حاشية فرائد الأصول - ج ١

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-015-2
الصفحات: ٦٩٤

التبيّن بالفاسق والتعليل بإصابة قوم بجهالة والإصباح بالندم يفيد جواز الركون إلى كل خبر يعتمد عليه في طريقه العقلاء ، فكأنّه قال : لا تعتدّوا بخبر الفاسق الذي يكون متابعته من عمل الجهّال ومن غير رويّة وموجب للوقوع في الندامة وهي ملامة النفس من ارتكابه ، واعملوا بكلّ خبر يكون متابعته من رويّة العقلاء ولا يوجب الندم ولا يلام ارتكابه ، ثم ندّعي أنّ خبر الفاسق المتحرّز عن تعمّد الكذب أو المجهول العدالة الممدوح في لسان أصحاب علم الرجال أو الخبر الضعيف المنجبر بعمل الأصحاب مما يعتمد عليه في طريقة العقلاء فتكون حجة بمقتضى الآية ، فتثبت بها حجية الخبر بأقسامها الأربعة كما أراده هذا القائل.

وعلى هذا الوجه مفاد الآية تقرير عمل العقلاء في العمل بالأخبار والتنبيه على أنّ العاقل لا ينبغي أن يعتمد على مجرّد خبر الفاسق ، وهذا مما قد يحصل الغافلة عنه فلهذا حسن التنبيه عليه.

وإن أبيت عن ذلك وقلت : إنّ العقلاء لا يعتمدون على الخبر إلّا إذا حصل لهم الاطمئنان منه ، فمفاد الآية على هذا لا يزيد على حجية الخبر المفيد للاطمئنان كما استظهره المصنف من الآية على ما سيأتي.

قلنا : نثبت المدّعى بوجه آخر وهو أنّه لما ثبتت حجية قول العادل بمقتضى المفهوم يفهم أنّه ليس من إصابة قوم بجهالة وليس من مورد الإصباح بالندم ، فنستكشف من ذلك أنّ كل خبر بلغ بمرتبة قول العادل في الوثوق لا يوجب متابعته الوقوع في الندم وهو حجة ، وذلك ما أردناه.

ولا يخفى أنّ هذا الوجه يقتضي حجية مطلق الظن البالغ بهذه المرتبة من أي سبب كان ، سواء كان في الأحكام أو في الموضوعات ، ولا يرد عليه شيء سوى ما أورده المصنف على ما استظهره من إفادة الآية حجية الخبر الموجب

٤٦١

للاطمئنان أو الظن كذلك وسيأتي الجواب عنه ، وسوى أنّ حجية مطلق الظن أو الخبر الظني مطلقا بل خبر العادل في الموضوعات يعارضها ما دلّ على اعتبار العلم أو البيّنة في الموضوعات مثل قوله (عليه‌السلام) في ذيل رواية مسعدة بن صدقة «والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غيره أو تقوم به البيّنة» (١) وقوله (عليه‌السلام) : «هو لك حلال حتى يجيئك شاهدان أنّ فيه الميتة» (٢) فإن قلنا بدلالة رواية مسعدة ونحوها على اعتبار البيّنة في مطلق الموضوعات على ما نسب إلى غير واحد من الفقهاء كانت مخصّصة للآية لأنّها أخصّ مطلقا من الآية ، فيختصّ مفاد الآية بغير الموضوعات ، ولا يخفى ما فيه من لزوم تخصيص المورد.

وإن قلنا بدلالتها على اعتبار العلم أو البيّنة في خصوص موضوع المحرّمات كالأمثلة المذكورة في الرواية كما هو الأظهر المحقّق في محلّه ، فلا بدّ أن يخصّص عموم الآية بالشبهات الموضوعية التحريمية فتدبّر.

قوله : والحاصل أنّ الآية تدلّ على أنّ العمل يعتبر فيه التبيّن من دون مدخلية لوجود خبر الفاسق وعدمه (٣).

(١) وهذا هو الظاهر المتبادر منها وإلّا لزم وجوب الفحص والتبيّن في كل ما لو جاء الفاسق بخبر سواء كان في الأحكام أو الموضوعات ، ولم يجز العمل بالأصول في هذه الصورة ، وهذا مما لا يلتزمه أحد.

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٨٩ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ٤.

(٢) الوسائل ٢٥ : ١١٨ / أبواب الأطعمة المباحة ب ٦١ ح ٢.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٢٧٦.

٤٦٢

قوله : ولكن لا يخفى أنّ حمل التبيّن على تحصيل مطلق الظن أو الاطمئنان يوجب خروج مورد المنطوق وهو الاخبار بالارتداد (١).

(١) قد أشرنا إلى أنّ هذا الإيراد يرد على ما وجّهنا الآية أيضا بدلالتها على حجية مطلق الظن البالغ مبلغ خبر العادل في الوثوق ، ومحصّله : أنّ مفاد الآية على هذا بعد عدم جواز تخصيص المورد مخالف للإجماع ، للاتفاق على عدم حجية الظن بالارتداد ، بل على عدم حجية خبر غير العادل فيه ، بل على عدم حجية خبر العدل الواحد ، فيكشف ذلك عن فساد الوجه المذكور من أصله.

