حاشية فرائد الأصول - ج ١

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-015-2
الصفحات: ٦٩٤

قوله : وقوله (عليه‌السلام) «إنّما يحشر الناس على نيّاتهم» (١).

(١) لا دلالة فيه لما أراده بوجه ، لأنّ الظاهر من الخبر أنّ حشر الناس على حسب نياتهم واعتقاداتهم في حسن الحال وسوء الحال ، ولا ينظر إلى صورة أعمالهم ، بل إلى ما نووا فيها من الخير أو الشر.

قوله : وما ورد من تعليل خلود أهل النار في النار ، إلى آخره (٢).

(٢) لعل الظاهر منها أنّ البناء على المعصية دائما من أكبر المعاصي والبناء على الطاعة كذلك من أعظم الطاعات وذلك سبب الخلود ، غاية ما في الباب أنّه من أفعال القلب لا من أفعال الجوارح ، لا أنّ القصد إذا تعلّق بالمعصية يوجب الخلود في النار وإذا تعلّق بالطاعة يوجب الخلود في الجنة ، وكم فرق بين المعنيين فإنّ العبد لو قصد العصيان ثم عصى لا يعدّ عند العقل والعقلاء مستحقا لعقابين ، بخلاف ما لو كان بانيا على العصيان دائما وعصى أيضا فيستحق عند العقل عقابين وذلك ظاهر.

قوله : وما ورد من أنّه إذا التقى المسلمان بسيفهما (٣).

(٣) يمكن أن يكون الوجه في دخول المقتول في النار أنّه داخل في عنوان المحارب لتشهير السلاح على المسلم ، وأنّه معصية توجب الحدّ على ما هو مذكور في باب الحدود ، إلّا أنّ ذلك ينافي تعليله (عليه‌السلام) بأنّه أراد قتل صاحبه ، فليتأمل.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٦.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٤٦.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٤٦.

١٠١

قوله : وما ورد في العقاب على فعل بعض المقدّمات بقصد ترتّب الحرام (١).

(١) تدلّ هذه الأخبار على أنّ هذه الأفعال بهذا القصد من المحرّمات الأصلية لا أنّ العقاب على القصد لتعلّقه بمقدمة المحرّم كما هو مراد المصنف.

قوله : وفحوى ما دلّ على أنّ الرضا بفعل كفعله (٢).

(٢) مدلول الرواية أنّ الرضا بالإثم من الأفعال المحرّمة القلبية ، وأين ذلك من حرمة القصد إلى المعصية ، وكذا يجاب عمّا ورد في تفسير قوله تعالى : (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٣).

قوله : ويؤيّده (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٤).

(٣) مدلول الآية أنّ حبّ إشاعة الفاحشة في المؤمنين من المحرّمات ، وأنّه ملكة رذيلة كالبخل والكبر والحسد من الأخلاق المحرّمة ، فيجب تهذيب الأخلاق الرديّة بالمجاهدة والرياضة ، وكذا قوله تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً)(٥) في مقام مذمّة التكبّر وإرادة الفساد نوعا بحسب خلقه ، لا القصد إليه ولو مرّة كما لا يخفى.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٧.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٤٧.

(٣) آل عمران ٣ : ١٨٣.

(٤) فرائد الأصول ١ : ٤٧.

(٥) القصص ٢٨ : ٨٣.

١٠٢

قوله : وقوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ)(١).

(١) مدلول الآية : أنّ الله تعالى يحاسب ما في الأنفس تبدوه أو تخفوه من الاعتقادات الحقة أو الباطلة أو سائر الأفعال القلبية مما هو محلّ للمحاسبة ، لا أنّ جميع ما في الأنفس من الإدراكات والخيالات والإرادات محلّ المحاسبة يحاسبون به ، مضافا إلى أنّ المحاسبة غير العقاب فإنّها تشمل المباحات أيضا ، فتأمل جدا.

قوله : ويمكن حمل الأخبار الأولة على من ارتدع عن قصده بنفسه (٢).

(٢) الأظهر في وجه الجمع على تقدير تمامية الدلالة من الطرفين حمل الأخبار الأوّلة على القصد المجرّد ، والأخيرة على النيّة المقارنة للمعصية الواقعية أو مجرّد الاستحقاق ، لكن الثاني بعيد لظهور الأخبار في فعلية العقاب على النيّة المنافية للعفو.

قوله : ثم إنّ التجرّي على أقسام ، إلى آخره (٣).

(٣) قد يزاد في الأقسام القصد إلى المعصية الحكمية والاشتغال بمقدماتها والتلبّس بما يحتمل كونه معصية برجاء تحقّقها في موارد أصالة البراءة واستصحابها فإنّه متجرّ أيضا ، بل إذا كان التلبّس لعدم المبالاة بمصادفة الحرام الواقعي لا من جهة الاعتماد على البراءة.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٧ ـ ٤٨.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٤٨.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٤٨.

