حاشية فرائد الأصول - ج ١

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-015-2
الصفحات: ٦٩٤

مما لم يرده الشارع وأحال ذلك إلى اختيار المكلف وإرادته ، فيستفاد من نفس أدلة رفع الحرج بهذا التقريب بقاء مطلوبية المورد في حد نفسه لكنه مرخص في ترك هذا المطلوب ، ولذلك مثال في العرف كما لو قال المولى لعبده افعل كذا وإن شق عليك الفعل فلا بأس بتركه ، فلا ريب أنه يستفاد منه أنّه لو أتيت في حال العسر والمشقة أيضا فقد أتيت بمطلوبي إلّا أنّك مرخّص في تركه.

وقد يتمسك في إثبات الرخصة وحصول الامتثال بإتيان الفعل الحرجي برواية «أفضل الأعمال أحمزها» (١).

وفيه : أنّ موردها الأعمال المشروعة وكلامنا في مشروعية ما كان حرجيا ، وليست الرواية بصدد تشريع الأعمال الشاقة كائنة ما كانت كما لا يخفى.

ويظهر من بعض المحقّقين في مشروعية الفعل الحرجي التفصيل بين ما جعل له بدل على تقدير بلوغ حد الحرج كالتيمم بالنسبة إلى الوضوء والغسل وبين غيره ، فحكم بعدم المشروعية في الأول بدعوى أنّ التكليف بالطهارة المائية انقلب حال الحرج إلى الطهارة الترابية ، فالإتيان بالطهارة المائية حينئذ والاكتفاء به إلغاء للتكليف بالطهارة الترابية الثابت في هذه الحال بالفرض ، بخلافه في غير ما له بدل فإنّه يحكم بمشروعية الفعل الحرجي بتقريب ما سبق.

وجوابه : منع وجوب البدل تعيينا حين سقوط المبدل بدليل الحرج ، بل يحكم بوجوبه تخييرا بينه وبين المبدل ، وهذا المعنى لازم الحكم ببقاء الرخصة في فعل المبدل مع كون البدل بدلا في هذه الحالة.

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٠ : ١٩١ ، ٢٣٧.

٥٦١

ويمكن استظهار ما ذكرنا من بقاء الرخصة في إتيان الفعل الحرجي من جهة دلالة نفس أدلة الحرج من كلام المصنف في أول تنبيهات قاعدة لا ضرر في الرسالة التي صنفها في قاعدة لا ضرر (١) حيث قال : فلو فرض المكلف معتقدا لعدم تضرره بالوضوء أو الصوم مثلا فتوضأ ثم انكشف أنه تضرر به فدليل نفي الضرر لا ينفي الوجوب الواقعي المتحقق في حق هذا المتضرر ، لأنّ هذا الحكم الواقعي لم يوقع المكلف في الضرر ولذا لو فرضنا انتفاء هذا الوجوب كأن يتوضأ هذا الوضوء لاعتقاد عدم تضرره وعدم دخوله في المتضررين فلم يستند تضرره إلى جعل هذا الحكم فنفيه ليس امتنانا على المكلف وتخليصا له من الضرر ، بل لا يثمر له إلّا تكليفا له بالإعادة بعد العمل والتضرر ، إلى آخر ما ذكره (رحمه‌الله).

أقول : لا يخفى أنّ الوجه الذي استند إليه في صحّة العمل غير ما ذكرنا ، لأنّه تمسك ببقاء الأمر الواقعي على ما هو عليه ، ولم يرتفع بدليل لا ضرر سوى الأمر الفعلي المنجّز ، ونحن نتمسّك بعد التزام رفع دليل الحرج حكم وجوب الفعل واقعا ببقاء الجواز بدليل لا حرج نفسه بالتقريب السابق ، وأين هذا من ذاك.

وكيف كان ، لو ثبت هذا الحكم من بقاء الرخصة والصحة في الفرض الذي ذكره في مورد الضرر ففي مورد الحرج يكون ثبوت الحكم أولى ، لأنّ ارتكاب الضرر حرام واقعا ولو لم يعلمه المكلّف بخلاف ارتكاب الحرج ، فإذا حرم ارتكاب الضرر واقعا لا يمكن أن يكون موردا للأمر ظاهرا لعدم جواز اجتماع الأمر الظاهري مع النهي الواقعي على الأصح بناء على عدم جواز اجتماع الأمر

__________________

(١) رسائل فقهية : ١١٨.

٥٦٢

والنهي ، وهذا بخلاف ارتكاب الحرج فإنّه ليس منهيا عنه واقعا حتى لا يجوز اجتماعه مع الأمر المقتضي للصحة ، هذا.

ومن الفروع التي يتفرع على ما ذكرنا أنّه لو كان حج الشخص المستطيع حرجا عليه وحكمنا برفع وجوبه يبقى جوازه وصحته بالنظر إلى الأمر المتعلق بحجة الإسلام ، وحينئذ نقول هل يجوز الاكتفاء به عن حجة الإسلام أم لا؟ وبعبارة أخرى : هل يشترط في سقوط حجة الإسلام عن المكلف فعلها حين كونها متصفة بالوجوب أو يكفي مطلقا ولو لم تكن واجبة على المكلف؟ وجهان.

