حاشية فرائد الأصول - ج ١

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-015-2
الصفحات: ٦٩٤

الثالث : أنّه لو دار الأمر على القول بتقديم العلم أو الظن التفصيلي بين تحصيل العلم التفصيلي من جهة مع لزوم كثرة التكرار من جهة أخرى ، وبين الامتثال الإجمالي مع قلّة التكرار ، مثاله ما لو نذر تعدد التيمم لكل صلاة فنسي صلاتين في يوم واحد مردّدتين في الخمس ، فيمكن إتيان خمس صلوات بخمسة تيمّمات فيحصل الامتثال الإجمالي بالنسبة إلى المنذور ، كما أنه كذلك بالنسبة إلى الفائتتين ، ويمكن إتيان ثمان صلوات بتيمّمين ، وكيفيته أن يتيمّم ويصلي صبحا وظهرين ومغربا ثم يتيمّم ويصلي الظهرين والعشاءين ، فيحصل الامتثال التفصيلي بالنسبة إلى المنذور لكنّه يكثر التكرار بالنسبة إلى الفائتتين ، فعن كاشف اللثام (١) حكاية عن النهاية اختيار الثاني ، ولعل وجهه تقديم الامتثال التفصيلي ولو من جهة على الإجمالي ، وعن صاحب الجواهر (رحمه‌الله) في أوائل كتاب الطهارة (٢) اختيار الأول قائلا : إنّه لا يخلو دعوى مشروعية زيادة الصلاة كما ذكر محافظة على التجديد المذكور من تأمّل ونظر بل ومنع ، بل المتّجه حينئذ تجديد التيمّم لكلّ واحدة من الخمس ، إذ كما أنّ الصلاتين متردّدتان في الخمس فكذا التيمّمان ، ومع فرض عدم التمكّن من ذلك يسقط المتعذّر.

وفيه : أنّ تحصيل العلم التفصيلي ورفع التردّد بالنسبة إلى التيمّمين ممكن يجب مراعاته على القول أو يحسن مراعاته على القول الآخر بخلافه بالنسبة إلى الصلاتين ، فيدور الأمر بين الامتثال التفصيلي بالنسبة إلى التيممين والإجمالي مع كثرة الأطراف بالنسبة إلى الصلاتين ، وبين الامتثال الاجمالي

__________________

(١) كشف اللثام ١ : ١٨٢.

(٢) الجواهر ١ : ٦٠.

١٦١

بالنسبة إليهما مع قلّة الأطراف بالنسبة إلى الصلاتين ، ولا ريب أنّ الأوّل أولى كما اختاره في النهاية (١).

الرابع : أنّه هل يكفي الامتثال الاحتمالي لو كان متمكّنا من الامتثال بالعلم التفصيلي أو الإجمالي أم لا؟ مثلا لو علم بوجوب أحد الأمرين سواء أمكنه تعيين الواجب منهما أم لا ، هل يؤثر إتيان أحد المحتملين في سقوط الأمر على تقدير كونه واجبا في الواقع.

وبعبارة أخرى : هل يحكم بصحّته حتى يثمر سقوط الأمر على تقدير المصادفة ويثمر سقوط الأمر على تقدير إتيان المحتمل الآخر بعد ذلك بإرادة جديدة ، أو يشترط في حصول الامتثال والحكم بالصحّة بالعزم على الامتثال اليقيني من أول الأمر؟ وجهان ، يظهر الثاني منهما من المصنف في رسالة أصالة البراءة مصرّا عليه قائلا : إنّ الوجه في صحّة العمل قصد إتيان الواجب المردّد في البين جزما ، ومع عدم قصد إتيان كلا الطرفين لم يحصل قصد الواجب وقصد القربة به ، إلّا أنّ الأظهر هو الأول ، لأنّ القدر المسلّم مما يشترط في صحّة العمل أن يأتي به بداعي أمر الله ولو لم يعلم بحصول المأمور به ، وهذا المعنى متحقق فيما نحن فيه ، فإنّه يفعل المحتمل برجاء أنّه هو الواقع ، غاية الأمر أنّه يريد العصيان على تقدير كون الواجب هو المحتمل الآخر ، فإنّ ذلك لا ينافي صدق الامتثال بالنسبة إلى المحتمل الأول الذي أتى به لله وبداعي أمر الله ، كما في

__________________

(١) أقول : إنّ مختار النهاية مبني على مقدمة أخرى ممنوعة ، وهي التزام فساد الفائتة بدون تيمّمها المختصّ بها ، إذ لو قلنا بصحتها مع التيمم السابق عليها وعلى الفائتة الاخرى كما هو الحق لا يحصل العلم التفصيلي بامتثال النذر أيضا ، لأنّه لو كانت الفائتتان في ضمن ما صلى في أوّل التيممين فقد حصل الامتثال بالنسبة إلى الصلاتين ويبقى التيمم الثاني لغوا محضا ، فأين الامتثال التفصيلي بالنسبة إلى المنذور؟

١٦٢

الشبهة البدوية لو أتى بالمحتمل بداعي امتثال أمر الله على تقدير ثبوت الأمر واقعا ، ولا ريب في الحكم بصحة ذلك لو كان ثابتا في الواقع ، فتدبّر.

