حاشية فرائد الأصول - ج ١

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-015-2
الصفحات: ٦٩٤

ومنها : أنّه على تقدير التحريف يلزم خروج القرآن عن حدّ الإعجاز الذي هو أهمّ مقاصد نزول القرآن ، إلى غير ذلك مما هو مذكور في محلّه ، والمقصود الإشارة إليها في الجملة وأنّها ضعيفة في مقابل الأخبار الكثيرة التي ادّعى غير واحد تواترها الدالة على وقوع التحريف من النقص والتغيير والتبديل حتى أنّه ذكر في القوانين (١) أنّها لو جمعت لصار كتابا كبير الحجم ، فإذن الأقوى هو القول الثالث وحينئذ نقول :

إنّ وقوع التحريف بالمعنى المذكور مانع عن التمسك بالظواهر خلافا للمصنف ، لأنّ العلم الإجمالي بوقوع النقص والتغيير في القرآن موجب لسقوط جميع الظواهر ، لاحتمال أن يكون ما سقط منه مخصصا لعامّ أو مقيدا لمطلق أو قرينة لمجاز أو ناسخا لحكم ، ومع الوصف المذكور لا يبقى وثوق بكون الظواهر التي بأيدينا مرادا للشارع ، ولا يكون بناء العرف والعقلاء اعتمادهم على مثل تلك الظواهر ، ألا ترى أنّه لو كتب المولى إلى عبده كتابا يعمل به ثم بعثه إليه وعلم العبد بسقوط بعض الكتاب وتغيير بعض آخر لعوارض يتوقف عن العمل بالباقي بعد احتمال كون الساقط دخيلا في فهم المراد من الباقي وهذا واضح ، وليس يلزم أن يعلم إجمالا بوقوع التحريف في خصوص الظواهر أو خصوص الآيات المتعلّقة بالأحكام الفرعية حتى يوجب التوقف ، بل يكفي كونها من أطراف الشبهة واحتمالها.

وبالجملة : دليل حجية الظواهر بناء العقلاء وهو في مثل ما نحن فيه ممنوع ، بل ندعي العلم بأنّ بناءهم في نظير المقام التوقف وعدم الاعتماد على الظواهر الكذائية ، نعم لو تمسك المتمسك في حجية ظواهر الكتاب بغير بناء

__________________

(١) قوانين الأصول ١ : ٤٠٣.

٣٤١

العقلاء من الإجماع وأخبار العرض على الكتاب وخبر الثقلين ونحوها مما مر في المتن أمكن القول بحجية الظواهر التي بأيدينا لأنّها دلت على حجية هذا الكتاب الموجود ، لكن قد عرفت سابقا ضعف هذه الوجوه وأنّ العمدة من أدلة الحجية بناء العقلاء وحاله ما عرفت ، ومما ذكرنا ظهر ما في :

قوله : لعدم العلم الإجمالي باختلال الظواهر (١).

(١) لأنّ كونها من أطراف الاحتمال كاف في سقوطها عن الحجية. وكذا ظهر ما في :

قوله : مع أنّه لو علم لكان من قبيل الشبهة غير المحصورة (٢).

(٢) إنّ ذلك دعوى غريبة ، كيف وقد ورد في بعض أخبار الباب أنّه سئل أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) عن الربط في قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ)(٣) أجاب بأنّه قد سقط هنا أكثر من ثلث القرآن ، وحينئذ فنسبة الساقط إلى مجموع القرآن نسبة الواحد إلى الثلاثة فكيف تكون شبهة اختلال الظواهر شبهة غير محصورة ، فتأمل.

وكذا ظهر ما في :

قوله : مع أنّه لو كان من قبيل الشبهة المحصورة ، إلى آخره (٤).

(٣) لما عرفت من عدم لزوم العلم الإجمالي في خصوص ما يتعلّق بالأحكام في لزوم التوقّف بل يكفي العلم الإجمالي العام ، ولعله (رحمه‌الله) إلى جميع ما

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٥٨.

(٢) فرائد الأصول ١ : ١٥٨.

(٣) النساء ٤ : ٣.

(٤) فرائد الأصول ١ : ١٥٨.

٣٤٢

ذكرنا أشار بقوله في آخر كلامه فافهم ، فافهم.

قوله : وفيه أنّ فرض وجود الدليل على حجية الظواهر موجب لعدم ظهور الآيات الناهية في حرمة العمل بالظواهر (١).

(١) إن كان دليل حجية الظواهر مطلقا أو خصوص ظواهر الكتاب هو الإجماع كما ذكره في عنوان هذا الأمر الرابع فهذا الجواب حقّ ، لأنّ الإجماع على حجية مطلق الظواهر لا يجامع ظواهر الآيات الناهية عن العمل بالظن ، فلا بدّ من تخصيصها بغير الظواهر وإلّا بقي هذا الإجماع على الحجية الفعلية بلا مورد ، وإن كان دليل الحجية بناء العقلاء على ما اخترناه فالآيات الناهية مانعة عن الحجية ، لأنّ بناء العقلاء في غير ما لو صرّح المتكلم بعدم الاعتماد على ظواهر كلامه لكونها ظنّية.

قوله : فتأمل (٢).