ويمكن أن يجاب بأنّ القدر المسلّم من الإجماع هو ترتيب جميع آثار الكفر على الاخبار بالارتداد من حكم النجاسة والقتل وغيرها ، أما مجرّد تجهيز الجيش والتوجّه إلى نحوهم واستعلام حالهم واستتابتهم لو كانوا مرتدّين وقتالهم لو لم يتوبوا في مورد الآية ونحوها في غيره فلم يقم إجماع على عدمه ، فيكون مطلق الخبر المفيد للظن أو مطلق الظن في مثله حجة بمقتضى مدلول الآية ، فلم يلزم تخصيص المورد ولا مخالفة الإجماع ، غاية الأمر لزم تقييد الآية بالنسبة إلى المورد بغير مثل القتل ونحوه.

فإن قلت : إنّ ظاهر قوله : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) هو القتال لا غير فكيف يخصّص بغيره؟

قلت : نعم الظاهر ذلك ، ولكن لا محيص عن رفع اليد عن هذا الظاهر على كل تقدير ، إذ لا يجوز قتل قوم مرتدّين عن ملّة مطلقا ولو شهد عليهم عدلان إلّا بعد عدم توبتهم عقيب الاستتابة ، فالمراد من إصابتهم ليس إلّا تجهيز الجيش إليهم واستتابتهم.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٧٦.

٤٦٣

قوله : دلّت على وجوب الحذر عند إنذار المنذرين (١).

(١) يمكن تقريب الاستدلال بوجه لا يحتاج إلى إثبات وجوب الحذر بأنّ يقال تدل الآية على كل تقدير على جواز الحذر عند إنذار المنذرين مطلقا ، فيجوز العمل بقول المنذر مطلقا ولو لم يفد العلم ، وهذا القدر يكفينا في مقابل قول السيد بالمنع عن جواز العمل بأخبار الآحاد مطلقا ، وهذه الاستفادة لا تتوقف على كون الحذر غاية للنفر الواجب ، ولا يتفاوت الحال بين أن تكون الآية بصدد النفر إلى الجهاد أو إلى التفقه والانذار.

نعم لا تثبت بها حجية خبر الواحد في المستحبات والمكروهات ، لعدم صدق الانذار الذي هو بمعنى التخويف والحذر الذي هو بمعنى الفرار عن المفسدة بالنسبة إليها ، لكن يتم فيها بعدم القول بالفصل وبالأولوية ، وهذا التعميم محتاج إليه بناء على ثبوت وجوب الحذر أيضا كما لا يخفى.

قوله : أحدهما : أنّ لفظة لعل بعد انسلاخها عن معنى الترجي (٢).

(٢) لأنّ الترجي بشيء لا يعقل إلّا إذا كان مشكوكا مجهول الحصول فيما سيأتي ، ولا يعقل الشك والجهل بالنسبة إليه تعالى.

ويمكن أن يقال بمنع انسلاخ لعل من معنى الترجي ولكن ينصرف الترجي إلى حال المنذرين وهم جاهلون بحصول الحذر راجين حصوله ، ونظيره قوله تعالى : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى)(٣) يعني بذلك رجاء موسى وهارون تذكّر فرعون أو أن يخشى ، وهذا المعنى وإن كان خلاف

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٧٧.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٢٧٧.

(٣) طه ٢٠ : ٤٤.

٤٦٤

الظاهر إذ الظاهر أنّ المتكلّم بلفظة لعلّ ينشئ الترجي إلّا أنّه أقرب من ارتكاب التجوّز وحملها على محبوبية الحذر.

وأيضا يمكن أن يقال إنّ كلمة لعل موضوعة لإنشاء الترجي فقط ، إلّا أنّ الظاهر من حال المنشئ جهله وشكّه في حصول المرجو المحبوب ، وليس جهل المنشئ مدلولا للفظ ، فيصحّ إنشاء الترجي حقيقة لغرض آخر وهو أنّ المقام مقام الجهل والرجاء نوعا وإن كان المنشئ عالما بالحال ، نظير الأمر الامتحاني فإنّه مستعمل في إنشاء الطلب كما وضع له ولكن لغرض الامتحان لا لغرض إرادة أصل المأمور به ومحبوبيته واقعا.

وهذا الوجه أيضا خلاف الظاهر في الجملة إلّا أنّه أولى من ارتكاب انسلاخ لعل عن الترجي والتجوّز فيها بإرادة مطلق الطلب أو الطلب الحتمي ، فتدبّر.

قوله : إما لما ذكره في المعالم من أنّه لا معنى لندب الحذر (١).

(١) هذا ممنوع ، ونحن نتعقل معنى لندب الحذر في صورة عدم العلم بصدق المنذر كما فيما نحن فيه من أخبار الآحاد ، فإنّ الحذر عن المفسدة المظنونة أو المحتملة احتياط مرغوب فيه فلا ضير في كونه مندوبا.

