حاشية فرائد الأصول - ج ١

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-015-2
الصفحات: ٦٩٤

المقدار لا ينافي وجوب الأخذ بأحدهما مخيّرا.

نعم ، هذا الوجوب يحتاج إلى دليل وهو مفقود ، فاللازم هو التوقّف وعدم الالتزام إلّا بالحكم الواقعي على ما هو عليه في الواقع ، ولا دليل على عدم جواز خلوّ الواقعة عن حكم ظاهري إذا لم يحتج إليه في العمل نظير ما لو دار الأمر بين الوجوب والاستحباب (١) انتهى كلامه رفع مقامه.

ومحصّل كلامه : أنّ مثل «كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه» منصرف عمّا إذا كان الأمر دائرا بين الوجوب والحرمة بشهادة أنّه جعل غاية الحلّ معرفة الحرام بعينه بحيث يظهر منه أنّ الشبهة ليست إلّا من جهة احتمال الحرمة ، ومثل «ما حجب الله علمه عن العباد» وأشباهه لم تدلّ على أزيد من جواز الفعل والترك ، وهذا يجامع الحكم بالإباحة والتخيير ، وحيث لا دليل على تعيين أحدهما يتوقّف عن التعيين.

وفيه : أوّلا : منع الانصراف المذكور.

وثانيا : أنّ مفاد أدلة نفي التكليف لا يجامع وجوب الأخذ بأحدهما مخيّرا كيف وأنّها تدلّ على أنّ المكلّف مطلق العنان في الواقعة المشتبهة ولا ريب أنّ وجوب الأخذ بأحدهما مخيّرا تكليف أيّ تكليف.

وثالثا : أنّ التوقّف في الحكم الفعلي الظاهري لا معنى له ، بل لا بدّ للفقيه أن يحكم بمقتضى أصل من الأصول بحكم فعليّ يرجع إليه في مقام العمل (٢).

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٧٩ ـ ١٨٥.

(٢) أقول : منع الانصراف لا أعرف له وجها ، وقد مرّ بيان وجه الانصراف بل الظهور ، وكذا الإيراد الثالث غير متوجّه إذ لم يظهر من المصنف قوله بالتوقّف في مقام العمل بل التوقف

١٨١

وثانيهما : ما ذكره في آخر هذا المبحث الذي نحن فيه ومحصّله : أنّ الرجوع إلى أصالة الإباحة وترك الالتزام بواحد من الحكمين وإن لم يستلزم المخالفة العملية دفعة في واقعة واحدة إلّا أنّه يستلزمها تدريجا في واقعتين أو أزيد ، والعقل كما يحكم بقبح المخالفة دفعة عن قصد وعلم كذلك يحكم بحرمة المخالفة في واقعتين تدريجا عن قصد إليها من غير تقييد بحكم ظاهري عند كل واقعة ، فيجب بحكم العقل الالتزام بالفعل أو الترك ، إذ في عدمه ارتكاب لما هو مبغوض للشارع يقينا عن قصد ، وتعدد الواقعة إنّما يجدي مع الإذن من الشارع عند كل واقعة كما في تخيير الشارع للمقلّد بين قولي المجتهدين تخييرا مستمرا يجوز معه الرجوع عن أحدهما إلى الآخر.

وجوابه : أنه يكفي في إذن الشارع عند كل واقعة أدلة البراءة والإباحة ، وما ذكره من حكم العقل إنّما يتمّ لو كان التكليف بكلتا الواقعتين منجّزا في زمان واحد ولو على نحو التعليق ، ومفروض المسألة أعمّ من ذلك ، وقد نبّه المصنف على ذلك في الشبهة المحصورة فيما لو كانت أطراف الشبهة تدريجي الحصول وكان زمان ثبوت التكليف للمتأخّر متأخرا عن زمان ثبوت التكليف للطرف المتقدم الحصول ، كما لو علم بوجوب صوم أحد الأيام فإنّه لا يجب الاحتياط إلّا إذا ثبت التكليف بالصوم الواجب الواقعي في أول الأزمنة.

ثم ما ذكره من ثبوت إذن الشارع في تخيير المقلّد بين قولي المجتهدين تخييرا مستمرا عهدته عليه ، فإنّ دليل التخيير إن كان مثل قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١) فدلالته على التخيير محلّ تأمّل فضلا عن

__________________

في تعيين أحد الاحتمالين المجامع لمفاد أدلة نفي التكليف ، بل صرّح بالبراءة العقلية في مقام العمل في أول كلامه ولم يورد عليه في آخر كلامه كما أورد على سائر أدلّته.

(١) الأنبياء ٢١ : ٧.

١٨٢

التخيير الاستمراري ، لأنّ مفاد الآية لا يزيد على رجوع غير العالم إلى العالم في الجملة ، وليس ناظرا إلى صورة تعدد العالم واختلافهم في الفتوى ودوران أمر المقلّد بين الرجوع لهذا أو ذاك ، هب أنّه دالّ بإطلاقه على جواز الرجوع لمطلق أهل الذكر ويلزمه التخيير في الصورة المفروضة ، إلّا أنّه في ابتداء الأمر وبعد الرجوع إلى أحدهما فهو عالم بالحكم لا يجوز له الرجوع إلى غيره إلّا بدليل ، وإن كان الدليل هو الإجماع فالقدر المتيقّن هو التخيير الابتدائي ، وكذا لو كان الدليل حكم العقل بالتخيير ، فافهم.