١٠٣

قوله : كما في موارد أصالة البراءة واستصحابها (١).

(١) قد مرّ سابقا أنّ التجرّي لا ينحصر مورده في القطع بل يجري في سائر موارد الأمارات والأصول ، ولذلك قلنا هناك إنّ المبحث ليس من مباحث خصوص القطع ، وكلام المصنف هنا شاهد على ذلك لأنّ الأقسام الثلاثة الأخيرة من الستّة ليست فيها إلّا مخالفة أصل من الأصول فتفطّن.

قوله : وقد ذكر بعض الأصحاب أنّه لو شرب المباح تشبيها بشرب المسكر فعل حراما (٢).

(٢) هذا المثال خارج عمّا نحن فيه موضوعا ومناطا ، وإن كان فيه جهة للحرمة فمن حيث الاستهزاء بالشرع وأحكامه لا من جهة التجرّي كما لا يخفى.

قوله : قد قال بعض العامّة نحكم بفسق المتعاطي ذلك (٣).

(٣) ما ذكره ذلك البعض في وجه الفسق من دلالته على عدم المبالاة بالمعاصي غير تامّ ، إذ بمجرّد ذلك لا ترتفع العدالة ، لأنّها إن كانت عبارة عن الاجتناب عن المعاصي فعلا فلم تتحقق المعصية لعدم حرمة التجرّي بالفرض كما يدل عليه تعليله ، وإن كانت عبارة عن الاجتناب مع الملكة فكذلك لأن فعل الكبيرة لا ينافي وجود الملكة فضلا عن التجرّي غير المحرّم ، نعم لو أصرّ على التجرّي واتفق عدم المصادفة في الكلّ فإنّ ذلك كاشف عن عدم الملكة أو زوالها فيحكم بعدم العدالة حينئذ.

والحاصل : أنّ الحكم بفسق المتجرّي مرة أو مرّتين على تقدير عدم

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٩.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٥٠.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٥٠.

١٠٤

حرمة التجري لا وجه له ، وكذلك الحكم بفسق تارك الاحتياط في الموارد التي يجب فيه الاحتياط ليس بصحيح نظير المتجرّي وإن لم يعلم بمخالفة الواقع.

بيان ذلك : أنّ القطع وجميع ما يقوم مقامه من الطرق والأصول مشتركة في أنّ من خالف مؤدّاها وتبيّن أنه خالف الواقع أيضا تبيّن أنّه معصية ، وإن تبيّن أنه لم يخالف الحكم الواقعي فهو متجرّ ، وإن بقي مشكوكا يحكم أيضا بأنّه معصية ظاهرا ويحكم بفسق مرتكبه إن كانت كبيرة ، سوى أصل الاحتياط فإنّ من خالفه ولم يعلم أنّه خالف الحكم الواقعي أم لا لم يحكم بكونه عاصيا وفاسقا ، والسر في ذلك عدم العلم بتحقّق المخالفة منه ولعلّ ما ارتكبه لم يكن حراما واقعا ، وإن كان مأمورا بالاجتناب بمقتضى الاحتياط اللازم المراعاة ، لكن لمّا كان الأمر بالاحتياط شرعا أو عقلا إرشاديا قد لوحظ فيه المحافظة على المحرّم الواقعي في البين لا شرعيا لوحظ فيه مراعاة الاحتمال تعبّدا ، لم يلزم من مخالفته سوى ما يترتّب على مخالفة الواقع إن اتفق ، والمفروض عدم العلم بمخالفة الحكم الواقعي ، ويتفرّع عليه عدم العلم بالعصيان والفسق.

لا يقال : إنّ ذلك يجري في مخالفة سائر الأصول والأمارات إذ لم يعلم فيها مخالفة الحكم الواقعي أيضا ، ويتفرّع عليه عدم العلم بالعصيان.

لأنّا نقول : أمّا على القول بكون مؤدّى الأصول والأمارات أحكاما شرعية ظاهرية فظاهر أنّه عاص بمخالفتها سواء خالف الحكم الواقعي أم لا ، وأما على القول بكون مؤدّاها أعذارا شرعية وليس إلّا الأحكام الواقعية التي قد توصل إليه الأمارة والأصل وقد لا توصل كما هو الحق وقد سبق ، فالوجه في الحكم بفسق مخالفها أنّ أدلّة حجّية ذلك الأصل أو الأمارة ناطقة بتنزيل مؤدّاهما منزلة الواقع في جميع الآثار إلّا أن ينكشف الخلاف ، فمن خالفها

١٠٥

خالف الواقع بحكم دليل التنزيل ، وهذا بخلاف أدلة الاحتياط فإنّها لم تنزّل الاحتمال منزلة الواقع حتى يلزم من مخالفته مخالفة الواقع ولو تنزيلا ، بل مدار الموافقة والمخالفة فيه نفس الواقع الذي روعي جانبه بالاحتياط ، هذا كله على تقدير القول بعدم حرمة التجرّي.

