حاشية فرائد الأصول - ج ١

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-015-2
الصفحات: ٦٩٤

غير جيّد لكونه أجنبيا عنه.

وثانيا : أنّ حق العنوان ما عنونه صاحب الحاشية لا ما عنونه المصنف ، وإن كان عنوانه في خصوص مورد أصالة الحقيقة لأنّ بحثه متعلّق بالحقيقة والوضع ، فالمناسب في مقامنا أن يعنون البحث هكذا : هل الظهور الشأني الاقتضائي والظنّ النوعي الحاصل للفظ بواسطة الوضع والقرائن العامّة مثل كون الأمر عقيب الحظر ونحوه حجة مطلقا ، أو بشرط الظن الفعلي على وفقه ، أو عدم الظن على خلافه ، أو عدم اقترانه بحال أو مقال يصلح كونه قرينة على خلاف الظاهر يعني هذا الظهور النوعي الاقتضائي؟ وحينئذ تقع جميع الأقوال على نفس العنوان حتى القول الذي نقله صاحب الحاشية من حجية أصالة الحقيقة مطلقا حتى في الصورة التي حكم فيها بإجمال اللفظ وعدم حصول الظهور العرفي ، ويخرج هذا القول عن عنوان المصنف كما لا يخفى ، والعجب أنّ المصنف عنون المسألة في أول المبحث موافقا لما ذكرنا انتصارا لصاحب الحاشية فراجع.

قوله : بل ربما يعكسون الأمر فيحكمون بنفي ذلك الاحتمال وارتفاع الإجمال لأجل ظهور العام (١).

(١) قد ذكر المصنف هذه الدقيقة في مواضع متعددة ، منها ما ذكره في رسالة أصل البراءة في جملة كلام له بعد دعوى إجمال حديث الرفع بين رفع جميع الآثار أو رفع خصوص المؤاخذة ، من أنّ عموم أدلة الأحكام الواقعية الشاملة بإطلاقها لموارد الأعذار المذكورة في الحديث يرفع الإجمال عن الحديث ويكشف عن أنّ المراد خصوص المؤاخذة ، لكن هذه الدقيقة لا تخلو عن تأمّل ،

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٧١.

٣٦١

لأنّ ظهور العام في العموم ليس بحيث يكون عرفا قرينة على بيان المجمل المفروض ومفسّرا له ، نعم بقاء العام على عمومه يستلزم عقلا أن يكون المراد بالمجمل هو المحتمل الآخر الذي من أفراد العام ، ولكن هذا المقدار لا يكفي في رفع الإجمال بحيث يحكم عرفا انفهام المعنى من اللفظ بمعونة القرينة اللفظية.

وبالجملة الجزم بما ذكره من الدقيقة في غاية الإشكال وللتأمّل فيه مجال فليتأمّل.

بقي في المقام شيء ، وهو أنّ المصنف وصاحب الحاشية وغيرهما جعلوا الكلام في عدم الفرق بين وجود الظن غير المعتبر على خلاف الظاهر وعدمه ، ولم يتعرّضوا لما كان الظن المعتبر على خلاف الظاهر ، مع أنّ تعرّضه مناسب في المقام ، كما لو فرض أنّ عموم الدليل مخالف للشهرة مع القول بحجية الشهرة ، وكالدليلين العامين من وجه ، بل ومطلق الأدلة اللفظية المتنافية الظواهر فنقول : كل ظاهر يكون على خلافه ظنّ معتبر من شهرة أو رواية أو آية وأمثالها إما أن يكون بحيث يحكم العرف بالجمع بينهما وكون ذلك الظن المعتبر قرينة على عدم كون الظاهر مرادا للمتكلم كما في النصّ والظاهر أو الظاهر والأظهر أو لا يكون كذلك.

فإن كان الأوّل ، فلا ريب في رفع اليد عن الظاهر بسبب وجود ذلك المخالف ، لكن لا يخفى أنّه ليس كل أظهرية يوجب التقديم والجمع المزبور المقتضي لرفع اليد عن الظاهر ، بل ما يحكم العرف بكونها منشأ لصرف الظاهر إلى خلافه ويحكم بعدم التعارض بينهما ، فما ذكره الأصوليون في باب تعارض الأحوال في ترجيح المجاز والتخصيص والإضمار والاشتراك بعضها على بعض لبعض المرجّحات التي جعلوها منشأ للأظهرية محلّ نظر بإطلاقه ، إذ على

٣٦٢

فرض تسليم الأظهرية بما ذكروه لا دليل على اعتبارها ما لم ينته إلى حد القرينية للآخر ، وكونها بهذه المرتبة ممنوع في جلّها لو لم يكن في كلها ، ومرجع هذا التقديم إلى تخصيص حجية الظواهر بغير هذا الفرض الذي استكشف عدم إرادة الظاهر بحكم العرف لا منع كون هذا الظاهر ظاهرا كما توهّم ، لأنّ القرينة المفروضة قرينة منفصلة لا متّصلة حتى تمنع عن انعقاد الظهور.