منجزية العلم الإجمالي

قوله : فنقول : إنّ للعلم الإجمالي صورا كثيرة لأن الإجمال الطارئ إما من جهة (١).

(١) محصّل التقسيم أنّه إما أن يكون الحكم مجملا والمتعلّق مبيّنا ، أو يكون الحكم مبيّنا والمتعلّق مجملا ، أو يكون كلاهما مجملا ، وعلى التقادير الثلاثة إما أن تكون الشبهة حكمية أو موضوعية.

والمراد بإجمال الحكم عدم العلم بنوع الحكم من وجوب أو تحريم مع العلم بجنسه كمطلق الإلزام مثلا ، والمراد بإجمال المتعلّق عدم العلم بخصوص نوع المتعلّق أنّه ظهر أو جمعة مثلا ، أو عدم العلم بخصوص شخصه مع العلم بنوعه كما في الشبهة المحصورة.

والمراد من الشبهة الحكمية أن يكون الاشتباه من جهة خطاب الشارع وعدم وضوح ما يراد منه بحيث يكون رفع الشبهة من وظيفة الشارع ، ومن الشبهة الموضوعية أن يكون الاشتباه من جهة الأمور الخارجية التي لا يكون رفعها من وظيفة الشارع ، والأمثلة واضحة.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٧٧.

١٦٣

قوله : والاشتباه في هذا القسم إمّا في المكلّف به كما في الشبهة المحصورة ، وإمّا في المكلّف (١).

(١) تقسيم الشبهة الموضوعية إلى قسميها بل الأقسام الثلاثة على ما في المتن صحيح إلّا أنّه غير محتاج إليها ، لأنّ مرجع الشبهة في المكلّف أيضا هو الشبهة في المكلّف به كما سيشير إليه المصنف في آخر المبحث ، وإنّما يفيد التقسيم لو كانت الأقسام مختلفة في الحكم أو في كيفية الحكم ، وإلّا فيمكن التقسيم في كل مسألة إلى ما شاء الله.

قوله : كما في الخنثى (٢).

(٢) يمكن أن تكون الشبهة من جهة إجمال الحكم بالنسبة إلى الخنثى ، وأن تكون من جهة إجمال المتعلّق بالنسبة إليها ، وأن تكون من كلتا الجهتين ، مثال الأول حكم جهاد الخنثى فإنّه مردّد بين الوجوب والحرمة. مثال الثاني حكم وجوب الجمعة أو الظهر في زمن حضور الإمام (عليه‌السلام) فإن الوجوب معلوم والمتعلّق مردّد بالنسبة إليها. ومثال الثالث حكم كشف رأسها ووجهها في الإحرام فإنّها إن كانت امرأة يجب عليها ستر الرأس وكشف الوجه وإن كان رجلا يجب كشف الرأس ويجوز ستر الوجه.

قوله : الثاني : أنه إذا تولّد من العلم الإجمالي العلم التفصيلي بالحكم (٣).

(٣) اعلم أنّ العلم التفصيلي المتولّد من العلم الإجمالي على قسمين :

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٧٨.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٧٨.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٧٩.

١٦٤

أحدهما : أن يتولّد من العلم الإجمالي العلم التفصيلي بعنوان خاصّ هو مورد الحكم في لسان الأدلة ، كما لو صلى في الثوبين المشتبهين بالنجاسة فإنّه يعلم تفصيلا أنّه صلى في النجس وقد حصل عنوان الممنوع منه.

وثانيهما : أن يتولّد من العلم الإجمالي العلم التفصيلي بعنوان انتزعه العقل من عنوانين واقعين في لسان الأدلّة ، كالأمثلة المذكورة في المتن فإنّ العلم بواحد مردّد بين الحدث والاستدبار أو بين ترك ركن أو فعل مبطل في الصلاة ليس علما تفصيليا بخصوص عنوان من المبطلات ، بل علم بعنوان المبطل الذي ينتزع من مجموع الأدلة.

أما القسم الأول ، فلا إشكال في أنّه كسائر العلوم التفصيلية كما قال المصنف.

وأمّا القسم الثاني ، فإنّه بعد باق على الإجمال بالنسبة إلى العنوان المأخوذ في الأدلة ، وحينئذ لقائل أن يقول على القول بعدم كون العلم الإجمالي منجّزا للتكليف ليس هناك علم تفصيلي يجب اتباعه ، إذ ليس المعلوم بالتفصيل إلّا العنوان الانتزاعي الذي لم يتعلّق به حكم في الأدلة ، اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ العقل كما يستقلّ بوجوب متابعة القطع التفصيلي في القسم الأول كذلك يحكم بوجوب المتابعة في هذا القسم من العلم الإجمالي الذي حصل منه علم تفصيلي بمثل العنوان الانتزاعي.

