حاشية فرائد الأصول - ج ١

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-015-2
الصفحات: ٦٩٤

التفصيلي بحرمة جملة من الأفعال كالعلم التفصيلي بها. إلى أن قال : نعم لو اعتبر الشارع هذه الأدلة بحيث انقلب التكليف إلى العمل بمؤداها بحيث يكون هو المكلّف به كان ما عدا ما تضمّنته الأدلة من محتملات التحريم خارجا عن المكلّف به فلا يجب الاحتياط ، إلى أن قال : أقول والجواب :

أوّلا : منع تعلّق تكليف غير القادر على تحصيل العلم إلّا بما أدى إليه الطرق غير العلمية المنصوبة له ، فهو مكلّف بالواقع بحسب تأدية هذه الطرق لا بالواقع من حيث هو ، ولا بمؤدى هذه الطرق من حيث هو حتى يلزم التصويب أو ما يشبهه ، لأنّ ما ذكرناه هو المتحصّل من ثبوت الأحكام الواقعية للعالم وغيره وثبوت التكليف بالعمل بالطرق وتوضيحه في محله ، وحينئذ فلا يكون ما شك في تحريمه مما هو مكلف به فعلا على تقدير حرمته واقعا.

وثانيا : سلّمنا التكليف الفعلي بالمحرمات الواقعية إلّا أنّ من المقرر في الشبهة المحصورة كما سيجيء إن شاء الله تعالى أنه إذا ثبت في الشبهات المحصورة وجوب الاجتناب عن جملة منها لدليل آخر غير التكليف المتعلّق بالمعلوم الإجمالي اقتصر في الاجتناب على ذلك القدر ، لاحتمال كون المعلوم الإجمالي هو هذا المقدار المعلوم حرمته تفصيلا ، فأصالة الحلّ في البعض الآخر غير معارضة بالمثل ، سواء كان ذلك الدليل سابقا على العلم الإجمالي كما إذا علم نجاسة أحد الإناءين تفصيلا فوقع قذر في أحدهما المجهول فإنّه لا يجب الاجتناب عن الآخر لأنّ حرمة أحدهما معلومة تفصيلا ، أم كان لاحقا كما في مثال الغنم المذكور فإنّ العلم الإجمالي غير ثابت بعد العلم التفصيلي بحرمة بعضها بواسطة وجوب العمل بالبيّنة ، وسيجيء توضيحه إن شاء الله تعالى ، وما

٣٢١

نحن فيه من هذا القبيل ، انتهى كلامه (رحمه‌الله) (١).

وفي كلا الجوابين نظر أما الأول ، فلأنّا وإن سلّمنا انحصار التكليف الفعلي المنجّز بالواقع على حسب تأدية الطرق ، لكن نقول إنّ العلم الإجمالي طريق للواقع ، فالواقع الموجود بين الأطراف مكلّف به لأنّه مؤدّى الطريق الأصلي الحقيقي بعد فرض أنّ العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي منجّز للتكليف وهو في كمال الوضوح.

وأما الثاني ففيه :

أوّلا : أنّه خلاف ما صرّح هو به في الشبهة المحصورة في مسألة ما لو اضطرّ إلى ارتكاب أحد الإناءين معيّنا ، فقد فصّل هناك بين ما لو كان الاضطرار سابقا على العلم الإجمالي فالعلم الإجمالي لا يؤثر وجوب الاحتياط بالنسبة إلى الإناء الآخر كما ذكر هنا ، وبين ما كان العلم الإجمالي سابقا على الاضطرار فيؤثّر لزوم الاحتياط في الطرف الآخر ، وما نحن فيه من قبيل الثاني فيبقى حكم العلم من وجوب الاحتياط بمقتضى هذا التحقيق.

وثانيا : أنّه إن أريد زوال العلم الإجمالي بثبوت التكليف في بعض الأطراف وأنّه موجب لرفع حكم العلم الإجمالي بارتفاع موضوعه يرد عليه : أنّ حكم العلم الإجمالي باق إلى أن يعلم بالموافقة ، ولو كان زوال صفة العلم كافيا في رفع حكمه لزم الاكتفاء بإتيان أحد المحتملات في الواجب المردد بين أمور.

وبالجملة : هذا الوجه متّضح الفساد قد صرّح هو بخلافه في مسألة ما لو خرج أحد أطراف الشبهة عن محل الابتلاء فإنه زال العلم الإجمالي فيه مع أنّه

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٨٨ ـ ٩٠.

٣٢٢

أوجب فيه الاحتياط وترتيب حكم العلم بالنسبة إلى الأطراف الباقية.

وإن أريد أنّ مناط جريان حكم العلم الإجمالي والاحتياط تعارض الأصلين من الجانبين كما هو صريح آخر كلامه الذي نقلنا ، وبعد سقوط الأصل من أحد الجانبين لا يبقى ما هو مناط لوجوب الاحتياط ويبقى الأصل في الجانب الآخر سليما عن المعارض وحكم العلم الإجمالي ساقطا ، ففيه أنّ جريان حكم العلم الإجمالي ولزوم الاحتياط لا ربط له بتعارض الأصلين ، بل من جهة حكم العقل بوجوب تحصيل الفراغ من التكليف المعلوم المنجّز سواء كان الأصل في أطراف العلم موافقا أو مخالفا أو مختلفا ، وقد مرّ توضيح ذلك مستوفى في مباحث العلم الإجمالي في رسالة القطع في مسألة حرمة المخالفة القطعية ، وبعد اللتيّا والّتي بقي الإشكال بحاله وبقي الدليل الثاني ناهضا لمدّعى الأخباري ، بل تسرية الدليل إلى ظواهر السنّة أيضا طابق النعل بالنعل.