وإن كان الثاني ، بأن لا يكون الظن المخالف أقوى وأظهر ، أو كان ولكن لا بالمثابة المزبورة ، فإما أن يكونا قطعيي السند كآيتين من الكتاب أو الخبرين المتواترين لفظا ، أو لا بأن يكونا ظنيّي السند أو مختلفين ، ففي الأول يحتمل أن يكون كل واحد منهما مشمولا لدليل حجية الظهور فيكونان دليلين متعارضين يحكم بالتخيير بينهما لو قيل به في تلك المسألة أو التوقف والحكم بالإجمال ، وعلى التقديرين يستدل بهما في غير مورد التعارض مطلقا وفي مورد التعارض أيضا في غير محلّ الإجمال كنفي الثالث مثلا ، لكن الأظهر في النظر عدم العلم بشمول أدلة حجية الظهور من الإجماع والسيرة وبناء العقلاء لمثل هذا الظاهر المبتلى بمثل ذاك المعارض فلا حجة في البين ، ولا يترتب ما ذكرنا من التخيير ونفي الثالث.

وفي الثاني يمكن أن يكون الحكم كالأول بأن يقال لا تعارض بين السندين ، فدليل حجية السند يشملهما ، ويبقى الكلام في الظاهرين المتنافيين فيحكم بكونهما حجتين تعارضتا ، أو يقال بعدم حجية مثل هذا الظاهر على الوجهين في الأول ، ويمكن أن يجعل من باب تعارض السندين ويكون موضوعا للأخبار العلاجية ، وتمام الكلام في هذا المقام موكول إلى محلّه في باب التعادل والتراجيح.

٣٦٣

في حجية الظنّ في إثبات اللغة

قوله : وأما القسم الثاني وهو الظن الذي يعمل لتشخيص الظواهر (١).

(١) موجب الظن في هذا القسم إمّا الاعتماد على قول من يوثق به من أرباب علوم العربية كاللغوي والصرفي والنحوي والبياني بالنسبة إلى مواد المفردات وهيئة الكلمات المفردة والمركّبة ونحوها ، وإما الاعتماد على أدلة وأمارات ظنية التي يقرب إلى ذهن المستنبط كون لفظ مفرد أو مركب ظاهرا في معنى عموما أو في نوع خاص من الكلام أو في شخص كلام ، ومن القسم الثاني جملة مباحث الألفاظ من علم أصول الفقه ، بل جميع موارد اختلافات علماء العربية أيضا.

أما القسم الأوّل من القسمين ، فقد يقال إنّ ما يرجع منها إلى النقل عن الواضع فهو حجة ، وما يرجع إلى اجتهادهم فهو محل الكلام ، والأظهر أنّ جميعه يرجع إلى اجتهادهم في فهم مداليل الألفاظ من استقراء استعمالاتها من أهل اللسان وفصحائهم ، وأما نقلهم عن واضع اللغة من طريق التواتر أو الآحاد فإنا نقطع بعدمه ، ولو سلّم يجري الكلام في حجية نقلهم أيضا كحجية اجتهادهم بعينه لا بد له من دليل ، فلو تمّت الأدلة الآتية من إجماع العقلاء والعلماء وانسداد باب

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٧٣.

٣٦٤

العلم فيها نهضت بحجية القسمين.

نعم ما سيجيء من المحقق السبزواري من الدليل يختص بالقسم الأول ، إلّا أنّ التأمل التام يشهد بعدم الاختصاص ، لكن لمّا كان هو (رحمه‌الله) بصدد بيان حجية خصوص قول اللغوي عبّر بأصحاب الصناعات وإلّا فما تمسك به من اتفاق العقلاء في كل عصر وزمان جار في القسمين كما لا يخفى.

قوله : والظن الحاصل هنا يرجع إلى الظن بالوضع اللغوي أو الانفهام العرفي (١).

(١) لعله أراد بالوضع اللغوي الوضع الأصلي من واضع اللغة ، وعلى هذا تدخل المنقولات العرفية الحاصلة في الأزمنة المتأخرة عن واضع اللغة في الانفهام العرفي.

ويمكن أن يكون مراده من الوضع اللغوي مطلق الحقائق ليشمل الموضوعات بالوضع التعيّني أيضا وغيرها ، ويكون مراده من الانفهام العرفي المجازات النوعية والشخصية ، وهذا هو الأظهر.

قوله : وكيف كان فاستدلوا على اعتبار قول اللغويّين ، إلى آخره (٢).

(٢) جميع ما استدل عليه وجوه أربعة : إجماع العلماء وسيرتهم بل سيرة أصحاب النبي والأئمة (عليهم‌السلام) أيضا ، وبناء العقلاء ، وانسداد باب العلم في غالب موارده.

ولا يخفى أنّ الوجوه الأربعة لو تمّت جرت في غير قول اللغويين أيضا

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٧٣.

(٢) فرائد الأصول ١ : ١٧٤.

٣٦٥

مما هو داخل في عنوان هذا النزاع إن لم نقل بكونه أولى بهذه الوجوه.

ثم لا يخفى أنّ المصنف كغيره استدل ببعض هذه الوجوه على حجية الظن في القسم الأول ، والظاهر بل المتيقّن مساواة هذا القسم والقسم الأول في حجية الظن بالنظر إلى هذه الأدلة ، إذ كما أنّ بناء العقلاء والعلماء وإجماعهم على العمل بالظن في تشخيص المرادات ، كذلك بناؤهم على الاعتماد على الظن في تشخيص الظواهر بعينه كما لا يخفى على المتأمّل المتتبّع ، ولو طرأ شك ففي الموضعين سواء.

