حاشية فرائد الأصول - ج ١

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-015-2
الصفحات: ٦٩٤

قوله : وأما على تقرير الحكومة ـ إلى قوله ـ فيشكل توجيه خروج القياس ، إلى آخره (١).

(١) اعلم أنّ أصل الإشكال لا كرامة فيه ينبغي التفطن إلى دفعه بأدنى التفات ، وعلى تقدير ورود الإشكال لا فرق بين تقرير الكشف والحكومة فإن كان ذلك إشكالا على الحكومة فهو وارد على الكشف أيضا ، أما الأوّل : فلأنّ صورة الإشكال إنّما تتم أن لو كان عدم جواز العمل بالقياس معلوما بالعلم الوجداني حتى حال الانسداد أو كان ذلك مقتضى ظاهر الدليل المقطوع الحجية كظاهر الأخبار المتواترة سندا ، وإلّا فلو نوقش في حرمة العمل بالقياس في حال الانسداد فلا إشكال كما لا يخفى ، وعلى هذا سقط الجواب الأول المذكور في المتن فليكن على ذكر منك.

وحينئذ نقول في دفعه :

أوّلا : بالنقض بما لو ثبتت حجية أمارة خاصة غير كافية في الفقه في حال الانسداد أعني الانسداد الأغلبي ، فإنّ ذلك لا ينكره أحد من أصحاب القول بالظن المطلق بدليل الانسداد ، فإن كان منع العمل ببعض الظنون كالظن القياسي قبيحا مخالفا لحكم العقل حال الانسداد فكذلك تجويز العمل بغير الظن الفعلي كمؤدى الأمارة في الفرض المزبور يكون قبيحا لعين وجه القبح في الأول وهو أنّ غير الظن لا يكون مناطا للإطاعة والمعصية حال الانسداد بل يرجع التعبد بالأمارة إلى منع العمل بالظن على خلافها بالتلازم العقلي ، ولا فرق بين المنع عن العمل بهذا الظن المخالف للأمارة وبين المنع عن الظن القياسي.

فإن قيل : إنّ الظن مناط الإطاعة والمعصية فيما انسداد باب علمه لا فيما

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٥١٦.

٦٤١

قامت هناك أمارة ثابتة الحجية فإنّ باب العلم بالنسبة إليه منفتح.

قيل : إنه كذلك بالنسبة إلى ما قام على عدم حجية الظن القياسي فإنّ باب العلم بالنسبة إليه أيضا منفتح حرفا بحرف ، بل يمكن إيراد النقض بالنسبة إلى حال انفتاح باب العلم أيضا بأن يقال لو تم إشكال المنع عن القياس حال الانسداد لورد مثله حال الانفتاح لو فرض أنّ الشارع منع عن العمل بالقياس وجوّز العمل بما يشابهه في نظر العقل كبعض أقسام الخبر أو الشهرة مثلا ، لأنّ تجويز العمل ببعض الأمارات يلزمه تجويز بعضها الآخر المشابه له في حكم العقل ، وكذا المنع عن البعض يلازم المنع عن البعض الآخر.

فإن قيل : يجوز في زمان الانفتاح تجويز البعض والمنع عن البعض لحكمة لم يطلع عليها العقل وعلمها الشارع.

قيل : إنّه كذلك حال الانسداد يجوز للشارع أن يمنع عن بعض الظنون لحكمة لا يعرفها العقل حرفا بحرف ، نعم لو قيل بعدم جواز العمل بغير العلم حال الانفتاح بالمرة لا يرد هذا النقض الثاني ، لكن عهدة هذه الدعوى على مدعيها.

وثانيا : بالحل وهو أنّ الإشكال إنّما يتوجه لو كان حكومة العقل بعد ملاحظة مقدمات الانسداد أنّ الظن بملاك الأقربية إلى الواقع حجة مطلقا في أيّ مورد من أي سبب بحيث لو صرح الشارع بخلاف هذا العموم فعل قبيحا كما يظهر هذا المعنى من المتن ، وأما إذا كان حكم العقل كما هو الحق أنّ الظن حجة حال الانسداد في الموارد التي انسد سبيل العلم فيها ولم يصل إلينا طريق يرجع إليه ويقينا متحيّرين في مقام العمل فلا يتوجه إشكال المنع عن القياس ، لأنّ موارده ليست فاقدة الطريق ومحلا للتحير ، كما أن موارد الأمارة الثابتة الحجية أيضا حال الانسداد إن وجدت أيضا خارجة عن موضوع حكم العقل ، ولعله

٦٤٢

إلى ما ذكرنا يرجع الجواب الخامس المذكور في المتن بل الجواب الثالث والسادس أيضا فتدبر.

وأما الثاني وهو ورود الإشكال على تقدير الكشف أيضا إن كان وروده على تقدير الحكومة حقا فلأنا نقول بعد فرض أنّ العقل يحكم بعدم الفرق بين الظنون من حيث الأسباب والموارد كيف يمكن للشارع أن يمنع عن بعضها ولو قلنا بالكشف.

فإن قلت : يمكن أن تكون لبعض الظنون مفسدة ذاتية لا يعرفها العقل ويعملها الشارع ، أو يكون غالب التخلف عن الواقع يعلمه الشارع فلذلك يمنعه الشارع على حسب المصلحة التي تدور أحكام الشارع مدارها ، أو يكون منعه عن البعض جزافا على القول بجوازه وعدم تابعية أحكامه للمصالح والمفاسد النفس الأمرية.