ويمكن أن يجاب بوجهين آخرين :

الأول : أن يدّعى تسوية الظن بالمخصصات بالمقدار المعلوم إجمالا للعلم بها في الانطباق القهري ، بتقريب أنّ دليل حجية الظن حاكم بكون المخصصات المظنونة في حكم المخصصات المعلومة ، وأنّ المكلّف معذور بالنسبة إلى مخالفتها للواقع إن اتّفق ، فينطبق المعلوم بالإجمال عليها قهرا كما لو علم بها تفصيلا ، لأنّ العلم الإجمالي تعلّق بالمخصّصات الواقعية وما وجدنا أيضا مخصصات واقعية بحكم الشارع.

وفيه : أنّ دليل حجية الظن إنّما يتكفل لمعذورية المكلف بالنسبة إلى تخلّف نفس الظن عن الواقع ، ولا يتكفّل لمعذوريته بالنسبة إلى العلم الإجمالي الحاصل له مستقلا من غير ارتباط له بالمخصصات المظنونة.

٣٢٣

وبعبارة أخرى : متعلّق العلم الإجمالي الواقع الحقيقي ، ومتعلق الظن بالمخصصات هو الواقع التنزيلي فلا ينطبق أحدهما على الآخر ، نعم لو كان دليل حجية الظن ناطقا بأنّ هذه المظنونات عين المعلومات إجمالا فاكتف بها عن المعلومات كان كافيا ، ومعناه حينئذ إسقاط الواقع عن المكلّف على تقدير تخلّف الظن ، وأنّى لك بإثباته.

الثاني : أن يقال إنّ حكم العلم الإجمالي دائر مدار وجوده في خصوص ما نحن فيه وإن لم نقل به في مسألة أصالة البراءة بعد العلم الإجمالي بثبوت التكاليف ، فإنّا بعد ما وجدنا مقدار المعلوم بالإجمال من المخصصات ولو بالظنّ يرتفع العلم الإجمالي بالنسبة إلى باقي العمومات ويرتفع حكمه أيضا ، والفارق أنّ العلم الإجمالي بالتكاليف بعد تحققه يكون موضوعا لحكم العقل المستقلّ بوجوب الفراغ اليقيني ، فلا يرتفع هذا الحكم إلّا بالاحتياط التام ، وأما العلم الإجمالي بالمخصصات فيما نحن فيه فليس متعلّقا بتكليف حتى يترتب عليه حكم العقل بالاحتياط التام ، بل يثمر هذا العلم الإجمالي بنفسه إجمال العمومات بأسرها ما دام باقيا ، فلما وجدنا مقداره من المخصصات ولو بالظن المعتبر ورفعنا اليد عن العمومات بمقدارها ارتفع العلم بالتخصيص بعده بالنسبة إلى الباقي فارتفع سبب الإجمال ، ويبقى باقي العمومات ظاهرا في العموم من غير مزاحم.

وفيه : أنّ دليل حجية الظواهر وهو بناء العقلاء قاصر عن إفادة حجية مثل هذا الظاهر ، إذ بعد حصول مثل هذا العلم الإجمالي بالمخصصات يتوقّف العقلاء عن حمل العمومات على ظواهرها ولو بعد ارتفاع العلم الإجمالي بالوجه المذكور ، بل لو لم يحصل العلم الإجمالي لهم لكن حصل الظن الغالب بكون العموم مخصصا يتوقفون عن العمل بالعام الكذائي ، هذا.

٣٢٤

والتحقيق في الجواب عن الإشكال ما ذكره في المتن أوّلا من أنّ العلم الإجمالي لا يوجب سقوط العام بل يوجب الفحص ، توضيحه أن يقال : إنّ العلم الإجمالي الذي يوجب الاحتياط في التكاليف والتوقف فيما نحن فيه هو العلم الإجمالي المستقر بعد الفحص ، وأما العلم الإجمالي الحاصل قبل الفحص فلا يؤثّر إلّا وجوب الفحص ، والسر في ذلك أنّ العلم الإجمالي قبل الفحص مقرون بالعلم أو الظن أو الاحتمال القريب بأنّه يوجد بالفحص ما يفصل به ذلك العلم الإجمالي أو ما يمكن أن ينطبق العلم الإجمالي عليه ، ولذا لا يحكم العقلاء حينئذ بأنّه كالعلم التفصيلي يجب مراعاته بالتوقف والاحتياط ، بل يحكمون بوجوب الفحص كي يعرف أنّه بما ذا يؤول أمره وبأيّ شيء يستقر الاعتقاد ، وهذا بخلاف العلم الإجمالي المستقرّ بعد الفحص والعجز عن استعلامه التفصيلي فإنّه يوجب التوقف والاحتياط بحكم العقل والعقلاء ، وحينئذ نقول فيما نحن فيه إنّه بعد الفحص نجد مخصّصات ومقيّدات كثيرة للمطلقات والعمومات ، ومن بعد ذلك لا يبقى لنا علم إجمالي حتى يوجب التوقف.