والأقوى في النظر تمامية هذه الوجوه بأجمعها في الموضعين مع قطع النظر عن الاختلالات الواقعة في خصوص ألفاظ الكتاب والسنّة على ما سبق ، وإن كان شكّ فمن جهة تلك الاختلالات وقد مرّ الكلام فيها مستوفى.

قوله : وفيه : أنّ المتيقّن من هذا الاتفاق هو الرجوع إليهم مع اجتماع شرائط الشهادة من العدد والعدالة (١).

(١) الإنصاف استقرار بناء العقلاء على الاعتماد على قول أهل الخبرة في كل فنّ وصنعة كما ذكره المحقق السبزواري كما يشاهد من رجوعهم إلى آحاد الأطباء الماهرين وغيرهم كل فيما يتعلّق بصنعتهم حتى في المقوّم الذي جعله في المتن مورد النقض ، والظاهر أنّ السر في رجوعهم إليهم انسداد باب العلم في موارده غالبا ، وأما النقض بأنّ أكثر علمائنا على اعتبار العدالة في من يرجع إليه من أهل الرجال وبعضهم على اعتبار التعدّد ، فالظاهر خروجه عن موضوع الكلية ، لأنّ معرفة العدالة ليست صنعة لأحد من أهل الرجال المعدّلين ، وليس إلّا كتعديل بعضنا بعضا نظير الاخبار بسائر الموضوعات كطهارة هذا الثوب

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٧٤.

٣٦٦

ونجاسته وإباحته وغصبيته إلى غير ذلك.

وأما النقض بظهور اتفاق العلماء على اشتراط التعدد والعدالة في أهل الخبرة في مسألة التقويم ، ففيه مضافا إلى المنع عن ذلك كما سبق ، أنّ خصوص المورد لعلّه ليس فيه الانسداد الأغلبي الذي قد عرفت أنّه السر في الاعتماد على قول أهل الخبرة ، بل ولعله كذلك في التعديل والجرح أيضا (١).

قوله : لاندفاع ذلك بأنّ أكثر موادّ اللغات إلّا ما شذّ وندر كلفظ الصعيد ونحوه معلوم (٢).

(١) دعوى معلومية أكثر موادّ اللغات وكذا الهيئات ونحوها لا يخلو عن مجازفة بالنسبة إلى ألفاظ الكتاب والسنّة في زماننا ، هذا مع أنّه لم يزد في بيانه على الاعتماد على بعض الأمارات الظنية كاتفاق أهل العربية والتبادر بضميمة أصالة عدم القرينة ، فكيف يحصل من أمثال ذلك القطع بمداليل الألفاظ ، وقد رجع المصنف عن هذا الكلام أخيرا على ما في بعض النسخ المتأخّرة ببيان واف مشتمل على أمثلة كثيرة لا يمكن دعوى القطع بالنسبة إليها فراجع.

__________________

(١) أقول : حق الإنصاف أنّ دعوى الانسداد الأغلبي في غير مورد التقويم من موارد الرجوع إلى أهل الخبرة ، ومنعه في خصوص التقويم خلاف الإنصاف ، ولو ادّعى العكس لم يكن بعيدا ، ويشهد بذلك أنّ معرفة كون زيد محموما بالغبّ أو شطر الغب أو غيره وأنّ علاجه باستعمال المسهل الفلاني مثلا كثيرا ما يحصل به القطع عن قول جمع من الأطباء ، بخلاف معرفة أنّ الدار الفلانية أو الثوب أو الضيعة قيمته كذا ، وقلّما يتّفق مقوّمان فيها فضلا عن جماعة يحصل بقولهم العلم ، فإذن النقض في محلّه ، اللهم إلّا أن يقال إنّه خرج عن الكلية المزبورة ، فتأمّل جيدا.

(٢) فرائد الأصول ١ : ١٧٥.

٣٦٧

الإجماع المنقول

قوله : ومن جملة الظنون الخارجة من الأصل الإجماع المنقول بخبر الواحد (١).

(١) وأما الإجماع المنقول بالخبر المتواتر أو المنقول بالخبر الواحد المحفوف بالقرائن العلمية فلا إشكال في حجيته ، ضرورة حصول القطع بوجود الحجة ، وأما المنقول بالخبر الواحد الذي هو محلّ النزاع هل هو من باب نقل الكاشف نظير نقل بعض الرواة عن بعض آخر أنّه قال قال الإمام (عليه‌السلام) كذا ، أو من باب نقل الحكم المنكشف نظير نقل الراوي عن الإمام (عليه‌السلام)؟ وجهان ، والأظهر التفصيل ، فإنّ حاكي الإجماع التضمني على ما هو رأي قدماء الأصحاب حاك لقول الإمام (عليه‌السلام) في الحقيقة ، فهو ناقل لنفس الحجة ، وأما الحاكي للإجماع اللطفي على ما هو طريقة شيخ الطائفة (قدس‌سره) والإجماع الحدسي كما هو طريقة جمهور المتأخرين فهو حاك عن الكاشف أوّلا ضرورة كونه ناقلا لاتفاق الكل أو اتفاق جماعة يكشف عن رضا المعصوم

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٧٩.