قلنا : إذا جاء هذا الاحتمال لا يمكن للعقل أن يحكم بعدم الفرق بين الظنون على تقدير الحكومة أيضا ، غاية الأمر عدم وجدانه للفرق ، وهذا لا يدل على عدم الوجود ، وأصل ورود الإشكال مبني على العلم بعدم الفرق لا عدم العلم بالفرق.

والحاصل أنّ المنع عن بعض الظنون حال الانسداد إن كان جائزا للشارع أي لا يلزم منه قبح فلا فرق في ذلك الحكومة والكشف ، وإن كان قبيحا فعلى التقديرين أيضا (١).

__________________

(١) أقول : يمكن الفرق بأنّه على تقدير الكشف يكون الأمر بيد الشارع ومصالح الجعل منوطا بنظره بمقتضى علمه بجميع جهات المصالح والمفاسد ، فيجوز أن يمنع عن بعض

٦٤٣

قوله : إذ لعله نهى عن أمارة مثل ما نهى عن القياس بل وأزيد (١).

(١) هذا الاحتمال لا يضر بحكم العقل ، لأنّ هذا الاحتمال جار في جميع الظنون ، فهي متساوية من هذه الحيثية ، ومع ذلك يحكم العقل بأنّه عند دوران الأمر بين الظن والوهم يترجح العمل بالظن ، إذ لا طريق إلى معرفة الظن الممنوع لو كان موجودا في الواقع.

والحاصل أنّ ما ينافي عموم حكم العقل بوجوب العمل بالظن العلم بمنع الشارع للعمل ببعضها لا احتماله ، إذ لا شك أنّ العقل بعد اللتيا والتي ومع هذا الاحتمال يرجح الظن على الوهم كما لا يخفى ، وقد عدل المصنف عن هذا أي مانعية الاحتمال الكذائي عن حكم العقل بحجية الظن عموما وصرح بثبوت حكم العقل مع هذا الاحتمال في سادس الأجوبة عن هذا الإشكال فإنّه أورد كلامه هذا على نحو السؤال وأجاب بما ذكرنا فراجع.

قوله : الأول ما مال إليه أو قال به بعض من منع حرمة العمل بالقياس (٢).

(٢) الظاهر أنّ المراد بذلك البعض صاحب القوانين (رحمه‌الله) (٣) فقد أشار

__________________

الظنون ويجعل بعضها الآخر حجة على حسب ما يراه من المصالح والمفاسد ، وهذا بخلاف تقرير الحكومة فإنّ الشارع قد أمضى ما حكم به العقل ولازمه أن يكون راضيا بما حكم به العقل على حسب إدراكه ، وحينئذ فإن كان العقل بحسب إدراكه لا يفرق بين الظنون ويحكم بتساوي الجميع من حيث الأقربية إلى الواقع لزم أن يكون إمضاء الشارع لحكمه أيضا على هذا الوجه من العموم فيشكل خروج القياس.

(١) فرائد الأصول ١ : ٥١٧.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٥١٧ ـ ٥١٨.

(٣) القوانين ١ : ٤٤٩ ، ٢ : ١١٣.

٦٤٤

إلى هذا الوجه والجواب الثاني والرابع في ذيل الدليل الثاني من الأدلة العقلية التي أقامها على حجية الظن ، وفي مبحث القياس أشار إلى الجواب الثاني وزيّفه واختار الوجه الرابع ، إلّا أنّه في أواخر مباحث الاجتهاد أشار إلى الجواب الثاني واختاره بعد ما قواه ، ونسب إليه صاحب الفصول (رحمه‌الله) (١) الوجه الثالث أيضا وزيّفه واختار هو الوجه الخامس ، ولعله وجده في كلامه في غير هذه المواضع التي ذكرنا.

قوله : والحاصل أنّ الانفتاح المدعى إن كان مع قطع النظر (٢).

(١) ما عرفنا بعد معنى انفتاح باب العلم بالنسبة إلى حرمة العمل بالقياس مع قطع النظر عن منع الشارع.

قوله : الرابع أنّ مقدمات دليل الانسداد ، إلى آخره (٣).

(٢) هذا الجواب بظاهره واضح الفساد مشتمل على فرق غير فارق وكأنه خرص وتخمين ، وغاية ما يمكن في توجيهه وتوضيحه أن يقال : إنّ مقدمات الانسداد إنما تنتج حجية بعض الأمارات تعبدا قضية مهملة لا من باب حصول الظن ، وحينئذ يمكن المنع عن القياس حتى ينحصر ما هو حجة من الأمارات في غيره قضية مهملة فيؤخذ بالكل ، ومع تعارض بعضها مع بعض يؤخذ بالأقوى منها وهو ما أوجب الظن الفعلي.

وفيه : أنّ مقدمات الانسداد لا تنتج إلّا حجية الظن لرجحانه على غيره في حكم العقل لا حجية الأمارة ، ولو سلّم فإنّما تنتج حجية الأمارات من حيث

__________________

(١) الفصول : ٢٨٣ ـ ٢٨٥.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٥٢٣.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٥٢٣.

٦٤٥

إنها أسباب للظن لا لأجل التعبد.