وأما على القول بالحرمة فإنّ الظاهر أنّ التجري على الصغيرة مرّة أو مرّتين لا يوجب فسقا ، لأنّ التجرّي على الصغيرة لا يزيد عليها نفسها في حكم العقل إن كان المكلف عالما بأنّ ما أقدم عليه معصية صغيرة ، نعم لو اعتقدها كبيرة وتجرّى بها وكانت صغيرة في الواقع فلا يبعد أن يكون ذلك كالتجرّي على الكبيرة في حكم العقل ، وأيضا لا ريب أن الإصرار على التجرّي مطلقا يوجب الفسق ، إذ لا يخلو من أن يكون التجرّي معصية كبيرة ليوجب الفسق أول مرة أو صغيرة فيكون الإصرار عليها كبيرة ، فلم ينفكّ عن ارتكاب الكبيرة على كل تقدير ، مضافا إلى ما مرّ في القسم الأول من كشف الإصرار عن عدم الملكة أيضا ، فعلى القول بأنّ العدالة هي الملكة يحكم بعدم العدالة من جهتين : عدم الملكة وصدور الكبيرة ، وعلى القول الآخر من جهة واحدة هي ارتكاب الكبيرة.

وأما التجرّي على الكبيرة مع عدم الإصرار ، فإن قلنا إن معنى الكبيرة ما أوعد الله عليه النار بعنوانه الخاص أو ما عدّ في الأخبار كبيرة فهذا ليس من ذلك فليس بكبيرة ، وإن قلنا إنّ الكبيرة لا تنحصر في ذلك بل كل ما كان عند الله كبيرا في مرتبة أحد الكبائر المعلومة فهي أيضا كبيرة ، فلا طريق لنا إلى معرفة ذلك في التجرّي على الكبائر ، إذ يمكن أن يكون التجرّي في كلّ معصية في مرتبة تلك المعصية في الصغر والكبر ، ويمكن أن يكون دونها حتى يلحق بالصغائر ، فلا يمكننا الحكم بأحدهما. نعم ، لو كان عادلا في السابق نحكم

١٠٦

باستصحاب العدالة وإلّا فالأصل عدم العدالة ، إلّا أنّ إجراء هذه الأصول بالنسبة إلى العمل في مقام الشكّ غير ما نحن بصدده من الحكم بالعدالة أو الفسق الواقعي فتدبّر.

١٠٧

التنبيه الثاني :

في حجية القطع المستند إلى الدليل

العقلي ومخالفة الأخباريين

قوله : وينسب إلى غير واحد من أصحابنا الأخباريين عدم الاعتماد على القطع الحاصل من المقدّمات العقلية القطعيّة (١).

(١) لا يخفى أنّ ما نسبه هنا إلى الأخباريين من مخالفتهم في الاعتماد على القطع الحاصل من المقدمات العقلية فيما يكون كاشفا محضا مخالف لما أسند إليهم في أوّل الكتاب في مقام تقسيم القطع إلى الطريقي والموضوعي من أنّ الأخباريّ قائل باعتبار القطع الحاصل من الطرق الشرعية موضوعا ، وقد أوردنا عليه هناك أنّ النسبة في غير المحلّ ، بل كلامهم ظاهر أو صريح فيما حرره هنا من إنكار القطع الطريقي الحاصل من المقدمات العقلية ، مضافا إلى ما مرّ هناك من أنّ العبارة المذكورة مما ألحقت في بعض النسخ المتأخّرة ولعله ليس من المصنف ، فتذكّر.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٥١.

١٠٨

ثم إنّه يمكن أن يكون إنكار الأخباريين لحجية هذا القسم من القطع راجعا إلى ما أنكروه من الملازمة بين حكم العقل والشرع على ما هو معنون في تلك المسألة ، لكن الظاهر أنّه غيره ، والفرق أنّ النزاع في تلك المسألة في أنّه بعد ما حكم العقل بحسن الفعل أو قبحه بمعنى استحقاق الفاعل للمدح والذم في حكم العقل فهل يحكم بكونه كذلك في حكم الشرع أيضا حتى يستكشف من ذلك أنّه مأمور به أو منهيّ عنه عند الشارع أم لا ، والنزاع هنا في أنّه بعد القطع بأنّ الفعل مأمور به أو منهيّ عنه عند الشارع وكان ذلك القطع من المقدّمات العقلية المحضة فهل هو حجّة واجب الاتّباع أم لا.