قوله : إلّا أنّه يظهر من كلام السيد الصدر شارح الوافية (١).

(١) محصّل مرامه : أنّه قد علم مما سبق أنّ الأخباريين وافقونا في أنّ الأصل في الظواهر جواز العمل بها ، لكنّهم يزعمون ورود المنع عن العمل بخصوص ظواهر الكتاب لمكان الأخبار المانعة عن تفسير القرآن فلذلك رفعوا اليد عن الأصل المذكور ، إلّا أنّه يظهر من آخر كلام السيد الصدر أنّ المنع عن العمل بالظواهر مقتضى الأصل ، وقد خرج عنه ظواهر السنّة وبقي ظواهر الكتاب تحت الأصل المذكور.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٥٠ ـ ١٥١.

٣٢٥

وفيه : أنّ التأمّل في كلام السيد الصدر يقضي بأنه لم يخالف ما أفاده المصنف بوجه ، لأنّه قد سلّم أوّلا حجية الظواهر بمقتضى المقدّمة الأولى وأنّها الأصل الأوّلي لو لا المانع ، وقد صرّح به بعد ذلك أيضا بقوله : إنّا لو خلّينا وأنفسنا لعملنا بظواهر الكتاب والسنّة مع عدم نصب القرينة على خلافها ، إلّا أنّه ادّعى انقلاب هذا الأصل الأوّلي بواسطة الأخبار المانعة إلى عدم جواز العمل بالظواهر في الكتاب والسنّة جميعا وصار ذلك أصلا ثانويا ، ثم ادّعى خروج ظواهر السنّة عن هذا الأصل الثانوي بالإجماع العملي من أصحاب الأئمة (عليهم‌السلام) ولم يظهر منه أنّ المنع من العمل بالظواهر مطلقا مقتضى الأصل الأوّلي حتى يكون مخالفا لما أفاده المصنف.

نعم ، يظهر من كلامه في المقدّمة الأولى أنّ الأصل مع قطع النظر عمّا ذكره في المقدمة الأولى من بقاء التكليف وتوقّف العمل على الافهام ، وأنّه في الأكثر بالقول ، وأنّ دلالته في الأكثر ظنّية هو حرمة العمل بالظن ، وهذا أيضا عين ما اعترف به المصنف وغيره فأين مخالفة السيد الصدر ، ولعل تمسك السيد الصدر للأصل الثانوي بالآيات والأخبار المانعة عن العمل بالظن أوهمه إلى أنّ مراد السيد الأصل الأوّلي ، بناء على ما زعم من أنّ مفاد الآيات الناهية موافق للأصل الأوّلي كما تقدم منه سابقا ، حيث ادّعى هناك أنّا في غنى من الاستدلال بها على ذلك الأصل بعد وجود الحكم العقلي المستقل عليه ، وقد ذكرنا هناك أنّه لو تمّت دلالة الآيات والأخبار الناهية فهي أدلة اجتهادية على حرمة العمل بالظن تعارض أدلة جواز العمل به ، مع أنّ السيد الصدر لم يقتصر في الاستدلال على الأصل الثانوي بتلك الآيات والأخبار بل جعلها ثالث الأدلة أو رابعها.

٣٢٦

قوله : ما خلاصته أنّ التوضيح يظهر بعد مقدّمتين : الأولى أن بقاء التكليف مما لا يشك فيه (١).

(١) لخّص هذا من كلام طويل للسيد المذكور ونعم ما لخّصه ، ويظهر مما نقله منه في المقدمة الأولى أنّ حجية الظواهر مبتنية على انسداد باب العلم بالأحكام وانسداد باب العلم بما أريد من الألفاظ ، لكنّه صرّح في آخر المقدمة الأولى مما لم ينقله المصنف بأنّ مستند الحجية بناء العقلاء ، ولعل ما ذكره أوّلا توطئة وبيان لمدرك بناء العقلاء في خصوص المورد ، فتأمل.

قوله : ومع ذلك قد وجدت فيه كلمات لا يعلم المراد منها كالمقطّعات (٢).

(٢) وجود المقطّعات لا يدل على شيء مما أراده ، لأنّه قد علم إجمالها وأنّها ليست من الألفاظ التي يستعمله أهل المحاورة ، بل هي عند العرب مهملات وعند أهل الأدب موضوعات لنفس الحروف على قول ، وعلى قول آخر أسماء أصوات حاكية عن الحروف ، نعم وجودها ربما يشهد بأنّ القرآن يقرب من الألغاز كلّه فلا يعتدّ بظواهره أيضا ، فليتأمّل.

قوله : ثم قال : قال سبحانه : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ)(٣).

(٣) هذا دليل ثان على عدم حجية ظواهر القرآن لا ربط له بالأخبار المانعة عن تفسير القرآن ، تقريره : أنّ آيات الكتاب العزيز قسمان بنصّ هذه الآية :

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٥١.

(٢) فرائد الأصول ١ : ١٥١.

(٣) فرائد الأصول ١ : ١٥١.