قوله : أقول كأن غرضه بعد فرض جعل الأصول من باب الظن (١).

(١) ما أتى في توضيحه هذا بشيء يكون أوضح من أصل بيان المجيب ، إلّا أنه قد زاد على كلامه فرض جعل الأصول من باب الظن مع أنّه ليس في كلام المجيب إشارة إليه ، مضافا إلى أنّه غير محتاج إليه أصلا ، إذ لا يدعي المجيب ولا غيره أنّ العمل لا بدّ أن يكون على الظن دائما في جميع الموارد حتى يحتاج إلى القول بحجية الأصول من باب الظن لئلّا تنخرم الكلية ، بل القائل بحجية الظن إنما يقول به في موارد وجود الظن ، وفي غيره لا بد من الرجوع إلى الأصل.

نعم يوجد في بعض كلمات صاحب القوانين وصاحب المعالم أيضا أنّ حجية الأصول أيضا مطلقا من باب حصول الظن ، وفيه ما لا يخفى إلّا أنه لا ربط له بهذا المقام.

قوله : الوجه السابع هو أنّ خصوصية القياس من بين سائر الأمارات (٢).

(٢) الظاهر أنّ مختار المصنف من الوجوه السبعة هذا الوجه السابع ، إذ لم يورد عليه كما أورده على الوجوه السابقة ، ولا يخفى أنّ ما اختاره هنا وبيّنه بما في المتن مناف لما اختار سابقا من أنّ نتيجة دليل الانسداد على تقرير الحكومة كلية بحسب الأسباب ، ولا فرق في حكم العقل بين الظنون بحسب الأسباب كالعلم ، لأنّ المناط جهة انكشاف الواقع بها وهي متساوية بالنسبة إلى الكل ، وقد صرّح هاهنا بأنّه إذا كشف الشارع عن حال القياس وتبيّن عند العقل حال

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٥٢٤.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٥٢٩.

٦٤٦

القياس فيحكم حكما إجماليا على عدم جواز الركون إليه انتهى ، فنقول إذا تبيّن عند العقل أنّ الاستخارة والنوم وأمثالهما كثيرة التخلف عن الواقع جدا يحكم حكما إجماليا على عدم جواز الركون إليها ، وقد أشرنا إلى ذلك فيما علّقناه على المتن هناك.

قوله : ألا ترى أنّه يصح أن يقول الشارع للوسواسي القاطع بنجاسة ثوبه (١).

(١) قد مرّ من المصنف في أول رسالة القطع أنّ القطع حجة منجعلة لا مجعولة ، بحيث لا يمكن جعله نفيا وإثباتا ، ولا يمكن ردع الشارع عن العمل به للزوم التناقض في حكمه ، ونحن قد وجّهنا هناك جواز ردع الشارع عن العمل به وأوضحناه بما لا مزيد عليه ، وهنا قد اعترف المصنف بما ذكرنا في إمكان ردع العمل بالقطع في مثل ردع الوسواسي عن العمل بقطعه في نجاسة ثوبه ، فتدبر.

قوله : المقام الثاني فيما إذا قام ظن من أفراد مطلق الظن على حرمة العمل ببعضها (٢).

(٢) اعلم أنّ هذا البحث على مذاق المصنف من عدم الفرق بين الظن بالواقع وبالطريق محتاج إليه لا على مذاق من يقول بحجية الظن بالواقع فقط ، لأنّ الظن المانع عنده ساقط ليس بحجة ، وأما على مذاق من يقول بحجية الظن في الطريق كصاحب الفصول فإن قام الظن الممنوع على المسألة الفرعية فليس محلا للبحث لعدم حجية الظن الممنوع عنده ، وإن قام على المسألة الأصولية وبعبارة أخرى كان الظن المانع والممنوع كلاهما متعلقا بالطريق كما لو ظن حجية

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٥٣١.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٥٣٢.

٦٤٧

الشهرة بخبر الواحد الضعيف المظنون عدم حجيته فإنّ البحث آت فيه كما لا يخفى ، فما في المتن من أنّ لازم بعض المعاصرين يعني صاحب الفصول وأخيه صاحب الحاشية الأخذ بالظن المانع وطرح الظن الممنوع مطلقا لاختيارهما حجية الظن بالطريق دون الواقع محل تأمل ، وسيأتي الكلام في وجه الفرق بين كون الظن المانع قائما على حرمة العمل بالظن الممنوع وبين كونه قائما على عدم الدليل على اعتباره.

قوله : وفي وجوب العمل بالظن الممنوع أو المانع أو الأقوى منهما أو التساقط وجوه (١).

(١) لا بأس بالإشارة إلى جميع صور تزاحم فردي دليل واحد بحيث لا يمكن شمول الدليل لهما فعلا يعني إرادتهما في مقام الامتثال منجزا ، سواء كان الفردان في عرض واحد وحصل التزاحم أو كان أحدهما مانعا عن الآخر فنقول إنّه على أقسام :

منها : أن يكون الدليل العام دليلا عقليا ، ولا يخفى أنّ الترجيح بأولوية التخصص على التخصيص وأمثالها لا مسرح له هاهنا ، لأنّه مناسب للأدلة اللفظية وهو واضح ، والوجه أن يقال إذا تزاحم فردان مما يصدق عليه ذلك الدليل العقلي كدليل الانسداد مثلا فاللازم الرجوع إلى ملاك حكم العقل ، فإن كان في أحدهما أقوى من الآخر فالمتعين الأخذ بالأقوى أعني الحكم بأنّه هو الباقي تحت عموم الدليل دون الآخر ، فلو كان الفردان في عرض واحد كإنقاذ الغريقين يؤخذ بالأهم منهما لأنّه أقوى في مقام الإطاعة والامتثال الذي حكم به العقل وأدخل في تحصيل غرض الامر البتة ، فلو دار الأمر في مسألتنا بين

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٥٣٢.