(٢) لعلّه إشارة إلى منع عدم شمول قضية (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(٣) ونحوها نفسها بعد فرض عموم اللفظ أو إطلاقه المعلّق فيه الحكم على طبيعة الظن.

نعم قد يدّعى انصرافه إلى غيرها. وفيه : منع الانصراف ، لأنّ الظاهر من القضية انّها في مقام ضرب الضابطة الكلية على طريق الاستغراق بعد ذمّ قوم على أنّهم يتّبعون الظن ، وإن أبيت إلّا عن انصرافها عن نفسها نقول بدخولها في حكم مدلولها بمناطها القطعي ، لكن مع ذلك لا ينفع هذا الجواب في دفع إشكال

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٥٩.

(٢) فرائد الأصول ١ : ١٥٩.

(٣) يونس ١٠ : ٣٦.

٣٤٣

المتوهّم ، لأنّ الآيات الناهية عن العمل بالظن كما أنّها تنفي حجية نفسها كذلك تنفي حجية غيرها في عرض واحد وبلسان واحد ، ولا يتقدّم نفيها لنفسها حتى يبقى الظواهر الأخر سليما عن المانع ، بل الإشكال بعين هذا التقريب ينهض قائما فيقال : إنّ حجية الظواهر مطلقا مستلزمة لعدم حجيتها لمكان الآيات الناهية الدالة على عدم حجية الظواهر ، فلو قام دليل على حجية الظواهر نهض ذلك الدليل بعينه على عدم حجية الظواهر ، لأنّ شمول دليل الحجية لظواهر الآيات الناهية وباقي الظواهر في عرض واحد بلسان واحد لا يتقدم بعضها على بعض في مشموليتها للدليل المذكور ، ولا يمكنك أن تقول إنّ الآيات الناهية من حيث إن حجيتها مستلزمة لعدم حجيتها ساقطة حتى كأنّها معدومة ، فتبقى حجية بقية الظواهر سليمة عن المانع ، لأنّا نعارضك بأنّ حجية مطلق الظواهر كما هو مدلول الدليل المفروض مستلزمة لعدم حجيتها ، فيلزم سقوط حجية الظواهر مطلقا وتبقى الآيات الناهية سليمة عن المانع ، وسرّه ما ذكرنا من أنّ حجية مطلق الظواهر وحجية خصوص الآيات الناهية في عرض واحد بدليل واحد ، فلا يمكن اعتبار أحدهما مقدما على الآخر لكي ينتفي بنفسه ويبقى الآخر سليما.

نعم لو أريد إثبات عدم حجية الظواهر بالآيات الناهية لم يمكن أيضا ، لأنّها كما تدل على عدم حجية غيرها من الظواهر تدلّ على عدم حجية نفسها أيضا بلسان واحد ، لأنها أيضا من الظواهر الظنية فتدبّر.

ونظير ما نحن فيه مسألة حجية الشهرة فيقال : لو كانت حجة لزم عدم حجّيتها لمكان الشهرة على عدم حجية الشهرة ، ولا يمكن أن يقال إنّ شخص هذه الشهرة القائمة على عدم حجية الشهرة لأنّها تنفي نفسها ساقطة فتبقى الشهرة الباقية سليمة عن المانع ، لأنّ أصل حجية الشهرة أيضا تنفي نفسها في

٣٤٤

عرض نفي هذه الشهرة نفسها ، لمكان هذه الشهرة التي تنفي نفسها وغيرها في عرض واحد بلسان واحد.

نعم ، يمكن أن يقال هنا إن كان دليل حجية الشهرة عموما لفظيا مثل قوله : «خذ بما اشتهر بين أصحابك» مثلا ، يدور الأمر بين أن تكون الشهرة المانعة مشمولة للدليل وخروج باقي الشهرات عنه ، وأن تكون بقية الشهرات باقية تحت العام والشهرة المانعة خارجة ، والترجيح للثاني لئلّا يلزم تخصيص الأكثر ، فيحكم بحجية جميع الشهرات سوى هذه الشهرة المانعة ، ولا يمكن أن يقال نظيره فيما نحن فيه.

والفرق أنّ الدليل اللفظي المفروض يجب الأخذ به بقدر الإمكان ولو بعد ارتكاب التخصيص فيه ، وأما الدليل على اعتبار الظواهر يعني بناء العقلاء فلا يجب الأخذ به إلّا بشرط عدم ردع الشارع عن أخذ الظواهر حتى أنّه قد أمكن عدم حجية الظواهر مطلقا على تقدير الردع ، فما لم يحرز عدم الردع لا يتم لنا الدليل سليما والمفروض أنّ اعتبار دليليته مستلزم لثبوت الردع المسقط لدليليته.

وبالجملة : بقي أصل إشكال المتوهّم بحاله ونزيد عليه ونقول : كما أنّ حجية مطلق الظواهر تستلزم عدم حجيتها لمكان الآيات الناهية كذلك عدم حجية الظواهر يستلزم حجيتها ، إذ مع فرض عدم حجية الظواهر ينتفي ظواهر الآيات الناهية فيرتفع مانع الحجية فتكون الظواهر حجة ، وهكذا نقول عدم حجية خصوص الكتاب مستلزم لحجيتها وعدم حجية ظواهر الآيات الناهية مستلزم لحجيتها لرفع المانع عن حجيتها بعين ذلك التقريب ، فيلزم من فرض عدم الحجية حجيتها ومن فرض حجيتها عدم حجيتها دائما ، وكيف كان

٣٤٥

فالإشكال صعب مستصعب في غاية المتانة والدقّة.

