حاشية فرائد الأصول - ج ١

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-015-2
الصفحات: ٦٩٤

الاشتباه.

ومثل رواية ابن سنان : «كل شيء حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان أنّ فيه الميتة» (١) بناء على أنّ المراد أن يجيئك شاهدان أنّ في ضمنه الميتة لا في بعض أطرافه كما ستأتي دعواه.

هذه جملة ما دلّ على البراءة بالنسبة إلى الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي نصّا أو إطلاقا.

وأما الطائفة الثانية ، فهي أيضا صنفان : صنف يدلّ على وجوب الاحتياط عند الشبهة مطلقا بظاهر الدليل مثل قوله (عليه‌السلام) : «قفوا عند الشبهة» (٢) ومثل قوله (عليه‌السلام) : «أخوك دينك فاحتط لدينك» (٣) ومثل قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(٤) ونحوها ، ولعل من هذا الصنف رواية ضريس المتقدّمة بناء على أنّ المراد من الخلط الاشتباه لا المزج ، وكذا رواية ابن سنان ، ومثل المرسل المنجبر بالشهرة والإجماع المحكي : «اتركوا ما لا بأس به حذرا عمّا به البأس» (٥). ويدخل في هذا الصنف ما ادّعاه صاحب الحدائق (رحمه‌الله) (٦) من استنباط قاعدة الاحتياط باستقراء مواردها في الشريعة في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي كما ورد في الماءين المشتبهين بأنّه يهريقهما

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ١١٨ / أبواب الأطعمة المباحة ب ٦١ ح ٢.

(٢) الوسائل ٢٧ : ١٥٩ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ١٥.

(٣) الوسائل ٢٧ : ١٦٧ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٤٦.

(٤) الإسراء ١٧ : ٣٦.

(٥) ورد ما يقرب منه في البحار ٧٧ : ١٦٤ / ١٩٢.

(٦) الحدائق الناضرة ١ : ٥٠٤ ـ ٥٠٧.

٢٠١

ويتيمّم (١) وفي الثوبين المشتبهين بأنّه يصلي عاريا (٢) وفي ثوب يعلم بإصابة بعضها النجاسة بغسله من الناحية التي يعلم بإصابة النجاسة بعضها (٣) وفي المشتبه مذكّاها بميتها ببيعها ممّن يستحلّ الميتة (٤) وفي قطيع غنم نزى الراعي على واحدة منها ثم أرسلها في الغنم بإخراج الموطوءة بالقرعة (٥).

وصنف يدلّ على أنّ ارتكاب الشبهة مظنّة الهلكة مثل قوله (عليه‌السلام) في حديث التثليث المستفيض «ومن ارتكب الشبهات وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم» (٦) ومثل قوله (عليه‌السلام) : «الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكة» (٧) ومثل قوله (عليه‌السلام) : «ما اجتمع الحلال والحرام إلّا غلب الحرام الحلال» (٨) بناء على أنّ المراد من الاجتماع الاشتباه لا المزج ، أو أنّ المراد أعمّ ، ولعل ضعفه منجبر بالشهرة وحكاية الإجماع كما أشار إليه المصنف.

والإنصاف أنّ دلالة الأخبار المذكورة على وجوب الاحتياط مطلقا في حدّ أنفسها مما لا ينكر خصوصا أخبار التثليث ، والأخبار الآمرة بالاحتياط مطلقا سواء كان في الشبهة البدوية أو المقرونة بالعلم الإجمالي وسواء كان في الشبهة الحكمية أو الموضوعية.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٥ / أبواب الماء المطلق ب ٨ ح ١٤.

(٢) الوسائل ٣ : ٥٠٥ / أبواب النجاسات ب ٦٤ ح ١.

(٣) الوسائل ٣ : ٤٢٦ / أبواب النجاسات ب ١٧ ح ٣.

(٤) الوسائل ٢٤ : ١٨٧ / أبواب الأطعمة المحرمة ب ٣٦ ح ٢.

(٥) الوسائل ٢٤ : ١٦٩ / أبواب الأطعمة المحرمة ب ٣٠.

(٦) الوسائل ٢٧ : ١٥٧ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٩.

(٧) الوسائل ٢٧ : ١٥٨ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ١٣.

(٨) المستدرك ١٣ : ٦٨ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ٥.

٢٠٢

ثم بعد ما عرفت من صدق دلالة أخبار الطرفين وصحة طريقهما على الجملة ، لا جرم يقع التعارض بينهما ، وحينئذ صحّ للقائل أن يقول : بأنّ وجه الجمع حمل الطائفة الأولى على الشبهة البدوية والطائفة الثانية على الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي.

لكن يرد عليه : أنّ هذا جمع من غير شاهد لا يبنى عليه العمل على ما حقق في باب التعادل والترجيح ، ولعل هذا القائل تبع الشيخ (قدس‌سره) في وجه الجمع بين خبري «ثمن العذرة سحت» (١) و «لا بأس ببيع العذرة» (٢) بحمل الأول على عذرة غير مأكول اللحم لأنّه نصّ فيه ، والثاني على عذرة مأكول اللحم لأنّه أيضا نصّ فيه ، فيخصّص ظاهر كلّ بنصّ الآخر ، وجمهور الأصوليين (رحمهم‌الله) ومنهم المصنف (رحمه‌الله) لم يرضوا بهذا الجمع لما ذكرنا من عدم الشاهد ، هذا.