٦٤٨

العمل بأحد الظنين وطرح الآخر أو العكس مع كون أحدهما أقوى فلا ريب أنّ الأقوى مقدّم ، لأنّ مناط حكم العقل بعد مقدمات الانسداد بالعمل بالظن كونه أقرب إلى الواقع ، فبعين هذا المناط يحكم بتقديم الأقوى لأنّه أقرب إلى الواقع من الآخر ، وهكذا لو كان أحد الظنين مانعا عن الآخر ، مثلا لو ظن بوجوب السورة في الصلاة من الشهرة وظن عدم حجية الشهرة اللازم منه عدم وجوب السورة أعني عدم المؤاخذة على ترك السورة ولو كان واجبا في الواقع فيلاحظ الأقوى منهما ويقدّم العمل به لأنّه أقرب في تحصيل الإطاعة المطلوبة ، وفي صورة تساوي الفردين في مناط الحكم يحكم بالتخيير أو التساقط سواء كان أحدهما مانعا عن الآخر أو لا ، هذا.

ولكن يمكن أن يقال في صورة التساوي لو كان أحدهما مانعا عن الآخر يؤخذ بالظن المانع ، لأن الظن الممنوع وإن كان مساويا للمانع من حيث الكشف والطريقية التي هي مناط حكم العقل إلّا أنّ الظن المانع يكشف عن وجود مفسدة في العمل بالظن الممنوع ذاتا أو من جهة تخلّفه الغالبي كما في القياس كشفا ظنيا ، وحينئذ يكون العمل بالظن المانع موجبا للظن بالبراءة ، بخلاف الظن الممنوع فإنّه وإن كان ظنا بالواقع لكن المظنون بظن يساوي ذلك الظن اشتماله على المفسدة الموجبة لعدم الأخذ به.

وبعبارة أخرى : العمل بالظن المانع يظن به البراءة الفعلية بخلاف الممنوع. وبعبارة أخرى : يدور الأمر بين الظن المشكوك الحجية أي الظن المانع والظن الممنوع الموهوم الحجية أي المظنون عدم حجيته ، والأول مقدّم على الثاني في ملاك حكم العقل أعني تحصيل البراءة الفعلية ، وهذا نظير ما تقدّم في المقام السابق من أنّه إذا دار الأمر بين الظن المظنون الحجية إذا كان بقدر الكفاية وبين مطلق الظن فإنّه يقدّم الأول بحكم العقل ، فتأمّل.

٦٤٩

بل يمكن أن يقال بتقديم الظن المانع مطلقا حتى فيما كان الظن الممنوع أقوى بعين التقريب المتقدّم ، ويمكن أن يفصّل بين ما لو كان الظن الممنوع في غاية القوة قريبا من العلم والظن المانع ضعيفا وبين ما لم يكن كذلك ، ففي الأول يحكم العقل بملاحظة هذه القوة في الممنوع والضعف في المانع بتقدم الممنوع لعدم مكافأة الظن بالبراءة الذي يكون مع الظن المانع للقوة التي تكون مع الممنوع ، وإن كان المظنون اشتمال الممنوع على المفسدة سيما إذا كانت المفسدة غلبة مخالفة نوعه عن الواقع ، وفي الثاني يقدّم الظن المانع لرجحان الظن بالبراءة على مقدار القوة الموجودة في الممنوع ، وقد يتساويان ويتساقطان (١).

وقد أشار المصنف إلى دليل آخر لتقديم الظن المانع في أواخر المبحث بقوله : إلّا أن يقال إنّ القطع بحجية المانع عين القطع بعدم حجية الممنوع ، لأنّ معنى حجية كل شيء وجوب الأخذ بمؤداه لكن القطع بحجية الممنوع التي هي نقيض مؤدى المانع مستلزم للقطع بعدم حجية المانع ، فدخول المانع لا يستلزم خروج الممنوع وإنما هو عين خروجه فلا ترجيح ولا تخصيص ، بخلاف دخول الممنوع فإنّه يستلزم خروج المانع فيصير ترجيحا من غير مرجح فافهم (٢).

وفيه : أنّ ترجيح المانع الذي يكون القطع بحجيته عين القطع بعدم حجية الممنوع يحتاج إلى مرجح مفقود بالفرض ، وما فرضه مرجحا إنّما يكون كذلك بعد فرض كونه مشمول الدليل وهو أول الكلام ، ولعله إلى ذلك أشار بقوله فافهم.

__________________

(١) أقول : الأظهر تقديم الظن المانع مطلقا كما ذكر أولا ، وقوة الظن في طرف الممنوع وإن بلغ ما بلغ لا تكافئ الظن بعدم حجيته الكاشف عن اشتماله على المفسدة الموجب للظن بعدم حصول البراءة الفعلية من الممنوع وحصولها من المانع ، هذا.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٥٣٥ ـ ٥٣٦.