بل يرد على ما ذكره المصنف في الجواب الثاني أمران آخران :

الأول : أن يقال عليه كما أنّك ترفع اليد عن شمول دليل حجية الظواهر للآيات الناهية لأنّها تمنع نفسها حتى يبقى الدليل سالما في الباقي ، كذلك يجب أن ترفع اليد عن شمول عموم النهي في الآيات الناهية لنفسها لاستلزام شمولها لنفسها انتفاءها ، وإذا لم تشمل نفسها لهذا المحذور يبقى مدلولها بالنسبة إلى غيرها سالما عن المنافي ، ويمكن أن يكون قول المصنف بعد الجواب الثاني إلّا أن يقال إنها لا تشمل أنفسها إلى آخره ، ناظرا إلى هذا الوجه لا إلى الانصراف ونحوه مما سبق وإن أمر بالتأمّل بعده.

الثاني : أن يقال يمكن قلب الكلام على المصنف بإخراج ما عدا ظواهر الآيات الناهية عن عموم دليل الحجية وإبقاء الآيات الناهية تحت العموم ، بتقريب التقرير الذي يقدّم استصحاب المانع على الاستصحاب الممنوع والظنّ المانع على الظن الممنوع على ما هو مقرّر في محلّه من جهة حكومة الاستصحاب المانع والظن المانع بلسانهما على الممنوع منهما ، فيبقى المانع تحت عموم الدليل المستلزم لخروج الممنوع عنه ، وهكذا نقول فيما نحن فيه إنّ ظواهر الآيات الناهية لأنّها بلسانها نافية لحجية سائر الظواهر حاكمة عليها ، فتبقى هي تحت دليل حجية الظواهر ويستلزم خروج سائر الظواهر عن عموم الدليل. ولكن الإنصاف أنّ هذا الوجه غير وارد ، لأنّ الآيات الناهية كما أنّها مانعة عن حجية غيرها من الظواهر كذلك مانعة عن حجية نفسها أيضا بلسان واحد ، فباعتبار أنّها مانعة عن نفسها يلزم من اعتبارها عدم اعتبارها ، فلا تبقى حجة حتى تكون حاكمة على غيرها من سائر الظواهر هذا ، ولهذا الإشكال

٣٤٦

نظائر في الفقه قد أشكل على أقوام :

منها : أنه لو تعيّن صوم يوم بعينه بحيث لم يجز تفويته بوجه اختياري وأراد المكلف أن يسافر في ذلك اليوم ، فيقال إنّ السفر حرام لأنّه مفوّت للصوم ، ولو حرم لزم من حرمته صحة صوم المكلف في السفر لأنّه عاص بسفره ، وحكمه إتمام الصلاة والصوم فيلزم منه إباحة السفر لأنّه غير مفوّت ، ولو أبيح السفر لا يجوز الصوم فيه فيلزم منه التفويت المحرّم فيحرم ، وهكذا يلزم من فرض حرمة السفر إباحته ومن إباحته حرمته دائما.

ومنها : إرادة السفر بعد ما نودي للصلاة من يوم الجمعة ، فيلزم من حرمة السفر لتفويته الجمعة إباحته بإقامة الجمعة في السفر ، ومن إباحته لعدم صحة الجمعة في السفر المباح حرمته لتفويت الجمعة وهكذا.

ومنها : أنه لو أعتق المولى في مرض موته بناء على خروج المنجزّ من الثلث ، أو أوصى بعتق أمته المزوّجة بمهر عشرة مع فرض كون قيمتها عشرة وليس للمولى مال سوى الأمة ومهرها إلّا عشرة ، ثم فسخت الأمة نكاحها بعد العتق ، لأنّها مخيرة بعد العتق في فسخ نكاحها ، وكان قبل الدخول المستلزم لرجوع المهر أو نصفه ، فباعتبار أنّ المولى مالك لثلثين لزم نفوذ العتق لأنّ التصرف لا يزيد عن الثلث ، وباعتبار أنّ فسخ الأمة نكاحها مستلزم لرجوع المهر على الزوج ، لزم عدم نفوذ العتق لكونه زائدا عن الثلث ، إذ يصير المال بعد رجوع المهر عشرين ، ويلزم من عدم النفوذ بقاء المال ثلاثين المستلزم للنفوذ وهكذا.