نعم ، لو كان لنا دليل لفظي على عدم اعتبار العلم الإجمالي شمل ذلك أيضا ، وليس كذلك ، بل المانع من اعتبار العلم الإجمالي ما يدّعى من قصور حكم العقل عن متابعة مثل هذا العلم فتأمل ، ولتكن هذه المقدمة ببالك تنفعك فيما سيأتي من أمثلة المتن.

١٦٥

قوله : منها ما حكم به بعض فيما اختلفت الأمة على قولين ولم يكن مع أحدهما دليل (١).

(١) قد يقال : إنّ القائل لعلّه لا يقول بالرجوع إلى الأصل المخالف للقولين ، وليس إطلاق كلامه ناظرا إلى هذه الجهة ، بل ناظر إلى ما يقابل الأخذ بأحدهما ، نعم ما حكاه عن الشيخ (قدس‌سره) من قوله بالتخيير الواقعي مخالف للقولين اللذين يكون أحدهما حقّا بالفرض.

قوله : بل ظاهر كلام الشيخ (قدس‌سره) القائل بالتخيير هو التخيير الواقعي (٢).

(٢) وجه الاستظهار كما يستفاد من المعالم وغيره أنّه قال فيما لو فرض اتّفاق الفريقين بعد الاختلاف على أحد القولين ، أنّه لا يجوز بناء على مختاره من التخيير ، لأنّه يوجب بطلان القول الآخر والمفروض أنّه كان التخيير بينهما.

وقد يقال : إنّ مراده التخيير الظاهري ، بدليل أنّه ردّ الرجوع إلى الأصل من الإباحة والحظر في تلك المسألة بعينها بلزوم طرح قول الإمام (عليه‌السلام) ثم اختار هو التخيير فرارا عن طرح قول الإمام (عليه‌السلام) فيظهر منه أنّ مراده التخيير الظاهري وإلّا فهو كرّ على ما فرّ منه.

وربّما يحكى عن بعض أنّ ما اختاره الشيخ (رحمه‌الله) من التخيير فهو على مذاقه من باب قاعدة اللطف ، فهذا موافق للواقع الذي قد حكمت به القاعدة.

وفيه : أنّ قاعدة اللطف على مذاقه لا تقتضي حدوث القول بالتخيير بعد

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٧٩.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٧٩ ـ ٨٠.

١٦٦

فرض أنّ القولين لا يخلوان من قول الإمام (عليه‌السلام) بل تقتضي نفي التخيير الواقعي ، وبالجملة لم نفهم معنى كلام هذا البعض.

قوله : فإنّا نعلم تفصيلا بطلان البيع في تمام الجارية لكون بعض ثمنها ميتة فنعلم تفصيلا بحرمة وطئها (١).

(١) دعواه العلم التفصيلي ببطلان بيع الجارية في محل المنع ، لأنّه إن أراد بطلان بيع بعض الجارية كما يدل عليه تعليله بكون بعض ثمنها ميتة فيكون البيع بالنسبة إلى هذا البعض باطلا ، فهذا عين العلم الإجمالي ، وإن أراد بطلان أصل البيع حتى بالنسبة إلى ما يقابل بعض الثمن المملوك فهو في محلّ المنع ، غاية الأمر التبعض كما في نظائره من المعاملة على ما يملك وما لا يملك في صفقة واحدة.

وأمّا العلم التفصيلي بحرمة الوطء فلعلّه كذلك ، لأنّ الأصل حرمة الوطء ، ولم يحصل ما يوجب الحلية وهو ملكية تمام الجارية.

وكيف ما كان ، لم يظهر ممن قال بجواز ارتكاب كلا المشتبهين في الشبهة المحصورة التزام جميع ما يلزم من ارتكابه حتى فيما تولّد منه العلم التفصيلي في بعض المراتب المتأخّرة عن ارتكابه الأوّلي ، بل الظاهر منه جواز ارتكابه ما دام باقيا على الإجمال.

قوله : ومنها حكم بعض بصحّة ايتمام أحد واجدي المني (٢).

(٢) إنّما يتمّ المثال لما أراده لو كان حدث الإمام مانعا عن صحة صلاة المأموم واقعا بحيث لو علم المأموم به بعد الصلاة لحكمنا بإعادة الصلاة

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٨٠.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٨٠.

١٦٧

وقضائها ، وأما إذا كان العلم به مانعا كما في فسق الإمام أو كفره فالصلاة خلف المحدث كذلك صحيحة واقعا لعدم العلم بحدثه ، ويبقى في المثال احتمال حدث نفس المأموم وهي شبهة بدوية.

قوله : ومنها حكم الحاكم بتنصيف العين التي تداعاها رجلان ، إلى آخره (١).