قوله : إذ مع قيام المقتضي يجب ومع عدمه لا يحسن (٢).

(٢) نقول : مع العلم بقيام المقتضي يجب ومع العلم بعدم قيام المقتضي لا يحسن ، ومع الشك أو الظن بأحد الطرفين ينبغي أن يندب.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٧٧.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٢٧٧.

٤٦٥

وقد يقال : إنّ أقرب مجازات كلمة لعل هو الطلب الوجوبي فلا حاجة إلى توجيه المعالم كي يرد بما ذكر.

وفيه : منع ذلك كما لا يخفى.

قوله : لأنّ كل من أجازه فقد أوجبه (١).

(١) قد يمنع ذلك بأنّ من يجيز العمل بخبر الواحد في زمان الانفتاح لا يوجب العمل به ، بل له تحصيل العلم البتّة حتى لا يعمل بخبر الواحد.

وقد يجاب : بأنّ الخبر حينئذ أيضا واجب العمل لكن تخييرا بينه وبين العلم.

قوله : الثاني أنّ ظاهر الآية وجوب الانذار لوقوعه غاية للنفر الواجب بمقتضى كلمة لو لا (٢).

(٢) لأنّها للتنديم لو أريد النفر بالنسبة إلى الزمان الماضي كما هو أحد الاحتمالين في الآية ، أو للتحضيض لو أريد النفر بالنسبة إلى الزمان المستقبل على الاحتمال الآخر ، وعلى التقديرين تدل على الملامة على عدم النفر المستلزم لوجوب النفر للتفقّه والانذار ، وإذا وجب النفر للتفقه والانذار لزم وجوب التفقه والانذار ، إذ لا معنى لوجوب شيء لشيء إلّا وجوب الشيء الأول تبعا لوجوب الشيء الثاني فهو الواجب بالأصالة.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٧٧.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٢٧٧.

٤٦٦

قوله : أحدهما : وقوعه غاية للواجب (١).

(١) وقوع الحذر غاية للواجب الذي هو الانذار مفهوم من السياق والترتّب ظاهرا ولم يدل عليه لفظ ، بخلاف وقوع التفقّه والانذار غاية للنفر فإنّه مدلول عليه بكلمة اللام الموضوعة للغاية ، وحملها على العاقبة والفائدة مجاز لا يصار إليه مع إمكان الحمل على الحقيقة.

لكن يمكن أن يقال : إنّ استلزام وجوب الشيء لوجوب غايته إنّما يسلّم إذا كانت الغاية من فعل من وجب عليه ذو الغاية كالنفر والانذار ، وأما إذا كانت الغاية من فعل غيره كالانذار والحذر فلا نسلّم وجوب الغاية على الغير ، إذ لا يلزم من كون فعل الغير غاية سوى أنّ الغرض من وجوب هذا الواجب هو فعل الغير ، وهذا المعنى يعقل مع ندب الفعل على الغير أيضا ، وبهذا الوجه يجاب عن الوجه الثاني الذي أشار إليه في :

قوله : الثاني : أنه إذا وجب الانذار ثبت وجوب القبول وإلّا لغى الانذار (٢).

(٢) لما عرفت من أنّه إن ندب الحذر أيضا لم يلغ الانذار ، إذ قد يحصل الحذر بامتثال المندوب ، وأيضا قد يحصل للمنذر ـ بالفتح ـ العلم فيحصل الحذر وهذا كاف في رفع اللغوية ، وبمثله يجاب عن تمسك صاحب المسالك (٣) وعن تمسك من استدل على وجوب الفتوى على الفقيه بقوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٧٧.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٢٧٨.

(٣) المسالك ٩ : ١٩٤.

٤٦٧

الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١) بتقريب أنّه إذا وجب السؤال ولم يجب الجواب كان السؤال لغوا ووجوبه أيضا لغوا بعد العلم بأنّ وجوبه غيري لا نفسي ، إذ يكفي في رفع اللغوية حصول الجواب أحيانا ثم العمل عليه كما ورد عنهم (عليهم‌السلام) «عليكم أن تسألوا وليس علينا الجواب» (٢).

ونظير ما نحن فيه قوله : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى)(٣) لأنّ احتمال حصول التذكر والخشية أحيانا يكفي في رفع لغوية إيجاب القول الليّن.

قوله : بل لو كان لمحض الجهاد لم يتعيّن أن ينفر من كل قوم طائفة ، إلى آخره (٤).

(١) يحتمل قريبا أن يكون تعيين خصوص الكيفية للإرشاد إلى أسهل طرق نفر البعض إلى الجهاد بعد قوله : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً)(٥) يعني بعد عدم إمكان نفر الجميع أو عدم وجوبه على الوجهين المحتملين في الآية يجب نفسا نفر بعض المؤمنين بهذه الكيفية السهلة الخالية عن محذور نفر الجميع بالمرة وعن المحاذير الأخر أيضا ، مثل أنّه لو وجب النفر على جميع بعض الفرق دون الباقين لربما أوجب ذلك التنافر والتباغض بينهم أو تقاعد تلك الفرقة عن الجهاد أو غير ذلك.