٣٦٨

(عليه‌السلام) بتلك الفتوى ، وموافقة رأيه (عليه‌السلام) لرأيهم بواسطة مقدمة خارجية من اللطف أو الحدس تدل على الملازمة بين قول الجماعة وقول الإمام (عليه‌السلام) ، وبالنظر إلى هذه الملازمة يكون مدعي الإجماع ناقلا للحكم المستكشف أيضا ثانيا وبالعرض ، فليكن على ذكر منك.

وكيف كان ، فلا دليل على خروج هذا الإجماع المنقول بالخبر الواحد عن أصالة حرمة العمل بالظن سوى أدلة حجية الخبر الواحد كما صرّح به غير واحد وهو ظاهر المتن ، ولم ينقل عن أحد حجيته من غير هذه الجهة سوى ما في الفصول من توهّم أنّ بعض من لا يقول بحجية الخبر الواحد يعتمد على الإجماع المنقول ، ثم ضعّفه بأنّه رجم بالغيب فاسد بلا ريب.

ثم لا يخفى أنّ عمدة وجه الاستشكال في شمول أدلة حجية الخبر الواحد للإجماع المنقول أمران :

الأول : أنّ الإجماع المنقول إخبار عن قول المعصوم (عليه‌السلام) عن حدس لا عن حسّ ، والأدلة التي أقيمت على حجية الخبر الواحد لا تدل على أزيد من حجية الاخبار عن حسّ.

الثاني : أنّ الحاكي للإجماع ناقل في الحقيقة لموضوع من الموضوعات وهو رأي الجماعة وليس ناقلا للحكم ، لكن كلا الوجهين بالنظر إلى غير الإجماع التضمني فإنّ ناقله حاك عن الحكم عن حسّ كما لا يخفى ، والمراد من الحسّي ما يكون مدركا بإحدى الحواس الظاهرة ، وفي حكمه ما كان له آثار ظاهرة حسّية قريبة توجب العلم بوجود ذي الآثار كالعدالة والشجاعة وأمثالهما ، ومن الحدسي ما يكون نوعه غير مدرك بالحسّ بل بالحدس ، أو يكون مدركا بالحدس في خصوص مقام وإن كان نوعه قد يدرك بالحسّ

٣٦٩

كالإجماع المنقول بالنسبة إلى الحكم المنكشف به فقد يدرك بالسماع عن المعصوم (عليه‌السلام) أيضا.

وأما بالنسبة إلى نفس الكاشف يعني فتوى الجماعة فهو أيضا حدسي غالبا ، وإن كان يمكن أن يكون حسّيا بأن كان مدّعي الإجماع تتبّع آراء الجماعة طرا بنفسه وأخذها من لفظهم وكتبهم وإن كان بعيد الوقوع.

ولا يخفى أنه لو ثبتت مساواة الإجماع المنقول للخبر الواحد بشمول واحد من أدلته له كفى في حجيته سواء كان التسوية من حيث نقل الكاشف أو نقل المنكشف.

وبعبارة أخرى لو دلّ الدليل على وجوب تصديق مدّعي الإجماع كفى ، أعمّ من أن يكون الدليل ناظرا إلى تصديقه في الحكم المستكشف من الاتفاق المحكي ، أو يكون ناظرا إلى تصديقه في نفس الاتفاق المحكي الملازم لثبوت الحكم بالنظر إلى قاعدة اللطف أو الحدس القطعي.

قوله : الأول أنّ الأدلة الخاصة التي أقاموها على حجية خبر العادل (١).

(١) لا يخفى أنّ الأدلة التي أقاموها على حجية خبر العادل كلّا ناظرة إلى وجوب العمل بالأحكام التي يخبر بها العادل ، فلو شملت للإجماع المنقول أيضا تدلّ على حجيته من حيث الحكم المستكشف ، سوى آية النبأ فإنّها لو تمّت دلالتها دلّت على وجوب الأخذ بقول ناقل الإجماع من حيث الاتفاق الكاشف أيضا وسيجيء توضيحه.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٨٠.

٣٧٠

قوله : اللهم إلّا أن يدّعى أنّ المناط في وجوب العمل بالروايات هو كشفها عن الحكم الصادر عن المعصوم (عليه‌السلام) (١).

(١) أو يدّعى عموم بعض أخبار الباب للاخبار عن حدس أيضا كقوله (عليه‌السلام) فلان ثقة خذوا عنه معالم دينكم ونحوه ، أو يمنع الانصراف في باقي الروايات أيضا إلى الاخبار عن حسّ.

قوله : لكن هذا المناط لو ثبت دلّ على حجية الشهرة بل فتوى الفقيه (٢).

(٢) فإن قيل : فرق بين كشف الإجماع المنقول عن الحكم وكشف الشهرة والفتوى ، فإنّ الكشف في الأول قطعي وفي الأخيرين ظنّي.