وما يقال : من أنّ اتّحاد بعض أدلة الأخباريين كبعض الأخبار التي استدلّوا بها في المقامين كاشف عن اتّحاد المقامين عندهم ، يندفع بأنّ اتّحاد الدليل لا يستلزم اتّحاد المدّعى ، ويمكن أن يستفاد من دليل واحد أمور متعدّدة ، مضافا إلى اختلاف بعض أدلّتهم الآخر ككون الأحكام العقلية كثيرة الخطأ على ما استدلوا به في مقامنا كما هو مذكور في المتن.

ثم إنّ مخالفة الأخباريين هنا هل هي في مطلق القطع الحاصل من المقدّمات العقلية في أصول الدين وأصول الفقه والفروع في المستقلّات العقلية والاستلزامات ، أم يختصّ ببعض المذكورات؟ ظاهر ما أسند إليهم المصنف بل ظاهر أكثر عباراتهم المنقولة في المتن وغيرها هو الأول ، إلّا أنّ الكلام في أنّ النزاع بهذا الوجه من العموم معقول أم لا.

فنقول : لا ريب أنّه يمكن المنع عن القطع العقلي بمعنى ترك الخوض في المقدّمات العقلية المحصّلة للقطع أحيانا أو دائما فإنّ ذلك معقول لا سترة فيه ، وكذا يمكن المنع بمعنى الإلزام على الخوض في المقدّمات الشرعية لحكمة

١٠٩

إزالة القطع الحاصل من المقدّمات العقلية فذلك أيضا أمر معقول ، إلّا أنّ الأول إنّما يتصوّر قبل حصول القطع الفعلي والثاني بعد حصوله ، أما المنع عن القطع العقلي بعد حصوله فيما يتعلّق بأصول العقائد وغيرها مما لا يترتّب عليه عمل كي يرجع هذا المنع إلى منع ذلك العمل بعد حصول القطع العقلي ، فإنّ ذلك غير معقول ضرورة كونه غير مقدور ، فالمنع عنه من قبيل التكليف بما لا يطاق كأن يقول قطعك هذا ليس بحجة وهو في قوة أن يقول : أيها القاطع لا تقطع أو لا تعتقد بقطعك ، اللهمّ إلّا أن يكون مراده تعقد بخلاف ما قطعت ، أي ابن في قلبك على خطأ عقلك بناء لا أصل له ، نظير التشريع في عكسه ، فكما أنّ المشرّع (لعنه الله) يبني في قلبه أنّ هذا الذي ليس من الشرع قطعا منه ، كذلك هذا القاطع يبني على خطأ قطعه تحكّما من نفسه ، فهذا المعنى أيضا أمر معقول ، والظاهر أنّه لا كلام في ذلك لأحد ولا ربط له لما نحن بصدد تحريره من النزاع.

وأمّا المنع عن القطع العقلي الفعليّ فيما يتعلّق بالفروع الذي يمكن إرجاعه إلى المنع عن متابعته في مقام العمل بمؤداه وهو العمدة في هذا الباب والقدر المتيقن من قصدهم في هذا النزاع ، فهذا هو الذي قد أصرّ على عدم معقوليته في أول الرسالة للزوم التناقض في حكم الشارع ، وأوردنا عليه هناك بأنّه معقول بمعنى جواز الردع عنه في مقام التنجّز والعمل على طبقه ، ومخالفة الأخباريين في المقام محمول على هذا الوجه ، بشاهد أنّهم يستدلّون على مدّعاهم ببعض الآيات والأخبار الدالة على أنّ فعلية العقاب موقوف على بعث الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حتى يكون الحكم بدلالته ودلالة ولي الله (عليه‌السلام).

ثمّ إنّ الظاهر أنّ مخالفة الأخباريّ في المقام في القطع الفعليّ كما يفصح عنه ظاهر كلامهم لا القطع الشأني بمعنى صورة القياس الذي من شأنه إفادة

١١٠

القطع لو خلّي وطبعه وإن لم يحصل فعلا لمانع ، لكنّ الظاهر بل المتيقّن أنّ مراد المحدّث الجزائري (رحمه‌الله) وصاحب الحدائق (رحمه‌الله) في مقام فرض التعارض بين القطعيين على ما سيأتي نقل كلامهما في المتن ليس إلّا القطع الشأني ، وإلّا فكيف ينسب إليهما فرض حصول القطع الفعلي على طرفي النقيض مع ما هما عليه من الفضل والفقه وجودة الفهم ، ولا يبعد أن يكون هذا مراد الجميع ، فيهون الخطب ويرجع النزاع لفظيا.

وكيف ما كان ، ثبوت مدّعى الأخباري يتوقّف على مقدّمتين : احداهما إمكان عدم حجية القطع الكذائي. وثانيهما : ثبوت المنع عنه بالدليل.

أما المقدمة الأولى : فقد مرّ بيانه مستوفى في أول الكتاب وأنّه يمكن المنع عن العمل بالقطع في مقام التنجّز ، خلافا للمصنف للزوم التناقض وغيره ، وقد سبق ما فيه فتذكّر.