(١) كان الأولى التمثيل بحكم الحاكم بالتصنيف فإنّه حكم بخلاف الواقع قطعا بعد فرض العلم بعدم الشركة ، اللهمّ إلّا أن يقال إنّ حكمه هذا ينحلّ إلى حكمين حكم بإعطاء النصف لأحدهما لا يعلم مخالفته للواقع وحكم بإعطاء النصف الآخر للآخر لا يعلم مخالفته أيضا للواقع ، لكن الإنصاف أنّه ليس كذلك بل متعلّق الحكم هو التصنيف الذي يعلم كونه مخالفا للواقع ، وأما ما ذكره المصنف في توجيه المثال من أنّ لازم ذلك جواز شراء ثالث للنصفين من كل منهما مع أنّه يعلم تفصيلا عدم انتقال تمام المال إليه من مالكه فمنظور فيه ، لأنّه لا يعلم سوى عدم انتقال أحد النصفين وهو العلم الإجمالي فأين العلم التفصيلي ، وإن أراد من العلم التفصيلي العلم بعدم انتقال جميع المال من حيث المجموع إليه فهو كذلك إلّا أنّ مثل هذا العلم موجود في جميع موارد العلم الإجمالي ، ففي مثال الإناءين المشتبهين يعلم تفصيلا أنّ مجموع الإناءين ليس بطاهر ، وليس المراد من العلم التفصيلي ذلك قطعا.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٨٠.

١٦٨

قوله : ومنها حكمهم فيما لو كان لأحد درهم وللآخر درهمان فتلف أحد الدراهم (١).

(١) لا يخفى أنّ أخذ الثالث للنصفين أعني الدرهم المشترك لا يوجب علمه بعدم انتقال كلا النصفين ، بل يعلم بعدم انتقال أحد النصفين ، وهذا عين الإجمال فأين العلم التفصيلي؟ نعم لو جعل نفس حكمهم بالشركة مثالا للعلم بعدمها كان صحيحا ، فما كان مثالا في الفرض قد تركه وأتى بما لم يكن مثالا كما في المثال السابق بعينه وقد ذكرنا.

قوله : ومنها ما لو أقرّ بعين لشخص ثم أقرّ بها للآخر (٢).

(٢) من الواضح أنّ اجتماع العين والقيامة عند واحد وبيعهما بثمن واحد لا يخرج الإجمال إلى التفصيل ، إذ كما أنّ المحرّم من بين العين والقيامة غير معلوم تفصيلا كذلك المحرّم فيما يقابل إحداهما من الثمن غير معلوم تفصيلا وقد مرّ نظيره ، نعم ما ذكره من أمثلة التحالف مطابق لما رامه ، ويحتاج إلى التوجيه على مذاق المصنف (رحمه‌الله) من منع معقولية عدم حجية القطع. أما على ما اخترناه من معقولية الردع عن العمل بالعلم لا نحتاج إلى توجيه ، بل نفس إمكان عدم حجية العلم توجيه للأمثلة ، فتدبّر.

قوله : فلا بدّ في هذه الموارد من التزام أحد أمور على سبيل منع الخلوّ (٣).

(٣) ظاهر كلامه (قدس‌سره) انحصار التوجيه في الأمور الثلاثة التي ذكرها

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٨١.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٨١.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٨٢.

١٦٩

في المتن بدليل قوله على سبيل منع الخلوّ ، والأظهر عدم الانحصار ، بل هنا توجيه رابع أشرنا إليه في مقدّمة مسألتنا هذه يجري في بعض الأمثلة مثل مسألة اقتداء أحد واجدي المني في الثوب المشترك بالآخر بأن يقال إنّا نمنع وجوب متابعة مثل هذا العلم التفصيلي ، لأنّ المعلوم التفصيلي ليس إلّا وجود جنس مانع الصلاة المردد نوعه بين جنابة المأموم وجنابة الإمام ، وليس لنا خطاب شرعي واحد متعلّق بذاك الجنس يلزم مخالفته قطعا ، بل هنا خطابان يتعلّق كلّ منهما بنوع واحد منه ولم نعلم مخالفة أحدهما معيّنا بل مردّدا ، فهي بعد لم تخرج عن المخالفة الإجمالية بالنسبة إلى خصوصية عنوان المانع.

نعم ، يعلم تفصيلا مخالفة عنوان انتزاعي جامع للعنوانين أعني عدم إيجاد المبطل ، إلّا أنّه يمنع وجوب متابعة هذا العنوان الانتزاعي على القول بعدم كون العلم الإجمالي منجّزا للتكليف ، لكن هذا إنّما يصح إن استند القائل إلى مثل قوله (عليه‌السلام) «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه» (١) من الأدلة الشرعية التعبدية.

أمّا لو استند في عدم التنجيز بعدم حكم العقل بوجوب متابعة العلم الإجمالي ، فقد مرّ أنّ العقل يحكم بوجوب متابعة مثل هذا العلم الإجمالي الذي يكون جميع أطرافه مورد الحكم بعنوان خاصّ. وبعبارة أخرى يحكم بوجوب مراعاة العنوان الانتزاعي المزبور.

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٧٨ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ١.

١٧٠

قوله : أحدها (الأوّل) كون العلم التفصيلي في كل من أطراف الشبهة موضوعا للحكم (١).