قلنا : ليس المناط الكشف القطعي قطعا وإلّا لم يشمل الرواية المصطلحة ، بل المناط هو كون الخبر حاكيا عن الحكم الصادر عن المعصوم (عليه‌السلام) وهذا مشترك.

قوله : وأما الآيات فالعمدة فيها (٣).

(٣) وأمّا آية النفر وآية الكتمان وسؤال أهل الذكر فإنّها تشمل الإجماع المنقول من حيث الحكم المستكشف أيضا لو تمّت دلالتها على حجية الأخبار ، غير أنّها تدلّ حينئذ على حجية فتوى الفقيه أيضا كالمناط المستنبط من الروايات في السابق ، وأما من حيث نقل الكاشف فقد مرّت الإشارة إلى عدم دلالتها عليه ، إذ الظاهر منها وجوب الرجوع إلى أهل الذكر والمتفقه في

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٨٠.

(٢) فرائد الأصول ١ : ١٨٠.

(٣) فرائد الأصول ١ : ١٨٠.

٣٧١

الأحكام فقط لا مطلقا حتى الموضوعات فإنّه لم يقل به أحد وإلّا يلزم دلالته على قبول شهادة الواحد في جميع الموضوعات.

وأما آية النبأ فقد أشار صاحب الفصول (قدس‌سره) إلى عدم شمولها للأخبار الحدسيّة بوجه آخر وهو عدم كونها مشمولة للنبإ المذكور في الآية ، إما لأنّ النبأ حقيقة في الاخبار عن الحسّ أو لانصرافه إليه ، ثم ضعّفه بقوله إن أريد أنّ النبأ لا يطلق إلّا على الأشياء التي من شأنها أن تدرك بالحسّ وإن أدركها المخبر بطريق الحدس وشبهه ، فهذا مما لا ينافي المقصود ، فإنّ المخبر عنه هنا قول المعصوم (عليه‌السلام) أو فعله أو تقريره وهو أمر من شأنه أن يدرك بالحسّ وإن كان طريق الناقل إليه الحدس ، وإن أريد أنّه لا يطلق النبأ إلّا على ما كان علم المخبر به بطريق الحسّ فواضح الفساد ، للقطع بأنّ من أخبر عن إلهام أو وحي أو مزاولة بعض العلوم كعلم النجوم يعدّ منبأ ومخبرا ، قال الله تعالى حكاية عن عيسى (عليه‌السلام) : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ)(١) ولا ريب أنّ إخباره لم يكن عن حسّ ، ومثله قوله تعالى في غير موضع : (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٢) فإنّ علمه تعالى ليس عن حسّ ، وقوله تعالى : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(٣) فإنّ كونه تعالى هو الغفور الرحيم ليس أمرا حسّيا ، وقوله تعالى : (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) بعد قوله : (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ)(٤) فإنّ التحريم ليس أمرا حسّيا ، إلى غير ذلك انتهى.

__________________

(١) آل عمران ٣ : ٤٩.

(٢) المائدة ٥ : ١٠٥.

(٣) الحجر ١٥ : ٤٩.

(٤) الأنعام ٦ : ١٤٣.

٣٧٢

ولقد أجاد فيما أفاد ، ويؤيده ما ذكره في موضع آخر من أنّ الاستناد في الرواية كما يكون إلى الحسّ كذلك قد يكون إلى الحدس كما في المكاتبة والوجادة ، فبطل دعوى اختصاصها بالنوع الأول أي ما يستند إلى الحس ، انتهى.

وحاصله : أنّ جملة مما هو مشمول الآية بتسليم الخصم حدسي كالوجادة مثلا فإنّ الراوي الثاني بوجدانه الحديث في كتاب الراوي الأول ينبئ عنه ذلك الحديث مع أنّه لم يسمع منه بل علم بكونه روايته من العلم بكون الكتاب بخطّه وأنّه لا يودع في الكتاب إلّا ما سمعه من الإمام (عليه‌السلام) فكأنّه حكى قوله (عليه‌السلام). ولا يخفى أنّ الأمور المذكورة مستند الراوي الثاني وهي أمور حدسية ، وهكذا يكون بعينه الرواية المستندة إلى إجازة الراوي الأول رواية كتابه للراوي الثاني ، وكذا نقل الراوي الأول مضمون كلام الإمام (عليه‌السلام) بالمعنى ، إلى غير ذلك من موارد الاخبار عن حدس.

وبالجملة : أنا لا نشك بملاحظة ما ذكر وغيره في عدم الفرق بين الاخبار عن حس وعن حدس على تقدير ثبوت حجية الخبر بأحد الأدلة المعهودة الآتية في محلّها ، هذا.

ولكن المصنف أعرض عن دعوى عدم شمول النبأ للاخبار عن حدس وضعا أو انصرافا وادّعى وجود القرينة في الآية على أنّ المراد بها إلغاء احتمال تعمّد الكذب فقط لا حجية قول العادل ، وبضميمة أصالة عدم خطأ العادل الثابت حجيته ببناء العقلاء ثبت حجية الخبر المستند إلى الحسّ فقط ، لعدم بناء العقلاء على إلغاء احتمال الخطأ عن المخبر في الحدسيّات ، وسيجيء ما فيه.