ثم لا يخفى أنّ ما اختاره المصنف (رحمه‌الله) في رسالة أصل البراءة من التوقّف مخالف لما اختاره هنا من التخيير ، نعم يمكن أن يقال بعدم جواز الرجوع إلى أصالة الإباحة والبراءة ولزوم الأخذ بالتخيير بوجه آخر دقيق مبنيّ على مقدمة قد مرّ ذكرها سابقا ، وهي أنّ الأحكام الواقعية غير المقيّدة بالعلم والجهل يجوز العقاب عليها إلّا أن يعتذر المكلّف بعذر مقبول عقلا أو شرعا ، فمطلق الجهل بها لا يرفع عقاب المخالفة إلّا أن يكون الجهل عذرا صحيحا ، وحينئذ نقول فيما نحن فيه بعد ما علم المكلّف بأنّ للشارع في هذا الموضوع حكما إلزاميا مرددا بين الوجوب والحرمة ، فلو بني الأمر على التخيير بحكم العقل أو الشرع واختار أحد الحكمين وعمل به فقد أتى بما يمكنه ان يعتذر به على تقدير المخالفة.

وأمّا لو بنى الأمر على عدم الوجوب والحرمة واختار الفعل أو الترك فإن صادف الواقع وإلّا فيصحّ عقابه على المخالفة لأنّه لا عذر له.

لا يقال : له أن يعتذر بأصل البراءة.

لأنّا نقول : لا تجري أصالة البراءة مع العلم بجنس التكليف وإن اشتبه

١٨٣

نوعه حتى عند المصنف ، مثلا لو علم بأنّ أحد الحكمين ثابت إما وجوب الدعاء عند رؤية الهلال أو حرمة شرب التتن ، فإنّ الاحتياط لازم وأصالة عدم الحكمين متعارضة بواسطة العلم الإجمالي ، وكذا لو تعذّر الاحتياط بالنسبة إلى أحد الطرفين يجب مراعاته بالنسبة إلى الطرف الآخر وإلّا لم يكن معذورا ، وما نحن فيه من هذا القبيل يجب الأخذ بأحد الحكمين من باب الاحتياط اللازم المراعاة بقدر الإمكان ليكون معذورا على تقدير المخالفة.

قوله : أما في الشبهة الموضوعية فلأنّ الأصل في الشبهة الموضوعية إنما يخرج مجراه عن موضوع التكليفين (١).

(١) فيما ذكره من الفرق بين الشبهة الموضوعية والحكمية نظر :

أمّا أوّلا : فلأنّه لو لم يكن دليل على حرمة المخالفة الالتزامية فلا وجه لإجراء الأصل والاخراج الموضوعي لأنه لغو محض ، سواء كانت الشبهة حكمية أو موضوعية ، وإن قام الدليل على وجوب الالتزام فلا ينفع إجراء الأصل الموضوعي أيضا كالأصل الحكمي لأنّه يلزم على تقديره مخالفة الالتزام الواجب بالفرض وأنّها لا تجوز.

وأما ثانيا : فلأنّ مناط هذا الفرق لو تمّ جريان الأصل الموضوعي وعدم جريانه لا كون الشبهة موضوعية أو حكمية ، وليس في جميع موارد الشبهة الموضوعية أصل موضوعي ، مثلا المائع المردد بين كونه ماء أو بولا ليس في مورده أصل موضوعي ، وقد اعترف المصنف بعدم الفرق بين الشبهة الموضوعية والحكمية في آخر هذا الكلام بقوله : ولكنّ التحقيق ، إلى آخره.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٨٤.

١٨٤

قوله : لأنّ الأصول تحكم في مجاريها بانتفاء الحكم الواقعي (١).

(١) إن كان الأصل الجاري هناك مثل الاستصحاب فحكمه بانتفاء الحكم الواقعي في مجراه صحيح ، وإن كان أصالة البراءة فإنّ مؤداها لا يزيد على نفي العقاب على تقدير المخالفة لا نفي الحكم الواقعي.

قوله : نعم لو أخذ في ذلك الفعل بنية القربة ـ إلى قوله ـ بغير ما علم كون أحدهما (٢) تعبديا (٣).

(٢) لو فرض كون كلا الحكمين تعبديا فما ذكره من لزوم المخالفة العملية من إجراء الأصل حقّ ، لأنّ كلا من الفعل والترك لا لداعي القربة مخالفة عملية قطعية ، وأما إذا فرض كون أحدهما تعبديا والآخر توصليا فلزوم المخالفة العملية من إجراء الأصل مطلقا ممنوع ، مثلا لو كانت المرأة في شك من أنها حائض أو طاهر فأمرها يدور بين وجوب الصلاة التعبدي وحرمتها التوصلية ، فإن كان متعلق حكم الحرمة مطلق الصلاة ولو لا لداعي القربة فالعمل بأصالة البراءة يستلزم المخالفة العملية ، إذ لو صلّت لا لداعي القربة تعلم بمخالفة الحكم الواقعي ، لأنّها لو كانت واجبة فقد أخلّت بالقربة وإن كانت محرمة فقد أتت بها ، وإن كان متعلّق التحريم هو الصلاة بقصد القربة فلا يلزم من إجراء الأصل مخالفة عملية أصلا لأنّها إن صلّت بداعي القربة فقد وافقت احتمال الوجوب ، وإن صلّت لا لداعي القربة أو لم تصلّ أصلا فقد وافقت احتمال الحرمة ، إذ المحرّم هي الصلاة بقصد القربة بالفرض ولم تتحقق ، فافهم.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٨٥.