٦٥٠

ومنها : أن يكون الدليل العام دليلا شرعيا تعبّديا مثل قوله : أكرم العلماء ، فإن لم يكن أحد الفردين المتزاحمين مانعا عن الآخر كما لو كان إكرام أحد الفردين بترك إكرام الآخر مثلا ، أو لم يتمكن المكلف من إكرامهما جميعا وتمكن من إكرام أحدهما ، فحكمه ترجيح الأهم منهما لو كان أحدهما أهم وإلّا فالتخيير ، وهذا لا ربط له بما نحن فيه من المانع والممنوع.

وإن كان أحد الفردين مانعا عن الآخر كما لو ورد اعمل بقول كل عادل ثم قال زيد العادل مثلا لا تعمل بقول عمرو العادل ، أو قال : إنّ عمرا ليس بعادل ، فإنّه في هذه الصورة يمكن تطرق ما أشار إلى نقله في المتن من ترجيح التخصص على التخصيص أو ترجيح التخصيص مع الدليل على التخصيص من غير دليل ، فيقال في المثال الأول إنّ الأمر دائر بين العمل بقول زيد وإخراج قول عمرو عن العموم وعكسه ، والأول تخصيص بدليل هو قول زيد بخلاف الثاني فإنّه تخصيص بلا دليل ، وفي المثال الثاني يدور الأمر بين العمل بقول زيد اللازم منه خروج عمرو عن موضوع الحكم وعكسه اللازم منه تخصيص العام بقول زيد ، فيرجح التخصيص بدليل في المثال الأول والتخصص في المثال الثاني.

ويرد على ذلك أيضا بما مر في الحاشية السابقة بأنّ هذا الترجيح متفرع على شمول الدليل في المثالين للراجح منهما قبل شمولاه للمرجوح وليس الكلام إلّا في ذلك ، فبأيّ وجه يرجح شمولاه لهذا حتى يلزم من شمولاه له خروج الآخر موضوعا أو حكما ، وأيضا وجه تقديم التخصص على التخصيص في محله المحافظة على بقاء العام على عمومه الظاهر فيه.

وبعبارة أخرى : حمل العام على معنى لا يلزم منه التخصيص بل

٦٥١

التخصص أولى وأظهر من حمله على معنى يلزم منه التخصيص ، فالمناط أظهرية التخصص على التخصيص بحسب مدلول العام ، كما أنّ وجه تقديم التخصيص بدليل على التخصيص من غير دليل أنه في الأول يرفع اليد عن الظهور بالقرينة وفي الثاني بلا قرينة.

وشيء من الوجهين لا يجري فيما نحن فيه ، أما في المثال الأول فلأنّ تخصيص كل من المانع أو الممنوع بدليل ، أما الممنوع فبدليل المانع الثابت حجيته بدليل العام بعد شمولاه له ، وأما المانع فبدليل العام بعد شمولاه للممنوع الملازم لخروج المانع ، غاية الأمر أنّ شمول العام للمانع موجب لحدوث دليل غير العام على خروج الممنوع بخلاف شمولاه للممنوع فإنّ نفس العام حينئذ دليل على خروج المانع من غير توسيط دليل آخر ، وهذا المقدار لا يوجب الأظهرية التي هي مناط التقديم.

وأما في المثال الثاني فلأنّ فردية كل من المانع والممنوع للعام محقق في نفس الأمر ، غاية الأمر أنّه بعد العلم بخروج أحد الفردين عن حكم العام إن أخذ بالفرد المانع يرجع إلى التخصص تنزيلا وتصنّعا ، وإن أخذ بالفرد الممنوع يكون ذلك تخصيصا صورة وواقعا أيضا ، وهذا المقدار من الفرق لا يوجب أظهرية الأول بالنسبة إلى الثاني التي كانت مناطا للتقديم.

وبالجملة : لمّا لم يتم وجه الترجيح والتقديم المذكور يبقى التزاحم والتدافع بلا مرجح في البين فلا مناص إلّا من الحكم بالتخيير.

ومنها : أن يكون الدليل العام دليلا شرعيا كما في الصورة السابقة ولكن كان متعلقا بالطريق من حيث طريقيته كما لو ورد من الشارع اعمل بكل ظن وفرض حصول ظن من الشهرة على حكم وظن عدم حجية الشهرة ، وفي هذا

٦٥٢

القسم يحتمل وجهان فمن حيث إنّه جعل الظن بما هو طريق وكاشف عن الواقع حجة واجب العمل كان مثل الدليل العقلي كما في القسم الأول وحكمه حكمه ، ومن حيث إنّ الدليل العام نقلي تعبدي يكون بحكم القسم الثاني ، والأظهر هو الأول فتدبر.

ومنها : أن يكون الدليل العام دليلا تعبديا كما في سابقيه ولكن كان مفاده الحكم الظاهري ، وكان أحد فرديه مانعا عن الآخر كاستصحاب الحاكم والمحكوم كما مثله في المتن تنظيرا للمقام ، وقد حكم غير واحد بتقديم الاستصحاب الحاكم لما مرّ من تقديم التخصص على التخصيص كما أشار إليه في المتن هنا ، أو تقديم التخصيص بدليل على التخصيص من غير دليل كما صرّح به المصنف في رسالة الاستصحاب.