(١) هذا التوجيه مجرّد احتمال لا يلتزمه المصنف ولا غيره في شيء من الأمثلة سوى صاحب الحدائق (رحمه‌الله) (٢) في المشتبهين بالنجس ، ومذهبه باطل على ما هو محرر في محلّه ، وأدنى ما يلزمه عدم حسن الاحتياط في الشبهة المحصورة فضلا عن الشبهة البدوية لعدم وجود النجس الواقعي بين الأطراف واقعا ، ولعلّ ذلك خلاف الإجماع وأنّهم يقولون بحسن الاحتياط بل استحبابه حتى في الشبهات البدوية ، فافهم.

نعم ، يمكن إجراء هذا التوجيه في مسألة واجدي المني الذي ائتمّ أحدهما بالآخر بتقريب آخر غير ما ذكره المصنف بأن يقال : إنّ المانع من صحة صلاة المأموم علمه بحدث الإمام ، فمن جهل بحدث إمامه فصلاته صحيحة واقعا وإن كان الإمام محدثا واقعا كما هو كذلك في حكم فسق الإمام أو كفره وإن تبيّن فيما بعد ، إلّا أنّ ذلك يرجع إلى التوجيه الثاني لأنّ من لا يعلم بحدث إمامه حكمه الظاهري أن يبني على طهارته ثم يفرض أنّ صحّة صلاته مترتبة على مثل هذه الطهارة الظاهرية في إمامه.

وأمّا ما ذكره المصنف من كون المانع الحدث المعلوم تفصيلا من مكلّف خاص ثم فرّع عليه قوله فالمأموم والإمام متطهّران في الواقع ، ففيه أنّه لو كان كذلك لزم صحّة صلاة كل من الإمام والمأموم واقعا حتى لو تبيّن المحدث منهما بالنسبة إلى صلاة نفسه ، وهذا مما لا يلتزمه أحد من الفقهاء كما لا يخفى.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٨٢.

(٢) الحدائق الناضرة ١ : ١٣٦ المقدمة الحادية عشرة.

١٧١

قوله : الثاني أنّ الحكم الظاهري في حقّ كل أحد نافذ واقعا في حق الآخر (١).

(١) هذا التوجيه بظاهره فاسد ، إذ يلزم عليه أن يحكم بصحة صلاة المأموم العالم بحدث إمامه إذا كان الإمام محكوما بالطهارة في الظاهر في علم نفسه ، والأظهر أن يريد أنّ من يعلم الحكم الظاهري في حق أحد ينفذ واقعا في حقه بأن يقال : إنّ من كانت صلاته صحيحة عند غيره فللغير أن يرتّب عليها آثار الصحة الواقعية فيجوز له الايتمام ، ولعل هذا أيضا مراد المصنف ، وقد عبّر بنظير ما عبّرنا في أول عنوان المسألة وأوقعته المسامحة أو ضيق العبارة هنا في سوء التعبير.

وكيف كان ، فهذا التوجيه في المثال الأول صحيح على النحو الذي ذكرنا من أنّ المأموم يحكم بجريان أصالة الطهارة في حق الإمام ، وبذلك يحكم بحصول شرط صلاته واقعا من هذه الجهة ، ويبقى احتمال حدث نفسه شبهة بدوية يحكم فيه بالبراءة ، فليس هناك علم تفصيلي ولا إجمالي ببطلان صلاته.

قوله : وكذا من حلّ له أخذ الدار ممّن وصل إليه نصفه (٢).

(٢) هذا التوجيه في هذا المثال وفي المثالين بعده غير معقول ، إذ بعد فرض العلم بأنّ أحد النصفين في يد من هو بيده في حكم المغصوب كيف يدّعي ملكية من اشترى النصفين تمام الدار واقعا ، نعم لو فرض ملكية كل من المتداعيين النصف الذي بيده واقعا ولو على نحو الصلح القهري على ما هو مقتضى التوجيه الثالث كان تمام الدار محكوما بملكية من اشتراهما واقعا ، وهذا غير ما ذكره.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٨٢.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٨٢.

١٧٢

قوله : الثالث أن يلتزم بتقييد الأحكام المذكورة (١).

(١) مرجع هذا التوجيه إلى توجيهات عديدة :

أحدها : تقييد الحكم المذكور في إطلاق كلامهم بغير صورة حصول العلم التفصيلي ، وذلك يتمّ في الأمثلة الثلاثة الأول التي استفيد مخالفة العلم التفصيلي من إطلاق كلامهم.

وثانيها : التقاص القهري وذلك في مسائل التحالف على ما في المتن بأن يقال في مسألة الاختلاف بين كون المبيع بالثمن المعيّن عبدا أو جارية ، أنّ ردّ الثمن إلى المشتري مع كونه ملكا للبائع واقعا باتفاقهما من باب التقاص القهري بمعنى أنّه يأخذه بدلا عمّا أخذ البائع منه مما ملكه بالبيع مقاصّة.

أقول : ويرد عليه :

أولا : أنّه يتمّ ذلك إذا كان الثمن مساويا لقيمة مثل المبيع أو أقل ، أما إذا كان أزيد فلا يجوز أخذ الزائد ، ولم يعهد من أحد منهم هذا التفصيل ، بل الظاهر إطلاق الفتوى بردّ الثمن إلى المشتري.