(٢) توجد هنا كلمة «المعين» في بعض نسخ الفرائد.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٨٦ ـ ٨٧.

١٨٥

تنبيه :

على القول بحرمة المخالفة الالتزامية يلزم عدم جواز إجراء الأصل في كثير من موارده غاية الكثرة ، وضابطه جميع موارد العلم الإجمالي بين حكمين من الأحكام التكليفية أو الوضعية ، والالتزام بذلك لعلّه يقطع بخلافه ، فلو دار الأمر بين كون شيء مندوبا أو مباحا مثلا يجب الالتزام بأحدهما على القول ، إذ لا فرق في وجوب الالتزام بين سائر الأحكام ، ولا يلتزم به أحد.

عدم جواز المخالفة العملية

قوله : أما المخالفة العملية (١).

(١) إطلاق العنوان يعمّ ما لو كان المعلوم بالإجمال مسبوقا بالعلم التفصيلي وقد تنجّز التكليف به ثم طرأ عليه الإجمال ، وما لو حصل في أول الأمر العلم الإجمالي ، وكذا يعمّ ما لو كان العلم بما يتعلّق بحقوق الناس من أموالهم وأعراضهم ونفوسهم وما لو كان متعلّقا بحقوق الله فقط ، أو كان مردّدا بينهما ، وكذا يعمّ على ما في المتن ما لو كانت المخالفة لخطاب تفصيلي متعلقا بعنوان مخصوص أو كانت مخالفة لخطاب إجمالي مردّد بين خطابين من سنخ واحد كالتردّد في وجوب أحد العنوانين أو من سنخين كالتردد في وجوب أحد العنوانين وحرمة الآخر ، ولعل هذه التقسيمات ينفع فيما سيأتي في وجه

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٩٣.

١٨٦

المسألة.

قوله : فإن كانت لخطاب تفصيلي فالظاهر عدم جوازها (١).

(١) تحقيق هذا المبحث أعني حرمة المخالفة القطعية العملية موقوف على التكلّم في مقامات ثلاثة :

الأول : أنّ العلم الإجمالي منجّز للتكليف أم لا.

الثاني : أنّه على تقدير كونه منجّزا هل هو علّة تامة للتنجّز حتى لا يجوز ترخيص الشارع لما يوجب مخالفته ، أو هو مجرّد مقتض للتنجّز ويجوز أن يمنعه مانع من ترخيص الشارع ونحوه.

الثالث : أنّه على تقدير جواز الترخيص هل الرخصة ثابتة في الشرع أم لا.

أما المقام الأول ، فالحق أنّ العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي في تنجّز التكليف به بحكم العقل ، فإنّه كما يحكم بعدم جواز مخالفة ما علم تفصيلا أنّه حرام أو واجب كذلك يحكم بعدم جواز المخالفة للمعلوم بالإجمال ، سواء كانت مخالفة لخطاب واحد معيّنا أو لأحد الخطابين المعلوم وجود أحدهما ، سواء كانا من سنخ واحد أو سنخين ، لأنّ مناط حكم العقل هو التعرّض لمبغوض المولى وعدم المبالاة بارتكابه ، وهذا المعنى مشترك بين جميع الأقسام ، وبهذا يعلم أنّ العلم الإجمالي غير لازم المراعاة في الشبهة غير المحصورة ، إذ العلم الكذائي كعدم العلم في اعتبار العقل ، ومن ارتكب بعض أطراف الشبهة لا يعدّ عند العقل متعرضا لما هو مبغوض للمولى مع كثرة الأطراف بمثل الكثرة المعتبرة في الشبهة غير المحصورة.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٩٣.

١٨٧

وأما المقام الثاني ، فقد تقدّم جواز ترخيص الشارع مخالفة المعلوم التفصيلي ومنع العمل به ببيان مستوفى ، فالمعلوم بالإجمال أولى بذلك لأنّه مشوب بالجهل ، فيجوز أن يكون شوبه بالجهل حكمة للإذن بالمخالفة ، وقد تقدّم أيضا جواب ما أورده المصنف (قدس‌سره) من لزوم التناقض بين جعل الحكم الواقعي غير مقيّد بالعلم وبين الترخيص المذكور ، فراجع.

وأما المقام الثالث ، فقد يقال : بأنّ أكثر الأدلة النقلية على أصالة البراءة أو جميعها شاملة للمقام ، فإنّ كل واحد من أطراف المعلوم بالإجمال شيء حجب الله علمه فهو موضوع بمقتضى قوله (عليه‌السلام) : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» (١) وكذا قوله (عليه‌السلام) : «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» (٢) شامل لما نحن فيه وهكذا ، إلّا أنّ المصنف (قدس‌سره) ذكر في رسالة أصل البراءة من أخبار الباب في الاستدلال على مقامنا هذا خصوص خبر «كل شيء لك حلال حتى تعرف أنّه حرام بعينه» (٣) وخبر «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» (٤) فإنّ مفادهما مما يشمل أطراف المعلوم بالإجمال بإطلاقه كما أنّه يشمل الشبهة البدوية ، ثم أجاب بأنّ مثل هذه الأخبار كما تدل على حلّية كل واحد من المشتبهين كذلك تدل على حرمة ذلك المعلوم إجمالا لأنّه أيضا شيء علم حرمته ، ثم أورد (رحمه‌الله) على نفسه بأنّ غاية الحلّ معرفة الحرام بشخصه ولم يتحقق في المعلوم الإجمالي ، ثم أجاب عنه بقوله : قلت : أما قوله (عليه

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٦٣ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٣٣.