المطلب العاشر : أنّ قاعدة الحرج على تقدير تماميتها إنّما ترفع من الأحكام ما لزم منه الحرج بالقدر الذي يرتفع به الحرج ، فإذا لزم الحرج من مباشرة المسح على البشرة يرتفع حكم المباشرة فقط لا حكم وجوب المسح رأسا ولا حكم وجوب الوضوء ولا حكم وجوب الصلاة ، لأنّ صيرورة المسح الواجب أو الوضوء الواجب حرجيا باعتبار حرجية المباشرة فإذا ارتفعت المباشرة التي هي مورد الحرج بقي حكم وجوب المسح والوضوء والصلاة بحالها.

فإن قلت : إنّ المركب ينتفي بانتفاء أحد أجزائه ، فإذا انتفى حكم مباشرة الماسح للممسوح سقط وجوب المركب بتمام أجزائه فمن أين يحكم بوجوب المركب الناقص؟

قلت : يمكن استفادة وجوب المركب الناقص من رواية عبد الأعلى (١) بتقريب أنّه استشهد على سقوط المباشرة والمسح على المرارة بقوله تعالى : (ما

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٦٤ / أبواب الوضوء ب ٣٩ ح ٤.

٥٦٣

جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(١) فتكون الرواية مفسرة لمدلول الآية وأنّ المراد منها بقاء وجوب المركب الناقص وسقوط خصوص الجزء الحرجي. لكن قد مر في مبحث حجية الظواهر ما يوهن هذا الوجه وهو أنّه يحتمل قريبا أن يكون المراد يعرف هذا ـ يعني عدم وجوب نزع المرارة والمسح على البشرة الذي توهمه السائل ـ وأشباهه من كتاب الله لا أنّه يعرف حكم المسح على المرارة أيضا من كتاب الله ، ولذا قال بعد ذلك «امسح عليه» منشئا لحكم المسح على المرارة.

ويؤيد ذلك : أنّه لا نفهم حكم المسح من ظاهر الآية كما نفهم حكم رفع المسح على البشرة ، والحال أنّ الإمام (عليه‌السلام) أحال الحكم إلى ما يفهم أهل العرف من الآية ، وليس المراد أنّه (عليه‌السلام) يفهم ذلك ليكون من قبيل تفسيرهم (عليهم‌السلام) مؤولات الكتاب ، ولو سلم يمكن أن يكون المراد من أشباه مورد السؤال ما يتعلّق بباب الوضوء أو ما يكون من قبيل المورد من القيد والمقيد فلا يعم هذا ، مضافا إلى ضعف الرواية.

نعم قد يدعى ظهور نفس الآية في بقاء التكليف بالنسبة إلى الباقي بعد سقوط حكم مورد الحرج كما مر نظيره في المطلب التاسع من دلالتها على بقاء مشروعية الفعل الحرجي ، وهو مشكل.

وقد يقال : إنّ إطلاقات أدلة التكاليف كاف في المطلب لأنّ دليل الحرج لا يزيد على رفع خصوص ما لزم منه الحرج ، وغايته تقييد الإطلاقات باعتبار القيد أو الجزء الذي لزم منه الحرج لا سقوط أصل الإطلاق ، مثلا إطلاق أدلة الوضوء حاكم بوجوب مباشرة المسح مطلقا ، ودليل الحرج يقيد حكم المباشرة

__________________

(١) الحج ٢٢ : ٧٨.

٥٦٤

بغير مورد وضع المرارة على الإصبع.

وفيه : أنّ هذا الوجه إنّما يتم فيما لو كان إطلاق دليل شاملا لمورد الحرج ، فلا يعم غير مورد الإطلاق.

هذه نبذة مما يتعلق بقاعدة الحرج ، ولعلنا نشير إلى بعض الأمور الأخر مما يتعلّق بالقاعدة في المورد المناسب له مما تعرض له المتن وغيره.

قوله : والمفروض أنّه ليس في المقام إلّا قاعدة الاحتياط التي قد رفع اليد عنها لأجل العسر (١).

(١) يرد عليه : أنّه إمّا أن نقول بجريان قاعدة الاحتياط في المورد ويحكم العقل بلزوم الاحتياط في مقابل أدلة الحرج ، فلا ريب في تقديمها على أدلة الحرج ، وإمّا أن نمنع جريانها بأن نقول إنّ حكم العقل معلّق على عدم ترخيص الشارع ترك العمل بالاحتياط وهنا رخص فيه بدليل الحرج ، فحينئذ يصح أن يقال لا تجري قاعدة الاحتياط لأدلة الحرج لكنه لأجل عدم جريانها لا لضعفها عن مقاومة دليل الحرج كما هو ظاهر العبارة ، هذا مع أنّ كون العقل حاكما بالحكم المعلّق مما ينكره المصنف كما مرّ غير مرة.

قوله : مثل الشبهة غير المحصورة وما لو علم أنّ عليه فوائت ولا يحصي عددها (٢).