٣٢٧

محكم يجوز التمسّك به ومتشابه لا يتبعه إلّا من في قلبه زيغ ابتغاء الفتنة ، بل ثبت هذا التقسيم في القرآن بالإجماع والأخبار الكثيرة القريبة من التواتر ، ثم لم يبيّن المتشابهات عن المحكمات واختلطتا فلا يجوز لنا التمسك بشيء منه.

أقول : وهذا الدليل عندي في غاية القوّة وإن كان الدليل الأول أيضا قويا لكن لا بحيث تطمئن به النفس لقوة معارضاته أيضا على ما ذكر في المتن وغيره ، وما يجاب عن هذا بأنّ الظاهر من المحكم كما سيأتي في المتن ، قلنا مسلّم لو لم يكن في الأخبار ما ينافيه كالروايات الناطقة بأنّ المراد من المحكم هو الناسخ ومن المتشابه هو المنسوخ ، ولا ينافي ذلك كون كلّ من الناسخ والمنسوخ ظاهرا بل نصّا في حدّ نفسه ، بل لعله يستفاد منها أنّه لا نصّ في القرآن إلّا ما علم من الخارج أنّه غير منسوخ وهو في نفسه غير نصّ بدون انضمام ذلك الدليل الخارجي ، وأصالة عدم كون الآية متشابهة معارضة بأصالة عدم كونها محكمة ، وما أجيب به عن ثاني دليلي الأخباري في المتن وغيره لا يأتي هنا بعد قيام الدليل من الكتاب والسنّة والإجماع بأنّ الحجة منحصرة في المحكم مع أنّه مشتبه بالفرض ، ولعله إلى ما ذكرنا من الروايات في تفسير المحكم والمتشابه أشار بقوله : وجعل البيان موكولا إلى خلفائه.

قوله : وجعلوا الأصل عدم العمل بالظنّ إلّا ما أخرجه الدليل (١).

(١) لعل مراده من الأصل بقرينة ما سيأتي في آخر كلامه عموم الآيات والأخبار الناهية عن العمل بالظن بناء على رجوع ضمير الجمع في جعلوا إلى النبي وخلفائه ، وإلّا فالأصل الأوّلي قد انقلب بالمقدمة الأولى.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٥٢.

٣٢٨

قوله : وأما الأخبار فقد سبق أنّ أصحاب الأئمة (عليهم‌السلام) كانوا عاملين بأخبار واحد (١).

(١) قد أشار في آخر كلامه الذي لم ينقله المصنف إلى المعارضة بأنّ أصحاب الأئمة (عليهم‌السلام) كانوا عاملين بظواهر الكتاب أيضا كالأخبار ، ثم أجاب بأنّه لم يثبت ذلك منهم من غير ورود التفسير عن الأئمة (عليهم‌السلام) وإلّا كان وجها وجيها في حجية ظواهر الكتاب أيضا.

قوله : إذ لا يخفى أنّ عمل أصحاب الأئمة (عليهم‌السلام) بظواهر الأخبار (٢).

(٢) عدم استنادهم إلى غير الأمر المركوز في أذهانهم غير معلوم ، سيّما مع أنّهم هم الذين رووا عن أئمتهم (عليهم‌السلام) عدم جواز العمل بالظن ، ولا يبعد استنادهم في جواز العمل بظواهر الأخبار إلى تقرير أئمّتهم (عليهم‌السلام) وعدم ردعهم عن ذلك ، لكن المظنون أنّ اعتمادهم على بناء العقلاء في طريق المحاورات.

قوله : ثم إنّ ما ذكره من عدم العلم بكون الظواهر من المحكمات (٣).

(٣) ظاهر ما مرّ من كلام السيد بل صريحه العلم بكون الظواهر من المتشابهات لأنّه قال : إذ المعلوم عندنا مساواة المحكم للنصّ ، وحينئذ لا وجه لحمل قوله : وأما شمولاه للظاهر فلا ، على كون ذلك غير معلوم بل مشكوك ، لأنّه مناف لدعوى المساواة بين المحكم والنصّ ، نعم يظهر من بعض كلماته التي لم

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٥٣.

(٢) فرائد الأصول ١ : ١٥٣.

(٣) فرائد الأصول ١ : ١٥٤.

٣٢٩

ينقله المصنف أنّ شمول المحكم للظواهر غير معلوم عنده بل مشكوك ، ولا يبعد أن يكون مراده من هذه العبارة أيضا ذلك وقد سامح في التعبير عن ذلك بلفظ المساواة.

قوله : بأنّ المتشابه لا يصدق على الظواهر لا لغة ولا عرفا (١).

(١) يمكن أن يقال : إنّ السيد لا يسلّم كون ظواهر القرآن ظواهر بعد ملاحظة الأدلة الدالة على إجمالها بل هي ظواهر بدوية قبل ملاحظة أسباب إجمالها ، ويندفع بذلك هذا الإيراد عنه.

قوله : وثانيا : بأنّ احتمال كونها من المتشابه لا ينفع (٢).