__________________

(١) الأنبياء ٢١ : ٧.

(٢) الوسائل ٢٧ : ٦٥ / أبواب صفات القاضي ب ٧ ح ٩.

(٣) طه ٢٠ : ٤٤.

(٤) فرائد الأصول ١ : ٢٧٩.

(٥) التوبة ٩ : ١٢٢.

٤٦٨

قوله : وثالثا أنّه قد فسر الآية بأنّ المراد نهي المؤمنين عن نفر جميعهم إلى الجهاد (١).

(١) يرد عليه : أنّ هذا التفسير لا حجية فيه ، مع أنّه خلاف ظاهر الآية ، إذ الظاهر أنّ ضمائر الجمع في قوله (لِيَتَفَقَّهُوا) وفي قوله (لِيُنْذِرُوا) وفي (قَوْمَهُمْ) وفي (رَجَعُوا) كلها راجعة إلى الطائفة النافرين لا إلى الفرقة باعتبار من تخلّف منهم لأقربيتها لفظا ومعنى كما لا يخفى.

وكيف كان فقد عرفت أنّ الأوجه في تقريب الاستدلال أن يقال : دلّت الآية على جواز الحذر عند إنذار المنذر المتفقّه مطلقا ، وهذا القدر كاف في قال قول السيد بمنع الجواز ، وهذا من غير فرق بين دعوى انسلاخ لعل عن معنى الترجي وعدمه وكون التفقه والانذار والحذر غاية للنفر أو فائدة ، وكون النفر للجهاد أو للتفقّه ، وكون النافر هو المتفقّه أو المتخلّف.

وبالجملة : لا حاجة إلى إثبات وجوب الحذر بهذه الوجوه العليلة التي قد عرفت ما فيها.

قوله : الأول : أنه لا يستفاد من الكلام إلّا مطلوبية الحذر عقيب الانذار بما يتفقّهون (٢).

(٢) محصّل الجوابين الأوّلين : أنّ الآية لم يظهر كونها في مقام جعل الطريق التعبّدي ، بل في مقام إراءة الطريق الواقعي والإرشاد إليه ، إلّا أنّه تعالى أوجب التفقّه والانذار وسيلة إلى حصول العلم للمنذر بالفتح بأحد التقريبين المذكورين

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٧٩.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٢٨٢.

٤٦٩

في المتن ، وهو نظير قوله تعالى : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى)(١) يعني بعد العلم بالآيات الظاهرة والمعجزات الباهرة لا أنه يتذكّر تعبّدا ، ويشهد له التعبير بكلمة لعلّ ، إذ بعد حصول العلم للمكلّف قد يطيع وقد يعصي ، وفي مثل المقام يناسب كلمة لعلّ لأنّه تعالى يتكلّم على سياق المحاورات المعهودة المألوفة.

قيل : لو حملت الآية على هذا المعنى لم يصح الاستدلال بها على جواز التقليد أيضا لعدم حصول العلم للمقلّد من قول المفتي.

قلنا : ونحن أيضا لم نستدل بها على جواز التقليد بل الدليل عليه أمور أخر مذكورة في محلّها.

قوله : الثاني أنّ التفقّه الواجب ليس إلّا معرفة الأمور الواقعية من الدين (٢).

(١) محصّله : أنّه على فرض تسليم الإطلاق يصير مضمون الآية يجب التفقّه وتعلّم أحكام الدين الواقعية وإنذار القوم بتلك الأحكام ، ويجب على القوم الحذر بالعمل بتلك الأحكام الواقعية ، فلا بدّ من إحراز الأحكام بالعلم حتى يصدق على العمل بها الحذر الذي جعل غاية للتفقّه والانذار ، وأين هذا من الأخذ بقول المنذر تعبّدا طابق الواقع أو خالف.

ولكن قد يقال : إنّ الآية نظير قوله (عليه‌السلام) في مقبولة عمر بن حنظلة : «انظروا إلى رجل منكم قد روى حديثنا وعرف حلالنا وحرامنا

__________________

(١) طه ٢٠ : ٤٤.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٢٨٢.

٤٧٠

فلترضوا به حكما فإنّي قد جعلته عليكم حاكما» إلى آخره (١) يعني تجب موافقة حكم الحاكم مطلقا علم مطابقته للواقع أو جهل.

ويجاب : بأنّ مقام الحكم وقوله (عليه‌السلام) بعد ذلك في فرض تعدد الراوي واختلافهما في الحكم «الحكم ما حكم به أعدلهما وأصدقهما» قرينة إرادة ذلك المعنى ، وإلّا فقوله «فإذا حكم بحكمنا» في غاية الظهور في الحكم الواقعي لا ما بينه أنه حكمنا طابق أو لم يطابق.

قوله : ثم الفرق بين هذا الإيراد وسابقه أنّ هذا الإيراد (٢).