٣٧٣

قوله : ومنه تبيّن عدم دلالة الآية على قبول الشهادة الحدسية إذا قلنا بدلالة الآية على اعتبار شهادة العدل (١).

(١) هذا بناء على دلالة الآية على قبول خبر العادل في الموضوعات أيضا وهو الحق ، وأقوى ما يشهد بذلك أنّ الآية نزلت في شأن الوليد الفاسق بعد إخباره بارتداد القوم ومنعهم الزكاة ، وما أخبره كان من قبيل الشهادة على موضوع الارتداد ومنع الزكاة ، فمنطوق الآية يشمل الاخبار عن الموضوع قطعا لعدم إمكان تخصيص المورد ويتبعه المفهوم.

قوله : والظاهر أنّ ما ذكرنا من عدم دلالة الآية ـ إلى قوله ـ هو الوجه فيما ذهب إليه المعظم بل أطبقوا عليه ، إلى آخره (٢).

(٢) فيه : أنّ وجه ذهاب المعظم إلى عدم اعتبار الشهادة في المحسوسات إذا لم تستند إلى الحسّ ، إما الاعتماد على ما ذكر في الرياض من أنّ الشهادة من الشهود وهو الحضور كما حكي هذا التعليل عن جمع ، أو الاستناد إلى ما روي من قوله (عليه‌السلام) لمن أراه الشمس : «على مثل هذا فاشهد أو دع» (٣) وغيره مما يقرب من ذلك كما هو مذكور في محلّه ، فالاستناد إلى أنّ وجه ذهاب المعظم إلى عدم اعتبار الشهادة الحدسية إلى ما ذكره لعلّه تخرّص على الغيب بل فاسد ، لأنّهم علّلوا مختارهم بغيره مما أشرنا إليه ، فتدبّر.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٨١.

(٢) فرائد الأصول ١ : ١٨٢.

(٣) الوسائل ٢٧ : ٣٤٢ / أبواب الشهادات ب ٢٠ ح ٣.

٣٧٤

قوله : والحاصل أنّه لا ينبغي الإشكال في أنّ الاخبار عن حدس واجتهاد ونظر (١).

(١) الظاهر أنّ الآية دالة على حجية خبر العادل تعبّدا ، ولازمها إلغاء احتمال كونه غير مطابق للواقع من أي جهة كان ، لا من جهة خصوص تعمّد الكذب كما حقّقه المصنف ، وما استشهد به على ذلك من قرائن الكلام غير شاهد.

أما قضية التفصيل بين العادل حين الإخبار والفاسق فهي بمجرّدها لا تصلح لأن تكون قرينة على انّ المراد إلغاء احتمال تعمّد الكذب في العادل دون الفاسق ، بل ظاهر القضية اعتبار الفسق والعدالة تعبّدا كما هو كذلك بالنسبة إلى أدلة اعتبار العدالة في مواردها ، ولا تكون في الآية خصوصية في التفصيل لا تكون في غيرها ، وظاهر الكل اعتبار العدالة تعبّدا.

وأما قضية تعليل اختصاص التبيّن بخبر الفاسق بقيام احتمال الوقوع في الندم أيضا لا تكون قرينة على ذلك ، لأنّا نعلم أنّ التعليل المذكور حكمة غالبية ، لأنّ الغالب في الفاسق عدم تحرّزه عن تعمّد الكذب ولا يبالي في مقالاته أن تكون مخالفة للواقع ، بخلاف العادل فإنّ الغلبة بالنسبة إليه بالعكس ، وهذه حكمة حجية البينة أيضا ، وسيجيء زيادة توضيح لذلك. بل يمكن أن يقال إنّ التعليل المذكور ظاهر في خلاف ما ذكره ، فهو قرينة على المختار ، إذ الظاهر من الآية بضميمة التعليل طرح قول الفاسق بالمرة فإنّه مظنّة الندم ، والتفحّص عن حقيقة الواقعة من موضع آخر حتى يعلم الحال لا التفحّص عن أنّه تعمّد في الكذب أم لا حتى يكون مفهومه وجوب الحكم بأنّه مساو للعادل بعد تبيّن أنّه ما تعمّد في الكذب.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٨٣.

٣٧٥

ثم ما ذكره من استقرار بناء العقلاء على عدم الاعتناء باحتمال الخطأ والسهو لندرته ممنوع مطلقا حتى مع انفتاح باب العلم ومع عدم حصول الظن ، بل طريقتهم تحصيل العلم بما هو موافق لغرضهم أوّلا ، ومع عدم إمكانه أو تعسّره فالظنّ ، فعدم الاعتناء باحتمال الخطأ النادر في نفسه من جهة أنّه لا ينافي حصول الظنّ في مورد حصوله ، وإن لم يحصل لهم ظنّ ولو من جهة احتمال الخطأ فيتوقّفون في متابعة الخبر ، بل نقول لو صحّ بناء العقلاء على عدم الاعتناء باحتمال الخطأ مطلقا صحّ أن يقال إنّ بناءهم على عدم الاعتناء باحتمال تعمّد الكذب أيضا في غير الكذوب خصوصا إذا كان المخبر عادلا ، فإنّ احتمال خطئه ليس بأبعد وأندر من احتمال تعمّد كذبه ، ولازمه حجية خبر العادل الواحد ببناء العقلاء من غير احتياجه إلى دليل آخر ، وهو كما ترى (١).