مضافا إلى أنّ تخصيص أخبار الاحتياط بالشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي يلزمه إخراج أكثر أفراد العام وهو غير جائز عند الأكثر ، مع أنّ الصنف الثاني من أخبار البراءة لا يقبل هذا الجمع لأنّه نصّ في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي كما مرّ ، فبقي التعارض بحاله ، نعم ربّما يقال بأنّ هذا الجمع موافق للشهرة والإجماع المنقول ، وكون ذلك شاهدا فيه ما لا يخفى.

وربّما يذكر هنا وجهان آخران للجمع :

الأول : أنّ أخبار البراءة حاكمة على أخبار الاحتياط بالنسبة إلى الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي ، لأنّ أخبار الاحتياط مقرّرة لحكم العقل بوجوب

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ١٧٥ / أبواب ما يكتسب به ب ٤٠ ح ١ (مع اختلاف يسير).

(٢) الوسائل ١٧ : ١٧٥ / أبواب ما يكتسب به ب ٤٠ ح ٣.

٢٠٣

الاحتياط بعد حصول العلم الإجمالي ، وكما أنّ أخبار البراءة حاكمة على حكم العقل بالبيان المذكور سابقا كذلك حاكمة على الأخبار المقررة له ، لأنّها إرشاد إلى الحكم العقلي لا تزيد على ذلك.

وفيه نظر :

أمّا أوّلا : فلأنّ أخبار الاحتياط بعمومها شاملة للشبهة البدوية قطعا ، ولا حكم للعقل فيها بالاحتياط بل بالبراءة ، ودلالة الأخبار بالنسبة إليها ليست بإرشادية لا محالة ، فكذا بالنسبة إلى الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي ، لأنّ دلالتها على الشبهتين بوجه واحد وبلسان واحد فكيف تكون إرشاديا في بعض مصاديقه مولويا في بعضها الآخر.

وأمّا ثانيا : فللفرق بين ورود ما يقرر حكم العقل من الشرع وعدمه ، فإنّ الثاني لا ينافيه ورود ما يخالف حكم العقل لأنّه حكم اقتضائي بالاحتياط معلّق على عدم ترخيص الشارع خلافه على ما مرّ بيانه سابقا ، بخلاف ما لو ورد من الشرع ما يقرّر حكم العقل فإنّه يفيد إمضاء حكم العقل وفعليّته ، فلا جرم ينافيه حكم الشرع بالبراءة في مورده ، وذلك واضح.

الثاني : ما يظهر من المصنف في رسالة أصل البراءة وهو أنّ أخبار الاحتياط أخصّ موردا من أخبار البراءة ، فيجب تخصيص عموم أخبار البراءة بأخبار الاحتياط ، ولم يبيّن في ذلك المقام وجه الأخصية ، ولعله ناظر إلى ما ذكره في مقام آخر وهو أنّ أخبار الاحتياط لا يمكن شمولها للشبهة البدوية ، لأنّه مناف لحكم العقل المستقل بالبراءة ، فيلزم اختصاصها بالشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي ، فيصير موردها أخصّ من أخبار البراءة فيخصّص بها.

وفيه : أنّ حكم العقل بالبراءة أيضا معلّق على عدم ورود دليل من الشرع

٢٠٤

على وجوب الاحتياط في مورد إمكانه كما فيما نحن فيه ، فإذا ورد من الشرع ما يدلّ على وجوب الاحتياط كأخبار الباب زال حكم العقل ، لأنّ موضوعه كان مقيّدا بعدم ورود هذا الدليل فعاد الأمر إلى حكم التعارض.

والتحقيق أن يقال : إنّ الصنف الثاني من أخبار البراءة لا عموم فيها حتى يعارض أخبار الاحتياط وإن كان موردها خصوص الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي لكن في خصوص المال المختلط بالحرام بل خصوص مال العامل مثلا ، فيعمل به في مورده ولا يتعدّى إلى غيره ، وبمثل ذلك يقال في جواب ما ورد من حلّ جميع المال المختلط بالربا ، كما أنّ ما ورد في موارد خاصّة من أخبار الاحتياط أيضا يعمل بها في موردها كالإناءين أو الثوبين المشتبهين وغيرهما ولا يتعدّى إلى غيرها ، والاستقراء الذي ادّعاه صاحب الحدائق (رحمه‌الله) في محلّ المنع ، وكيف يحصل الاستقراء من موردين أو ثلاثة أو أربعة ، وعلى تقديره فهو استقراء ناقص لا حجيّة فيه ، فلم يبق من أخبار البراءة سوى الأخبار العامة مثل : «كل شيء مطلق» إلى آخره ، و «كلّ شيء حلال» إلى آخره و «كل شيء فيه حلال وحرام» إلى آخره و «ما حجب الله علمه» إلى آخره ، وأمثالها.

وأما أخبار الاحتياط فالصنف الأول منها وإن كان عمومه بحسب المورد كأخبار البراءة شاملا للشبهة البدوية والمقرونة بالعلم الإجمالي وللشبهة الحكمية والموضوعية ، إلّا أنّ أخبار البراءة مقدمة عليها لأنّها نصّ في الرخصة وأخبار الاحتياط ظاهرة في وجوب الاحتياط لظهور الأمر في قوله (عليه‌السلام) : «قفوا عند الشبهة» (١) ، وقوله (عليه‌السلام) : «فاحتط

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٥٩ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ١٥.

