمر آخر كما لا يخفى ، وإن كان الثاني فإمّا أن يدلّ على ذلك حكم الشرع أو حكم العقل ، فإن كان الأوّل بأن دلّ الشرع على اعتبار شيء آخر في تحصيل الغرض فلا بدّ أن يكون ذلك الشيء أيضا معتبرا في المأمور به ، إذ لا فرق بينه وبين ما أمر به الشارع أوّلا في كون كلّ منهما دخيلا في سقوط الغرض ، غاية الأمر أن الشارع قد بيّن ما يحصل غرضه بدلالتين ، وإن دلّ الشرع بوجوب شيء سوى المأمور به الأوّلي مستقلا فلا ربط له في تحصيل ذلك الغرض بل له غرض آخر ، ومخالفة أحدهما لا يوجب مخالفة الآخر.

وإن كان الثاني بأن دلّ العقل على اعتبار قيد في تحصيل الغرض لم يبيّنه الشارع ، فيكون ذلك أيضا معتبرا في المأمور به إن لم يحكم بأنه واجب مستقلّ كما مرّ في القسم السابق بالنسبة إلى دلالة الشرع على ذلك ، وليس ذلك من باب اعتباره في عنوان الإطاعة التي هي عنوان ثانوي للمأمور به بل العنوان الأولي ، لما ذكرنا من أنّ ذلك القيد في عرض سائر أجزاء المأمور به وشرائطه في دخله فيما يسقط به الغرض ، وحيثية عنوان الإطاعة التي يحكم به العقل في جميع الصور على نسق واحد ، فقد ثبت أنّ كل شيء يكون واجب المراعاة في مقام الامتثال لا بدّ وأن يكون معتبرا في المأمور به جزءاً أو شرطا ، ومن هنا يمكننا أن نقول : إنّ تقسيم الأمر إلى التعبّدي والتوصلي ليس باعتبار أخذ

١٥٨

قوله : وحينئذ فلا ينبغي بل لا يجوز ترك الاحتياط في جميع موارد إرادة التكرار بتحصيل الواقع (١).

(١) قد يتوهّم بل قيل إنّه أراد لزوم الاحتياط بهذا النحو بدليل قوله : بل لا يجوز. وفيه : أنّه (رحمه‌الله) قيّده بقوله في جميع موارد إرادة التكرار ، وحاصله :

أنّ هذا طريق الاحتياط لمن أراده.

ثم ما ذكره في وجه طريق الاحتياط في موارد التكرار يجري نظيره في غير مورد التكرار ، ولعله لوضوحه تركه.

ثمّ ما ذكره من إتيان الواجب المظنون بالظنّ المعتبر أوّلا ثم الاتيان بالمحتمل الآخر لا وجه له مع حصول الاحتياط بعكس الترتيب أيضا. وقد

__________________

خصوصية في كيفية الأمر كما نسب إلى المصنف نظير تقسيمه إلى العيني والكفائي والتعييني والتخييري ، بل باعتبار أنّ المأمور به بالأمر التعبّدي قد أخذ فيه قصد القربة دون التوصلي.

ثم لا يخفى أنّ الإشكال المذكور والأجوبة عنه إنّما يجري إذا كان معنى النيّة المأخوذة في العبادة قصد الأمر ، وأمّا إذا كان بمعنى قصد القرب إلى ساحة رحمته والزلفى لديه ، أو قصد الوصول إلى الجنة أو البعد من النار ، أو قصد أنّه تعالى أهل للعبادة إلى غير ذلك مما يرتقي إلى نيّف وعشرين على ما حكي عن كاشف الغطاء (رحمه‌الله) فلا إشكال في أخذ النية في المأمور به من لزوم الدور وغيره كما لا يخفى ، فما الذي ألجأنا إلى القول بأنّ النيّة هي قصد الأمر فقط حتى يرد الإشكال ونحتاج إلى الجواب عنه!

ثم إنّ إشكال الدور وغيره لا يختصّ على تقدير صحّته بالعبادة ، بل يجري في كل ما يكون إتيان الفعل مقيّدا بملاحظة الأمر وإن كان توصليا كما إذا فرض أنّه أمر بشيء مقيّدا بكونه ذاكرا للأمر حين العمل وملتفتا إليه ، فإن كان دور أو غيره يأتي فيه أيضا ، وقد أطنبنا الكلام في هذا المقام لكونه من مزالّ الأقدام عصمنا الله تعالى من الزيغ والزلل فإنّه ولي ذلك.

(١) فرائد الأصول ١ : ٧٥ ـ ٧٦.

١٥٩

يوجّه بأنّ عكس الترتيب مفوّت للجزم بالتكليف حين الإتيان بالمظنون الذي هو تكليفه الفعليّ ، بخلاف صورة تقديم العمل بالظن فإنّه حين العمل به جازم بالاشتغال ظاهرا وواقعا. وفيه : أنّ هذا الجزم غير معتبر في الامتثال بل لا احتياط في مراعاته ، لعدم وجود قول أو وجه في اعتباره ، فليتأمل.

وينبغي التنبيه على أمور :

الأول : أنّه قد يقال : إنّ ما ذكره المصنف في وجه مراعاة الاحتياط مخالف للاحتياط من جهة نفس التكرار الذي هو خلاف الاحتياط ، لاحتمال كونه محظورا.

ويمكن أن يجاب عنه : بأنّه إن كان وجه المنع عن التكرار احتمال اعتبار الوجه فلا يجري هنا ، لأنّ الوجه محفوظ بقدر الإمكان بالعمل بالظن أوّلا ، وإن كان وجهه أنّه مخالف للسيرة فالقدر المتيقّن من السيرة غير مفروضنا ، إلّا أنّ هذا ترجيح لا احتياط ، فالأولى أن يقال : إنّ الأمر دائر بين احتياط إدراك الواقع ورفع اليد عن احتياط ترك التكرار ، وبين احتياط عدم التكرار ورفع اليد عن احتياط إدراك الواقع ، ولا ريب أنّ مراعاة إدراك الواقع أولى في نظر العقل ، فتأمل.

الثاني : أنّه لو دار الأمر في صورة إرادة الامتثال الإجمالي بسبب عدم إمكان الامتثال التفصيلي أو عدم لزومه بين قلّة التكرار وكثرته كان الأوّل أولى ، كما لو دار الأمر بين أن يصلّي في ثوبين مشتبهين أو ثلاثة أثواب مشتبهة فالترجيح للأول إن كان احتمال المنع عن التكرار من جهة السيرة ، وإن كان من جهة احتمال اعتبار قصد الوجه فلا أولوية لسقوطه على كل تقدير.

١٦٠