وأمّا المقدّمة الثانية : فإنّهم استدلوا عليها بوجهين : الأول : ما أشار إليه المصنف أوّلا من :

قوله : لكثرة وقوع الاشتباه والغلط فيها فلا يمكن الركون إلى شيء منها (١).

(١) أمّا كثرة وقوع الاشتباه والغلط فيها فمن الواضحات ، إذ ما من مسألة من المسائل العقلية غير الضرورية غالبا إلّا وفيها أقوال من أهل المعقول الذين هم خريت فنّهم وهم في حال كمال عقولهم ، ولا شكّ أنّ سوى واحد منهم على الخطأ ، بل يحتمل أن يكون الكلّ على الخطأ وأنّ الحق مخالف لرأي الجميع.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٥١.

١١١

وأمّا أنّه لا يمكن الركون إليه مع هذا الوصف فواضح أيضا ، لعدم كونه طريقا إلى الواقع حقيقة والحال هذه ، وما يرى أنّه طريق وكاشف عن الواقع مجرّد خيال لا أصل له وإلّا لما أخطأ بهذه المرتبة من الكثرة.

فإن قلت : إنّ القاطع لا يحتمل في نفسه خطأ قطعه وإلّا لزال قطعه.

قلت : نعم ولكن الفقيه كيف يفتي بوجوب متابعة القطع الذي يعلم أكثريّة خطئه ويوقع المقلّدين في هذه الأخطاء الكثيرة ، بل القاطع أيضا إذا لاحظ كثرة الخطأ في القطع العقلي بهذه المثابة لتوقّف عن الاعتماد عليه وإن لم يحتمل في كل قطع بخصوصه خلاف ما قطع به ، واعتذر بأنّ سلوك نوع هذا الطريق كثير الخطر فيترك متابعة قطعه الخاصّ لحماية الحمى ، هذا غاية توجيه الاستدلال.

وقد يقال : إنّ كلام الأخباريّ هنا واستدلالاته يعمّ مسألة الملازمة أيضا ، ويريد إثبات كون العقل معزولا في استنباط الأحكام الشرعية بل مطلق العلوم النظرية.

أمّا عدم جواز الاعتماد على القطع العقلي بالحكم الشرعي بمعنى عدم وجوب متابعته في مقام تنجّز التكليف وإن كان الحكم ثابتا في نفس الأمر ، فقد مرّ بيان إمكانه وتقرير الدليل عليه.

وأمّا عدم جواز الاعتماد عليه بمعنى عدم جواز إثبات الحكم الشرعي به الذي عنون في قاعدة الملازمة ، فوجه معقوليته أنّ غاية ما يحكم به العقل أنّ الفعل الكذائي حسن أو قبيح يستحقّ فاعله المدح أو الذم ، وأنّه يقتضي أمر الشارع به أو نهيه عنه نظرا إلى حكمته ، لكنّه مع ذلك لا يستلزم أن يكون الشارع قد أمر به أو نهى عنه ، إذ التحقيق أنّ فعلية التكليف من الشارع تابعة لمصلحة الأمر لا المأمور به ، وإن كانت مصلحة المأمور به تكون سببا لمصلحة الأمر

١١٢

غالبا ، إلّا أنّ المناط في التكليف مصلحة الأمر ، وحينئذ فيمكن أن يكون الأمر بما قطع العقل بحسنه خلاف المصلحة ، وكذا النهي عمّا قطع العقل بقبحه خلاف المصلحة ، كما يشاهد ذلك في عدم تكليف الشارع للصبي المراهق الذي هو في غاية الفطانة ويحكم عقله بقبح القبائح وحسن الأفعال الحسنة بمثل العقلاء البالغين ، مع أنّ تكليف مثل هذا الصبي وسائر البالغين في حكم العقل سواء لو لم يلاحظ جهة مصالح الأمر ، ولعلّ مصلحة عدم تكليف مثل هذا الصبي مراعاة اطراد الحكم لعموم الخلائق ، مع أنّ الغالب عدم كمال فطنتهم في هذا السن.

وأمّا تقرير الاستدلال عليه ، هو أنّ الأحكام الشرعية تابعة للمصالح النفس الأمرية ، وما يدرك العقل حسنه أو قبحه يتبعه الحكم إذا كان ذلك موافقا لنفس الأمر ، ولمّا وجدنا كثرة الاشتباه والغلط في الأحكام العقلية لم نعتمد على كونها موافقا لنفس الأمر حتى نحكم بثبوت الحكم الشرعي على طبقها. وما يقال : إنّ القاطع لا يحتمل اشتباهه وخطأه في قطعه فقد مرّ جوابه آنفا.