٢٠٥

لدينك» (١) في الوجوب ، ولا ريب أنّ النصّ مقدّم على الظاهر ، فيحمل الأمر في أخبار الاحتياط على الندب بمقتضى الجمع العرفي ، فلم يبق من أخبار الاحتياط سوى الصنف الثاني المشتمل على لفظ الهلكة معارضا لعموم أخبار البراءة بنسبة التباين ، وحيث لا ترجيح ظاهرا فيحكم بالتخيير وهو موافق للبراءة هذا.

مضافا إلى أنّ أخبار الاحتياط قابلة للحمل على الاستحباب حملا قريبا بشاهد استشهاد الإمام (عليه‌السلام) في بعض الأخبار بها لما علم من الخارج أنّه يستحبّ الاحتياط فيها ، ولا ينافيه لفظة الهلكة إذ يمكن إرادة الحرام الواقعي منها وإن لم يكن منجّزا على المكلّف ، وأما أخبار البراءة فليس لها مثل هذا المحمل ، فلو قدّم أخبار الاحتياط عليها فلا بدّ من طرحها أو تخصيصها وحملها على بعض مدلولها كالشبهة الموضوعية بالخصوص أو الحكمية البدوية معها أيضا ، وقد عرفت أنّه لا شاهد له سوى الشهرة التي لا حجية فيها.

فإذن الأقوى جواز المخالفة القطعية فضلا عن عدم وجوب الموافقة القطعية ، وقد أطنبنا الكلام في هذا المقام لكونه من مزالّ الأقدام ، وهي مسألة معضلة تعمّ به البلوى فافهم واغتنم ما تلونا عليك والله الهادي إلى سواء السبيل.

تتمة :

اعلم أنّ ما اخترنا من جواز المخالفة القطعية للعلم الإجمالي إنّما هو في الشبهة التحريمية حكمية أو موضوعية ، أما الشبهة الوجوبية فلا تجوز مخالفة المعلوم الإجمالي فيها لمكان حكم العقل بوجوب الاحتياط بعد حصول العلم

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٦٧ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٤٦.

٢٠٦

الإجمالي على ما مرّ بيانه سابقا.

لا يقال : إنّ أخبار البراءة كما تدل على جواز ارتكاب أطراف الشبهة في الشبهة التحريمية كذلك تدل على جواز ترك أطراف الشبهة في الشبهة الوجوبية طابق النعل بالنعل والقذّة بالقذّة.

لأنّا نقول : ليس كذلك ، لأنّ الأخبار الخاصّة مثل خبر عامل بني أمية (لعنهم الله) وغيره مختصّة بالشبهة التحريمية ، وأما الأخبار العامة فمثل «كل شيء لك حلال» إلى آخره و «كل شيء فيه حلال وحرام» إلى آخره أيضا مختصّ بالشبهة التحريمية ، ومثل «ما حجب الله علمه عن العباد» إلى آخره و «الناس في سعة ما لم يعلموا» وحديث الرفع ونحوها ، وإن كانت عامة إلّا أنّه لا يبعد انصرافها عن الشبهة الوجوبية ، مضافا إلى أنّ الظاهر تحقق الإجماع على عدم جواز المخالفة القطعية فيها.

وأيضا يختص ما مرّ من جواز المخالفة في الشبهة التحريمية بالحرام النفسي دون الغيري ، فلو علم بكون أحد الشيئين مانعا في صلاة واحدة أو صلاتين فيحكم بوجوب الاحتياط ، وتوهّم شمول أخبار البراءة لها مدفوع بما مرّ في الشبهة الوجوبية من عدم الشمول في بعضها والانصراف في بعضها الآخر مع ظهور الإجماع على الاحتياط ، فما اختاره المحقّق القمّي (رحمه‌الله) تبعا للمحقق الخونساري (رحمه‌الله) من جريان أدلة البراءة في الشبهة الوجوبية أيضا إلّا أن يدل نصّ أو إجماع بالخصوص على أنّ الواقع مطلوب ولو كان مشتبها معلوما بالإجمال في محل المنع لما ذكرنا ، ويلزمه أن يقول بالبراءة في الحرام الغيري أيضا لاشتراك الدليل ، إلّا أن يقول إن أخبار البراءة ظاهرة بحكم التبادر في نفي الحكم التكليفي النفسي فلا تشمل الغيري كالمانعية في المثال

٢٠٧

المذكور ، وهذه الدعوى في محلّه.

نعم ، لو تمسّك بحديث الرفع على رفع المانعية بناء على عدم اختصاصه برفع المؤاخذة ويدّعى دلالته على رفع جميع الآثار والأحكام تكليفا أو وضعا كما اخترناه في محلّه جاز الحكم برفع المانعية في الفرض المذكور (١).