لكن أمر هذه الأمثلة الشرعية سهل ، لأنّ الإشكال فيها مبني على مقدمات شرعية تعبّدية يمكن التزام التخصيص أو التقييد في كل منها ، إذ إشكال

٣٤٧

المسألة الأولى مبني على عدم جواز الصوم الواجب في السفر المباح مطلقا وجوازه في السفر المحرّم مطلقا ، وأنّ مقدمة الحرام كالسفر المفوّت للصوم حرام ، مضافا إلى أنّ هذا المثال فرضي لا نجد له في الشرع موردا ، اللهمّ إلّا ما حكي عن العلامة في قواعده (١) في مسألة ناذر صوم الدهر ، ولا يخفى ما فيه من أنّ النذر ينصرف إلى الصوم المعهود في الشرع الذي يكون موضوعه الحاضر المختار الصحيح ، فكأنّه نذر الصوم ما دام حاضرا مختارا صحيحا في بدنه ، مع أنّ في شمول دليل عدم صحة الصوم الواجب في السفر للواجب بالعرض كالنذر ونحوه مناقشة واضحة ، فيقال إنّ متعلق النذر صوم مندوب يصح في السفر ولو لم يقيّده بالسفر ، فإن قيّده فالأمر أوضح.

وهكذا في المسألة الثانية إشكاله مبني على عدم جواز إقامة الجمعة في السفر المباح مطلقا وجوازها في السفر المحرّم مطلقا ، وحرمة مقدّمة الحرام مطلقا ، وعدم جواز قلب الموضوع للمكلّف بعد تعلّق التكليف به بأن يدخل نفسه في موضوع المسافر الذي يصلي الظهر دون الجمعة ،

وهكذا إشكال المسألة الأخيرة مبني على خروج المنجّز من الثلث مطلقا أو خروج الوصية من الثلث مطلقا ، وجواز فسخ العتيق نكاحه بعد العتق مطلقا ، ورجوع المهر بالفسخ قبل الدخول مطلقا ، مضافا إلى أنّ العتق المذكور أو الوصية به تصرّف في أزيد من الثلث باعتبار ما يلزمه من رجوع المهر في بعض الصور ، فلا تنفذ إلّا مراعى بعدم فسخ العتيق.

وأما الإشكال في المسألة التي نحن فيها فهو عقلي لا يحتمل فيه هذه الأمور ، فإن تمّ الجواب الأول عن إشكال المتوهّم بالتقريب السابق فهو وإلّا بقي بحاله.

__________________

(١) قواعد الأحكام ١ : ٣٨٤ و ٣ : ٢٨٩.

٣٤٨

قوله : وفيه ما لا يخفى (١).

(١) لأنّ غايته أن تصير حجية ظواهر الكتاب علميا لا أن تصير الظواهر نصّا مقطوعا بها وهذا ظاهر ، لكن يمكن تقرير التخصّص بوجه آخر مرّ ذكره سابقا في تقرير الأصل في المسألة وهو أن يقال إنّ الآيات الناهية ظاهرة في النهي عن الظنون التي ليست رويّة العقلاء على اتباعها مذمومة عندهم ذلك ، ولذا ذمّهم في قوله (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ)(٢) بما ارتكز في عقولهم ، وإلّا لا يفيد المذمة ردعهم عن متابعة الظن ، ضرورة كونهم منكرين لشرع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، فلا يرتدعون بما في هذا الشرع من حرمة العمل بالظن ، وقد ظهر بهذا جواب آخر عن التوهّم الأول لأنّه مبني على شمول الآيات الناهية للظواهر وقد عرفت منعه.

الكلام في تفصيل صاحب القوانين

قوله : وأما التفصيل الآخر فهو الذي يظهر من صاحب القوانين (٣).

(٢) قبل الشروع في بيان التفصيل المذكور في القوانين ينبغي التنبيه لأمرين كي يتّضح الحال في المقام :

الأول : أنّ التفصيل المذكور في القوانين لا يختص بظواهر الكتاب بل يعمّ جميع الظواهر على ما هو صريح كلامه حيث جعل الكتاب من جزئيات أحد

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٥٩.

(٢) الأنعام ٦ : ١١٦.

(٣) فرائد الأصول ١ : ١٦٠.

٣٤٩

شقي التفصيل ، ولا ينافي ذلك تعبيره بخطاب المشافهة أحيانا في خلال الكلام بعد التصريح المذكور.

الثاني : أنّ التفاصيل المتصوّرة في المقام أربعة :

أحدها : التفصيل بين المشافه وغيره فيحكم بالحجية في الأول ، سواء كان مخاطبا أم لا ، قصد إفهامه أم لا ، وربما يستظهر ذلك من كلام المعالم كما سيجيء.

ثانيها : التفصيل بين المخاطب بالظواهر وغيره ، ويحكم بالحجية في الأول سواء قصد إفهامه أم لا ، وعدم الحجية في الثاني قصد إفهامه أم لا ، وربما يحمل عليه كلام المعالم.

ثالثها : التفصيل بين من قصد إفهامه وغيره ، سواء كان مشافها أو مخاطبا أو غيرهما كالناظر إلى الكتب المصنّفة ، ويحكم بالحجية في الأول دون الثاني ، وهذا صريح كلام القوانين.