(٢) الوسائل ٢٧ : ١٧٣ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٦٧.

(٣) الوسائل ١٧ : ٨٩ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ٤.

(٤) الوسائل ١٧ : ٨٧ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ١.

١٨٨

السلام) : «كل شيء لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه» فلا يدل على ما ذكرت ، لأنّ قوله «بعينه» تأكيد للضمير جيء به للاهتمام في اعتبار العلم كما يقال : رأيت زيدا بعينه لدفع توهّم وقوع الاشتباه في الرؤية ، وإلّا فكل شيء علم حرمته فقد علم حرمة نفسه ، فإذا علم نجاسة إناء زيد وطهارة إناء عمرو فاشتبه الإناءان فإناء زيد شيء علم حرمته بعينه ، نعم يتّصف هذا المعلوم المعيّن بكونه لا بعينه إذا أطلق عليه عنوان أحدهما فيقال : أحدهما لا بعينه في مقابل أحدهما المعيّن عند القائل ، انتهى موضع الحاجة.

وفيه نظر :

أمّا أوّلا : فلأنّه إن أراد بقوله (قدس‌سره) هذه الأخبار كما تدل على حلّية كل واحد من المشتبهين كذلك تدل على حرمة ذلك المعلوم إجمالا ، لأنّه أيضا شيء علم حرمته ، أنّ مضمون الخبر يناقض ذيله صدره على تقدير شمولاه للشبهة في المعلوم بالإجمال ، فيستكشف من ذلك اختصاصه بغير مورد العلم الإجمالي ، ففيه أنّ لزوم التناقض مبني على صدق عموم كل شيء على أطراف المعلوم بالإجمال مرتين ، مرّة باعتبار إناء زيد وإناء عمرو ومرّة باعتبار هذا الإناء وذلك الإناء ، حتى يصحّ أن يقال : إنّه باعتبار إناء زيد معلوم الحرمة وبالاعتبار الآخر مشتبه يحكم بحليته فيلزم التناقض ، وليس كذلك فإنّ الشيء الواحد لا يدخل في عموم كل شيء إلّا مرة واحدة إما باعتبار شخصه أو باعتبار عنوانه مثل إناء زيد مثلا ، والأظهر بل المتعيّن دخوله في العموم بالاعتبار الأول ، لأنّ المراد بالشيء بقرينة الغاية هو المشتبه وإناء زيد غير مشتبه الحكم ، فكأنه قال : كل شيء مشتبه حلال حتى تعلم أنّه شخص الحرام وارتفع الاشتباه ، ولا ريب أنّ المشتبه ليس إلّا خصوص نفس الإناءين ، وإناء زيد أيضا مشتبه باعتبار شخصه وإن كان غير مشتبه الحكم باعتبار عنوانه ، وهو

١٨٩

بهذا الاعتبار غير داخل في العموم كما عرفت.

وإن أراد أنّ غاية الحكم بالحلية أي معرفة الحرام بعينه حاصلة في مورد العلم الإجمالي ليترتّب عليه دخول أطراف المعلوم بالإجمال في حكم الغاية لا المغيّى على ما يشير المصنف إلى هذا التقرير في غير موضع من رسالة الاستصحاب في نظير المقام ، ففيه :

أوّلا : أنّ الظاهر من العلم الذي جعل غاية هو العلم التفصيلي فلا يشمل العلم الإجمالي.

وثانيا : أنّ مرجع الضمير في قوله : «حتى تعلم أنّه حرام» نفس الشيء المشتبه ، فلا يصدق الغاية إلّا بتعلّق العلم بالحرمة بنفس ما كان مشتبها بشخصه ، مثلا لو فرض كون المشتبه هذا الإناء الأبيض فيقال بمقتضى الخبر أنّه حلال حتى تعلم أنّ هذا الإناء الأبيض حرام ، لا أنّه حلال حتى تعلم أنّ إناء زيد حرام مع احتمال كون إناء زيد هو الإناء الأسود لا الأبيض ، لأنّ مرجع الضمير هو المشتبه الذي هو الإناء الأبيض بالفرض ، ومرجع هذا الجواب أيضا إلى أنّ الغاية هو العلم التفصيلي بهذا التقريب.

وقد ظهر مما ذكرنا أنّ الاستدلال بالخبر على حلية كلا المشتبهين يتمّ ، لو لم يكن لفظة بعينه مذكورة في الخبر أو كانت ولم تفد سوى التأكيد على ما زعمه المصنف كما مرّ.