(٢) أما المثال الأول إنّما يتم على مختاره من أنّ العلم الإجمالي بوجود الواجب أو الحرام في الأطراف منجّز للتكليف فيحكم العقل بوجوب الاحتياط كالشبهة المحصورة ، لكن خصصنا حكم وجوب الاحتياط بدليل الحرج.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٠٩.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٤٠٩ ـ ٤١٠.

٥٦٥

والتحقيق أنّ السر في عدم وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة أنّ المعلوم بالإجمال هنا كالمشتبه البدوي في نظر العقل والعقلاء ، لأنّهم ينزّلون هذا العلم منزلة العدم ولا يعتنون به بالمرة ، فلم تخصص قاعدة الاحتياط باعتبار عدم وجوبه في الشبهة غير المحصورة.

وأما المثال الثاني فهو مبني على مذهب من يحكم بوجوب الاحتياط في الشك بين الأقل والأكثر الاستقلالي في أمثال هذا الفرض مما كان المعلوم بالإجمال معلوما بالتفصيل أوّلا ثم طرأ عليه الإجمال ، وإن كان هذا هو التحقيق إلّا أنّه خلاف مختار المصنف والمشهور بل لم يذهب إلى الأول إلّا شاذ منهم.

قوله : بل أدلة نفي العسر بالنسبة إلى قاعدة الاحتياط من قبيل الدليل بالنسبة إلى الأصل (١).

(١) هذا الكلام يحتمل وجوها :

أحدها : أنّ أدلة نفي العسر بالنسبة إلى قاعدة الاحتياط من قبيل الدليل الاجتهادي بالنسبة إلى البراءة العقلية ، حيث إنّ حكم العقل بوجوب الاحتياط معلق على عدم ترخيص الشارع ترك الاحتياط بمثل دليل الحرج ، كما أنّ حكم العقل بالبراءة معلق على عدم وصول بيان من الشارع.

وفيه : أنّ هذا الوجه وإن كان حقا إلّا أنّه خلاف مختار الماتن كما مرّ ، لأنّه ينكر حكم العقل المعلق ولذا يقول في الشبهة المحصورة إنّه لا يمكن حمل قوله (عليه‌السلام) «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه» (٢) على ترخيص ارتكاب المشتبهين أو أحدهما لمنافاته لحكم العقل

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤١٠.

(٢) الوسائل ١٧ : ٨٧ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ١.

٥٦٦

بوجوب الاحتياط ، هذا مضافا إلى أنّه خلاف ظاهر العبارة.

الثاني : أنّ أدلة الحرج بالنسبة إلى قاعدة الاحتياط من قبيل الدليل الاجتهادي بالنسبة إلى الأصول مطلقا كما هو ظاهر العبارة ، يعني كما أنّ سائر الأدلة الاجتهادية مقدمة على الأصول وتكون بمدلولها رافعة لموضوع الشك المأخوذ في مجاري الأصول ، كذلك أدلة الحرج بالنسبة إلى الاحتياط بل أوضح ، لأن أدلة الحرج حاكمة على الأدلة الاجتهادية أيضا فضلا عن الأصول العملية.

وفيه : أنّ أدلة الحرج في المقام من قبيل أصالة البراءة متعرضة لحكم الشك لا من قبيل الدليل الاجتهادي ، فهي معارضة لقاعدة الاحتياط ، بيان ذلك : أنّ حال الدليل الاجتهادي في مجاري الأصول لولاه أنّه لو فرض القطع بمدلوله يرتفع موضوع الشك فلا يبقى مجال لجريان الأصل البتة ، ولو لم يحصل القطع فهو أيضا رافع لموضوع الشك تنزيلا لانكشاف الواقع به ولو تنزيلا ، وهذا بخلاف ما نحن فيه لأنّ أدلة الحرج ولو فرضنا القطع بجريانه في مورد حكم الاحتياط لا يرتفع الشك ولا يتعين به حكم الواقعة واقعا ، بل المعلوم بالإجمال باق بعد على إجماله واشتباهه ، وليس مفادها غير أنّ المشكوكات هنا لا يجب فيها الاحتياط البالغ حد الحرج ، ومن الواضح أنّ هذا أيضا كالاحتياط حكم حال الشك ، فقاعدة الحرج في المقام من الأصول العملية.

والتحقيق أنّ قاعدة الحرج من القواعد المشتركة بين الدليل الاجتهادي والأصل العملي تفيد فائدة الدليل في موارد الأدلة الاجتهادية وفائدة الأصل في موارد الأصول العملية ، بيانه : أنّ مفاد أدلة الحرج رفع كل حكم بلغ حد الحرج سواء كان من الأحكام الواقعية فيرفع واقعا ، أو من الأحكام الظاهرية

٥٦٧

فيرفع ظاهرا ، فهي بعمومها معارضة للأحكام الواقعية والأحكام الظاهرية في الأفراد الحرجية منهما على نسق واحد أو حاكمة عليهما على نسق واحد أيضا ، ففيما نحن فيه لمّا بلغ حكم أصل الاحتياط حد الحرج يشمله عموم القاعدة فيتعارض الأصلان أصل الاحتياط وقاعدة الحرج التي هي في المقام تفيد فائدة الأصل كما عرفت.