__________________

(١) أقول : والإنصاف أنّ بناء العقلاء على الاعتماد على الظنّ النوعي بعد إحراز عدم تعمّد الكذب مما لا ينكر ، ألا ترى أنّهم يعتمدون على قول واحد من أهل الخبرة في كل صنعة وفنّ من غير تزلزل وتشكيك بعد إحراز أنّه أستاذ الفنّ ، وإحراز خلوّه عن الأغراض النفسانية التي توجب تعمّد الكذب ، ولا يعبئون باحتمال خطئه نادرا ، ودعوى حصول القطع في جميع موارد الرجوع مجازفة ، كما أنّ دعوى كون هذه الموارد بأجمعها مما ينسد باب العلم فيها ولو بالرجوع إلى باقي أرباب الصناعة حتى يحصل العلم خلاف الواقع مما نجده ، وكذا دعوى كونهم معتمدين على الظن الفعلي في كلّ واقعة واقعة أيضا خلاف الإنصاف ، كيف وأنّهم لو سألوا عن وجه عملهم يعللونه بقول فلان وفلان من أهل الصنعة لا الظن الحاصل من ذلك القول ، ويشهد بذلك ما حكاه عن الكفار في الكتاب العزيز بقوله : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ)[سورة الزخرف ٤٣ : ٢٣] مع أنّهم عقلاء ، وكذا في قوله : (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا)[(سورة يونس ١٠ : ٣٦] وقوله : (إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)[سورة البقرة ٢ : ٧٨] إلى غير ذلك ، غاية الأمر ورود المنع عن العمل بالظن في الشرعيات من الأحكام الأصولية والفرعية ، فيقتصر على ما ثبت فيه المنع ويبقى الباقي تحت الأصل المذكور ، وعلى هذا أصالة حجية خبر العادل قريب جدا لو لم يمنعه الأدلة الدالة على حرمة العمل بالظنّ ، فليتأمّل.

٣٧٦

قوله : فإن قلت فعلى هذا إذا أخبر الفاسق بخبر يعلم بعدم تعمّده للكذب فيه تقبل شهادته فيه (١).

(١) وكذا يقبل إخباره ، وبالجملة حجية قوله مطلقا في الأحكام والموضوعات بعين التقريب المذكور في المتن ، بل يتعدّى إلى قول مجهول الحال والكافر أيضا إذا علم عدم تعمّده للكذب ، وهذا السؤال وارد على بيانه والجواب عنه صعب مستصعب ، وما أجاب به من ثبوت إناطة الحكم في الشهادة والفتوى بالعدالة تعبّدا ، فيه مضافا إلى ما مرّ من ثبوت الإناطة في الخبر أيضا بمدلول الآية فالمقامان متساويان والمنع مشترك حرفا بحرف ، أنّ لازم ذلك أنّ الأصل في خبر الفاسق والكافر المتحرزين عن الكذب حجية قولهما ، غاية الأمر ورود الدليل على إناطة الحكم بالعدالة في الشهادة والفتوى ، ويبقى في غيرهما الأصل سليما عن المعارض أو غير سليم أيضا بملاحظة الأدلة الناهية عن العمل بالظن مطلقا.

هذا كله بالنظر إلى الإشكال الأول وهو عدم شمول أدلة حجية الخبر الواحد للأخبار الحدسية ومنها الإجماع المنقول بالنسبة إلى الحكم المستكشف وقد عرفت ضعفه.

وأما الإشكال الثاني ، وهو عدم شمول الأدلة للاخبار بالموضوعات كما هو كذلك في الإجماع المنقول بالنسبة إلى الاتّفاق الكاشف ، فالظاهر أنّ ما سوى آية النبأ كذلك ، فإنّها لا تدلّ إلّا على وجوب العمل بالأحكام المخبر بها ، وأما آية النبأ فقد عرفت شمولها للأمرين بل شمولها للموضوع أولى بقرينة المورد ، فتثبت بالآية حجية قول العادل فيما نحن فيه بالنسبة إلى الكاشف

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٨٣.

٣٧٧

ويتبعه الحكم المستكشف به.

بقي في المقام شيء ينبغي التنبيه عليه : وهو أنّه لو أخبر المخبر بخبر لازمه أمر آخر فهل يصدق أنّه أخبر بذلك اللازم أيضا أم لا؟

وتظهر الثمرة فيما نحن فيه أن لو قلنا بالأول تثبت حجية الإجماع المنقول باعتبار الحكم المستكشف من حيث كونه لازما للاتّفاق المحكي بالنظر إلى أدلة حجية خبر الواحد ما عدا الإجماع منها ولا سيّما آية النبأ على تقدير عدم شمولها للموضوعات ، وإن قلنا بالثاني فلا تثبت الحجية إلّا على تقدير شمول الآية للموضوعات بالتقريب السابق.