وأما ثانيا : فلأنّ ما ذكره من أنّ قوله (عليه‌السلام) بعينه تأكيد للضمير جيء به للاهتمام إلى آخره أحد الاحتمالات ، وثانيها : أن تكون تأكيدا للضمير أيضا ولكن باعتبار تعلّق العلم به حتى يكون بالاخرة قيدا للعلم ، وثالثها : أن يكون ظرفا لغوا متعلّقا بالعلم ويكون قيدا للعلم ، وعلى كلا الاحتمالين

١٩٠

الأخيرين تكون الغاية معرفة الحرام بعينه وشخصه ، وأظهر الاحتمالات هو الاحتمال الثاني ثم الثالث.

وكيف كان ، يتم دلالة الخبر على البراءة حتى في مورد العلم الإجمالي بالحرام.

فإن قلت : نمنع شمولاه لمورد العلم الإجمالي بتقريب آخر وهو أن يقال : إنّ للعلم نحوين من التحقق فإنّه قد يتحقق تفصيلا ويقال لمتعلّقه المعلوم مطلقا ، وقد يتحقق إجمالا ويقال لمتعلّقه إنه معلوم وإنه مجهول ، أما أنه معلوم فبالإجمال وأما أنه مجهول فبالتفصيل نظير الواجب التخييري على القول المشهور فإنّ كلا من أفراد الواجب المخيّر واجب يعني تخييرا جائز الترك يعني معيّنا ، فكما أنّ جواز ترك كلّ من الأفراد معيّنا لا ينافي كونه واجبا ، أيضا كذلك كون كل واحد من الأطراف مجهول الحرمة لا ينافي كونه معلوم الحرمة بنحو الإجمال ، فقد صدق على كلّ الأطراف أنّه معلوم الحرمة ، وحينئذ يدخل في حكم الغاية ويخرج عن موضوع حكم المغيّى أي الحكم بالحلّية.

قلت : فيه نظر :

أمّا أوّلا : فلأنّه قد تقدم أنّ المراد من العلم الإجمالي ما كان متعلّقه مرددا عند العالم وهو معيّن في الواقع ، مثلا لو علمنا بأنّ أحد الإناءين خمر فمتعلّق العلم هو الخمر المردد عندنا وهو معيّن في الواقع ، وليس المتعلّق كلا من الإناءين فلا يمكن أن يقال : كل منهما خمر بالعلم الإجمالي كما يمكن في الواجب المخيّر أن يقال : كل منهما واجب بالوجوب التخييري ، بل ما نحن فيه نظير الواجب التخييري على قول من يقول بأنّ الواجب هو ما يختاره المكلّف واقعا أو واحد معيّن عند الله فلا يتّصف تمام الأفراد بالوجوب واقعا.

١٩١

والحاصل : أنّا نمنع كون تحقق العلم نفسه على نحوين وكيفيّتين ، بل تقسيم العلم إلى الإجمالي والتفصيلي باعتبار المتعلّق ، فإن كان مشخصا يسمى تفصيليا وإن كان مرددا يسمى إجماليا ، وليس لنا في العلم الإجمالي معلومان يترتب على كل منهما أثر العلم.

وأمّا ثانيا : فلأنّه لو كان مثل هذا العلم الإجمالي سببا لدخول المشتبه في حكم الغاية لا المغيّى لزم عدم إجراء البراءة في الشبهة البدوية الموضوعية ، وينحصر مورد أخبار البراءة في الشبهة الحكمية لجريان نظير ما نحن فيه هناك أيضا ، مثلا لو شكّ في كون هذا المائع خمرا فيقال : نعلم أنّ الخمر حرام ويحتمل انطباقه على هذا المائع ، كما يقال فيما نحن فيه : نعلم أنّ أحدهما حرام ويحتمل كونه هذا أو ذاك (١).

وأما ثالثا : فلأنّ المصنف في آخر رسالة الاستصحاب في تعارض الاستصحابين بسبب العلم الإجمالي بمخالفة أحدهما للواقع قد فرّق بين ما لو كان العلم الإجمالي مثبتا لتكليف إلزامي فحكم بتساقط الأصلين ، وبين ما لم يكن مثبتا للتكليف أو كان أحد طرفيه خارجا عن محل الابتلاء فلا مانع من إجراء الأصل ، وحينئذ نقول : لو كان المعلوم بالإجمال داخلا في الغاية خارجا عن حكم المغيّى لا يفرّق فيه بين الأقسام الثلاثة ، إذ هي مشتركة في حصول العلم الإجمالي الذي جعلته غاية ، بل يشمل العلم الإجمالي بالنسبة إلى المكلّف المتعدّد كما في واجدي المني أيضا ، فيلزم ألا يحكم بالأصل في شيء منها.

فقد تحقّق مما ذكرنا جواز المخالفة القطعية للمعلوم بالإجمال بمقتضى

__________________

(١) أقول : اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ فيما نحن فيه نعلم الموضوع أيضا إجمالا ، وفي الشبهة البدوية لا نعلم الموضوع أصلا ، وبهذا الفرق يندفع النقض.

١٩٢

الخبرين بل بمقتضى إطلاق جميع أخبار البراءة.

وقد يتمسك لعدم الجواز بوجوه ضعيفة :

منها : دعوى انصراف أخبار البراءة إلى غير صورة العلم الإجمالي بوجود الحكم المخالف.

وفيه : منع الانصراف وأنّه لا وجه له.

ومنها : أنّ ارتكاب جميع أطراف المعلوم بالإجمال موجب للعلم بارتكاب الحرام وهو حرام فلا بدّ من إبقاء بعض الأطراف حذرا من حصول العلم المحرّم.