واتّضح بذلك فساد ما ذكره من أنّ تقديم قاعدة الحرج على الأصول أوضح من تقديمها على الأدلة الاجتهادية ، لما عرفت من أنّ تقديمها على الأصول في عرض تقديمها على الأدلة الاجتهادية إن سلّمنا الحكومة السابقة أو قلنا بالتقديم بوجه آخر وإلّا يبقى التعارض في المقامين.

الثالث : أن يريد أنّ أدلة نفي العسر واردة على قاعدة الاحتياط من قبيل الدليل بالنسبة إلى الأصل بتقريب أنّ أدلة نفي العسر نافية لأصل الحكم المعلوم بالإجمال الموجب للوقوع في الحرج واقعا ، فلا يبقى مجال لحكم العقل بوجوب الاحتياط لأنّه فرع وجود الحكم الواقعي وقد حكمنا بنفيه بأدلة نفي العسر ، وحينئذ يكون تقديم أدلة الحرج على قاعدة الاحتياط أوضح من تقديمها على الأدلة الاجتهادية لكون الأول لأجل الورود والثاني من باب الحكومة.

وفيه : أنّا فرضنا القطع ببقاء الأحكام الواقعية بواقعيتها في بعض المقدمات السابقة ، فالالتزام بنفي وجودها الواقعي خلاف الفرض.

لا يقال : ندعي نفي أدلة العسر وجودها الواقعي تنزيلا لا تحقيقا حتى يلزم خلاف الفرض.

لأنّا نقول أوّلا : إنّه خلاف ظاهر أدلة الحرج ، إذ قد مرّ سابقا أنّ أدلة الحرج

٥٦٨

إنّما تنفي خصوص ما أوجب الحرج دون غيره ، ومن المعلوم أنّ ما أوجب الحرج ليس أصل الحكم المعلوم بالإجمال بل تحصيل العلم بامتثاله أعني الاحتياط التام ، فلا بد أن يرتفع هذا دون غيره.

وثانيا : أنه لا معنى لرفع الحكم الواقعي تنزيلا سوى الحكم بوجوب الرجوع إلى الأصل ، كما كان كذلك لو كان الحكم منفيا واقعا ، وهذا غير جائز لأنّ المفروض بطلان الرجوع إلى أصل البراءة بحكم المقدمة الثانية.

وقد يجاب عن هذا : بأنّا نرفع اليد عن الحكم الواقعي بمقدار الحرج ، ولازمه تبعيض الاحتياط بما يرتفع به الحرج لا الرجوع إلى أصالة البراءة الذي حكمنا ببطلانه.

ويمكن دفعه : بأنّ ذلك يرجع إلى رفع حكم الاحتياط التام بلسان آخر ، وكيف كان ففي الجواب الأول كفاية.

قوله : وثالثا سلّمنا إمكانه ووقوعه لكن العمل بتلك الظنون لا يؤدي إلى اختلال النظام (١).

(١) محصله : أنه بعد تسليم إمكان أداء ظن المجتهد إلى ما يوجب الحرج ووقوعه ، نلتزم بحجية ظنون المجتهد حينئذ أيضا ونخصص به قاعدة الحرج ، لأنّا فرضنا عموم القاعدة قابلا للتخصيص.

ويرد عليه : أنّه لا وجه لهذا التخصيص بعد اختيار أنّ أدلة قاعدة الحرج حاكمة على سائر الأدلة الاجتهادية ، بل الأصول العملية كالاحتياط فيما نحن فيه ، نعم لو كانت الظنون التي لزم من العمل بها الحرج قطعية الاعتبار بأشخاصها

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤١١.

٥٦٩

وجب تخصيص القاعدة بها ، وليس كذلك لأنّ جميع أدلة حجية هذه الظنون مما يقبل التخصيص كما هو واضح.

فالأولى إبدال هذا الجواب الثالث بوجه آخر : وهو أن يقال نلتزم بعدم حجية ما يوجب الحرج من ظن المجتهد أيضا لأجل الحكومة المزبورة ، لكن نرفع اليد عنه بمقدار يرتفع به الحرج ، فإن كانت الظنون متساوية في القوة نتخير في رفع اليد عن مقتضاها بمقدار رفع الحرج في جميع المظنونات ونأخذ بالظنون الباقية ، وإن كانت مختلفة بأن كان بعضها أضعف من بعض نجعل المقدار المذكور في الظنون الضعيفة ونأخذ بالباقي.

قوله : وأما الظنون المطابقة لمقتضى الاحتياط فلا بدّ من العمل عليها ، إلى آخره (١).

(١) لا يخفى أنّ هذا الكلام إلى آخره مستدرك لا فائدة فيه في أصل الجواب ، لأنّه قد تم الجواب عن أصل النقض والجواب عن توهّم أنه كر على ما فرّ منه بما بينه فيما قبل هذه العبارة ، مع أنه فاسد في أصله أيضا ، لأنّ الأخذ بالمظنونات بناء على حجية ظن المجتهد بدليل الانسداد ليس من باب الاحتياط جزما ، فالحرج الذي يلزمه ليس من جهة المطابقة لمقتضى الاحتياط وإن كان مطابقا له فتدبّر.