وفيه : ما مر من أنّ أمثال هذه الاعتبارات في مثل المقام بالنسبة إلى دليل واحد لا تصير منشأ للأظهرية التي هي مناط التقديم ، وأنّ هذا التخصص المشار إليه يرجع إلى التخصيص ، وأنّ نسبة الفردين إلى العام على حد سواء في نفسه ، وإن كان مقتضى شمولاه لأحدهما المعيّن شيئا مغايرا لمقتضى شمولاه للآخر بأن يرجع شمولاه لأحدهما إلى التخصيص بالنسبة إلى الآخر وشمولاه للآخر إلى التخصص بالنسبة إلى الأول ، أو يرجع شمولاه لأحدهما إلى التخصيص بدليل وشمولاه للآخر إلى التخصيص بغير دليل ، لكن الإشكال في أصل الشمول من أول الأمر ، وقد أشار المصنف في آخر كتاب الاستصحاب في تعارض الاستصحابين إلى هذا الإشكال الأخير وأجاب عنه بوجهين بقوله : ويدفع بأنّ فردية أحد الشيئين إذا توقف على خروج الآخر المفروض الفردية عن العموم وجب الحكم بعدم فرديته ، ولم يجز رفع اليد عن العموم لأنّ رفع اليد حينئذ عنه يتوقف على شمول العام لذلك الشيء المفروض توقف فرديته على رفع اليد عن

٦٥٣

العموم وهو دور محال. وإن شئت قلت : إنّ حكم العام من قبيل لازم الوجود للشك السببي كما هو شأن الحكم الشرعي وموضوعه ، فلا يوجد في الخارج إلّا محكوما ، والمفروض أنّ الشك المسببي أيضا من لوازم وجود ذلك الشك ، فيكون حكم العام وهذا الشك لازمين لملزوم ثالث في مرتبة واحدة فلا يجوز أن يكون أحدهما موضوعا للآخر لتقدم الموضوع طبعا (١) انتهى.

وقد أشار المصنف إلى الوجه الثاني أيضا في مسألة عدم تعارض الأصل الجاري في ملاقي أحد طرفي الشبهة المحصورة مع الأصل الجاري في الطرف الآخر الذي هو في عرض الأصل في الملاقى بالفتح فراجع.

وفي الجوابين نظر ، أما الدور فلأنّا لا نسلّم توقف فردية المحكوم على خروج الحاكم أعني الاستصحاب السببي عن العام ، بل فرديته متحققة في نفس الأمر في عرض فردية الحاكم مع قطع النظر عن شمول الحكم وإنّما جاء التنافي والتدافع من قبل شمول الحكم كما لا يخفى.

وأما الجواب الثاني ، فلأنّ حكم العام وإن كان من حيث كونه لازما للحاكم متأخرا عنه طبعا وفي عرض الشك في المحكوم لكنه يجوز أن يكون لازما للمحكوم أيضا متأخرا عنه من حيث عروضه له ، وإن شئت قل إنّ حكم العام ينحل بحسب تعدد أفراده إلى أحكام ، فالفرد من الحكم الذي عرض للحاكم لازم له متأخر عنه وفي عرض فرد آخر من الموضوع ، وما يعرض للمحكوم ويتأخر عنه فرد آخر من الحكم ، وبمثل ذلك يجاب عن الأصل في مسألة الملاقي ، فإنّ الشك في جانب الملاقي بالكسر وإن كان في طول الشك في الملاقى بالفتح لأنّه مسبب عنه ولا ينافي ذلك أن يكون في عرض شك

__________________

(١) فرائد الأصول ٣ : ٣٩٧ ـ ٣٩٨.

٦٥٤

الطرف الآخر الذي هو في عرض الشك في الملاقى بالفتح ، لأنّ الطرف الآخر ليس سببا للشك في الملاقي ، وتتمة الكلام ستأتي في محله إن شاء الله تعالى.

وأما قضية الشهرة المانعة عن حجية الشهرة ونحوها مما يكون المانع والممنوع من جنس واحد ، فإن كان الدليل العام الشامل لهما عقليا فيقدم الأقوى منهما ، وإن كان لفظيا وكان اللفظ منصرفا عن المانع فلا كلام ، وإلّا ففي تقديم المانع أو الممنوع وجهان أقواهما الثاني ، وقد أشبعنا الكلام في تحقيقه وتوضيحه في بحث حجية الشهرة وفي حجية ظواهر الكتاب وفي التكلم على الآيات الناهية عن العمل بالظن في حجية خبر الواحد فراجع.

فتحصل من مجموع ما ذكرنا : أنّ المانع والممنوع من الدليل العقلي يقدم الأقوى منهما ، وكذا الدليل اللفظي المتعلق بالطريق ، ومن الدليل اللفظي المتعلق بالحكم الواقعي التخيير لما أبطلنا ما ذكروه في وجه تقديم المانع من تقدم التخصص على التخصيص ونحوه ، ومن الدليل اللفظي المتعلق بالأحكام الظاهرية أي الأصول العملية كالحاكم والمحكوم من الاستصحابين فيقدم الحاكم منهما ، لا لما ذكروه من الوجوه الأربعة التي قدمناها وما فيها ، بل لأنّ الشك المسببي الذي هو موضوع الأصل المحكوم ناش من الشك السببي الذي هو موضوع الأصل الحاكم ولازمه وتابعة وفرعه وكأنّه هو هو ، وإذا راجعنا العرف والعقلاء نرى أنّهم لا يعبئون بالشك اللازم من شك آخر ولا يلتفتون إليه أصلا ، بل يعالجون الأصل ويلتمسون حكمه فلمّا تبين حكمه يبنون على ترتيب آثاره بالنسبة إلى الفرع ، ألا ترى أنه لو شك في وجوب صلاة مثلا يتولد منه الشك في وجوب تحصيل الساتر والقبلة والطهارة من الحدث والخبث وغيرها من الشرائط والمقدمات ، فلو بني على عدم الوجوب في أصل الصلاة بالاستصحاب مثلا لم يتأمل أحد في سقوط الشكوك المتولدة ، وكذا لو بني على