وفيه : أنّه لا دليل على حرمة تحصيل العلم بارتكاب الحرام ، ولو كان ذلك حراما لزم حرمة الفحص والتفتيش عمّا فعله المكلف غفلة أو سهوا أو معتمدا على الأصل المعتبر فيعلم أنّ ما ارتكبه كان حراما.

ومنها : أنّ المستفاد من مجموع أخبار البراءة أنّ المشتبه المجهول حكمه الحلّ وأنّ المعلوم الحكم أيضا يجب اتباعه ، فإذا كان هناك معلوم وغير معلوم فيجب مراعاتهما بالحكم بالحلّية في بعض وعدمها في بعض آخر مراعاة لهما.

وفيه : ما مرّ من أنّ مفاد الأخبار غير ذلك ، وأنّه يحكم بالحلّية حتى يعلم الحرمة بالعلم التفصيلي بأحد الوجوه السابقة.

ومنها : أنّ المشتبهين بالشبهة المحصورة وإن كانا داخلين في أخبار البراءة باعتبار ، إلّا أنّهما داخلان في حكم الغاية أي الحكم بالحرمة باعتبار آخر.

١٩٣

بيانه : أنّ هناك هذا الإناء بشرط الانفراد وذاك الإناء بشرط الانفراد ، وهذا الإناء بشرط الانضمام إلى الآخر وذاك الإناء بشرط الانضمام إلى الأول ، ولا ريب أنّ الإناء بشرط الانفراد غيره بشرط الانضمام ، وحينئذ نقول : يدل خبر «كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه» على حليّة كل من الإناءين بشرط الانفراد وعلى حرمة كل من الإناءين بشرط الانضمام إلى الآخر ، لأنّه بهذا القيد معلوم الحرمة ، فمقتضى الجمع بين حكمي الحلّية والحرمة الكذائية أن يمنع عن ارتكاب أحدهما.

وبوجه آخر ، أنّ هناك مصاديق ثلاثة للشيء ، هذا الإناء وذاك الإناء وأحدهما لا بعينه ، ويدل الخبر على حلّية الفردين الأولين لكونهما مشكوكي الحكم وعلى حرمة الفرد الأخير لأنّه معلوم الحرمة ، ومقتضى الجمع بين الحكمين المنع عن ارتكاب أحد الإناءين والرخصة في الآخر.

وبوجه ثالث ، أنّ هناك أفرادا ثلاثة ، هذا وحده وهذا وحده وهما معا ، والخبر المذكور يدل على حلّية الأولين لأنّهما مشكوكا الحكم وعلى حرمة الأخير لأنّه معلوم الحرمة ، ومقتضى الجمع هو الحكم بحرمة أحدهما وحلّية الآخر.

والجواب عن الوجوه الثلاثة : أنّها لا تتمّ إلّا على تقدير كون الخبر المذكور بصدد بيان حكمين حكم الحلية للمغيّا وحكم الحرمة لما ذكر في الغاية ، وليس كذلك بل هو بصدد بيان حكم المغيّى فقط ، وبيّن أن غايته هي العلم بالحرمة الذي كان يحكم العقل بوجوب متابعته ، ولا ريب أنّ الحكم بالحلية التي تستفاد من أخبار البراءة وارد على الحكم العقلي الأوّلي بالفرض لأنّه كان حكما اقتضائيا يكون رخصة الشارع مانعا عن فعليته ، فلا تكون هذه الحرمة

١٩٤

أي ما ثبت بحكم العقل الأوّلي معارضا للحكم بالحلية حتى يجمع بينهما بما ذكر.

نعم ، لو كان الحكم بالحرمة بالنسبة إلى الغاية في عرض الحكم بالحلية بواسطة مفهوم الغاية لو كان حجّة مثلا تمّ ما ذكر.

سلّمنا أنّه يستفاد من الخبر حكمان كما زعمه المستدل ، لكن نقول يرد على الوجه الأول : أنّ الإناء بشرط الانضمام لم يعلم حرمته ، إذ لو كان الآخر المنضمّ إليه حراما في الواقع لم تسر حرمته إلى هذا الإناء ، بل الضميمة حرام فكيف يقال نعلم حرمة هذا الإناء بشرط انضمامه إلى الآخر.

وعلى الوجه الثاني ، أنّ أحدهما لا بعينه لا يستفاد من الخبر حرمته ، بل لو دلّ لدلّ على أنّ ما علم حرمته بعينه فهو حرام والمعلوم بالإجمال هنا ما علم حرمته لا بعينه.

وهكذا يجاب عن الوجه الثالث ، لأنّ مجموع الإناءين معا لم تعلم حرمته أي حرمة ذلك المجموع ، بل علم اشتمال ذلك المجموع على الحرام لا أنّه حرام بعينه ، هذا.

مضافا إلى أنّ الخبر الآخر أعني «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال» يدل على حلية هذا الفرد يعني مجموع الإناءين ، إذ يصدق عليه أنه شيء فيه حلال وحرام ، نعم يلزم ذلك جواز ارتكاب كلا المشتبهين دفعة أيضا ، ولا بأس بالتزامه كما مرّ سابقا أيضا ، اللهمّ إلّا أن يكون ارتكابهما بفعل واحد فإنّه يعلم تفصيلا بحرمة هذا الفعل.