والتحقيق أن يقال : إنّه إن كان ذلك اللازم مقصودا بالذات من الكلام كالكناية التي يراد بها اللازم ويكون ذكر الملزوم توطئة للانتقال إلى اللازم ، فلا ريب أنّ المخبر به حقيقة هو اللازم ولا يقال إنّه أخبر بالملزوم إلّا مجازا ، وأما في غير ذلك لا يقال إنّه أخبر باللازم وإن كان المتكلّم متفطّنا له بل وإن كان مقصودا بالإفادة أيضا مع الملزوم ، وإن لم يكن متفطّنا له فالأمر واضح ، ففيما نحن فيه قد يقال : إنّ مدّعي الإجماع لم يخبر إلّا بنفس الاتفاق المستلزم لرأي الإمام (عليه‌السلام) ، فنفس اللازم غير مخبر به وإن كان متفطّنا له بل قاصدا له أيضا.

وقد يقال : إنّ مقصوده نقل الحجة ولما كان حجية الإجماع المحكي باعتبار ذلك اللازم كان هو المقصود بالأصالة فهو من قبيل الكناية السابق ذكرها ، والأظهر هو الثاني فليتأمّل ، ولعله (رحمه‌الله) إلى بعض ما ذكرنا أشار بقوله فتأمل.

٣٧٨

قوله : الأمر الثاني أنّ الإجماع في مصطلح الخاصة بل العامة الذين هم الأصل له وهو الأصل لهم (١).

(١) الظاهر أنّ المراد من لفظ الأصل الأوّل هو السابق والثاني هو المبتنى عليه ، وكونهم أصلا للإجماع لأنّهم أسّسوه دليلا ثم تبعهم الخاصة لكونه مشتملا على ما هو مناط الحجية عندهم من قول المعصوم (عليه‌السلام) ، وكونه أصلا لهم لأنّه لم يمكنهم إثبات مذهبهم إلّا بانيا عليه ، ومحصّل كلامه في هذا المقام أنّ الإجماع بحسب ما اصطلح عليه الأوائل من العامة والخاصة هو اتفاق الكل ، ولمّا كان مناط الحجية عند الخاصة اشتمال ذلك الاتفاق على قول الإمام (عليه‌السلام) تسامح من تأخّر كالسيد والفاضلين في إطلاقه على اتفاق جماعة كانت أقوالهم مشتملة على قول الإمام (عليه‌السلام) ثم تسامح من تأخّر منهم على إطلاقه على اتفاق جماعة ليس فيهم الإمام (عليه‌السلام) بيقين ولكن يستكشف منه قول الإمام (عليه‌السلام) أو رأيه من طريق الحدس ، فالإطلاق الأخير مسامحة في مسامحة كما عبّر في المتن واعتذر عن هذه المسامحة بأنّ تسميتهم ذلك إجماعا لأجل المحافظة على ما جرت سيرة أهل الفن من إرجاع كل دليل إلى أحد الأدلة المعروفة بين الفريقين من الكتاب والسنّة والإجماع والعقل.

أقول : ولا يبعد أن يريدوا به المعنى اللغوي لا الاصطلاحي ، ويكون مقام الاستدلال قرينة على إرادتهم الاتفاق الكاشف ، ولذا تراهم يعبّرون بالاتفاق أيضا في مثل المقام ولا يريدون به إلّا ما يريدون من لفظ الإجماع ، وعذرهم أيضا ما ذكره المصنف من التحفظ على عناوين الأدلة المعروفة الأربعة ، ولم يقل

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٨٤.

٣٧٩

أحد بأنّ لفظ الاتفاق أيضا له معنى آخر اصطلاحي حتى يكون الإطلاق باعتباره.

وكيف كان ، لا ريب في أنّ نقل الإجماع الاصطلاحي وكذا التضمني بعد المسامحة الأولى حجّة لتضمّنهما نقل قول المعصوم (عليه‌السلام) وأما نقل الإجماع الكشفي فإن كان كاشفا عند كلّ أحد حتى يصدق أنّ الإجماع ملزوم قول الإمام (عليه‌السلام) وقلنا بشمول أدلة حجية الخبر للاخبار بالموضوع أيضا كما قلنا به فهو حجة وإلّا فلا.

قوله : إذا عرفت ما ذكرنا فنقول إنّ الحاكي للاتّفاق قد ينقل الإجماع بقول مطلق (١).

(١) محصل الكلام أنّ الحاكي للإجماع لو نقله بعبارة تدل على دخول قول الإمام (عليه‌السلام) في جملة الأقوال ، كما إذا نقله مطلقا وحمل على المعنى الاصطلاحي بدون المسامحة أو أضافه إلى الأمة أو المسلمين أو الشيعة ونحو ذلك فهو حجة ، لما مرّ من تضمّنه لنقل رأي المعصوم (عليه‌السلام) ، وأما إذا نقله بلفظ لا يدلّ على دخول قول الإمام (عليه‌السلام) كما إذا أضافه إلى العلماء الظاهر في غير الإمام (عليه‌السلام) أو أصحابنا أو فقهائنا ونحو ذلك فيدخل في نقل الموضوع ، فإن قلنا بشمول أدلة حجية خبر الواحد للموضوع وكان ذلك ملزوما لقول الإمام (عليه‌السلام) فهو أيضا حجة ، إلّا أنّه خلاف مختار المصنف على ما سيأتي.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٩١.

٣٨٠