__________________

(١) أقول : الانصاف أنّ ما اختاره المحقق القمّي (رحمه‌الله) والخونساري (رحمه‌الله) قويّ ، وما مرّ من دعوى انصراف عمومات البراءة إلى غير الشبهة الوجوبية مجازفة بيّنة ، للتسالم على شمولها للشبهة البدوية الوجوبية فكيف تنصرف عن الشبهة الوجوبية المقرونة بالعلم الإجمالي ولا تنصرف عن الشبهة التحريمية المقرونة بالعلم الإجمالي ، فإن كان انصراف فيها بالنسبة إلى المعلوم بالإجمال ففي الموضعين وإلّا فلا في الموضعين ، وكذا ما مرّ من دعوى الإجماع على الاحتياط ، فإن كان الإجماع في الموارد الخاصّة الفقهية فلا ينفع لإثبات القاعدة الكلية قطعا بل يقتصر على موارد حصول الإجماع ، وإن كان على القاعدة فهو ممنوع أشد المنع ، إذ المتعرّض للقاعدة بعنوانها جمع من متأخري المتأخّرين (رضي الله عنهم) وربّما يستفاد من فحوى كلام بعض المتاخرين بل المتقدمين (رضى الله عنهم) فمن أين يحصل من ذلك الاتفاق الكاشف عن رضا المعصوم (عليه‌السلام) مضافا إلى أنّ القائلين بوجوب الاحتياط استند كلهم أو جلّهم إلى مثل أخبار الاحتياط أو حكم العقل بوجوب الاحتياط أو عدم إمكان ترخيص ترك الاحتياط لأجل لزوم التناقض أو نحو ذلك ممّا قد عرفت الجواب عنها ، ومن المعلوم عدم حجيّة مثل هذا الإجماع بعد العلم بفساد سند المجمعين.

نعم ، من يقول بحجية الإجماع المنقول فهو في سعة من هذا الاعتراض ، فقد حكي نقل الإجماع على الاحتياط في الشبهة الوجوبية المقرونة بالعلم الإجمالي كالشبهة التحريمية أيضا ، فإنّ نقل الإجماع فيها أيضا موجود ، وكذا حال دعوى الإجماع في الشك في المانعية المقرونة بالعلم الإجمالي أي التحريم الغيري ، نعم دعوى الانصراف المذكور بالنسبة إليها في محلّه ، إلّا أنّ حديث الرفع على ما مرّ تقريبه كاف لإثبات المطلوب من عدم لزوم الاحتياط.

وبالجملة : فالمسألة في غاية الإشكال ومراعاة الاحتياط لا ريب في أنّها أحوط.

٢٠٨

ثم اعلم أنّه بناء على عدم وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة لا فرق بين الدماء والأعراض والأموال وغيرها لاشتراك الدليل نفيا وإثباتا ، وما حكاه المصنف وغيره في رسالة أصالة البراءة عن البعض من الفرق بين الدماء والأعراض وبين غيرها فحكم بالاحتياط في الأول دون الثاني ، لا نعرف له وجها سوى توهّم شدّة اهتمام الشارع في الدماء والأعراض دون غيرها ، وهذا القدر لا يفيد بعد وجود أدلّة البراءة على نحو العموم.

ثم اعلم أنّه على القول بتنجّز التكليف بسبب العلم الإجمالي ووجوب الاحتياط يختصّ بالشبهة المحصورة لا غير المحصورة ، فإنّها خارجة عن قاعدة الاحتياط وتجوز المخالفة القطعية فيها خلافا لمن قال بوجوب إبقاء مقدار الحرام كما يظهر من بعض عبارات المصنف ، ويظهر من بعضها الآخر تقييده جواز المخالفة بما إذا لم يقصد ارتكاب جميع الأطراف من أوّل الأمر.

والأقوى عدم الفرق وجواز المخالفة القطعية مطلقا ، لا لما قيل من أنّ ثبوت التكليف حينئذ موجب للعسر وهو منفي ، ولا لما قيل من أنّه وجه للجمع بين أخبار البراءة والاحتياط ، ولا لما قيل من استفادة جواز المخالفة من بعض الأخبار الخاصة كرواية الجبن ، ولا لما قال به المصنف من خروج جملة من الأطراف عن محل الابتلاء ، بل لأنّ المشتبه بالشبهة غير المحصورة بحكم الشبهة البدوية في نظر العقلاء ، فإنّهم يجعلون هذا العلم الإجمالي في مرتبة الجهل المطلق فلا يحكم العقل أوّلا مع قطع النظر عن أدلة البراءة بوجوب الاحتياط ، ألا ترى أنّه لو علم بوجود سمّ في أحد أواني هذا البلد وهو مشتبه في الكل ، لم يحترز أحد من عقلاء البلد عن الأواني التي يريد استعمالها مع كونها من أطراف الشبهة ، بل نقول المعلوم بالإجمال في الشبهة غير المحصورة محكوم بحكم أطرافه وإن كان الأصل فيها موافقا للمعلوم ، مثلا لو اشتبه ميتة

٢٠٩

بين ألف مذكى فمعنى عدم اعتبار العلم الإجمالي بوجود الميتة فيها أنّ هذه الميتة بمنزلة المذكى محكوم بالحلّية فيحكم في الجميع بالحلّية ، لا أنّه بعد طرح العلم يرجع إلى الأصل والأصل عدم التذكية في الجميع وهو موافق لحكم الميتة ، وهذا بخلاف الشبهة المحصورة فإنّه بعد طرح العلم الإجمالي يحكم بحكم الأصل الموجود في المسألة إباحة أو تحريما.