٦٥٥

الوجوب بالاستصحاب لا يتأملون في وجوب تحصيل جميع الشرائط والمقدمات التي شك فيها من جهة الشك في وجوب أصل الصلاة ، ويشهد بذلك أنّ ما ورد في الشرع في مثل ذلك ورد في علاج الشك السببي فقط بحيث يعلم منه ترتب حكم المسببي بحسبه ، مثل الأخبار الدالة على استصحاب الوضوء بحيث يعلم منه صحة الصلاة معه ، ولا يتوهم جريان استصحاب شغل الذمة بأصل الصلاة حتى يعارضه أو يقدم عليه كما لا يخفى.

قوله : وفيه أوّلا : أنّه لا يتم فيما إذا كان الظن المانع والممنوع من جنس أمارة واحدة كأن يقوم الشهرة (١).

(١) قد أخرج المصنف (رحمه‌الله) مثل الشهرة القائمة على عدم حجية الشهرة عن عنوان النزاع في المقام ، ويظهر من هذا الكلام أنّه أدخله فيه ، اللهمّ إلّا أن يريد أنّه مثال على سبيل الفرض والتقدير بأن يفرض أنّ المشهور القائلين بعدم حجية الشهرة يرون الشهرة كالقياس مما فيه المفسدة الذاتية أو العرضية.

قوله : هذا إذا لم يكن العمل بالظن المانع سليما عن محذور ترك العمل بالظن الممنوع (٢).

(٢) يعني إذا كان العمل بالظن المانع سليما عن محذور ترك العمل بالظن الممنوع بأن كان الممنوع موافقا للاحتياط فيعمل بالاحتياط الموافق للظن الممنوع ويرتفع الإشكال.

لكن فيه : أنّه حينئذ يخرج عن فرض المانع والممنوع على ما سبق من المتن ، إذ الظن المانع قد كشف ظنا عن وجود مفسدة في العمل بالظن الممنوع

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٥٣٤.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٥٣٦.

٦٥٦

وكونه موافقا للاحتياط والحال هذه غير معقول ، نعم يمكن كونه موافقا للاحتياط من غير جهة المفسدة وذلك غير مفيد ، ويوجد في بعض النسخ هذا إذا كان بدل إذا لم يكن ، ولم نجد له وجها صحيحا ، وفي بعض النسخ هذه العبارة بأجمعها ساقطة.

قوله : الأمر الثالث أنه لا فرق في نتيجة مقدمات دليل الانسداد (١).

(١) ظاهر صدر العنوان أنه أراد التسوية بين أسباب الظن المتعلق بالفروع يعني عدم الفرق بين الظن الحاصل في الحكم الفرعي من أمارة ظنية بلا واسطة وبينه مع الواسطة ، وهذا مما لا إشكال فيه ولا يحتاج إلى عقد أمر آخر ، والذي يظهر من ذيل كلامه (رحمه‌الله) وهو الحق أنّ المراد حجية مطلق الظن المتعلق بالحكم الفرعي أو المتعلق بما يستنبط منه الحكم الفرعي من المسائل الأصولية واللغوية والرجالية ونحوها ، وإن لم يحصل منه الظن بالحكم الفرعي بدليل أنّ الظن بكل من الأمرين موجب للظن بالبراءة وهو كاف.

ثم إنّه قد تقدم في الأمر الأول تحقيق عدم الفرق في نتيجة دليل الانسداد بين الظن بالمسألة الفرعية أو الظن بالمسألة الأصولية ، ففائدة عنوان هذا الأمر بيان كون النتيجة أعم من ذلك ومن أن يتعلق الظن ببعض المسائل اللغوية والرجالية والنحوية وغيرها مما يتعلق باستنباط الحكم الفرعي في موضع يستنبط منه الحكم الفرعي من حيث هذا الحكم الفرعي لا غير كما أشار إليه في المتن.

ثم إنّه لا فرق فيما ذكر من حجية الظنون الرجالية ونحوها بدليل الانسداد بين ما لو كان باب العلم بالمسائل الرجالية منسدا غالبا وعدمه حتى إذا فرض

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٥٣٧.

٦٥٧

انفتاح باب العلم في أغلب مسائل الرجال لكن انسد باب العلم في مسألة واحدة منها وهي مما تعلق به استنباط الحكم الفرعي فيثبت حجية الظن فيها بالخصوص بدليل الانسداد.