قوله : فإن أرادوا عدم جواز الركون بعد حصول القطع ، فلا يعقل ذلك في مقام اعتبار العلم من حيث الكشف ، ولو أمكن الحكم بعدم اعتباره لجرى مثله في القطع الحاصل من المقدّمات الشرعية طابق النعل بالنعل (١).

(١) قد أجاب عن هذا الشق من الترديد بوجهين :

الأول : عدم معقولية طرح الحكم العقلي وترك الاعتماد عليه بعد حصوله.

والثاني : النقض بكثرة الخطأ في الشرعيات أيضا بعين التقرير في

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٥١.

١١٣

العقليات.

أما الأول : فقد عرفت وجه المعقولية مرارا فلا نعيد.

وأما الثاني : فقد يقال من جانبهم إنّ المكلّف إذا قطع من المقدمات الشرعية فقد أمن من العقاب بموافقته ، وإن أخطأ ما أخطأ فهو معذور ، بخلاف ما لو قطع من المقدمات العقلية الصرفة فلم يأمن من العقاب على تقدير خطئه ، اللهم إلّا أن يقال : إنّ المقدمات الشرعية لا تفي بجميع جهات أدلة الأحكام الشرعية بل لا بد من توسيط بعض المقدمات العقلية ، ويعود المحذور كما لا يخفى على الفطن الخبير بمدارك الأحكام.

قوله : إلّا أنّ الشأن في ثبوت كثرة الخطأ أزيد ممّا يقع في فهم المطالب من الأدلة الشرعية (١).

(١) قد عرفت الجواب عن كثرة الخطأ في الشرعيات وأنّ المكلف معذور فيها ، مضافا إلى منع كثرة الخطأ في الشرعيات بمثابة كثرته في المقدمات العقلية.

والتحقيق في الجواب عن هذا الدليل : أنّ بناء العقلاء مستقرّ على متابعة القطع من غير نكير ، ولم يثبت من الشارع الردع عنها على ما سيأتي في الجواب عن الدليل الثاني ، ويستكشف من ذلك إمضاء الشارع لهذا الطريق في متابعة أحكامه أيضا وإلّا لمنع منه ، اللهمّ إلّا أن يمنع بناء العقلاء على متابعة مثل هذا الطريق الكثير الخطأ مع وجود الطريق المأمون فيه.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٥٢.

١١٤

قوله : قال في عداد ما استدلّ به على انحصار الدليل في غير الضروريات الدينية بالسماع عن الصادقين (١).

(١) إن أراد بالسماع عن الصادقين السماع عنهم مشافهة فله وجه في الجملة ، وإن أراد ما هو أعم من الأخبار الآحاد المودعة في الكتب التي بأيدينا فلا ينفعه شيئا ، لأنّ حجّيتها هي المعركة العظمى للآراء واختلفوا فيها هذا الاختلاف الشديد في أصلها وفي أقسامها ، ولا ينتهي مباديها إلى مادة قريبة من الإحساس لتسكن إليها نفس المحدّث أو غيره من أصحابه وغيرهم كما يشاهد ذلك بمراجعة كتب الأصول في مباحث أخبار الآحاد من أوّله إلى آخره ، حتى أنّ أصحابنا الأخباريين أيضا لم يتّفقوا على كلمة واحدة خصوصا في مقام التعارض واعتمدوا على مرجّحات ظنية مختلفة غير منصوصة أو منصوصة متعارضة ، ودعوى أنّه يحصل القطع بمراداتهم (عليهم‌السلام) من هذه الأخبار مع هذا الوصف وتحصل العصمة عن الخطأ أيضا وإن كان خطأ فهو معفوّ عنه ، فيها ما لا يخفى على الفطن العارف.

قوله : الدليل التاسع مبني على مقدمة دقيقة شريفة تفطّنت لها بتوفيق الله تعالى (٢).

(٢) يظهر مما حقّقه في هذه المقدمة أنّ نظره إلى مطلق الأدلّة العقلية المرسومة لا القطع الفعلي الوجداني الذي نتكلّم عليه ، لوضوح أنّ أكثر ما ذكره في كلا القسمين من العلوم النظرية لا يفيد علما ولا اعتقادا ، وإن اقتضاه صورة البرهان الذي أقيم على المطلب ، فالأولى أن يوجّه كلامه بأنّ ما كان من قبيل

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٥٢.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٥٢.

١١٥

القسم الأول مما ينتهي إلى مادة قريبة من الإحساس يفيد العلم والاعتقاد فيتّبع ، وما كان من قبيل القسم الثاني مما ينتهي إلى موادّ بعيدة من الاحساس وتحصل فيه كثرة الخطأ فلا يحصل منه علم ولا اعتقاد ، كما نجد ذلك في أنفسنا من مراجعة ما حقّقوه في جلّ مسائل المعقول في جميع فنونه وإن لم نقدر على ردّ أكثر ما أقاموه برهانا على مذاهبهم المختلفة ، ومع ذلك لا نجزم بنتائجها ، وعلى هذا التوجيه فالنزاع بيننا وبين المحدّث بحسب المعنى في أمر يسير أو منفيّ بالمرة.