رابعها : التفصيل بين من لم يحصل اختلال الظواهر باختفاء القرائن ونحوه بالنسبة إليه ، وبين من ظنّ أو احتمل احتمالا قريبا بحصول الاختلال المذكور بالنسبة إليه ، ويظهر من المصنف في أواخر توجيه كلام القوانين نسبة هذا التفصيل إليه ، وهو كذلك على ما يظهر في خلال كلامه أيضا ، ولعل ذلك خلط وإلّا فقد عرفت صراحة عنوان كلام القوانين في التفصيل الثالث ، لكن القول بالتفصيل الرابع أولى وأقرب إلى القبول ، لأنّ بناء العقلاء الذي هو دليل حجية الظواهر مقصور على ما لم يحصل الاختلال فيها قطعا أو ظنّا ، وأما إذا ظنّ أو احتمل قويا اختلالها فلا ريب أنّ بناء العقلاء في مثله التوقّف عن العمل بالظواهر ، والظواهر مطلقا كتابا وسنّة بالنسبة إلينا من هذا القبيل ، فينبغي القول

٣٥٠

بالتفصيل المذكور لينتج عدم حجية الظواهر بالنسبة إلينا مطلقا ، فلا بدّ في ردّ هذا التفصيل من دليل ستأتي الإشارة إليه.

قوله : وبالنسبة إلى الكتاب العزيز بناء على عدم كون خطاباته موجّهة إلينا (١).

(١) يظهر منه أنّه لو كان خطابات الكتاب موجّهة إلينا أو كان من باب تأليف المصنّفين كان الظاهر حجة بلا كلام ، وقد عرفت أنّ ذلك إنما يتم على تقدير عدم الاختلال المذكور ظنّا أو احتمالا قريبا وإلّا فلا ينفع كوننا مخاطبين بخطابات الكتاب أو كونه من باب تأليف المصنّفين لعدم العلم ببقاء ظواهره على ما كان حين صدور الخطاب.

نعم يجب الحكم بعدم الاعتماد على القرائن الحالية التي ربما يعتمد عليها المتكلم ، لأنه كان يجب عليه تعالى إلقاء الكلام على وجه يستفاد منه المراد لكلّ مخاطب ، ولو كان معدوما حين الخطاب لا يمكن أن يطلع على القرائن الحالية.

قوله : إذ كثير من الأمور قد اختفت علينا ، بل لا يبعد دعوى العلم بأنّ ما اختفى (٢).

(٢) من هنا شرع في بيان الاختلالات الواقعة في الظواهر بالنسبة إلينا وهي أمور :

الأول : اختفاء القرائن الحالية والمقالية عقلية ونقلية.

الثاني : تطرّق التخصيص والتقييد إلى أكثر العمومات والإطلاقات

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٦٠.

(٢) فرائد الأصول ١ : ١٦٢.

٣٥١

بالقرائن المنفصلة.

الثالث : تطرّق انفصال القرائن المتصلة حين الخطاب بالعرض بواسطة التقطيع في الأخبار.

الرابع : اختلال ظهور الظواهر من جهة النقل بالمعنى. وهذه الأربعة مذكورة في المتن.

الخامس : الاختلال الحاصل من دسّ الظالمين في كتب أصحاب الأئمة.

السادس : اختلاف عرف أصحاب النبي والأئمة (عليهم‌السلام) مع عرفنا كما علمناه في موارد كثيرة ، وهكذا يكون حال كل لسان بالنسبة إلى الأزمنة المتطاولة.

السابع : العلم بصدور الأخبار الكثيرة تقية من المخالفين.

ثم لا يخفى أنّ الظن أو الاحتمال بالاختلالات المذكورة كاف في منع حجية الظواهر بالنسبة إلينا فضلا عن العلم بها ، ومال المصنف إلى دعوى العلم بالاختلال بقوله : ولا يبعد دعوى العلم بأنّ ما اختفى علينا من الأخبار والقرائن أكثر مما ظفرنا بها ، وهذا يرجع إلى ما استدلّ به الأخباري كما سبق على عدم حجية ظواهر الكتاب بالخصوص بالعلم الإجمالي بعروض التخصيص والتقييد والنسخ لظواهر الكتاب فتسقط عن الظهور والحجية ، فيصير الإشكال أصعب من إشكال احتمال الاختلال أو ظنّه ، فلا تغافل.

قوله : ودعوى أنّ الغالب اتصال القرائن (١).

(١) هذه الدعوى في محلّها ، لكن بالنسبة إلى غير الأدلة الشرعية اللفظية من

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٦٣.

٣٥٢

الكتاب والسنّة من كلام أغلب أهل المحاورة في كل لسان ، وأما بالنسبة إلى ما نحن بصدده من ظواهر الكتاب والسنّة فالأمر بالعكس ، فإنّ الغالب انفصال القرائن إما بالذات أو بالعرض كما أشار إليه في المتن.

قوله : هذا غاية ما يمكن من التوجيه لهذا التفصيل ، ولكن الإنصاف أنّه لا فرق ، إلى آخره (١).