(١) وبعبارة أخرى : الإيراد الأول ناظر إلى منع الإطلاق وأنه بصدد بيان وجوب النفر والتفقّه الذي يترتّب عليه الإنذار والحذر ، وليست الآية بصدد بيان وجوب الحذر بعد الإنذار مطلقا بل إنما ذكرت هذه الفقرة فائدة للتفقه ، والإيراد الثاني ناظر إلى أنّ الإطلاق مع تسليمه لا يفي بحجية قول المنذر تعبّدا بل على تقدير العلم بصدقه وأنّ ما أنذر به هو حكم الله الواقعي.

قوله : لأنّ الانذار هو الإبلاغ مع التخويف (٣).

(٢) لا يبعد أن يكون المراد من الإنذار هو مجرّد الإبلاغ ومن الحذر مجرّد العمل على طبقه بقرينة السياق ، والنكتة في التعبير بالانذار والحذر أنّ المقام مقام الإنذار والحذر ، بل قد يقال إنّ الإنذار هو الإخبار لغة ، وإن كان فيه تأمّل.

وكيف كان ، لا يعتبر فيه قصد التخويف نظير التأديب والتعظيم وإلّا لم يصدق في الافتاء بالواجبات والمحرمات ، وقد سلّم المصنف صدق الانذار فيه ،

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٣٦ / أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ١ (باختلاف يسير).

(٢) فرائد الأصول ١ : ٢٨٤.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٢٨٤.

٤٧١

بل فعل مطلق ما يوجب الخوف نوعا إنذار حقيقة ، فعلى هذا لو سلّمنا أنّ المراد بالانذار والحذر به في الآية التخويف والتخوف فنقول : لا ريب أنّه إذا أخبر المخبر بحكم من الأحكام في مقام التخويف وإن شئت فافرضه بقصد التخويف أيضا ، فيصدق عليه الانذار حقيقة فيجب الحذر منه والعمل به بمقتضى مدلول الآية ، ويتم في الباقي بعدم القول بالفصل ، فإذن هذا الجواب الثالث ساقط من أصله ، وستعرف وجه دفع ما وجهه المصنف في تقرير الجواب.

قوله : توضيح ذلك أنّ المنذر إما أن ينذر ويخوّف على وجه الافتاء ، إلى آخره (١).

(١) لا نعرف الفرق بين الانذار على وجه الافتاء والانذار على وجه الحكاية لقول الحجة بعد ما عرفت من معنى الانذار وأنّه إيجاد ما يوجب الخوف من قول أو فعل ، ولا دخل لاعتقاد المنذر فيما يقول وعدمه في صدق الانذار والتخويف ، فربما لا يعتقد المنذر ما يقوله ويحصل به الانذار والتخويف لو اعتقده المنذر بالفتح ، بل إذا لم يعتقد أيضا مع احتمال صدق المخبر.

وبالجملة : لا كرامة في هذا التشقيق لأنّا ندعي ظهور الآية في وجوب الحذر عن كلّ إنذار ، وبعبارة أخرى وجوب العمل بقول كل من ينذر ويخوّف فيما ينذر ويخوّف سواء قصد الانذار أم لا وسواء كان معتقدا بما ينذر ويخوّف أم لا ، وحكاية قول الحجة على أيّ وجه كان إنذار يجب الحذر والعمل بها وهو المدّعى.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٨٤.

٤٧٢

قوله : وأما الثاني فله جهتان ، إحداهما جهة تخويف وإيعاد والثانية جهة حكاية قول من الإمام (١).

(١) فيه : أنّ الجهتين متقارنتان متلازمتان ، فيصدق الانذار والتخويف بالحكاية والحذر بالعمل بما اشتمل عليه الحكاية ويتم المقصود بذلك.

قوله : ويرد عليها ما ذكرنا من الإيرادين الأولين (٢).

(٢) ولي شكّ في ورود الإيراد الثاني هنا أيضا فإنّه لو سلّمنا الإطلاق وأنّ الآية بصدد التعرّض لوجوب القبول يستفاد منها وجوب قبول قول المظهر الذي حرم عليه الكتمان مطلقا ، وإلّا كان الحكم بوجوب قبول قول المظهر على تقدير العلم بأنّه حق لغوا ، بل يكفي التعرّض لوجوب الإظهار وحرمة الكتمان على من تبيّن عنده الهدى والبيّنات ، فإذا حصل العلم لغيره ولو من قوله يجب الأخذ به لأجل علمه بالحكم.

نعم يرد على الاستدلال بالآية إيراد آخر لا يرد في الآية السابقة ، وهو أنّ المستفاد من الآية حرمة كتمان الحق ، وحقيقة الكتمان هو ستر الحق وإخفاؤه لا مجرّد عدم الإظهار ، وإنّما يصدق الكتمان بالمعنى المذكور فيما كان الحق بنفسه ظاهرا لو لا الكتمان والستر ، وهذا المعنى لا ربط له بما نحن بصدده ، ويشهد لما ذكرنا أنّ مورد الآية كتمان اليهود لعلامات النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) المذكورة في التوراة ، فإنّ المراد من كتمانهم إما إسقاطهم الآيات التي في وصف النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عن التوراة ، وإما تأويلهم لها حتى لا يظهر ما هو المقصود منها ، وإما عدم إظهارها وعدم قراءتها على الناس في ضمن سائر

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٨٥.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٢٨٧.