قوله : قلت : إنّما نشأ ذلك من ضمّ مقدمة عقلية باطلة بالمقدمة النقلية (١).

(١) ليت شعري أيّ مقدمة عقلية صحيحة أو باطلة يتمسّك بها الأصوليون في الشرعيات لا يحتاج إليها المحدّث في الفقه ويتمسّك في تلك المقدمة بالسماع عن الصادقين (عليهم‌السلام) ويعصم عن الخطأ ، وكيف ذلك ونحن نرى مصنّفات أصحابنا الأخباريين في الفقه على طريقة غيرهم مع الاختلافات الواقعة بينهم كالاختلاف الواقع بين غيرهم.

نعم ، هم خالفونا في علم الأصول في بعض موارد البراءة تمسكا بأخبار الاحتياط ، وفي حجّية ظواهر الكتاب تمسكا ببعض الأخبار أيضا المعارض بمثله أو أرجح منه ، وفي حجّية حكم العقل تمسكا ببعض الأخبار التي سيأتي في الدليل الثاني في مسألتنا هذه ، والظاهر أنّ نظر المحدّث وغيره من أصحابه إلى ذلك في طرح حكم العقل والتمسك بكلام الصادقين (عليهم‌السلام) والجواب عن كل واحد منها مذكور في بابه مستوفى في كتب أصحابنا ، وسيأتي

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٥٣.

١١٦

من المصنف في مباحث البراءة والتعادل والترجيح جملة وافية من ذلك ، هذا.

مع أنّ جلّ مسائل الفقه لا يبتني على هذه الأصول ، وما يبتني عليها أيضا لا ينحصر دليله فيها غالبا ، هب أنّ ما ينحصر دليله فيها يتمسك الأخباريون فيها بالأخبار والأصوليون بحكم العقل أو ظاهر الكتاب ، فما ذا يصنع الأخباري في غير تلك الموارد مما يحتاج إلى إعمال مقدّمة لم يثبت ورودها في الشرع كأكثر مباحث أصول الفقه من مباحث الألفاظ وغيرها.

قوله : فنقول : إن تمسّكنا بكلامهم فقد عصمنا من الخطأ وإن تمسّكنا بغيرهم لم نعصم عنه (١).

(١) يريد العصمة عن الخطأ في الطريق وإلّا لزم عدم خطأ من يتمسك بكلامهم (عليهم‌السلام) أصلا ، ومن المعلوم أنّ المتمسك بكلامهم (عليهم‌السلام) أيضا قد يصيب وقد لا يصيب وإلّا لما حصل الاختلاف في فتاويهم كما لا يخفى.

قوله : قال بعد ذكر كلام المحدث المذكور : وتحقيق المقام يقتضي ما ذهب إليه (٢).

(٢) ظاهر هذا الكلام من السيد المحدّث موافقته للمحدّث الاسترابادي في حجية حكم العقل في الضروريات الدينية وفيما كان من مادة قريبة من الإحساس ، وعدم حجيته في غيره ، إلّا أنّ ما يستفاد من آخر كلامه المحكيّ في المتن تفصيل آخر قد لوحظ فيه معارضة الحكم العقلي للنقلي ، وحكم بالحجية بمفهوم كلامه فيما لم يعارضه النقل أو عارضه وكان معاضدا بالنقل ، ففي

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٥٤.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٥٤ (مع اختلاف يسير).

١١٧

الصورة الأولى يكون مثبتا للحكم وفي الثانية يكون مرجّحا لأحد النقلين على الآخر ، سواء كان من مادة قريبة من الإحساس أم بعيدة عنه ، وبعدم الحجية في غيرهما ، ومقتضى كلام المحدّث المتقدم عدم الاعتبار بحكم العقل أصلا إذا لم يكن من مادة قريبة من الإحساس ، اللهمّ إلّا أن يقيد كلام السيد بذلك أيضا بقرينة ارتضائه للتفصيل المتقدم من المحدّث الاسترابادي فيكون تفصيلا في تفصيل.

قوله : أما البديهيات فهي له وحده (١).

(١) لعله يريد بالبديهيات المتواترات والضروريات أو خصوص الضروريات الدينية ليوافق كلام المحدث المتقدم ، وإلّا فليست مسألة من مسائل الأصول والفروع تكون بديهية من سائر الطرق البديهية لا ينازع فيها الأخباري.

قوله : أقول : لا يحضرني شرح التهذيب حتى ألاحظ ما فرّع على ذلك (٢).