ومنها : أنّ إجراء أصالة البراءة والحل في كلا المشتبهين وإن كان صحيحا في حدّ نفسه وبالنظر إلى خصوص كلّ واحد ، إلّا أنّ الأصلين متعارضان

١٩٥

بضميمة العلم الإجمالي بمخالفة أحدهما للواقع ، كما أنّه في الخبرين المتعارضين كذلك كان يدل أحدهما على وجوب الظهر والآخر على وجوب الجمعة وعلمنا بعدم وجوب كليهما فيحكم بالتعارض بين الخبرين ، وحكم المتعارضين التخيير بناء على أنّ الأصل والقاعدة في تلك المسألة يقتضي التخيير على ما هو الحق لا التساقط ، ويلزم ذلك حرمة المخالفة القطعية بإعمال الأصلين في الطرفين.

والجواب عنه من وجوه :

أحدها : ما يظهر من المصنف في آخر رسالة الاستصحاب في مسألة تعارض الاستصحابين ومحصّله : أنّ الحكم بالتخيير بعد التعارض إنّما يتم فيما لو كان مقتضى الحجية في كلا المتعارضين موجودا وإنّما منع عن العمل بهما عدم قدرة المكلّف على العمل بهما ، فيحكم العقل بالتخيير ليحصل العمل بالحجّة بقدر الإمكان ، وما نحن فيه ليس كذلك لأنّ المانع عن إجراء الأصلين ليس إلّا العلم الإجمالي بمخالفة أحدهما للواقع ووجوب متابعة ذلك العلم شرعا ، فلا يمكن للشارع أن يجعل كلا الأصلين حجة مع حكمه بوجوب متابعة العلم بقوله :

«حتى تعلم أنّه حرام» وقوله (عليه‌السلام) : لكنه تنقضه بيقين آخر في مثال الاستصحابين.

أقول : يرد عليه أنّ ذلك العلم الإجمالي لا أثر له بعد ما ذكرنا من أنّ المراد من العلم المجعول غاية في الرواية هو العلم التفصيلي لا الإجمالي ، فمقتضى الحجية في كلا الأصلين موجود.

وثانيها : ما يظهر من المصنف أيضا في رسالة أصالة البراءة في توجيه وجوب الموافقة القطعية ومحصّله : أنّ العمل بالأصلين وكذا العمل بأحدهما

١٩٦

مخيّرا موجب لطرح التكليف المعلوم إجمالا في البين ، ولمّا لم يجز طرح ذلك التكليف ووجب مراعاته بالاحتياط عن أطراف العلم الإجمالي المتعلّق به كان اللازم الحكم بسقوط الأصلين لا التخيير.

ويرد عليه : أنّ ذلك إنّما يتمّ على مذاق المصنف من عدم إمكان ترخيص الشارع مخالفة المعلوم ولو بالعلم الإجمالي ، وأمّا على ما حققنا مرارا من إمكان الترخيص سيّما في المعلوم بالعلم الإجمالي فلا تجب مراعاة العلم الإجمالي بعد ورود الرخصة من الشارع في كلّ من أطرافه للمخالفة.

والحاصل أنّ دليل الأصل في الطرفين حاكم على دليل وجوب متابعة العلم لأنّه كان مشروطا بعدم رخصة المخالفة ، فلا أثر لهذا العلم ، والتكليف المستكشف به ساقط.

وثالثها : أنّ تعارض الأصلين فرع حجية العلم الإجمالي مطلقا حتى في مثل ما نحن فيه ، وقد مرّ منعه آنفا وأنّه لا حجية فيه في موارد ترخيص الشارع لمخالفته في أطرافه ، وهذا الوجه حق الجواب والله أعلم بالصواب.

ومنها : ما أشار إليه المصنف أيضا في رسالة أصل البراءة وهو أنّ قوله (عليه‌السلام) : «كل شيء حلال» ونحوه يستفاد منه حلّية المشتبهات بالشبهة المجرّدة عن العلم الإجمالي جميعا ، وحلية المشتبهات المقرونة بالعلم الإجمالي على البدل ، لأنّ الرخصة في كل شبهة مجرّدة والبناء على كونه حلالا لا ينافي الرخصة في غيرها لاحتمال كون الجميع حلالا في الواقع ، وأما الرخصة في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي والبناء على كونه حلالا واقعيا فيستلزم البناء على كون الآخر حراما في الواقع لمكان العلم بحرمة أحدهما ، وإلّا لزم الحكم بحلّية الحرام الواقعي ، فالمرخّص فيه في هذا القسم ليس إلّا ما

١٩٧

عدا مقدار الحرام المعلوم.

والحاصل : أنّ مفاد الأخبار جعل محتمل الحلية مطلقا حلالا ، وليس في مورد الشبهة المحصورة بين شيئين محتمل الحلية إلّا واحدا وإن كان مرددا بينهما ، فمعنى البناء على أنّ هذا حلال البناء على أنّ الآخر حرام وبالعكس ، وبالجملة يلزمه عدم جواز المخالفة القطعية والبناء على حلية جميع الأطراف.

وما يتوهّم من لزوم استعمال لفظة حلال في الرواية في معنيين ، فإنّه في الشبهة البدوية يراد به الحلية المطلقة ، وفي الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي يراد به الحلية مع البناء على أنّ الحرام غيره ، مندفع بأن لم يرد منه إلّا معنى واحد وهو مطلق البناء على الحلّية ، غاية الأمر أنّه يستلزم في بعض موارده البناء على حرمة شيء آخر بواسطة خصوصية المورد وهي اقترانه بالعلم الإجمالي.