٤٧٣

الآيات ليرشدوا إليها كما حكى ذلك كله ، وكلّ ذلك إخفاء وستر للحق بحيث لو لم يكتموا بهذه الأنحاء لكان الحق ظاهرا مشهورا.

قوله : بناء على أنّ وجوب السؤال يستلزم وجوب قبول الجواب وإلّا لغى وجوب السؤال (١).

(١) إنّ هذه المقدمة مستدركة يمكن تقريب الاستدلال بدونها بأن يقال : لمّا علمنا أنّ وجوب السؤال غيريّ مقدميّ ليس بنفسي نفهم منه أنّه يجب السؤال عند إرادة العمل ، فكأنّه قال : إن أردتم العمل فيما لا تعلمون فاسألوا أهل الذكر واعملوا بما أجابوكم به ، فالآية سيقت لوجوب قبول الجواب بعد السؤال نظير أن يقال : إن لم تعلم سعر البلد فاسأل أهل الخبرة ، يراد منه اشتر بما يقول لك أهل الخبرة أنّه قيمة الشيء المشترى.

قوله : ويرد عليه أوّلا : أنّ الاستدلال إن كان بظاهر الآية (٢).

(٢) محصّله : أنّه لا عموم في مدلول الآية بحيث يشمل ما نحن فيه ، لأنّ أهل الذكر المسئول عنهم خصوص أهل الكتاب بقرينة السياق وقول المفسّرين ، والمسئول عنه خصوص صفات النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وأنّه يكون من البشر لا الملائكة بقرينة السياق أيضا والتفريع على سابقه بلفظة الفاء في قوله (فَسْئَلُوا) فكأنه قال لا غرو في أن يكون الرسول من جنس البشر فإنّ الرسل الماضين كانوا رجالا نوحي إليهم ، وإن كنتم في شكّ من هذا فاسألوه من أهل الكتاب مثل علماء اليهود والنصارى فيخبرونكم بأنّ الأنبياء السلف كانوا رجالا من البشر.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٨٨.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٢٨٩.

٤٧٤

فإن قلت : سلّمنا عدم العموم اللفظي لكن نعلم أنّ مناط قبول قولهم في خصوص المقام ليس إلّا أنّهم من أهل الذكر فيجب قبول قول أهل الذكر مطلقا.

قلت : لو سلّم المناط المذكور فإنّما يسلّم فيما يطلب فيه العلم مثل أصول الدين كما في مورد الآية لا مطلقا ، إذا حصل العلم من قولهم لا مطلقا.

وبعبارة أخرى : القضية المستفادة من الآية بالمناط أضيق دائرة من أن يشمل قبول قول أهل الذكر تعبّدا في غير أصول الدين حتى ينفعنا في المقام.

قوله : وإن كان مع قطع النظر عن سياقها (١).

(١) يمكن أن يقال بعدم منافاة الاخبار المفسّرة لأهل الذكر بالأئمة للسياق لوجهين :

أحدهما : أن يكون أهل الذكر في ذلك الزمان أهل الكتاب وفي زمان الأئمة (عليهم‌السلام) هم الأئمة (عليهم‌السلام).

الثاني : أنّ مفاد الأخبار إثبات أنّ الأئمة (عليهم‌السلام) أهل الذكر لا أنّ غيرهم ليس من أهل الذكر ، لكن الانصاف أنّ ظاهر الأخبار انحصار أهل الذكر في الأئمة (عليهم‌السلام) لا أنّهم (عليهم‌السلام) من مصاديقه.

وكيف كان لو حملت على بيان المصداق سقط هذا الجواب من أصله ، ولكن يدفعه ظهور انفهام الانحصار في الأئمة (عليهم‌السلام).

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٨٩.

٤٧٥

قوله : وثانيا أنّ الظاهر من وجوب السؤال عند عدم العلم وجوب تحصيل العلم (١).

(١) هذا هو الظاهر ، لكن فيما يمكن فيه تحصيل العلم غالبا ، أما لو كانت القضية المسئول عنها مما لا يمكن حصول العلم فيها غالبا فالظاهر حينئذ وجوب العمل بقول المسئول تعبّدا ، فلا يرد على من استدلّ بالآية على وجوب التقليد بأنّه يلزم حصول العلم بالحكم من قول المفتي حتى يجوز العمل به بمقتضى الآية ولا قائل به ، مع أنّه يخرج عن التقليد حقيقة لأنّه لا يحصل العلم بالحكم عن قول المفتي للمقلّد غالبا ، فيجب أن يكون قوله حجة تعبدا بقرينة كون المورد مما لا يحصل فيه العلم غالبا.