(١) نعم ما وجّه كلام المفصّل ونعم ما أجاب عنه لكن بالنسبة إلى التفصيل بين من قصد إفهامه ومن لم يقصد بالبيان الذي ذكره بقوله : لأنّ أهل اللسان إلى آخره ، إلّا أنّ الإشكال بالنسبة إلى الاختلالات المذكورة بعد باق ، لكن يستفاد جوابه مما ذكره أخيرا من الإجماع والسيرة من العلماء وأصحاب الأئمة (عليهم‌السلام) بالعمل بالظواهر التي قد حصل أو احتمل أو ظنّ فيها الاختلالات المذكورة أو بعضها بحيث لم ينكره أحد (٢) هذا مع أنّه يمكن أن يقال إنّ عملهم كان من جهة حصول القطع لهم من ظواهر الأخبار غالبا ، لأنّهم كانوا يسمعونها من الإمام (عليه‌السلام) مشافهة أو بوسائط قليلة ، ويشهد بذلك أنّا نجد من أنفسنا حصول القطع بالمراد في محاورة بعضنا بعضا غالبا إن لم يكن دائما ، والألفاظ التي نستعملها كألفاظهم يمكن فيها المجاز والتقييد والتخصيص حتى أنّ احتمالنا لإرادة خلاف الظاهر في غاية الندرة ، ومع ذلك كله فالاعتماد بالإجماع والسيرة المزبورين على أنّ الظواهر الظنية كانت حجّة عند المجمعين من باب الظنّ الخاص ، ويستكشف من ذلك رضاء الإمام (عليه‌السلام) بذلك مشكل.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٦٣.

(٢) أقول : لكن يبقى شيء وهو أنّه لم يعلم أنّ عملهم كان من باب الظن الخاص الذي نحن بصدد إثباته ، بل لعلّه كان من باب الظن المطلق الذي يدّعيه المفصّل.

٣٥٣

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ حصول القطع لهم في جميع الظواهر غير معلوم بل معلوم العدم ، ولم يكن باب العلم منسدا عليهم بالنسبة إلى الباقي ، لأنّه كان يمكنهم تكرار السؤال حتى يحصل لهم القطع بالحكم ، ولكن كانت سيرتهم مع هذا الحال العمل بالظواهر الظنية وكان أئمتهم (عليهم‌السلام) مع علمهم بالحال يقرّرونهم على ذلك ، بل ربما يأمرونهم به بمثل خذوا معالم دينكم من فلان وفلان ، فيكشف ذلك عن جواز عملهم بالظواهر التي سنح فيها بعض الاختلال ، وذلك يكفينا في إثبات حجية الظواهر بالخصوص.

قوله : وإن قلنا بشمول الخطاب للغائبين لعدم جريان أصالة عدم الغافلة في حقّهم مطلقا (١).

(١) أيّ مانع من جريان أصالة عدم الغافلة في حقّ الغائبين لو كانوا مخاطبين ومقصودين بالإفهام بعد وجودهم ووصول الخطاب إليهم ، بل لعلّهم أولى بعدم الغافلة عن مدلول الكلام لمكان سعيهم وبذل وسعهم وكثرة اجتهادهم في فهم مداليل الخطابات حتى أنّهم يصنّفون الكتب في ذلك ويبالغون في التأمل وتدقيق النظر ، وما ذكره في بيان ردّ التفصيل من قوله : لأنّ الظن المخصوص إن كان هو الحاصل من المشافهة الناشئ عن ظن عدم الغافلة والخطأ إلى آخره ، مدفوع بعدم كونه من هذا ولا من ذاك ، بل من جهة كون الغائبين مخاطبين مقصودين بالتفهيم ، وقبح خطاب ما له ظاهر وإرادة غيره ، مع عدم نصب قرينة يعقلها المخاطب الغائب.

نعم ، لو قيل إنّ الظن المخصوص هو الحاصل للمخاطبين على تقدير عدم حصول الاختلال للظواهر وقد حصل ، لكان وجها وجيها.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٦٦.

٣٥٤

قوله : ومما يمكن أن يستدلّ به أيضا زيادة على ما مرّ من اشتراك أدلة حجية الظواهر وإجماعي العلماء وأهل اللسان (١).

(١) محصّله : أنّ الأخبار المتواترة معنى الواردة في عرض الأخبار على الكتاب والأمر بالرجوع إليه دالّة على حجية ظواهر الكتاب للمخاطبين بالأخبار المزبورة مع أنّهم غير المخاطب من الكتاب ، فثبت حجية ظواهر الكتاب على بعض من لم يكن مخاطبا بها وهو المخاطب بالأخبار المزبورة ، وبضميمة أدلة الاشتراك في التكليف يتمّ المطلوب.

لكن لا يخفى أنّ الاستدلال المذكور يتوقف على مقدمات ثلاثة :

الأولى : العلم بأنّ ما يكون عندنا ظاهرا من هذه الأخبار يكون ذلك بعينه ظاهرا منها عند المخاطبين المشافهين ، وإلّا فلقائل أن يقول إنّ ما نفهمه منها من ظهورها في حجية الكتاب لعله لم يكن ظاهرا عندهم ، بل كانوا يفهمون منها غير ما نفهمه. لكن هذا الاحتمال ضعيف جدا ، ودعوى العلم بموافقة الظاهر عندنا للظاهر عندهم قريبة ، بل يمكن أن يقال إنّا نقطع بصدور هذا المضمون عنهم (عليهم‌السلام) ولا يهمّنا إثبات موافقة الظاهرين من بعد ذلك.

الثانية : أن تكون أدلة الاشتراك في التكليف جارية في المسائل الأصولية كجريانها في المسائل الفقهية لتشمل ما نحن فيه من حجية ظاهر الكتاب ، والظاهر أنّه كذلك فيما كان مما يتوقف عليه استنباط المسائل الفرعية على ما هو المحقق في محلّه.