وثانيا : أنّه يتمّ فيما إذا كان المشتري محقّا في دعواه أنّ المبيع عبد مثلا ، وأما إذا كان مبطلا كيف يجوز له أخذ الثمن مقاصّة والحال أنّ البائع كان يبذل المبيع الواقعي وامتنع المشتري من قبضه مدّعيا أنّ المبيع غيره كذبا وخاصمه حتى انتهى الأمر إلى التحالف.

وثالثا : أنّه يبقى الكلام في حكم الحاكم بالتراد فإنّ فيه مخالفة العلم التفصيلي بالنسبة إلى الحاكم ، غاية الأمر أنّ المتبايعين بعد حكم الحاكم

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٨٣.

١٧٣

يتقاصّان.

ثالثها : الحكم بالانفساخ في مسائل التحالف قهرا عليهما بعد التحالف ، وهذا احتمال جيد.

رابعها : الحكم بالصلح القهري في مسائل التحالف ومسألة الودعي ومسألة التنصيف ، وهذا الوجه أيضا كسابقه احتمال جيّد. ويحتمل غير بعيد أن يكون حكم الحاكم في الأمثلة المذكورة مؤثرا في التمليك على هذا النحو واقعا وإن كان المبطل من المتداعيين معاقبا واقعا إلّا أنّه يملك بعد حكم الحاكم ما ردّه إليه.

في جواز المخالفة الالتزامية

المخالفة الالتزامية قوله : أحدهما (الأوّل) مخالفته من حيث الالتزام (١).

(١) لا بدّ أوّلا من تصوير المخالفة الالتزامية فربما توهّم أنّها غير معقولة فنقول :

إنّ الالتزام الذي يمكن الحكم بوجوبه حتى يكون تركه محرّما ليس بمعنى العلم وإلّا لزم أن يكون أبو جهل (لعنه الله) ملتزما بالشريعة مؤدّيا للواجب عليه من الالتزام ، لعلمه بصدق النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مع أنّه من الجاحدين للشرع وأحكامه بالضرورة والاتفاق ، مع أنّه لا يتصوّر وجوبه في

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٨٣.

١٧٤

مسألتنا ، إذ الإجمالي منه حاصل بالفرض فلا يتعلّق به الوجوب ، وغيره لا يمكن تحصيله بالفرض فلا يتعلّق به الوجوب ، وليس بمعنى القصد فضلا عن قصد الوجه ، لأنّ الكلام يجري في التوصّليات التي لا يعتبر فيها سوى إتيان المأمور به كيف ما اتّفق ، بل المراد من الالتزام هو التديّن بالحكم والتمكين والتسليم له في سويداء القلب بعد العلم به بحيث يكون المكلّف في نفسه بانيا على صحّة الحكم منقادا له ، وذلك نظير التشريع فكما أنّ البناء على ثبوت الحكم غير الثابت واقعا عند المشرّع أمر معقول على التحقيق المحقق في محلّه ، كذلك البناء على صحّة الحكم الثابت عند العالم به أمر معقول ، بل الالتزام بهذا المعنى ممكن حتى بالنسبة إلى المشكوكات كما ورد في قوله (عليه‌السلام) «إذا شككت فابن على الأكثر» (١) ولا ريب أنّ البناء على الأكثر أمر نجده في النفس أمرا معقولا واقعا يفعله المكلّف في نفسه ثم يرتّب على ذلك ما يلزمه في إتمام الصلاة على حسبه ، وإنكار هذا المعنى مكابرة كما لا يخفى.

وفي مقابل هذا المعنى من الالتزام الجحود والانكار في النفس بالحكم ولو كان عالما به كما في أبي جهل (لعنه الله) ، وما هو واجب في المسائل الاعتقادية من الاعتقادات الحقّة يراد به هذا المعنى لا مجرّد العلم فإنّه يجتمع مع الجحود أيضا كما مرّ.

ثمّ إنّ حكم المخالفة الالتزامية بالنسبة إلى المعلوم بالإجمال يحتمل وجوها :

الأول : أن يحكم فيما لو تردّد الأمر بين الوجوب والحرمة مثلا بعدم الوجوب والحرمة تمسّكا بالأصل في الطرفين ، وهو في معنى الالتزام بالإباحة

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٢١٢ و ٢١٣ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٨ ح ١ و ٣.

١٧٥

الظاهرية.

الثاني : أن يقال بالتوقّف بالنسبة إلى الحكم الظاهري وعدم الالتزام بشيء في الظاهر.

الثالث : أن يحكم بالتخيير نظير التخيير بين الخبرين المتعارضين ، ويلزمه الالتزام بأحد الاحتمالين جزما في الظاهر ثم العمل على ذلك الاحتمال بعينه.

الرابع : أن يحكم بالتخيير أيضا كما في الوجه الثالث إلّا أنّه يلتزم بأحد الاحتمالين برجاء أنّه هو الواقع نظير الاحتياط في الشبهة البدوية ثم العمل على طبق ذلك الاحتمال ، فهو في الحقيقة تخيير بين الاحتياطين.