قوله : ومنها : أنه يقع التعارض بين الأدلة الدالة على حرمة العمل بالظن (٢).

(٢) لا يخفى أنّ التعارض بين الأدلة الناهية عن العمل بالظن وبين قاعدة

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤١١.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٤١٢.

٥٧٠

الحرج إنّما يحصل بضميمة العلم الإجمالي بعدم جواز إهمال أحد الطريقين إما الاحتياط أو العمل بالظن ولا ثالث لهما بعد الفراغ عن بطلان سائر الاحتمالات في مقام التعرض لامتثال التكاليف المعلومة بالإجمال من القرعة والتقليد ونحوهما ، وحينئذ فالأدلة الناهية عن العمل بالظن مستلزمة لتعين الرجوع إلى الاحتياط ، وأدلة رفع الحرج اللازم في العمل بالاحتياط معينة للعمل بالظن ، فحصل التعارض بضميمة العلم الإجمالي نظير تعارض الأصلين في الشبهة المحصورة ، وإلّا لم يكن تعارض هنا لو جاز الرجوع إلى غير الاحتمالين من الاحتمالات الأخر ، فإذا حصل التعارض فالترجيح للأدلة الناهية لأكثريتها كما في المتن ، ولو فرض عدم الترجيح بها وحكم بالتساقط فالمرجع أيضا قاعدة الاحتياط ، هذا.

ويمكن الجواب عن الإيراد قبل التعرّض لما في المتن : بأنّ التعارض إنّما يتم لو كان بطلان الرجوع إلى سائر الاحتمالات بحيث لم يمكن الرجوع إليها أصلا حتى في صورة القطع ببطلان العمل بالظن والاحتياط ، وليس كذلك إذ بطلانها معلّق على أن يوجد طريق آخر للتعرّض لامتثال الأحكام المعلومة بالإجمال يكون أقرب وأولى من تلك الاحتمالات ، ولذا صرّح المصنف فيما سبق وفيما سيأتي أنه لو فرض انسداد باب الظن أيضا ولم يمكن الاحتياط تجب الموافقة الاحتمالية ولا يجوز إلغاء الأحكام رأسا ، وحينئذ نقول لا تعارض بين أدلة نفي العسر والأدلة الناهية عن العمل بالظن لعدم العلم الإجمالي بوجوب الرجوع إلى أحد الأمرين من الظن أو الاحتياط والحال هذه ، لأنّ الأخذ بالظن تدفعه الأدلة الناهية والأخذ بالاحتياط تدفعه قاعدة الحرج ، فيكونان في عرض سائر الاحتمالات التي لزم من الرجوع إلى كل واحد محذور مستقل ، فيدور الأمر بين جميع الاحتمالات في عرض واحد ، ويحكم

٥٧١

العقل بعد فرض عدم جواز إهمال الأحكام المعلومة بالإجمال رأسا بلزوم الأخذ بالأرجح منها وهو العمل بالظن (١).

قوله : إذا لم يكن بقصد التشريع والالتزام شرعا بمؤداه (٢).

(١) قد مرّ هذا الكلام من المصنف غير مرّة من أنّ الأدلة الناهية عن العمل بالظن تدل على الحرمة التشريعية لا الذاتية ، وأنّها دالة على عدم جواز رفع اليد عن الأصول المقررة في الشرع بالظن ، وقد ذكرنا نحن في الرد عليه بأنّ الأدلة الناهية إنّما تدل على عدم جواز أخذ الظن طريقا إلى الواقع كالعلم بجعل احتمال خلافه كالعدم وعدم الاعتداد به كما هو عادة عامة الناس ممن يعمل بالظن ، وليست ناظرة إلى جهة التشريع بوجه ، كما أنّها ليست ناظرة إلى عدم جواز رفع اليد عن الأصول بالظن.

نعم خصوص ما أقحم المصنف في الأدلة الناهية من قوله تعالى : (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)(٣) يدل على الحرمة التشريعية ، لكن المراد من الأدلة الناهية غير هذه الآية فافهم ، وقد مرّ بيان هذا المطلب ببيان أوفى في مقام تأسيس أصالة حرمة العمل بالظن.

قوله : فالنافي للعمل بالظن فيما نحن فيه (٤).

(٢) يعني أنّ مفاد الأدلة الناهية عن العمل بالظن عدم الاعتناء بالظن في مقام

__________________

(١) أقول : بل الأرجح هو العمل بالاحتياط لإدراك نفس الواقع به بخلاف الأخذ بالظن ، فإذن تكون النتيجة موافقة لغرض المورد من عدم جواز رفع اليد عن الاحتياط للحرج.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٤١٢.

(٣) يونس ١٠ : ٥٩.

(٤) فرائد الأصول ١ : ٤١٢.

٥٧٢

تحصيل الواقع فإنّه لا يغني من الحق ولا يوصل إلى الواقع بل لا بدّ من تحصيل العلم بالواقع ، وما يمكن في المقام من العلم بالواقع هو الاحتياط ، فكان مفادها في المقام وجوب الأخذ بالاحتياط ، فينطبق على قاعدة الاحتياط المحكومة بأدلة الحرج ، فلم يبق لقاعدة الحرج ما يعارضها.