قوله : وثالثا : لو سلّم حمله على إرادة وجوب السؤال للتعبّد بالجواب ، إلى آخره (٢).

(٢) لنا أن نمنع ذلك وإن سلّمنا أنّ أهل الذكر بنفسه ظاهر في أهل فنّ العلم بل خريت الفنّ ، لأنّ مناسبة الحكم والموضوع تجعل القضية ظاهرة في السؤال عن مطلق العالم بشيء لا تعلمه كما بيّنه المصنف في الجواب الثاني بتمثيله بما يقال في العرف سل إن كنت جاهلا.

قوله : فينحصر مدلول الآية في التقليد (٣).

(٣) ظاهر هذا الكلام وكذا ظاهر ما سيأتي من كلامه في دفع التوهّم أنّه حمل أهل العلم على المجتهدين ، فلا يشمل العالم بالحديث من الرواة الذين لم يبلغوا

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٩٠.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٢٩٠.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٢٩٠.

٤٧٦

درجة الاجتهاد مع أنّ المحدث أيضا من أهل العلم عرفا ، أترى أنّ من يحفظ أربعين ألفا من أحاديث أهل البيت (عليهم‌السلام) ليس من أهل العلم عرفا لو لم يبلغ درجة الاجتهاد ، غاية الأمر أنّه من أهل علم الحديث ، فمن لا يعلم رأي الإمام (عليه‌السلام) في المسألة يجب السؤال عن مثله حتى يخبره بالأحاديث التي يعلمها منه (عليه‌السلام) بمقتضى الآية فلا ينحصر مدلولها في التقليد.

نعم يرد عليه أنّ الدليل أخصّ من المدّعى إذ ليس كل راو من أهل العلم بذلك المعنى.

والجواب : أنّه يتم المطلوب بعدم القول بالفصل ولو سلّمنا أنّ المراد بأهل العلم خصوص الفقيه ، فنفرض كون الراوي فقيها ويتم في غيره بعدم القول بالفصل ، وما أجاب به المصنف عن هذا من قوله والمتبادر من وجوب سؤال أهل العلم إلى آخره ، وقوله حاصل وجه الاندفاع إلى آخره ، مدفوع بأنّ السائل إذا سأل الفقيه الراوي مسألة فأجابه بحديث سمعه من الإمام (عليه‌السلام) أو رواه عنه (عليه‌السلام) كما هو دأب أوائل الفقهاء منّا يجب قبوله والعمل به بمقتضى الآية لأنّه يصدق عليه أنّه سأل أهل الذكر من حيث إنّه أهل الذكر ، غاية الأمر أنّه أجابه بالحديث الذي يعتقده لا بالفتوى المحضة ، وقد مرّ نظير هذا الكلام في ردّ الجواب الثالث عن الاستدلال بآية النفر فتذكّر (١).

__________________

(١) أقول : الانصاف عدم ورود هذا الوجه الأخير ، لأنّ جواب الفقيه بالحديث عن سؤال الحكم لا يكون جوابا للسؤال إلّا باعتبار دلالة القرينة ، وهي ذكر الحديث في مقام الجواب على أنّ معتقده مطابق للحديث وإلّا لم يكن ذلك جوابا ، إذ السائل الجاهل إنّما سأله عن علمه بالحكم لا أنّه هل ورد فيه حديث أم لا ، والآية إنّما تدل على حجية ما كان جوابا للسؤال لا غير.

٤٧٧

قوله : فإذا كان التصديق حسنا يكون واجبا (١).

(١) لم يبين وجه الملازمة في هذه المقدمة ، ويمكن أن يكون نظره في ذلك إلى عدم القول بالفصل فكلّ من قال بحسن التصديق والاعتماد على خبر الواحد قال بوجوبه ، لكن في خصوص خبر العادل لا مطلقا كما مرّ نظيره في تقريب الاستدلال بآية النفر سابقا ، ولو قيل بأنّ مجرد جواز الاعتماد على الخبر يكفينا في هذا المقام في مقابل قول السيّد بالحرمة كان حسنا ، فتأمل.

وزاد في الفصول (٢) في تقريب الاستدلال مقدمة أخرى أظنّها محتاج إليها وهو قوله وبضميمة قاعدة التأسّي يثبت ذلك في حقّنا.

ويرد على هذه المقدمة أنّ التأسّي إنّما يجري فيما علم وجه الفعل من الوجوب والاستحباب ، وما نحن فيه لم يعلم وجه فعله ، بل يحتمل أن يكون ذلك من خصائصه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كما أشار إليه في الفصول أيضا.

قوله : ما رواه في فروع الكافي في الحسن بابن هاشم أنّه كان لإسماعيل (٣).

(٢) قد نقل المصنف بعض الرواية وأسقط بعض ما يرتبط بالمقصود منها وتمامها «أنه كانت لإسماعيل بن أبي عبد الله (عليه‌السلام) دنانير وأراد رجل من قريش أن يخرج إلى اليمن فقال إسماعيل يا أبت إنّ فلانا يريد الخروج إلى اليمن وعندي كذا وكذا دينارا أفترى أن أدفعها إليه يبتاع لي بها بضاعة من اليمن ، فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : يا بني أما بلغك أنّه يشرب الخمر؟ فقال

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٩١.