(٢) ويندفع عنه هذا الإيراد بأنّه لم يرد إخراج ظواهر الكتاب عن أصالة حجية الظواهر بسبب احتمال كونها من المتشابه حتى يورد عليه بلزوم إحراز كونها من المتشابه كي يحكم بخروجها ، بل يريد أنّه لما ثبت بحكم المقدمة الثانية عدم حجية ظواهر الكتاب وصار ذلك أصلا ثانويا لو قيل بأنّ العمل بالمحكم إجماعي والظواهر من المحكم ، يقال إنّا نمنع كون الظواهر من المحكم لعدم العلم بذلك ، فتبقى تحت الأصل الثانوي بعدم حجية ظواهر الكتاب ، وحينئذ يظهر ما في قوله بعد ذلك ، ودعوى اعتبار العلم بكونها من المحكم هدم لما اعترف به من أصالة حجية الظواهر ، لأنّ مقتضى ذلك الأصل جواز العمل إلّا أن يعلم كونه مما نهى الشارع عنه انتهى ، لأنّ دعوى اعتبار العلم بكونها من المحكم في محلّها بالنسبة إلى خروجه بالإجماع عن أصالة عدم حجية ظواهر القرآن كما هي مقتضى المقدمة الثانية ، وذلك ظاهر إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٥٤.

(٢) فرائد الأصول ١ : ١٥٤.

٣٣٠

قوله : الأول أنّه ربما يتوهّم بعض أنّ النزاع في حجية ظواهر الكتاب قليل الجدوى (١).

(١) هو الفاضل النراقي (رحمه‌الله) في مناهجه (٢) على ما حكى عنه.

قوله : إلّا أنّه ليس كل فرع مما يتمسك فيه بالآية ورد فيه خبر سليم عن المكافئ (٣).

(٢) لعل مراده أنّا ولو سلّمنا ورود الخبر في جميع موارد آيات الأحكام في الجملة لكن لا نسلّم كونه متكفّلا لجميع جهات ما يستفاد من الآية من العموم أو الإطلاق من جهات شتّى ، وعلى تقدير تكفّله ليس سليما عن المعارض في الجميع كما لا يخفى على المتتبع.

قوله : الثاني أنّه إذا اختلف القراءة في الكتاب على وجهين مختلفين في المؤدّي (٤).

(٣) الظاهر انحصار محلّ ثمرة هذا التنبيه الثاني في آية (حَتَّى يَطْهُرْنَ)(٥) وما يقال من ظهور الثمرة أيضا في آية (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ)(٦) حيث قرئ بنصب أرجلكم فيكون عطفا على وجوهكم ويفيد وجوب غسل الرجل على ما يقول به العامة ، وبجرّه فيكون معطوفا على رءوسكم ويفيد وجوب مسح الرجل على ما يقول به الخاصة ، مدفوع بأنّ إجماع أهل البيت

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٥٥ (مع اختلاف يسير).

(٢) مناهج الأحكام : ١٥٦.

(٣) فرائد الأصول ١ : ١٥٧.

(٤) فرائد الأصول ١ : ١٥٧.

(٥) البقرة ٢ : ٢٢٢.

(٦) المائدة ٥ : ٦.

٣٣١

وأخبارهم المتظافرة دلّنا على وجوب مسح الرجل دون الغسل ، فأين موضع الثمرة.

وأما توجيه قراءة النصب على ما يوافق مذهب الإمامية فهو أمر سهل ، فيجوز أن يكون (وَأَرْجُلَكُمْ) منصوبا بنزع الخافض أو معطوفا على محلّ (بِرُؤُسِكُمْ) مع أنّا نعتقد قطعا أو قريبا من القطع أنّ قراءة النصب إنّما صدر عمّن صدر بعد علمه باستقرار المذهب على وجوب غسل الرجل ، فأراد تطبيق الآية عليه ، وكان يناسبه قراءة النصب فقرأ بالنصب أو قرب ذلك في ذهنه لأجل الأنس بالمذهب.

قوله : (حَتَّى يَطْهُرْنَ) حيث قرئ بالتشديد من التطهر (١).

(١) قد يقال أو قيل : إنّ (يَطْهُرْنَ) بالتخفيف أيضا بمعنى الاغتسال ، ولعله بناء على ثبوت الحقيقة الشرعية في لفظ الطهارة. وقد يقال : إنّ (يَطْهُرْنَ) بالتشديد أيضا بمعنى النقاء ، ولعل ذلك بناء على مجيء تفعّل بمعنى فعل ، وعليهما تنتفي الثمرة ، ولكنهما خلاف الظاهر.

ولكن يمكن أن يقال بعد تسليم أن (يَطْهُرْنَ) بالتشديد بمعنى الاغتسال وبالتخفيف بمعنى النقاء أنّ مفاد الآية استمرار حرمة المقاربة إلى زمان الاغتسال ، أما على قراءة التشديد فظاهر ومسلّم ، وأما على قراءة التخفيف فلأنّ تعقبه بقوله (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَ) قرينة على أنّ الغاية ليس مجرّد الطهارة بل هي مع التطهر ، إمّا لأجل أنّ القضية الثانية تصريح بمفهوم القضية الأولى ، فما سوى مدلول القضية الثانية منطوق الأولى ، وإمّا لأجل ظهور القضيتين بنفسهما أو بضميمة مقام بيان الحكم في عدم الواسطة بين موضوعيهما ، وفهم العرف في

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٥٧.

٣٣٢

نظائره يساعد على ما ذكرنا ، مثلا لو قيل لا تكرم زيدا حتى يأتيك فإذا سلّم عليك فأكرمه ، يفهم منه أنّ غاية النهي أمران : الإتيان والسلام ، فكأنّه قال : حتى يأتيك ويسلّم عليك فإذا أتاك وسلّم عليك فأكرمه.