وفيه : أنّ الأدلة الناهية إذا لم تحمل على الحرمة التشريعية فإما أن تحمل على حرمة جعل الظن طريقا إلى الواقع ذاتا ، وحينئذ يبقى التعارض بحاله وليس هذا مراد المتن على ما صرّح به ، وإما أن تحمل على الإرشاد إلى أنّ الأخذ بالظن مما لا ينبغي لتخلفه عن الواقع ولازمه لزوم الأخذ بما لا يتخلّف عن الواقع ، وهذا المعنى يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يراد بذلك مجرّد تقرير حكم العقل بلزوم تحصيل الواقع بالعلم التفصيلي أو الإجمالي ، فكأنه قال ما حكم به العقل فهو حق على الوجه الذي حكم به.

ثانيهما : أن يراد به إنشاء حكم موافق لحكم العقل.

فإن كان الأول فهو كما ذكره من انطباقه في المقام على الاحتياط المحكوم بأدلة الحرج لكنه خلاف الظاهر من منع العمل بالظن الذي هو بناء العقلاء ، وإن كان الثاني فلا نسلّم حكومة أدلة الحرج عليها بحكومتها على قاعدة الاحتياط ، لأنّ مفادها حينئذ أعني وجوب تحصيل الطريق الواقعي أي العلم التفصيلي أو الإجمالي مغاير للاحتياط ، وإن كان بعض أفراده الاحتياط فلا يلزم من حكومة قاعدة الحرج على الاحتياط حكومتها على هذا الدليل العام أيضا لكون بعض أفراده الاحتياط.

ولو قيل إنّ قاعدة الحرج حاكمة على هذا الدليل أيضا كما أنها حاكمة

٥٧٣

على الاحتياط ، يرجع إلى الجواب الأخير المشار إليه بقوله : ثم لو فرضنا إلى آخره. ولو سلّم أنّ مفاد الأدلة الناهية عين الاحتياط فنقول أيضا لا يلزم من حكومة قاعدة الحرج على قاعدة الاحتياط الثابتة بحكم العقل حكومتها على الاحتياط الثابت بحكم الشرع ، لأنّ وجه الحكومة في الأول على ما عرفت كون حكم العقل بالاحتياط معلّقا على عدم ترخيص الشارع ترك العمل به ، وهذا الوجه لا يجري في الثاني ، لأنّ الدليل الشرعي لو دلّ على لزوم الأخذ بالاحتياط فهو مطلق كسائر المطلقات الواردة في الشريعة تعارضه أدلة الحرج ، فإن كانت حاكمة على سائر المطلقات كان الاحتياط أيضا محكوما ، وإلّا فلا يلزم من كون الاحتياط العقلي محكوما كون هذا الاحتياط الشرعي أيضا محكوما.

وكيف كان ، يمكن الجواب عن أصل الإيراد أيضا بمنع إطلاق الأدلة الناهية عن العمل بالظن بحيث يشمل زمان انسداد باب العلم هذا ، مضافا إلى ما مرّ من الأجوبة عنها في مسألة تأسيس الأصل على حرمة العمل بالظن.

قوله : ومنها أنّ الأدلة النافية للعسر إنّما تنفي وجوده في الشريعة بحسب أصل الشرع أوّلا (١).

(١) لعله لدعوى انصراف أدلة الحرج إلى ذلك وإلّا فلا وجه له ، والظاهر أنّ المورد أراد أن يفرّق في موارد الحرج بين أن يكون نفس التكليف حرجيا بالذات وبين أن يكون حرجية التكليف لأجل طرو بعض الطوارئ سواء كان من فعل المكلف أو غيره.

وجوابه : أنّه لا وجه لانصراف الأدلة إلى القسم الأول كيف وجلّ

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤١٢.

٥٧٤

التكاليف الحرجية المرفوعة بتسليم من الخصم إنما كانت حرجية لأجل الطوارئ كما لا يخفى.

ويحتمل بعيدا أن يريد الفرق بين الأحكام الثابتة بالأدلة الشرعية وبين الأحكام الثابتة بإمضاء الشارع للأحكام العقلية كما فيما نحن فيه من إمضاء الشارع حكم العقل بوجوب الاحتياط ، فيدعى انصراف أدلة نفي الحرج إلى القسم الأول ، وله وجه إلّا أنّ التحقيق كما عرفت سابقا في ذيل بيان قاعدة الحرج عدم الفرق بينهما وأنّ دعوى الانصراف ممنوعة.

قوله : مع إمكان أن يقال بأنّ ما ألزمه المكلف على نفسه من المشاق خارج من العمومات (١).

(١) وبعبارة أخرى فرق بين ما ألزم المكلف على نفسه أمرا شاقا بالغا حد الحرج بالاجارة أو النذر ونحوهما فلا يرتفع لأنّه غير مناف للامتنان الذي سيق أدلة رفع الحرج إليها ، بل المناسب للامتنان عدم منعه عما التزمه على نفسه على حسب ميله وإرادته ، وبين ما أدخل المكلف نفسه في موضوع حكم مطلق يكون ذلك الحكم بالنسبة إليه حرجا فيرتفع الحكم عنه بحكومة أدلة رفع الحرج على إطلاق ذلك الدليل.