وقد يستشكل ذلك بأنّ هذا لا يجوز بل يجب أن يلاحظ كل نوع من أنواع الأمور التي يتعلق بها استنباط الأحكام الفرعية على حدة ، فكل نوع انسد باب العلم فيه غالبا يؤخذ بالظن فيه ، وكل نوع خلا عن الانسداد الأغلبي يؤخذ بمعلوماته ويرجع فيما يبقى منه إلى الأصل ، ونظير ذلك ما ذكره المحقق القمي في جواب توهم أنّ الصلاة المحتاجة إلى إثبات بعض أجزائها أو شرائطها بالظن يجوز العمل بالظن فيها مطلقا حتى بالنسبة إلى الأجزاء التي يمكن إثباتها بالعلم لانفتاح باب العلم بها ، من أنّ هذا باطل بل يقتصر في العمل بالظن على جزء أو شرط لا يمكن فيه تحصيل العلم.

والجواب : أنّ مناط جريان مقدمات الانسداد لم يكن بانسداد باب العلم في الرجال واللغة بل الانسداد الأغلبي في الأحكام ، فيدور الحكم مداره وهذا واضح بأدنى التفات ، وما ذكر في النظير ليس بنظير ، لأنّه إن أمكن تحصيل العلم في جهة فنحن نسلّم وجوب تحصيل العلم والبناء عليه من تلك الجهة ، إنّما الكلام في مورد لم يمكن فيه تحصيل العلم وانسدّ بابه وإن كان باب العلم منفتحا في نوع هذا المورد ، فنقول إنّ الظن في ذلك المورد حجة بدليل الانسداد الجاري بالنسبة إلى الأحكام الفرعية.

٦٥٨

قوله : أما الأول فهو غير صحيح لأنّ المسائل الأصولية التي ينسد فيها باب العلم (١).

(١) ولقائل أن يقول إنّ المحقق الشريف إمّا أن يسلّم أنّ المسائل الأصولية كحجية بعض الأمارات أحكام شرعية مجعولة يجب الأخذ بها أو لا يسلّم ، فإنّ كان الثاني تم ما أراده من عدم حجية الظن في المسائل الأصولية ولا يحتاج إلى هذه البيانات الطويلة ، وأيضا لا معنى لقوله فقد انفتح فيها باب العلم وعلم الحجة منها من غير الحجة ، إذ على هذا المبنى ينحصر الحجة في الظن الفرعي ، وإن كان الأول ففيه أنّه وإن سلّمنا عدم الانسداد الأغلبي في المسائل الأصولية بعد إجراء دليل الانسداد في الفروع لمكان معلومية الحجة عن غير الحجة فيها لكن الشأن في وجه تقديم إجراء مقدمات الانسداد في الفروع أوّلا ، إذ يمكن القلب بأن نجري مقدمات الانسداد في المسائل الأصولية ونثبت حجية الظن فيها وبه ينفتح باب العلم في الأحكام الفرعية التي يستنبط منها ، وما يبقى منها ليس من الكثرة بحيث لو عمل فيه بالأصل لزم محذور ، وحيث لا وجه لتقديم إجراء مقدمات الانسداد في واحد من المسائل الأصولية والفروعية فلنا أن نختار هذا الوجه من الترديد ونحكم بجريان مقدمات الانسداد في المقامين في عرض واحد.

قوله : فقد انفتح فيها باب العلم وعلم الحجة منها من غير الحجة (٢).

(٢) يعني يعلم بذلك أنّ كل خبر أو شهرة أو إجماع أفاد الظن بالحكم الفرعي فهو حجة وكل ما لم يفده فليس بحجة.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٥٤٢.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٥٤٢.

٦٥٩

وفيه : أنّ ذلك ليس معنى حجية الأمارة ، إذ تدور الحجية حينئذ مدار الظن الفرعي فهو الحجة من أي سبب حصل ، وضم حجية السبب إلى الظن الفرعي كضم الحجر إلى جنب الكاتب ، نعم لو صح بيانه السابق صح أن يقول إنا بعد إجراء دليل الانسداد في الفروع فقد أغنانا ذلك عن إجرائه في الأصول وكفانا مئونته.

قوله : وقس على ذلك معرفة المرجح (١).

(١) قد يورد عليه بأنّ تصوير المتعارضين والحاجة إلى الترجيح إنّما يتصور في المسائل الأصولية كالخبرين المتعارضين ، والمحقق الشريف لا يرى جريان مقدمات الانسداد فيها ، فلا حجة عنده سوى الظنون الفعلية الفرعية ولا يتصور فيها ظنان فرعيان متخالفان كي يتعارضا ويحتاج إلى الترجيح.

ويمكن أن يوجّه بفرض المتعارضين من الظنون الخاصة كخبرين صحيحين أعلائيين مثلا ، وقلنا إن الخبر الكذائي من الظنون الخاصة ، إلّا أنّه ليس بمقدار كاف في الفقه حتى يمنع ذلك من إجراء مقدمات الانسداد.

ويمكن فرضه أيضا بأنّ المحقق الشريف لعله يقول بحجية الظنون النوعية في الفروع وحينئذ يمكن فرض التعارض ، إلّا أنّ هذا بعيد عن مذاق كل من يقول بحجية الظن المطلق فليتأمل.

قوله : وأما الثاني وهو إجراء دليل الانسداد في مطلق الأحكام الشرعية (٢).

(٢) سكوت المصنف عن هذا الوجه والوجه الأول ظاهر في أنّهما مرضيان

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٥٤٢.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٥٤٤.

٦٦٠