والسر في ذلك ما ذكرنا من أنّ العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة كلا علم في نظر العقل والعقلاء ، ومع قطع النظر عن العلم بوجود الميتة في الأطراف فهي معلوم التذكية ، فالميتة الموجودة في البين أيضا حكمها حكم معلوم التذكية في الحلية ، فيجوز ارتكاب جميعها وإن قصد ذلك من أوّل الأمر.

نعم ، لو كان قصده من ارتكاب الجميع توصّله إلى الحرام فإنّه لا يجوز ، لكن بوجه آخر يجري في الشبهة البدوية أيضا لو ارتكبها برجاء إدراك الحرام فإنّه حرام ومعصية إن اتّفق مصادفته للحرام ، والوجه ما مرّ في مسألة التجرّي من عدم قبح عقاب مثل هذا الشخص الذي لا يبالي بارتكاب الحرام بل يشتاق ويسعى في فعله ليظفر به ولو بارتكاب الشبهات.

ثم اعلم أنّ ما ذكرنا من أنّ الأصل والقاعدة في الشبهة المحصورة هو الاحتياط لو لا أدلة البراءة من جهة كون العلم طريقا إلى الواقع ، والعقل يحكم بلزوم إدراك الواقع بعد حصول الطريق ، ويظهر من المصنف في موارد عديدة أنّ السر في لزوم الاحتياط في المسألة حصول التعارض بين الأصول الجارية في الأطراف بواسطة العلم الإجمالي وتساقطها.

وتظهر الثمرة بين الوجهين فيما إذا لم يحصل التعارض بين الأصول بسبب العلم الإجمالي ، كأن يكون الأصل في أحد الأطراف موافقا للمعلوم

٢١٠

الإجمالي مثل أن يكون أحد الإناءين مستصحب النجاسة والآخر مستصحب الطهارة وقد علمنا فعلا بنجاسة أحدهما مرددا بينهما ، فعلى ما اخترناه يجب الاحتياط لأجل العلم الإجمالي بحكم العقل ، وعلى الوجه الآخر لا يجب لأنّ مناط الحكم بالاحتياط وهو حصول التعارض بين الأصلين غير موجود لعدم التنافي بين إجراء الأصلين والعلم الإجمالي ، إذ لعل معلوم النجاسة يكون عين مستصحب النجاسة فبالعمل بالأصلين لا يلزم طرح العلم. والتحقيق هو الأول ووجهه ما مرّ.

قوله : فتأمّل (١).

(١) لعل وجهه منع ما ذكره من أنّ مرجع أصالة الطهارة إلى عدم وجوب الاجتناب ، والفرق أنّ جعل أصالة الطهارة جعل وتنزيل في موضوع الحكم ، وإن كان الغرض من هذا الجعل ترتّب حكم الموضوع الواقعي على هذا الموضوع التنزيلي إلّا أنّ التنزيل وارد أوّلا على الموضوع بخلاف التنزيل في نفس الحكم فإنّ الجعل والتنزيل وارد أوّلا على نفس الحكم.

ودعوى عدم إمكان الجعل في الموضوعات وإمكانه في الأحكام على ما حقّقه المصنف في رسالة الاستصحاب ممنوعة ، إذ المراد بالجعل هنا هو التنزيل لا التكوين ، فكما يمكن تنزيل واجب الاجتناب واقعا منزلة غير واجب الاجتناب في الظاهر ، كذلك يمكن تنزيل النجس الواقعي منزلة الطاهر في الظاهر وإن كان الغرض من هذا ترتّب حكم عدم وجوب الاجتناب.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٩٤ انظر الهامش.

٢١١

قوله : وإن كانت المخالفة مخالفة لخطاب مردّد بين خطابين ، إلى آخره (١).

(١) يعني يكون عنوان مورد التكليف في أحدهما مغايرا لعنوان مورد التكليف في الآخر كالأمثلة المذكورة في المتن ، وهذا غير ما ينسب إلى صاحب الحدائق (٢) من أنّ قاعدة الاحتياط في الشبهة المحصورة إنّما تتعلق بالأفراد المندرجة تحت ماهية واحدة والجزئيات التي تحويها حقيقة واحدة إذا اشتبه طاهرها بنجسها وحلالها بحرامها ، وجعل الشك في وقوع النجاسة في الإناء أو خارجه خارجا عن مورد القاعدة لعدم اندراجها تحت ماهية واحدة ، فإنّ الماء غير الأرض بحسب الماهية ، وحينئذ فنسبة الوجه الأول من الوجوه الأربعة المذكورة في المتن إلى صاحب الحدائق في غير المحل ، وما ذكره صاحب الحدائق لم نجد له وجها ، إلّا أن يرجع كلامه بنحو من التكلّف إلى العنوان المذكور في المتن.

قوله : أحدها الجواز مطلقا ، لأنّ المردد بين الخمر والأجنبية لم يقع النهي عنه (٣).

(٢) لعل المراد أنّ تحقق العصيان والمخالفة لخطاب متوقّف على العلم بذلك الخطاب حين العمل تفصيلا ، والمكلف في المفروض لا يعلم عند كل فعل من أطراف الشبهة إلّا أحد الخطابين فلا يتحقق به المعصية. وفيه ما لا يخفى.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٩٤.

(٢) الحدائق الناضرة ١ : ٥١٧.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٩٤.

٢١٢

قوله : فإنّ الإطاعة والمعصية عبارة عن موافقة ، إلى آخره (١).