وبعبارة أخرى أنّ المكلف أقدم على الحرج في القسم الأول فلا يرتفع دون الثاني.

ويمكن أن يجاب : بأنّ المكلف أقدم على الحرج في القسم الثاني أيضا لأنّه بعد ما علم أنّ حكم الشارع في هذا الموضوع كذا وأدخل نفسه في ذلك

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤١٤.

٥٧٥

الموضوع باختياره فقد أقدم على تحمل ما هو حكم الموضوع البتة.

فإن قلت : إنّ هذا مشتمل على الدور لأنّ الإقدام على الحرج هنا موقوف على ثبوت الحكم للموضوع الكذائي ، وثبوت الحكم له موقوف على تحقق الإقدام.

قلت : أوّلا : لا نسلّم كون ثبوت الحكم له متوقفا على الإقدام ، بل الحكم ثابت للموضوع مطلقا وإنما يتوقف رفع الحكم على عدم تحقق الإقدام.

وثانيا : لا نسلّم توقف ثبوت الحكم على تحقق الإقدام قبل الحكم ، بل يتوقف ثبوت الحكم على الإقدام فيما بعده فاختلف طرفا الدور.

وهذا الدور نظير الدور الذي أورد على اشتراط صحة الأمر بالعبادة بالقدرة عليها ، فيقال إنّ تحقق الأمر بالعبادة متوقف على القدرة عليها والقدرة عليها موقوفة على الأمر بها لعدم إمكان الامتثال بدون الأمر.

وجوابه التحقيقي : أنّ الأمر موقوف على القدرة حين العمل وهذا المعنى حاصل بعد الأمر ، ولا يلزم ثبوت القدرة حين الأمر.

قوله : فتأمّل (١).

(١) لعل وجهه أنّ هذا التفصيل لا ينفع فيما نحن فيه ، إذ ليس من يحكم عليه بوجوب الاحتياط مقدما على الحرج ولا هو سبب في تحقق موضوع حرجي ، نعم هو تفصيل بالنسبة إلى الأمثلة التي استشهد بها المورد.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤١٤.

٥٧٦

قوله : وفيه أوّلا أنّ معرفة الوجه (١).

(١) لا يخفى أنّ هذا الجواب بل الأجوبة الأربعة طرا ناظرة إلى احتمال اعتبار نية الوجه ، وأما كون الاحتياط مخالفا للاحتياط باعتبار ملاحظة إطلاق بطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد كما هو ثاني وجهي المذكور سندا لأصل الإيراد ، فلم يتعرض لجوابه إلّا في ذيل الجواب الثاني ، ومحصّله : أنّ القائل بحجية مطلق الظن قاطع بحسب مقدمات دليله بعدم بطلان عبادة تارك الطريقين في حال الانسداد ، فليتأمل.

قوله : لكن الجمع ممكن بين تحصيل الظن في المسألة ومعرفة الوجه ظنا والقصد إليه (٢).

(٢) لا يخلو الكلام عن مسامحة ، لأنّ هذا الجواب يرجع أيضا إلى الاحتياط حتى بالنسبة إلى احتمال اعتبار نية الوجه بمقدار ما أمكن لا الجمع بين العمل بالظن والعمل بالاحتياط ، لأنّ القائل بحجية الظن يمكنه أن يقول مثلا بوجوب نية الوجه والجزم فيها بل الجزم في أصل العمل ولو لم يعتبر قيدا للوجه كما هو قول جماعة ومع ذلك يمكنه الامتثال على هذا الوجه فيجب ، وهذا بخلاف الاحتياط المذكور إذ يفوت به الجزم في النية البتة لأنّه فرع حجية الظن التي لم تثبت بعد.

وظهر من ذلك أيضا أنّ من يقول بوجوب نية الوجه لو قال به حتى في حال انسداد باب العلم فلا مفر له عن القول بحجية الظن وبطلان الاحتياط ، لما عرفت من عدم إمكان إحراز الوجه بالاحتياط جزما ، ولم ينفع هذا الجواب

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤١٧.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٤١٩.

٥٧٧

الثالث لدفعه بالجمع المذكور ، فتأمل جيدا.

قوله : ورابعا لو أغمضنا عن جميع ما ذكرنا فنقول : إنّ الظن (١).

(١) لا يتم هذا الجواب على ما اختاره المصنف في رسالة أصل البراءة من أنّ القربة وقصد الأمر والامتثال الذي يتمشّى للمحتاط أن يقصد امتثال الأمر الواقعي بإتيان المحتملات ، فينوي في إتيان كل واحد من الأطراف حصول الامتثال به أو ببدله الذي يأتي به بعد ذلك أو أتى به قبل ذلك ، ولا ريب أنّه لا يمكن حينئذ قصد الوجه جزما.