ولا يخفى أنّه على الوجهين الأولين تلزم المخالفة الالتزامية بالنسبة إلى الحكم الواقعي في الظاهر ، لأنّه في الوجه الأول التزم بخلاف الحكم الثابت في الواقع من الوجوب أو الحرمة وهو الإباحة ، وفي الوجه الثاني لم يلتزم بشيء ، وعلى الوجهين الأخيرين لا تلزم المخالفة الالتزامية القطعية بل الاحتمالية. وحينئذ نقول : من يمنع من المخالفة القطعية الالتزامية لا بدّ أن يختار أحد الوجهين الأخيرين ، ومن لا يمنع له أن يختار أحد الأولين أيضا.

إذا تمهّد ذلك فنقول قبل التعرّض لما في المتن : أنّه لا دليل على وجوب الالتزام بالأحكام حتى يكون تركه محرما إذا لم تترتب عليه المخالفة العملية حتى في صورة العلم التفصيلي ، سوى ما يتوهّم من وجوب التديّن بكل ما جاء به النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، وانطباقه على ما نحن فيه محل نظر ، إذ القدر المسلّم فيه هو الالتزام والتديّن الإجمالي بكل ما جاء به النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) واقعا على ما هو ثابت في اللوح المحفوظ ، وأما الالتزام بخصوص كل حكم حكم بشخصه زائدا على ذلك التديّن الإجمالي الذي ينطبق عليه فلم

١٧٦

يثبت.

وببيان أوضح أنّ هناك قضيتين :

إحداهما : وجوب الالتزام بالأحكام الواقعية مطلقا بقدر الإمكان بحيث يلزمه تحصيل العلم بالحكم تفصيلا مقدمة لإيجاد الواجب عليه من الالتزام والتديّن إن أمكن ، وإن لم يمكن العلم التفصيلي بعد حصول العلم الإجمالي يجب الالتزام بأحد الاحتمالين ، لأنّ القدر الممكن في هذا الحال هو هذا.

ثانيتهما : وجوب التصديق بما جاء به النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لكون خلافه موجبا لتكذيب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الذي هو خلاف مقتضى الإيمان الواجب على المكلف ، ولازم تلك القضية أنّه إن اتّفق حصول العلم التفصيلي بالحكم يلتزم به تفصيلا ، وإن لم يتفق يلتزم إجمالا بكل ما جاء به النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) واقعا على ما في اللوح المحفوظ.

والفرق بين القضيتين : أنّ القضية الأولى حاكمة بوجوب الالتزام تفصيلا مطلقا حتى مع الجهل بالحكم غاية الأمر أنّ الجاهل معذور ، والقضية الثانية غير حاكمة بالالتزام التفصيلي حتى في صورة تحقق العلم التفصيلي بل على عنوان ما جاء به النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) غاية الأمر انطباق الالتزام الإجمالي الواجب على المعلوم تفصيلا قهرا لو علم بالحكم تفصيلا ، وحينئذ نقول : إن دلّ دليل على القضية الأولى ينتج المدّعى من وجوب الالتزام فيما نحن فيه كما هو واضح ، لكنه لا دليل عليه ، وأما القضية الثانية فلا ينتج المدّعى وإن كانت حقا اقتضاها دليل وجوب الإيمان من العقل والنقل ، فما يفيد المقام غير ثابت وما ثبت لا يفيد.

فإن قلت : إنّ التصديق بالقضية الثانية أيضا ينافي الحكم بالإباحة ظاهرا

١٧٧

فيما لو دار الأمر بين الواجب والحرام ، إذ الإباحة خلاف ما جاء به النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قطعا.

قلت : أوّلا : لنا أن نلتزم بالتوقّف الذي قد تقدّم أنه أحد الاحتمالات الأربعة.

وثانيا : نمنع منافاة الحكم بالإباحة ظاهرا للتصديق الواجب بما جاء به النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، إذ لا نعني بالإباحة في الظاهر سوى أنّه لا حرج في فعله ولا في تركه ، وهذا ليس حكما مخالفا لما جاء به النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بل هو بيان لعذر المكلف بالنسبة إلى الواقع المجهول ، وقد تقدّم سابقا أن الأحكام الظاهرية ليست بأحكام حقيقية بل هي أعذار للمكلّف حين الجهل بالأحكام ببيان مستوفى فراجع.

ونظير ما نحن فيه هو الحكم بالإباحة الظاهرية في الشبهات البدوية فإنّها ليست حكما حقيقيا لكي يلزم كون ذلك تشريعا في مقابل الحكم الواقعي إن كان بخلافها ، بل معنى الإباحة هناك أيضا نفي الحرج عن الفعل والترك ، ولو سلّم كون الأحكام الظاهرية أحكاما شرعية في مقابل الأحكام الواقعية لا منافاة أيضا بين الإباحة الظاهرية وكون الحكم في الواقع إما الوجوب أو الحرمة ، لاختلاف موضوع الحكمين على ما قرروه من أنّ موضوع الحكم الواقعي نفس الفعل أو الترك وموضوع الحكم الظاهري هو الفعل بوصف أنّه مجهول الحكم.