والجواب : أنّ هذا إنّما يتم لو كان المراد من الرواية ما ذكر من البناء على أنّ المشتبه هو الحلال الواقعي وقد مرّ أنّ الظاهر منها أنّ المشتبه مطلقا حلال في الظاهر وإن كان حراما في الواقع ، وهذا المعنى تتساوى نسبته إلى الشبهة البدوية والشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي.

ومنها : وهو آخر الوجوه وقيل إنّه أقواها : أنّ مقتضى الجمع بين أخبار البراءة وأخبار الاحتياط حمل الطائفة الأولى على الشبهة البدوية والثانية على الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي ، فتجب حينئذ الموافقة القطعية فضلا عن حرمة المخالفة القطعية. ولنشر أوّلا إلى الطائفتين من الأخبار ووجه دلالة كل منهما في حدّ أنفسهما ثم ننظر إلى وجه الجمع فنقول :

أما الطائفة الأولى ، فهي صنفان : صنف يدل بإطلاقها على البراءة حتى في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي وهو جميع ما استدلوا به في الشبهة البدوية من

١٩٨

مثل «ما حجب الله علمه فهو موضوع عنهم» (١) و «رفع ما لا يعلمون» (٢) و «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» (٣) وغيرها سيّما خبري «كل شيء لك حلال» إلى آخره (٤) و «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال» إلى آخره (٥) على التقريب الذي مضى ببيان مستوفى.

وصنف يدل على البراءة في خصوص الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي مثل موثّقة سماعة قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أصاب مالا من عمّال بني أمية لعنهم الله وهو يتصدق منه ويصل قرابته ويحجّ ليغفر له ما اكتسب ويقول : إن الحسنات يذهبن السيّئات ، فقال (عليه‌السلام) : إنّ الخطيئة لا تكفّر الخطيئة وإن الحسنة تحبط الخطيئة ، ثم قال (عليه‌السلام) : إن كان خلط الحرام حلالا فاختلطا جميعا فلم يعرف الحرام من الحلال فلا بأس» (٦) فإنّ دلالتها على المدّعى في غاية الظهور ، لأنّ نفي البأس عن التصرّف في المال المختلط حلاله بحرامه بالتصدّق والصلة والحج مطلقا وعدم استثناء مقدار الحرام منه ، يلزم منه جواز المخالفة القطعية بالتصرّف في جميع المال على النحو المذكور.

وما يظهر من المصنف في رسالة أصل البراءة من حمل الخبر على ارتكاب البعض وإبقائه مقدار الحرام ، ضعيف جدا كدعواه الاخرى من حمله

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٦٣ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٣٣.

(٢) الوسائل ١٥ : ٣٦٩ / أبواب جهاد النفس ب ٥٦ ح ١.

(٣) الوسائل ٢٧ : ١٧٣ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٦٧.

(٤) الوسائل ١٧ : ٨٩ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ٤.

(٥) الوسائل ١٧ : ٨٧ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ١.

(٦) الوسائل ١٧ : ٨٨ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ٢.

١٩٩

الحرام فيه على حرام خاصّ يعذر فيه الجاهل كالربا بناء على ما ورد في عدة أخبار من حلية الربا الذي أخذ جهلا ثم لم يعرف بعينه في المال المخلوط ، فإنّ ذلك بعيد عن إطلاقه غاية البعد.

ونظيره في البعد حمله على ما لو كان الاختلاط في يد العامل الذي أصاب الرجل من ماله ، ويكون حلّه للرجل بملاحظة حمل تصرّف العامل على الصحيح بعد إمكانه.

والإنصاف أنّ الرواية في غاية القوّة من الظهور على المدّعى بعيدة عن أمثال هذه التأويلات في الغاية.

ومثل ما ورد في جواز الشراء من السارق والعامل والسلطان الذي يعلم إجمالا بوجود الحرام في أموالهم غالبا ، ودعوى أنّ وجه الجواز حمل تصرّف من ذكر على الصحيح لكونهم من المسلمين كما عن المصنف في كتاب المكاسب (١) مدفوعة بأنّ العلم الإجمالي بتصرّفه في الحرام يمنع عن هذا الحمل ، لأنّ إمساكهم لباقي الأموال أيضا تصرّف فيها ، كما أنّ دعواه أنّ وجه الجواز تردد الحرام بين ما هو مورد لابتلاء المكلّف وما هو خارج عن ابتلائه وهو ما عدا ما اشتراه ، مدفوعة بأنّ الحق المحقّق في محلّه عندنا عدم الفرق بين مورد الابتلاء وغيره في حكم العلم الإجمالي ، وبيانه موكول إلى محلّه.

ومثل رواية ضريس «عن السمن والجبن في أرض المشركين بالروم ، أنأكله؟ قال عليه‌السلام : أمّا ما علمت أنّه قد خلطه الحرام فلا تأكل وأمّا ما لم تعلم فكله حتى تعلم أنه حرام» (٢) بناء على أنّ المراد من الخلط المزج لا

__________________

(١) المكاسب ٢ : ١٧٥.

(٢) الوسائل ٢٤ : ٢٣٥ / أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٤ ح ١.

٢٠٠