(٢) [لم نجده في مظانّه].

(٣) فرائد الأصول ١ : ٢٩١.

٤٧٨

إسماعيل هكذا يقول الناس ، فقال (عليه‌السلام) : يا بني لا تفعل ، فعصى أباه ودفع إليه دنانيره فاستهلكها ولم يأت بشيء منها فخرج إسماعيل ، وقضى أنّ أبا عبد الله (عليه‌السلام) حج وحج إسماعيل تلك السنة فجعل يطوف بالبيت وهو يقول : اللهم أجرني واخلف عليّ ، فلحقه أبو عبد الله (عليه‌السلام) فهمزه بيده من خلفه وقال له : مه يا بني فلا والله مالك على الله هذا ولا لك أن يؤجرك ولا يخلف عليك وقد بلغك أنّه يشرب الخمر فائتمنته ، فقال إسماعيل : يا أبت إني لم أره يشرب الخمر إنّما سمعت الناس يقولون ، فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : يا بني إنّ الله عزوجل يقول في كتابه : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) يقول يصدّق لله ويصدّق للمؤمنين ، فإذا شهد عندك المسلمون فصدّقهم» الخبر (١).

قوله : مضافا إلى تكرار لفظه ، تعديته في الأول بالباء وفي الثاني باللام (٢).

(١) لا نفهم في التفرقة في التعدية وجها للتفرقة في معنى الفعل ، إذ الفعل الواحد كثيرا ما يتعدى بحرفين باعتبار إفادة كل من الحرفين معناه بالنسبة إلى مدخوله.

قوله : ثم إنّ هذه الآيات على تقدير تسليم دلالة (٣).

(٢) الحق أنّ النسبة بين مدلول آية النبأ وبين مدلول آية النفر وآية الكتمان وآية السؤال عموم من وجه ، لما مرّ من عموم مدلول آية النبأ للموضوعات والأحكام ، ومدلول الآيات الثلاثة مختصّ بالأحكام كعموم الآيات الثلاثة

__________________

(١) الوسائل ١٩ : ٨٢ / كتاب الوديعة ب ٦ ح ١.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٢٩٤.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٢٩٦.

٤٧٩

لمطلق الخبر عادلا كان المخبر أو فاسقا ، واختصاص آية النبأ بحجية خبر العادل ، فكما يمكن تقييد إطلاق سائر الآيات بخبر العادل بمقتضى مفهوم آية النبأ كذلك يمكن تقييد مدلول آية النبأ بالاخبار في الموضوعات كما هو موردها ويقال بحجية مطلق الخبر في الأحكام بمقتضى سائر الآيات ، نعم الآية الأخيرة غير مختصّة بالأحكام بل ظاهرها أعم من الموضوعات ، بل قد يقال إنّ آية السؤال أيضا أعم ، وفيه تأمّل.

وكيف كان ، الذي يسهل الخطب عدم تمامية دلالة غير آية النبأ من الآيات على المدّعى ، فلا فائدة في هذا البحث عندنا وإنّما يجب تكلّف هذا البحث على من يرى تمامية دلالة سائر الآيات أو بعضها مما يفهم منه الاختصاص بحجية أخبار الآحاد في الأحكام مثل آية النفر وآية الكتمان ونحوها (١).

__________________

(١) أقول : إنّ الإشكال المذكور فاسد من أصله ، لأنّه لا تعارض بين مفهوم آية النبأ ومدلول الآيات الأخر وإن كانت النسبة بينهما عموما من وجه ، إذ لا تنافي بين المثبتين مطلقا إلّا بضميمة مقدمة خارجية كاتحاد التكليف في مثل قوله (عليه‌السلام) : إن ظاهرت أعتق رقبة ، وقوله (عليه‌السلام) : إن ظاهرت أعتق رقبة مؤمنة ، وإنما يحصل التعارض باعتبار منطوق آية النبأ بعدم حجية خبر الفاسق غير العلمي فإنّه ينافي حجية مطلق الخبر المستفادة من سائر الآيات فيجب التقييد كما ذكره المصنف ، وإن كانت النسبة بينهما أيضا عموما من وجه لكن إطلاق منطوق آية النبأ أقوى لما في الفصول من اعتضاده بالتعليل والأصل ، فتأمل.

نعم في بعض النسخ القديمة في المتن هكذا : إنّ هذه الآيات على تقدير تسليم دلالة كل واحدة منها على حجية الخبر إنما تدل بعد تقييد المطلق منها الشامل لخبر العادل وغيره بمفهوم آية النبأ على حجية خبر العادل إلى آخره ، ولكن المصنف (رحمه‌الله) ضرب على لفظة بمفهوم في بعض النسخ المتأخرة وأثبت بدله بمنطوق ، وهو الصحيح الذي لا يتوهّم منه خلاف المقصود بوجه.

٤٨٠