قوله : إما أن نقول بتواتر القراءات كلّها كما هو المشهور (١).

(١) الظاهر أنّه أراد القراءات السبعة وإن قيل بتواتر القراءات العشرة ، ولعمري أنّ قضية تواتر القراءات أمر مريب في الغاية من جهة اشتهاره بمثابة لم ينقل المخالف من السابقين إلّا من الزمخشري وابن الحاجب وعليّ بن طاوس (قدس‌سره) ، ومن أنّ ما ذكره المحدّث الجزائري وتبعه جمع كثير ممن تأخّر عنه في تضعيفه ظاهر الورود عليه ، ولنذكر شطرا منه على ما حكاه السيد الصدر في شرح الوافية وارتضاه.

وخلاصته : أنّه بعد ذكر سبب تحريف القرآن وزمانه قال : وبالجملة لما وقعت إليهم المصاحف على ذلك الحال تصرّفوا في إعرابها ونقطها وإدغامها وإمالتها ونحو ذلك من القوانين المختلفة بينهم على ما يوافق مذاهبهم في اللغة والعربية ، كما تصرّفوا في النحو وصاروا إلى ما دوّنوه من القواعد المختلفة ، قال محمد بن بحر الدهشي : أنّ كل واحد من القراء قبل أن يتجدّد القارئ الذي بعده كانوا لا يجيزون إلّا قراءته ، ثم لما جاء القارئ الثاني انتقلوا عن ذلك المنع إلى جواز قراءة الثاني ، وكذلك في القراء السبعة ، فاشتمل كل واحد على إنكار قراءته ثم عاد إلى خلاف ما أنكر ثم اقتصروا على هؤلاء السبعة ، مع أنّه قد حصل في علماء المسلمين والعالمين بالقرآن أرجح منهم ، مع أنّ زمان الصحابة ما كان هؤلاء السبعة ولا عددا معلوما من الصحابة للناس يأخذون القرآن عنهم

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٥٧.

٣٣٣

ـ إلى أن قال ـ ومن هذا التحقيق يظهر الكلام والقدح في تواتر القراءات السبع من وجوه :

أوّلها : المنع من تواترها عن القراء ، لأنّهم نصّوا على أنّه كان لكل قار راويان يرويان قراءته ، نعم اتّفق التواتر في الطبقات اللاحقة.

ثانيها : سلّمنا تواترها عن القراء لكن لا يقوم حجة شرعية لأنّهم من آحاد المخالفين استبدّوا بها بآرائهم ، وإن حكموا في بعض قراءتهم الاستناد إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ولكن الاعتماد على روايتهم غير جائز كرواية الحديث بل الأمر هنا أجلّ وأعلى.

وثالثها : أنّ كتب القراءة والتفسير مشحونة من قولهم قرأ حفص وعاصم كذا وفي قراءة علي بن أبي طالب (عليه‌السلام) وأهل البيت (عليهم‌السلام) كذا ، وربما قالوا وفي قراءة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كذا كما يظهر من الاختلاف المذكور في قراءة (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ).

والحاصل أنّهم يجعلون قراءة القراء قسيمة لقراءة المعصومين (عليهم‌السلام) فكيف تكون القراءات السبع متواترة عن الشارع تواترا يكون حجة على الناس؟ وقد تلخّص من تضاعيف هذا الكلام أمران ـ إلى أن قال ـ وثانيهما عدم تواتر القراءات السبع عمن يكون قوله حجة ، انتهى موضع الحاجة.

وقد ذكر المحقّق القمّي (قدس‌سره) في القوانين (١) من هذا النمط شطرا وافيا ، وكيف كان فكون القراءات السبع متواترا عن النبي أو أحد المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين) ليس بمعلوم لنا لو لم ندّعي العلم على

__________________

(١) قوانين الأصول ١ : ٤٠٦ ـ ٤٠٩.

٣٣٤

خلافه.

قوله : خصوصا فيما كان الاختلاف في المادة (١).

(١) إشارة إلى ما حكي عن الأكثر من أنّ القراءات متواترة إن كانت جوهرية أي من قبيل جوهر اللفظ كملك ومالك مما يختلف خطوط المصحف والمعنى باختلافه لأنّه قران وقد ثبت اشتراط التواتر فيه ، وأما إذا كانت أدائية أي من قبيل الهيئة كالإمالة والمدّ واللين فلا ، لأنّ القرآن هو الكلام وصفات الألفاظ ليست كلاما ، ولأنّه لا يوجب ذلك اختلافا في المعنى.

قوله : فعلى الأول فهما بمنزلة آيتين تعارضتا لا بدّ من الجمع بينهما (٢).

(٢) قد يجمع بينهما بحمل (يَطْهُرْنَ) بالتخفيف على الطهارة الشرعية من حدث الحيض فيوافق (يَطْهُرْنَ) بالتشديد ، أو حمل (يَطْهُرْنَ) بالتشديد على قبول الطهر اللغوي وهو النقاء فيوافق قراءة التخفيف ، وكلاهما حسن في نفسه ، إلّا أنّ أحدهما معارض بالآخر ، وقد يجمع بحمل النهي في قراءة التشديد على الكراهة ، لأنّ الآية في قراءة التخفيف نصّ في الرخصة بعد النقاء ، وفي قراءة التشديد ظاهرة في الحرمة فيقدّم نصّ الأول ويحكم بالكراهة.