(١) الظاهر أنّه يريد أنّ الإطاعة والمعصية عبارة عن موافقة الخطابات المعلومة بالتفصيل ومخالفتها وإلّا فليس لنا خطاب إجمالي ، هذا.

قوله : الثاني عدم الجواز مطلقا لأنّ مخالفة الشارع قبيحة عقلا ، إلى آخره (٢).

(٢) وهذا الوجه هو الوجه الحقّ ، ويشهد بذلك أنّه لو تردد مائع واحد بين كونه خمرا أو خلا مغصوبا أو نجسا فلا ريب في حرمته وأنّ شربه معصية للمولى بحكم العقل وإن لم يعلم أنّه مخالفة لأيّ نهي بالخصوص.

قوله : لأنّ المخالفة القطعية في الشبهات الموضوعية فوق حدّ الإحصاء (٣).

(٣) هذا بمجرّده لا يمكن أن يكون دليلا على جواز المخالفة في الشبهات الموضوعية وإلّا لجاز في الخطاب التفصيلي أيضا مخالفته القطعية في الشبهة الموضوعية ولا يقول به.

قوله : وكان الوجه ما تقدم (٤).

(٤) يرد عليه :

أوّلا : ما تقدم هناك من أنّ المدار حينئذ جريان الأصل الموضوعي وعدمه لا كون الشبهة موضوعية أو حكمية ، فقد يوجد الأصل الموضوعي في

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٩٤.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٩٤.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٩٤.

(٤) فرائد الأصول ١ : ٩٥.

٢١٣

الشبهة الحكمية وقد لا يوجد في الشبهة الموضوعية ، وقد مرّت الأمثلة هناك فالدليل لا ينطبق على المدّعى.

وثانيا : أنّ إخراج الأصول مجاريها عن موضوعات أدلة التكليف لا ينفع في جواز مخالفة العلم الإجمالي لأنه بعد اللتيا والّتي لا شك في حصول المخالفة في أحد الموضوعين مردّدا كما في الشبهة الحكمية ، ولا فرق في حكم العقل بحرمة المخالفة القطعية بين إجراء الأصول ثم المخالفة وبين المخالفة من دون توسيط إجراء الأصول كما لا يخفى.

وثالثا : أنّه يلزمه تجويز المخالفة القطعية بالنسبة إلى الخطاب التفصيلي أيضا في الشبهة الموضوعية ولا يلتزم به.

قوله : وقد عرفت ضعف ذلك وأنّ مرجع الإخراج الموضوعي ، إلى آخره (١).

(١) فيه أوّلا : ما مرّ عن قريب من عدم رجوع الإخراج الموضوعي إلى رفع الحكم المترتّب عليه وإن كان الفرض ذلك.

وثانيا : أنّه لو تمّ عدم معقولية الإخراج الموضوعي ولذا يرجع إلى رفع الحكم المترتّب عليه كما هو مبنى هذا الكلام وصرّح به في رسالة الاستصحاب وأصرّ عليه ، يلزم عدم حجية الأصل الموضوعي بالمرة ، إذ لا نصّ بالخصوص على إجراء الأصل الموضوعي حتى يرجع إلى رفع الحكم المترتّب عليه لمكان عدم معقولية الإخراج الموضوعي ، بل اللازم ألا يشمل دليل حجية الأصل مثل قوله : «لا تنقض اليقين» ما لا يعقل إبقاؤه ، فلا وجه للقول بشموله له ثم

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٩٥.

٢١٤

تأويله وإرجاعه إلى ما ذكر.

قوله : إلّا أنّه حاكم عليه لا معارض له فافهم (١).

(١) يحتمل أن يريد بذلك ردّ ما ذكره في وجه تضعيف الفرق بين الشبهة الموضوعية والحكمية ومحصّله : أنّ الأصل في الموضوع بعد رجوعه إلى نفي الحكم المترتّب عليه وإن كان منافيا لنفس الدليل الواقعي بالنظر البدوي إلّا أنّه حاكم ومقدّم عليه بالتأمّل ، فصحّ التفصيل وبطل التضعيف ، ويحتمل أنّه أراد بيان الواقع لا ردّ التضعيف المذكور كما هو ظاهر العبارة ، إلّا أنّه يرد عليه أنّه لا فرق بين القول بالإخراج الموضوعي والقول بالحكومة في صحّة الفرق المذكور وضعف التضعيف.

وكيف كان يرد عليه : أنّه بعد إرجاع الأصل الموضوعي إلى رفع الحكم المرتّب عليه لا وجه للحكومة ، بل هو بعينه مثل الأصل الحكمي معارض للدليل لا حاكم ، ويمكن أن يكون قوله فافهم إشارة إلى بعض ما ذكرنا.

قوله : والوجه في ذلك أنّ الخطابات في الواجبات الشرعية (٢).

(٢) هذه الدعوى من الغرابة بمكان ، فمن أين يعلم أنّ الواجبات بأسرها في حكم خطاب واحد بفعل الكلّ ، فإن كان ذلك من انتزاع العقل مع أنّه لا دليل عليه يمكن انتزاعه عنوانا أعم يشمل مختلف النوع أيضا كأن يقال : إنّ الخطابات بأسرها في حكم خطاب واحد بترك العصيان لله في الواجبات والمحرّمات ، أما في الواجبات فبالترك لها ، وأما في المحرّمات فبفعلها ، فيحرم مخالفة الخطاب المردّد بين الواجب والحرام أيضا ، فتدبّر.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٩٥.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٩٥.