نعم يمكن قصد الوجه الظني وهو غير نافع إلّا إذا ثبت حجية الظن فيكون من قبيل ما إذا أفتى المفتي بمقتضى استصحاب الاشتغال ، نعم لو قلنا هناك بحصول الامتثال وقصد القربة بأن ينوي في كل واحد من الأطراف الأمر الظاهري الناشئ من وجوب الاحتياط كان هذا الجواب صحيحا ، لكن هذا الوجه غير مرضي عند المصنف وهو كذلك كما سيأتي في محله إن شاء الله تعالى.

قوله : فتحصّل مما ذكرنا أنّ العمدة في رد الاحتياط هي ما تقدم من الإجماع ولزوم العسر (٢).

(٢) قد عرفت سابقا عدم تمامية كلا الوجهين بأوفى بيان فراجع.

وقد يردّ وجوب الاحتياط بوجهين آخرين :

الأول : أنا إذا راجعنا وجداننا نجد العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٢٠.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٤٢٠.

٥٧٨

خصوص المظنونات ، ولا نعلم التكاليف في خصوص المشكوكات والموهومات لا مستقلا ولا مرددا بينها وبين المظنونات بحيث يكون الكل طرفا للعلم ، فالشبهة في المشكوكات والموهومات بدوية لا مانع من إجراء الأصل فيها ، فالعلم الإجمالي الحاصل لنا لا يوجب الاحتياط فيها فبطل الاحتياط الكلي.

ويؤيد هذه الدعوى أنّ من لا يرى انسداد باب العلم بل يعمل بالظنون الخاصة يكتفي بإعمال الظنون الخاصة عن العلم الإجمالي الحاصل له كما هو حاصل لنا ولا يتأمل في إجراء الأصل بالنسبة إلى سائر الظنون والاحتمالات ، فلو كانت طرفا للعلم الإجمالي لتوقف عن إجراء الأصول ولا وجه له ، إلّا أنّ العلم الإجمالي في غير مؤدى الأمارات المظنونة منتف وانحصر اطرافه في المظنونات.

ولكن لا يخفى أنّ هذا الوجه لا يقتضي إبطال الاحتياط بالمرة لكي ينتج حجية الظن بالمقدمة الرابعة ، بل يقتضي وجوب العمل بتمام المظنونات من باب الاحتياط.

وهذا الوجه نظير ما أجاب به المصنف شبهة الأخباري في عدم جواز العمل بعمومات الكتاب للعلم الإجمالي بوجود المخصصات لها كما مر في أول الرسالة ، ونظير جواب الشبهة على اشتراط العمل بأصل البراءة بالفحص عن الأدلة لمكان العلم الإجمالي بثبوت الأحكام المخالفة للأصل كما سيجيء في أواخر رسالة أصل البراءة فراجع.

الثاني : أنّه لا يمكن القول بوجوب الاحتياط الكلي لمراعاة العلم الإجمالي بالتكاليف ، لأنّ القول بوجوب الاحتياط إنّما يتم فيما يمكن فيه

٥٧٩

الاحتياط ، وأما فيما لا يمكن فيه الاحتياط كما لو دار الأمر بين المحذورين كدوران الأمر بين الوجوب والحرمة مثلا فلا بدّ من القول بأنّ الحكم هو الرجوع إلى الأصل في المسألة أو يعمل بالظن لو كان تلك الموارد كثيرة يعلم إجمالا بوجود التكاليف فيها بضميمة باقي مقدمات دليل الانسداد.

ويمكن دفعه : بأنّ المراد من الاحتياط الكلي أيضا هو الاحتياط التام في جميع ما يمكن فيه الاحتياط لا جميع الموارد المحتملة كائنة ما كانت.

بقي هنا شيء : وهو أنّ لازم بطلان لزوم الاحتياط ليس حجية الظن مطلقا حتى في الموارد التي لا يمكن فيها الاحتياط ، إذ كان المانع من إجراء الأصل في الوقائع مراعاة العلم الإجمالي فلما لم يمكن مراعاة العلم الإجمالي فيما لم يمكن فيه الاحتياط لا مانع من إعمال الأصول في خصوص تلك الموارد ، فإن تم مقدمات الانسداد ينتج حجية الظن في غير تلك الموارد ، فافهم فإنّه دقيق.

قوله : بمعنى عدم وجوب مراعاة الاحتمالات الموهومة لأنّها الأولى بالاهمال (١).

(١) محصل مرامه أنّه إذا لم يجب الاحتياط التام للعسر والإجماع لا يرفع اليد عن الاحتياط بالمرة حتى يتردد الأمر بين احتمالات أخر ، ويقال بحكم المقدمة الرابعة إنّ الظن أرجح من بينها ، بل هاهنا مرتبة أخرى مقدمة على تلك الاحتمالات وهو التبعيض في الاحتياط ورفع اليد عن الاحتياط التام بمقدار يرفع به العسر ولم يكن العمل بالاحتياط في الباقي مخالفا للإجماع ، ويحصل ذلك برفع اليد عن الاحتياط في موهومات التكليف فقط أو مع مشكوكات التكليف على تردد يأتي في كلامه ، لكن يظهر من صدر كلامه (رحمه‌الله) أنّ

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٢١.

٥٨٠