ولا يخفى أنّ القضية الأولى لو كانت ثابتة تنتج الوجه الرابع من الوجوه السابقة وهو الالتزام بأحد الاحتمالين إما الوجوب أو الحرمة احتياطا رجاء لكونه هو الواقع ، ضرورة كون الالتزام بالأحكام الواقعية مفصّلا على هذا التقدير من الأفعال الواجبة غاية الأمر أنّه من أفعال القلب ، وحيث علم بثبوت

١٧٨

أحد الحكمين يجب الالتزام به حتى لو كان الالتزام بكليهما ممكنا كان واجبا احتياطا لإدراك الواجب الواقعي في البين ، ولمّا لم يمكن كلاهما لزم أحدهما بحكم العقل كما في الشبهة المحصورة إذا تعذر الاجتناب عن جميع الأطراف يجب الاجتناب عن بعضها بقدر الإمكان.

وأمّا التخيير على الوجه الثالث من الوجوه السابقة وهو الالتزام بأحد الاحتمالين تعيينا على ما يختاره نظير التخيير بين الخبرين المتعارضين ، فهو ممنوع منه لأنه يستلزم التشريع المحرّم ، إذ المفروض أنّه لم يعلم بالوجوب أو الحرمة بالخصوص فكيف يلتزم بأحدهما بالخصوص معيّنا ، هذا إذا فسّر التشريع بإدخال ما لم يعلم أنّه من الدين في الدين ، وإن فسّر بإدخال ما ليس من الدين في الدين فما نحن فيه داخل أيضا فيما هو مناط التحريم في التشريع المصطلح المستدلّ عليه بمثل قوله تعالى : (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)(١) ونحوه كما لا يخفى.

وممّا ذكرنا ظهر أنّه لا وجه لمقايسة ما نحن فيه بالخبرين المتعارضين ، لأنّ الدليل دلّ هناك على تصديق كلّ خبر خبر بالخصوص ، فلمّا لم يمكن ذلك في المتعارضين يحكم العقل بالتخيير ، سواء قلنا بكون حجية الخبرين من باب الموضوعية أو الطريقية على التحقيق في محلّه ، وإن ضايقت عن التخيير العقلي على الطريقية كما عند المصنف فبالتخيير الشرعي ، وهذا بخلاف ما نحن فيه إذ لا دليل على وجوب الالتزام بهذا النحو بالنسبة إلى كلّ حكم بالخصوص ، ولو كان دليل على وجوب الالتزام بهذا النحو قد عرفت أيضا أنّه لا ينتج سوى التخيير على وجه الاحتياط ، وكذا ظهر بطلان المقايسة بتخيير المقلّد بالرجوع

__________________

(١) يونس ١٠ : ٥٩.

١٧٩

إلى أحد المجتهدين المختلفين في الفتوى ، والوجه ظاهر ممّا مرّ.

فتحصّل مما ذكرنا : أنّه لا مانع من الرجوع إلى أصالة الإباحة والبراءة وعدم الالتزام بشيء.

ويظهر من المصنف (رحمه‌الله) عدم جواز الرجوع إلى الأصل بوجهين :

أحدهما : قصور أدلة الأصل لشمولها لما نحن فيه ، فإنّه في رسالة أصل البراءة في حكم دوران الأمر بين الوجوب والحرمة من جهة عدم الدليل على تعيين أحدهما بعد قيام الدليل على أحدهما قال : فقد يقال في محلّ الكلام بالإباحة ظاهرا لعموم أدلّة الإباحة الظاهرية مثل قولهم (عليهم‌السلام) : «كل شيء لك حلال» (١) وقولهم (عليهم‌السلام) : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» (٢) فإنّ كلا من الوجوب والحرمة قد حجب عن العباد علمه ، وغير ذلك من أدلّته حتى قوله (عليه‌السلام) : «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» (٣) أو أمر على رواية الشيخ (٤) إذ الظاهر ورود أحدهما تفصيلا ، فيصدق هنا أنه لم يرد أمر ولا نهي ، هذا كله مضافا إلى حكم العقل بقبح المؤاخذة على كل من الفعل والترك فإنّ الجهل بأصل الوجوب علّة تامة عقلا يقبح العقاب على الترك من غير مدخلية لانتفاء احتمال الحرمة فيه ، وكذا الجهل بأصل الحرمة ـ إلى أن قال ـ ولكنّ الإنصاف أنّ أدلة الإباحة في محتمل الحرمة ينصرف إلى محتمل الحرمة وغير الوجوب ، وأدلة نفي التكليف عمّا لم يعلم نوع التكليف لا يفيد إلّا عدم المؤاخذة على الترك والفعل وعدم تعيين الحرمة أو الوجوب ، وهذا

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٨٩ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ٤.

(٢) الوسائل ٢٧ : ١٦٣ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٣٣.

(٣) الوسائل ٢٧ : ١٧٣ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٦٧.

(٤) أمالي الطوسي : ٦٦٩ / ١٤٠٥.

١٨٠