الثالثة : العلم بأنّ حالنا بالنسبة إلى ظواهر الكتاب كحالهم ، فلو احتمل

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٦٦.

٣٥٥

أنّهم كانوا يجدون قرائن تصرفهم عما هو ظاهر عندنا إلى غيره ونحن فاقدون لها لم تجر أدلة الاشتراك لاختلاف الموضوع ، لكن لا يبعد دعوى العلم هنا أيضا ، فإنّه لم يكن لهم قرينة تصرفهم عن ظاهر الكتاب سوى أصولهم المشتملة على الروايات التي رووها عن أئمتهم (عليهم‌السلام) وهي موجودة عندنا أيضا ، بل يمكن أن يدّعى أنّ القرائن الموجودة عندنا أكثر ، لأنّ كل واحد من أصحاب الأئمة (عليهم‌السلام) لم يكن عنده جميع الأصول بل كان عنده أصل واحد أو اثنان أو ثلاثة ، ونحن بحمد الله اجتمعت عندنا كتب منها كبيرة الحجم قد جمعت من الأصول الكثيرة المتشتتة عندهم.

قوله : ومما ذكرنا يعرف النظر فيما ذكره المحقّق القمّي (قدس‌سره) إلى آخره (١).

(١) ما نسبه إلى المحقق القمي (قدس‌سره) من الإيراد والجواب مذكور في كلامه بوجه آخر وبعبارة أخرى لكنه قريب مما نسب إليه ، وذكر في الجواب عن الإيراد وجوها أربعة أو خمسة اقتصر المصنف (قدس‌سره) على نقل اثنين منها ، كما أنّه تمسك في الإيراد بخبر الثقلين وأخبار العرض على الكتاب أيضا ، والمصنف اقتصر على الأول ولعله لا بأس بذلك في مقام تلخيص كلامه وإن كان ظاهر الكلام نسبة نفس العبارة إليه ، والأمر سهل.

قوله : بل يمكن أن يقال إنّ خبر الثقلين ليس له ظهور إلّا في وجوب إطاعتهما (٢).

(٢) يحتمل هذا الكلام وجهين :

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٦٧.

(٢) فرائد الأصول ١ : ١٦٨.

٣٥٦

الأول : أنّ الخبر بصدد بيان أنّ الثقلين مرجع الأمة لا فلان وفلان والقياس والاستحسان ، ولا يكون ناظرا إلى كيفية الرجوع إليهما أصلا ، وهو من هذه الحيثية مهمل ، لكن هذا خلاف الظاهر من الخبر خصوصا بعد ملاحظة ذيله «ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا أبدا» فإنّ الظاهر من التمسك العمل بما يفيدانه أو أعمّ من ذلك.

الثاني : أنّ المستفاد من الخبر وجوب العمل بما يفيده الثقلان واقعا لا ما ظنّ بإفادتهما له ، ولازمه تحصيل القطع بمراد الكتاب ورأي الإمام (عليه‌السلام) ، ولا يكتفى بالظن بالمراد ، إلّا أنّ هذا يرجع إلى ما ذكره المحقق القمي في الوجه الثاني من الأجوبة عن الإيراد من قوله نمنع أوّلا دلالتها على التمسك بمتفاهم اللفظ من حيث هو متفاهم اللفظ لم لا يكون المراد لزوم التمسك بالأحكام الثابتة والمرادات المعلومة عنه كما هو ثابت في أكثرها انتهى ، فكيف يجعل ذلك من وجوه الردّ على المحقق ، ولعله إلى ذلك أشار بقوله فافهم.

قوله : ولا يخفى أنّ في كلامه (قدس‌سره) على إجماله واشتباه المراد منه كما يظهر من المحشّين مواقع للنظر (١).

(١) لعله أراد بإجمال كلامه ما أشرنا إليه سابقا من احتمال كونه مفصّلا بالنسبة إلى المشافه وغيره ، أو بالنسبة إلى المخاطب وغيره ، أو بالنسبة إلى من قصد بالإفهام وغيره ، لكن الإنصاف أنّ الكلام ظاهر إن لم يكن صريحا في تفصيل صاحب القوانين بعينه ولعله أخذ من كلام المعالم ، ولا يخفى أنا راجعنا ما عندنا من حواشي المعالم مثل حاشية سلطان العلماء والمولى الصالح المازندراني والمدقق الشيرواني والشيخ محمد تقي فلم نجد في واحد منها ما

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٦٩.

٣٥٧

يؤذن بإجمال كلام المعالم.

نعم ، أورد عليه السلطان وتبعه غيره بأنّه يستفاد منه أنّه إن كان خطاب المشافهة شاملا للمعدومين أيضا تم إيراد المورد بقوله لا يقال ، وليس كذلك إذ لا يستفاد من الكتاب سوى أحكام قليلة مجملة لا يفي بأبواب الفقه ، فالدليل على تقديره أيضا تام.

ثم لا يخفى أنّا لم نجد موقعا للنظر في كلامه سوى إيراد السلطان وهو وارد على المحقّق القمي أيضا ، وإن ذكر غير واحد وجوها للنظر ضعيفة حتى أنهاها بعضهم إلى عشرة ، ولا فائدة مهمة في نقلها وتزييفها بعد وضوح كون كلام المعالم موزونا متينا ، فليتأمّل.