(٢) قد يحكى أنّه فرّع على ما ذكره من تقديم النقل على حكم العقل في صورة التعارض فروعا أربعة :

الأول : مسألة الإحباط والتكفير ، فإنّ العقل يحكم بامتناعه على ما ذكره المتكلّمون والنقل ورد بثبوتهما في الكتاب والسنّة.

الثاني : مسألة إرادة الله تعالى التي حكموا فيها بأنّها عين ذاته تعالى بحكم العقل ، والنقل دلّ على كونها زائدة على الذات.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٥٤.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٥٥.

١١٨

الثالث : مسألة إنشاء الله تعالى للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أو الإمام (عليه‌السلام) فإنّهم حكموا بامتناعه بحكم العقل والأخبار الكثيرة دلّت على جوازه ووقوعه في خصوص الصلاة.

الرابع : مسألة أول الواجبات ، فإنّهم حكموا بأنّه معرفة الله أو النظر إليها أو أوّل النظر ـ على اختلاف مذاهبهم بحكم العقل ـ والسنّة دلّت على أنّها فطرية ليست بواجبة أصلا. وفي جميع الفروع قدّم النقل على حكم العقل.

ولا يخفى أنّ كلام السيد الجزائري (رحمه‌الله) من أوّله إلى آخره ككلام المحدث الاسترابادي المتقدّم وكلام المحدّث البحراني الآتي ناظر إلى ما ذكرنا سابقا من أنّ الأدلة العقلية المرسومة في كتب علم الكلام وغيره لا تعارض الأدلة الشرعية ، ولعلها بملاحظة أنها لا تفيد الاعتقاد ، بالنظر إلى كثرة وقوع الخطأ والاشتباه فيها ، لا أنّها إذا أفادت القطع الفعلي الوجداني يقدّم عليها الدليل النقلي في صورة التعارض حتى يرد عليه ما أورده المصنف ، ويبعد كل البعد أنّ المحدثين الثلاثة مع ما هم عليه من الفضل غفلوا عن عدم إمكان حصول القطع الفعلي أو الظن على طرفي النقيض وإلّا لكان محلا للتعجب كما تعجب منه المصنف ، بل من أعجب العجائب لا يليق أن يعدّ صاحبه من أهل النظر والاستنباط والفهم والإدراك ، وحاشاهم عن ذلك.

قوله : إلّا أنّه صرّح بحجية العقل الفطري الصحيح (١).

(١) المراد من العقل الفطري الصحيح ليس بواضح ، ولعله يريد به أحكامه البديهية ظاهر البداهة مثل الواحد نصف الاثنين على ما ذكره في أول كلامه المحكي في المتن ، وحينئذ لا يخالف كلامه لما ذهب إليه المحدّثان المتقدّمان

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٥٥.

١١٩

كما يشعر بالمخالفة عبارة المصنف بقوله إلّا أنّه صرّح إلى آخره ، ولا يبعد أن يريد به العقل المستقيم الذي لم يخلطه وساوس النفس والخيالات الباطلة والشبهات الفاسدة من أهل الأهواء والعقائد الكاسدة كما يشير إليه قوله في آخر كلامه : وهو الفطري الخالي عن شوائب الأوهام الذي هو حجة من حجج الملك العلّام ، إلى آخره.

ويمكن أن يريد به العقل الكامل والذهن المستقيم الحاصل لأصحاب السليقة المستقيمة والأذهان الصافية والأفكار المتينة ، لا العقول المعوجة كما هي كذلك في أغلب الناس ، ولعله يشير إلى هذا المعنى قوله وإن شذّ وجوده في الأنام ، وإلّا فالعقل الفطري بالمعنيين الأوّلين لا يشذّ وجوده البتّة ، ولا يخفى أنّه على المعنيين الأخيرين يكون مختار المحدّث البحراني تفصيلا مغايرا لمختار المحدّثين المتقدّمين.

وكيف كان ، فإنّه لم يشر في كلامه هذا إلى وجه حجية العقل الفطري وعدم حجية غيره ، ولعله يعتمد على ما ذكره الاسترابادي من كثرة الخطأ في الأحكام العقلية إذا لم تكن حاصلة من العقل الفطري بقرينة استحسانه لكلام السيد الجزائري المستحسن لما ذكره الأمين الاسترابادي.

ويمكن أن يكون نظره إلى الأخبار الآتية في الدليل الثاني مثل «أنّ دين الله لا يصاب بالعقول» (١) وأضرابه بالنسبة إلى العقل غير الفطري ، وإلى مثل «العقل ما عبد به الرحمن» (٢) ونحوه بالنسبة إلى العقل الفطري.

وبالجملة : فكلامه ككلام غيره من أصحابه لا يخلو من الاضطراب فيما

__________________

(١) المستدرك ١٧ : ٢٦٢ / أبواب صفات القاضي ب ٦ ح ٢٥.

(٢) الكافي ١ : ١١ / ٣ من كتاب العقل والجهل.

١٢٠