٢١٥

قوله : فمحصّله أنّ مجرد تردد التكليف بين شخصين ـ إلى قوله ـ فإنّ كلا منهما شاك في توجّه هذا الخطاب إليه (١).

(١) هذا لا يستقيم على مذاق المصنف من أنّ الرخصة في مخالفة العلم مطلقا مستلزم للتناقض في حكم الشارع ، فإنّ الجنب المردد بين شخصين جنب في الواقع يجب عليه الغسل واقعا ، وحكم البراءة بالنسبة إلى كل واحد منهما بالفرض يناقض ذلك الحكم الواقعي (٢).

قوله : فمنها حمل أحدهما الآخر وإدخاله المسجد للطواف أو غيره (٣).

(٢) هذا المثال مبني على حرمة إدخال الجنب في المسجد ، لكنا لم نجد نصّا على ذلك ولا إجماعا ، لكن يمكن أن يستدل لها بوجهين : أحدهما أن يستنبط ذلك من أدلة حرمة دخول الجنب في المسجد بدعوى أنّ مناط الحرمة هتك احترام المسجد بدخول الجنب ، فكلّ من أوجد كون الجنب في المسجد فقد فعل المحرّم من الهتك ، لكن القطع بهذا المناط مشكل فالعمدة هو الوجه الثاني وهو أنّ العقل يحكم بحرمة الإدخال بعد فرض ثبوت حرمة الدخول مطلقا.

بيان ذلك : أنّ الواجبات والمحرمات الشرعية باقية على ما هي عليها وإن

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٩٦.

(٢) أقول : لعل المصنف يجيب عن إشكال التناقض بأنّ الحكم ببراءة كل منهما حكم ظاهري ، والحكم بوجوب الغسل حكم واقعي ، ولا تنافي بينهما كما في موارد الشبهة البدوية بالنسبة إلى موارد تخلّفها عن الواقع ، إلّا أنّه قد سبق منّا في أول الكتاب أنّ إشكال التناقض لو كان لا يرتفع بالقول بالأحكام الظاهرية أيضا ، وأنّ إشكال التناقض باطل فراجع.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٩٧.

٢١٦

كان المكلّف معذورا في مخالفته لها بالجهل ونحوه ، ففاعل المحرّم فاعل لمبغوض المولى مطلقا ، إلّا أنّه لو كان معذورا لا يصحّ عقابه عليه وإلّا يصح العقاب عليه ، وحينئذ نقول بعد ما ثبت أنّ ذات المحرّم مبغوض للمولى فكلّ من أوجد هذا العنوان المحرّم سواء كان بالمباشرة أو بالتسبيب فقد أوجد مبغوض الشارع ، وإيجاد مبغوض الشارع محرّم مطلقا ، فإن كان بالمباشرة كالدخول في المثال المذكور فيدل عليه النصّ والإجماع ، وإن كان بالتسبيب كالإدخال فبحكم العقل المستقلّ بعدم الفرق بين إيجاد مبغوض المولى بين المباشرة والتسبيب في استحقاق الذم والعقاب.

وبهذا الوجه يمكن التمسّك لحرمة حمل الغير على فعل المحرّم الواقعي في جميع الواجبات والمحرمات الواقعية وإن كان ذلك الغير معذورا لجهل أو نسيان أو إكراه ونحوها ، إلّا أن يكون العلم جزءاً لموضوع المحرّم فينتفي في صورة الجهل به ، فحمل الغير على شرب ما يزعمه الماء وأنّه خمر ، وكذا بعثه على وطء من يزعمها زوجته مع أنّها أجنبية وأمثال ذلك محرّم.

ولعلّ هذا هو السر والحكمة في حرمة الإعانة على الإثم ، لأنّ المعين ساع في حصول مبغوض المولى لا بالمباشرة بل بالتسبيب ، وحينئذ لا يبعد أن يقال : إنّ أدلة حرمة معاونة الإثم والعدوان شاملة لما نحن فيه كالإدخال في المثال المذكور ، فإن كان الداخل عالما مختارا فواضح ، وإن كان جاهلا أو ناسيا أو مكرها فهو وإن كان معذورا غير آثم إلّا أنّه فاعل للإثم الواقعي أي المحرّم الواقعي ، ولا يبعد إطلاق لفظ الإثم كلفظ المحرّم على المحرّم الواقعي والإدخال سبب لهذا الإثم وإعانة عليه ، بل يمكن التمسّك لما نحن فيه على هذا بأدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بناء على أنّ المنكر هو المنكر الواقعي كما هو ظاهر اللفظ لا المنكر المعلوم للفاعل على ما فهمه المشهور ، فيجب حمل الغير

٢١٧

على ترك المنكر الواقعي وهو هنا دخول الجنب في المسجد ، والإدخال عصيان لهذا التكليف ، فثبت أنّ إيجاد مبغوض المولى مطلقا ولو بالتسبيب محرّم وإن كان المباشر معذورا ، كيف ولو لم يكن كذلك لزم أن يكون إجبار الغير على سائر المحرمات غير محظور ، لأنّ الفاعل معذور والسبب غير مكلّف بشيء.