قوله : ثم إنّك قد عرفت أنّ مناط الحجية والاعتبار في دلالة الألفاظ هو الظهور العرفي ، إلى آخره (١).

(١) وجوه المسألة وأقوالها بحسب ما ذكره في المتن خمسة :

الأول : ما اختاره المصنف من حجية الظواهر مطلقا من باب الظن النوعي وسمّاه شريف العلماء بالسببية المطلقة.

الثاني : حجيتها مشروطة بعدم حصول الظن غير المعتبر على خلافها وسماه شريف العلماء بالسببية المقيّدة.

الثالث : حجيتها مشروطة بحصول الظن الفعلي على وفقها ، ومرجعه إلى حجية الظن الفعلي الحاصل منها ، ولهذا الاعتبار سمّاه شريف العلماء بالحجية من باب الوصف.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٦٩.

٣٥٨

الرابع : حجيتها مشروطة بعدم اقتران الكلام بما يصلح أن يكون صارفا عن المعنى الحقيقي.

الخامس : حجيتها ما لم يحصل احتمال إرادة خلاف مقتضى اللفظ من أمارة معتبرة.

وهناك وجه سادس هو أقرب بالاعتبار من التفاصيل الأربعة المتقدمة ، وهو القول بالتفصيل بين الظهور الناشئ من الوضع فيعتبر مطلقا ، وبين الظهور الناشئ من غير الوضع كانصراف المطلق إلى الأفراد الشائعة ، وظهور الأمر الواقع عقيب الحظر في الإباحة ، وظهور اللفظ المشترك فيما اشتهر من معانيه وأمثال ذلك ، فيعتبر هنا عدم الظن على الخلاف أو الظنّ على الوفاق.

وتحقيق المقام أن يقال : إنّ دليل حجية الظواهر منحصر في الإجماع والسيرة وبناء العقلاء ، ولمّا كان الإجماع والسيرة من الأدلة اللبّية ولا يستفاد منهما عموم أو إطلاق بمثل الأدلة اللفظية ، لا جرم يقتصر فيهما على القدر المتيقّن ، فكلّ ما شك فيه باعتبار التفاصيل الأربعة بل الخمسة لا يحكم بحجية الظواهر فيه ، إلّا أن يدّعى كما ادّعى المصنف عدم حصول الشكّ للفقيه في حجيتها مطلقا بعد ملاحظة الإجماع والسيرة المذكورين ، سيما بعد ملاحظة عدم مناقشة أحد من المجمعين في اعتبارها بوجه من الوجوه المذكورة ولا غيرها ، لكن هذه الدعوى وإن لم تكن بعيدة كل البعد ، لكن ليس بحيث تطمئنّ إليها النفس ، فلم يبق إلّا بناء العقلاء الذي هو بأيدينا ، والذي نراه ظاهرا أنّ بناءهم على العمل بالظواهر بعد حصول القطع بالمراد أو الظنّ ولا أقل من عدم الظن على الخلاف ، وإلّا فيتوقفون ويلتمسون دليلا آخر.

٣٥٩

قوله : وهذا وإن لم يرجع إلى الاستصحاب المصطلح إلّا بالتوجيه (١).

(١) كأن يقال برجوعه إلى استصحاب عدم ورود ما ينافي العموم أو الإطلاق ، لكن ليس هذا من استصحاب حكم العام والمطلق ، بل بعد جريان الاستصحاب المذكور يثبت حكم العام والمطلق.

قوله : وربّما فصّل بعض المعاصرين ـ إلى قوله ـ وهذا تفصيل حسن متين لكنّه تفصيل في العمل ، إلى آخره (٢).

(٢) الظاهر أنّ المراد منه الشيخ محمد تقي صاحب الحاشية (٣) وقد ذكر في ذيل مسألة أصالة الحقيقة كلاما طويلا يستفاد منه ما نسب إليه المصنف ، ولذا قال في المتن فصّل بعض المعاصرين تفصيلا يرجع حاصله إلى أن ... ، ومحصّل ما أفاده المصنف على التفصيل المذكور بعد ما استحسنه ، أنّه ليس من التفصيل في الحقيقة في المسألة ، بل هو تمييز موارد الظهور عن موارد الإجمال ، ففي مورد الإجمال لا كلام لأحد ، وفي مورد الظهور لا كلام لهذا المفصّل في الحجية مطلقا كما قلنا.

لكن يرد عليه :

أوّلا : أنّ عنوان كلام صاحب الحاشية حجية أصالة الحقيقة لا حجية الظواهر العرفية ، فإذن يكون التفصيل في محلّه وتفصيلا لما عنون به الكلام ، ويمكن إرجاع كلام المتن إلى هذا الذي ذكرناه في مقام الإيراد حتى يكون مقصوده توضيح المراد لا الإيراد ، إلّا أنّه يرد عليه أنّ نقل هذا الكلام في مقامنا

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٧٠.

(٢) فرائد الأصول ١ : ١٧٠ ـ ١٧١.

(٣) هداية المسترشدين : ١ : ٢١٢.

٣٦٠