وفيه : أنّه يلزم استعمال النهي في معنييه الحقيقي والمجازي ، اللهمّ إلّا أن يراد منه مطلق المرجوحية ويكون استفادة الحرمة قبل النقاء من دليل خارج ، وهذا أيضا بعيد ، فالأوجه في الجمع أن يقال : إنّ ذلك من باب تعارض منطوق الآية في قراءة التشديد مع مفهومها في قراءة التخفيف ، ولا ريب أنّ المنطوق

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٥٧.

(٢) فرائد الأصول ١ : ١٥٧.

٣٣٥

أقوى في الدلالة على المفهوم فيخصّص به عموم المفهوم في قراءة التخفيف.

وقد يقال : إنّ ما ذكرنا سابقا من ظهور انفهام كون الغاية الطهر والاغتسال معا وإن لم يكن ظاهرا إلّا أنّه وجه للجمع ، وهو أيضا حسن.

وقد يقال : إنّ المراد بالتطهّر هو غسل الفرج لا الاغتسال كما هو قول في المسألة فيرتفع التعارض.

وفيه : أنّ التعارض باق بالنسبة إلى ما بعد النقاء وقبل غسل الفرج بحاله ، فلا بدّ من الجمع بأحد الوجوه المذكورة ، مع أنّ حمل التطهّر على غسل الفرج خلاف الظاهر يحتاج إلى القرينة وهي مفقودة ، ولا يخفى أنّه إن ثبت جواز الاستدلال بكل قراءة ولم نقل بتواترها فالحال بذلك المنوال بعينه.

قوله : وعلى الثاني فإن ثبت جواز الاستدلال بكلّ قراءة (١).

(١) على تقدير عدم تواتر القراءات لا وجه لجواز الاستدلال بكلّ قراءة ، لأنّها إما اجتهادات من القرّاء في قراءة ما نزل بوجه واحد ، وإما إخبار عن روايتها كذلك ، ومن الواضح عدم حجية اجتهادهم ، وكذا روايتهم لأنّهم من آحاد المخالفين على ما سمعت من كلام المحدّث الجزائري ، وما ورد من قوله (عليه‌السلام) : «اقرءوا القرآن كما يقرأ الناس» (٢) إنّما يثبت به جواز القراءة لا العمل به وهو إجماعي.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٥٨.

(٢) الوسائل ٦ : ١٦٣ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٧٤ ح ١.

٣٣٦

قوله : مع عدم المرجّح أو مطلقا بناء على عدم ثبوت الترجيح هنا (١).

(١) يعني مع فرض عدم المرجّح لو قلنا بالترجيح هنا بناء على القول بثبوت القرآن بخبر الواحد وكون كلّ قراءة من صاحبها رواية عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فيجري حينئذ المرجّحات المعمولة في أخبار الآحاد ، أو مطلقا ولو كان هنا مرجّح بناء على القول بعدم ثبوت القرآن بخبر الواحد ، أو كون القراءات اجتهادات ، أو اختصاص المرجّحات بالأخبار المتعارضة بمدلولها الأولي وعدم شمولها لما يحصل بها التعارض في مدلول الآية ، ولا ريب أنّ الاحتمال الثاني أظهر بل متعيّن ، فافهم.

قوله : على الوجهين في كون المقام من استصحاب حكم المخصص أو العمل بالعموم الزماني (٢).

(٢) أشار بالوجهين إلى ما حرّره مفصلا في باب الحيض من كتاب الطهارة (٣) وفي خيار الغبن من كتاب المكاسب (٤) وفي عاشر التنبيهات الملحوقة بالاستصحاب في رسالة الاستصحاب (٥) ، واختار في المواضع المذكورة التفصيل بين ما أخذ فيه عموم الأزمان أفراديا بأن أخذ كل زمان موضوعا مستقلا لحكم مستقل لينحلّ العموم إلى أحكام متعددة بتعدد الأزمان كقوله : أكرم العلماء كل يوم ، فقام الإجماع مثلا على حرمة إكرام زيد العالم يوم

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٥٨.

(٢) فرائد الأصول ١ : ١٥٨.

(٣) [لم نعثر عليه في مظانه].

(٤) المكاسب ٥ : ٢٠٧.

(٥) فرائد الأصول ٣ : ٢٧٣ ـ ٢٧٤.

٣٣٧

الجمعة ، فحينئذ يعمل عند الشك بالعموم ولا يجري الاستصحاب ، بل لو لم يكن عموم وجب الرجوع إلى سائر الأصول لعدم قابلية المورد للاستصحاب ، وبين ما أخذ لبيان الاستمرار كقوله : أكرم العلماء دائما ثم خرج فرد في زمان ويشك في حكم ذلك الفرد بعد ذلك الزمان فالظاهر جريان الاستصحاب ، إذ لا يلزم من ثبوت ذلك الحكم للفرد بعد ذلك الزمان تخصيص زائد على التخصيص المعلوم ، لأنّ مورد التخصيص الأفراد دون الأزمنة بخلاف القسم الأول ، بل لو لم يكن هنا استصحاب لم يرجع إلى العموم بل إلى الأصول الأخر.