فإن قلت : إنّ حرمة الإجبار ليس من جهة أنّ الفعل المجبر عليه محرّم بل من جهة أنّ نفس الإجبار ظلم محرّم.

قلت : لا شكّ أنا نعقل الفرق بين الإجبار على شرب الخمر المحرّم أو على شرب الماء المباح ، ولو كان وجه الحرمة قبح الإجبار وكونه ظلما كان كلاهما متساويين في نظر العقل وليس كذلك.

ثم اعلم أنّ الإدخال المحرّم على الوجه الذي ذكرنا يشمل ما لو حمله على ظهره وأدخله أو أكرهه بالتوعيد ونحوه على الدخول فدخل هو بنفسه ، أو استأجره للدخول لأمر مباح فدخل لأجل تديّنه وفاء للإجارة اللازمة عليه الوفاء بها بزعمه ، لاشتراك الجميع في التسبيب المذكور.

إذا تمهّد ذلك فنقول : من لا يقول بحرمة إدخال الجنب في المسجد يحكم في المثال المذكور بالبراءة بالنسبة إلى الحامل والمحمول لكون الشبهة بدوية بالنسبة إلى كل منهما ، ومن يقول بحرمة الإدخال كما قلنا يجري عنده التفصيل المذكور في المتن.

قوله : فإن قلنا إنّ الدخول والإدخال يتحقّقان بحركة واحدة (١).

(١) لا شكّ أنّ الدخول والإدخال يتحققان بحركة واحدة ، إنّما الشك والتردد

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٩٧.

٢١٨

في أنّ الحركة المخصوصة هل هي مصداق لكلا العنوانين أو أنّها مصداق الدخول فقط لكن يتولّد منها مصداق عنوان الإدخال كالضرب والتأديب وإلقاء النار في الحطب والإحراق ونحو ذلك.

فعلى الأول ليس هناك إلّا فعل واحد ذو عنوانين ، وعلى الثاني هنا فعلان أحدهما مترتب على الآخر ومسبب عنه ، ولعل هذا مراد المصنف أيضا ، إلّا أنّ العبارة لا تخلو عن قصور أو مسامحة.

قوله : دخل في المخالفة القطعية المعلومة تفصيلا (١).

(١) قد مرّ سابقا أنّ هذا ليس علما تفصيليا بالمخالفة ، لأنّ المعلوم ليس إلّا مخالفة أحد الخطابين وهو العلم الإجمالي لتردّد متعلّقه ، نعم لو جعلنا متعلّقه مخالفة مطلق خطاب الله وجنسه كان علما تفصيليا بالنسبة إلى ذلك العنوان ، لكنّ الواقع هو الأول ، إلّا أنّه قد سبق أيضا أنّ هذا القسم من العلم الإجمالي بحكم التفصيلي في نظر العقل نظير المائع المردد بين الخمر والنجس ولا تشمله أدلة البراءة أيضا ، فتدبّر.

قوله : وإن جعلناهما متغايرين في الخارج كما في الذهن (٢).

(٢) قد عرفت أنّ فرض كونهما متغايرين أن يكون الدخول سببا للإدخال لأنّه عنوان ثانوي للدخول كالتأديب بالنسبة إلى الضرب ، وحينئذ نقول : إن قلنا بحرمة مطلق مقدمة الحرام أو خصوص السبب منها فيرجع إلى القسم الأول ، لأنّ الدخول حينئذ محرّم على أيّ تقدير لتردّده بين أن يكون حراما بنفسه أو مقدّمة للحرام وهي حرام بالفرض ، وإن لم نقل بحرمة مقدّمة الحرام ولو كانت

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٩٧.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٩٧.

٢١٩

سببا جاء الوجهان المذكوران في المتن ، والحق أنّ الدخول والإدخال متغايران كالضرب والتأديب وتحريك اليد والمفتاح بشهادة الوجدان ، ألا ترى أنّه يصحّ أن يقال دخلت المسجد فأدخلته ، ولا يصحّ أن يقال : أدخلته فدخلت ، وليس إلّا لأجل أنّ الدخول سبب للإدخال والسبب مغاير للمسبّب قطعا.

ثم ما ذكرنا من البناء على حرمة المقدمة مطلقا أو خصوص السببية وعدمها إنّما يتم لو كان المحمول أيضا مختارا في الحمل والدخول ، وأما إذا كان مجبورا حمله الحامل بغير رضاه واختياره فلا ريب أنّ الحامل حينئذ مستقل بالفعل بكل وجه ، فيكون الدخول علّة تامة للإدخال لا المقتضي فقط ، وحيث إنّ العلة التامة للمحرّم محرم على التحقيق يتحقق العلم بحرمة الدخول بنفسه أو بكونه علة للحرام.

قوله : فإن جعلنا الدخول والإدخال راجعين إلى عنوان محرم واحد (١).

(١) كأن يقال : إنّ المحرم التسبب لكون الجنب في المسجد ، لكن هذا الاحتمال مجرد فرض لا أصل له ، لأنّ القدر المشترك المذكور عنوان انتزاعي يفرضه العقل جامعا بين الدخول والإدخال ، والخطاب الشرعي متعلّق بخصوص كل من العنوانين ، فإذن الأقوى هو الاحتمال الأخير الذي أشار إليه في :

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٩٧.

٢٢٠