ومن هذا التحقيق يظهر أنّ مختاره فيما نحن فيه الرجوع إلى العموم لأنّ قوله تعالى : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)(١) يستفاد منه عموم الأزمان بناء على كون كلمة أنّى للزمان دون المكان ، ولو جعل كلمة أنّى للمكان أو أغمض عن دلالة الآية ونظر إلى سائر المطلقات في حلية الاستمتاع من الزوجة ، يكون الأمر بالعكس ويصير المقام موردا للاستصحاب دون العموم.

وفيما حقّقه (رحمه‌الله) مواقع للنظر :

أحدها : أنّا لا نجد فرقا بين ما لو أخذ عموم الأزمان أفراديا أو استمراريا بعد فرض كونه مدلولا لما دلّ عليه ، وكون الخطاب ناظرا إليه بدلالة معتبرة على ما مثّله (رحمه‌الله) ، ففي الصورتين لما أخرج فرد باعتبار بعض الأزمان بقي ذلك الفرد باعتبار بقية الأزمنة داخلا في الخطاب ، وخروج ذلك الفرد بعينه في زمان آخر تخصيص آخر لعموم الزمان وإن لم يكن تخصيصا لعموم الأفراد ، ويؤنسك بذلك أنّه لو قال : أكرم العلماء في كل زمان أو دائما إلّا يوم الجمعة فإنّه لا يشكّ في وجوب إكرام جميع العلماء فيما بعد يوم الجمعة ، ولا يمكن أن يقال

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٢٣.

٣٣٨

إنّ أصل الحكم ينقطع بمجيء يوم الجمعة في الصورة الثانية ، وكذا لو قيل : أكرم العلماء في كل زمان أو دائما إلّا الصرفيين يحكم بخروج الصرفيين في جميع الأزمنة في كلا الصورتين سواء.

نعم بينهما فرق من جهة أخذ أجزاء الزمان قطعا ممتازة منفصلة في ظرف اللحاظ في الصورة الأولى وأخذها متّصلة ممتدّة في اللحاظ في الصورة الثانية ، وهذا المقدار من الفرق لا يثمر فيما نحن بصدده من كثرة التخصيص وقلّته كما لا يخفى.

وثانيها : سلّمنا الفرق المذكور بالنسبة إلى عموم الزمان لكن لا نسلّم عدم جريان استصحاب حكم المخصّص في الصورة الأولى أيضا ، لأنّ عدم قابلية المورد للاستصحاب مبنيّ على أخذ أجزاء الزمان أفرادا كما صرّح به حتى يكون إسراء الحكم إلى الجزء الآخر من الزمان من قبيل إسراء حكم زيد إلى عمرو ، وإنّما يكون كذلك لو كان الزمان مأخوذا في المستصحب وهو دليل المخصص أفراديا لا في العام ، وإلّا فإن أخذ الزمان في العام أفراديا وفي المخصص مطلقا كما فرضه في المثال فلا مانع من جريان الاستصحاب ، فإنّ المستصحب فيما فرضه من المثال عدم وجوب إكرام زيد في ظرف يوم الجمعة لا عدم وجوب الإكرام المقيد بكونه في يوم الجمعة ، اللهمّ إلّا أن يدّعى ظهور المثال في التقييد بيوم الجمعة ، وفيه ما فيه.

وكيف كان لا ربط لكون عموم الزمان أفراديا أو استمراريا في العام بالمستصحب الذي هو المخصص.

وثالثها : أنه يلزم على ما ذكره من عدم جواز التمسك بعموم العام أن أخذ الزمان استمراريا كما بني عليه استصحاب الخيار في الغبن وعدم جواز الرجوع

٣٣٩

إلى عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) في إثبات اللزوم عدم جواز الرجوع إلى عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) مطلقا لأنّه قد خصص بخيار المجلس في جميع أفراد العقد ، والمقام مقام استصحاب حكم المخصص بالفرض فلا يبقى مورد للتمسك بعمومه في إثبات اللزوم ، وفيه ما فيه.

وكيف ما كان ففيما نحن فيه لا مانع من الرجوع إلى عموم حلّية المقاربة ولو لم يؤخذ عموم الأزمان في دليله أفراديا.

ثم لا يخفى أنّه على تقدير تواتر القراءات أو تقدير جواز الاستدلال بكل قراءة وإن لم تكن متواترة لو لم نختر أحد وجوه الجمع المذكورة في الحاشية السابقة وقلنا بالتكافؤ ، فالمرجع أيضا ما ذكر من الرجوع إلى العموم على المختار أو الاستصحاب على الاحتمال فتدبّر.

قوله : الثالث أنّ وقوع التحريف في القرآن على القول به لا يمنع من التمسك بالظواهر (١).

(١) قيل بعدم وقوع التحريف في القرآن مطلقا ونسب إلى جمهور المجتهدين ، وقيل بوقوعه مطلقا على ما حكي ولم نعرف قائله ، وقيل بوقوعه لا من حيث الزيادة بل النقص أو تغيير بعض الكلمات وتبديله إلى غيره ونسب إلى جماعة من الأخباريين.

دليل القول الأول وجوه : منها قوله تعالى : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ)(٢) ومنها قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(٣).

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٥٨.

(٢) فصلت ٤١ : ٤٢.

(٣) الحجر ١٥ : ٩.

٣٤٠