حاشية فرائد الأصول - ج ١

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-015-2
الصفحات: ٦٩٤

١
٢

٣

٤

باسمه تعالى شأنه العزيز

الحمد لله الذي فضل مداد العلماء على دماء الشهداء ، وصلى الله على محمد سيد الأنبياء وآله البررة الأصفياء وبعد : فإن مما لا يخفى على أهل العلم والفضل أنّ كتاب فرائد الأصول المعروف بالرسائل من أهم الكتب الأصولية والذي كان ولا يزال منهجا دراسيا في الحوزات العلمية ، وقد علّق عليه الكثيرون من أرباب العلم والفضيلة.

ومن أولئك صاحب العروة الوثقى آية الله العظمى السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي (قدس‌سره) حيث جعل محور أبحاثه الأصولية كتاب الرسائل.

وممن حضر أبحاثه وحررها وعلّق عليها في ثلاثة مجلدات ـ كما ذكر ذلك في الذريعة ٦ : ١٥٢ ط. بيروت ـ خالنا المفضال جامع المعقول والمنقول آية الله الشيخ محمد إبراهيم اليزدي النجفي المتولد سنة ١٢٧٠ ه‍ ق والمتوفى سنة ١٣٢٠ أو ١٣٢٤.

ويكفيه جلالة ما وصفه عمنا آية الله الشيخ علي أكبر سيبويه (قدس‌سره)

٥

في مقدمة الكتاب ب : فخر المحققين وزين الفقهاء والمجتهدين.

وهو على ما نقل آية الله شيخنا الوالد كان من العلماء الأعلام وكان عنده من العلوم الغريبة ومن مبرزي تلامذة السيد (قدس‌سره) ، بل كان معينه في الفتيا ويحضر دروسه ويقررها.

وكان يوم وفاته يوما عظيما في النجف الأشرف حيث عطلت الحوزة والأسواق وقد مشى السيد الطباطبائي (قدس‌سره) خلف جنازته وهو يبكي بكاء شديدا ويقول : الآن انكسر ظهري بفقد هذا العالم الجليل ، ودفن في إيوان الحضرة العلوية على مشرفها آلاف التحية ، وله كرامات يطول بذكرها المقام تغمده الله تعالى برحمته الواسعة وأسكنه الفسيح من جناته.

والسلام عليه يوم ولد ويوم توفي ويوم يبعث حيا.

كتبه الأقل

محمد الحسين سيبويه الحائري

عفي عنه

٦

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي جعل العلماء ورثة الأنبياء ، وفضّل مدادهم على دماء الشهداء ، والصلاة على سيّد خلقه وأشرف بريّته محمد وآله البررة الأتقياء.

وبعد فهذه تعليقة شريفة وجيزة أنيقة علّقها الشيخ الأجل المفضال علم الأعلام والنحرير القمقام فخر المحقّقين وزين الفقهاء والمجتهدين حاوي الفروع والأصول وجامع المعقول والمنقول مولانا الشيخ محمد إبراهيم اليزدي الكرد فلامرزيّ النجفي (عطّر الله مرقده) على فرائد شيخنا العلّامة المحقّق الأنصاري (قدّس الله روحه) حاوية لتقريرات أستاذه السيّد الأجل الأكرم والمولى الأفخم الأعظم حجّة الإسلام والمسلمين آية الله في العالمين السيّد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي النجفي (أعلى الله مقامه) وبعض تحقيقات شريفة سمح بها فكره الثاقب ونظره الصائب ، فقال عليه رحمة الكبير المتعال :

٧

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه ثقتي

قوله : فاعلم أنّ المكلّف إذا التفت إلى حكم شرعيّ (١).

(١) قال سيدنا الأستاذ الأعظم : الذي يناسب مقام الشروع في الأدلّة أن يقسم هكذا : اعلم أنّ المجتهد بعد الفحص اللّازم في كل مسألة إمّا أن يحصل له دليل قطعيّ للحكم أو دليل غير قطعيّ او لا يحصل له دليل أصلا ، والمراد من الدليل القطعي ليس ما يوجب القطع شأنا كما توهّم ، وإن كان يمكن أن يجعل الشارع ما يوجب القطع شأنا حجّة فإنّه أمر معقول ، إلّا أنّه غير واقع بشهادة الاستقراء ، بل المراد من الدليل القطعي كون نفس القطع بوصفه الفعلي دليلا لا ما يوجبه ، مثلا معنى قولنا الخبر المتواتر حجّة أو الإجماع حجّة أنّ القطع الحاصل منهما حجّة واجب العمل.

والمراد من الدليل غير القطعيّ أعمّ من الظنّ والظنّي فإنّه يشمل الظنّ الفعليّ إذا اعتبره الشارع من دون ملاحظة سببه كما هو مذاق جملة من أفاضل

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٥.

٨

المتأخّرين في نتيجة دليل الانسداد ، ويشمل ما يوجب الظنّ الفعليّ كخبر الواحد لو اعتبر مشروطا بحصول الظنّ الفعلي كما قد ينسب إلى البهائي (رحمه‌الله) ، ويشمل ما يوجب الظنّ النوعيّ كخبر الواحد على مذاق القوم ، ونفس الظنّ النوعي من دون ملاحظة سببه إمّا مطلقا أو بشرط عدم الظنّ الفعلي على خلافه (١).

ويشمل أيضا ما لو اعتبر الشارع ما يكون ناظرا إلى الواقع بلسانه ولو لم يوجب الظنّ الفعليّ أو الشأني ، نظير اعتبار يد المسلم وسوق المسلمين في الموضوعات في الحكم بالملك والطهارة والتذكية ونحو ذلك ، وذلك مثل أن يقول : صدّق المرأة على ما في رحمها من الحيض والحمل ، فقولها يصير حجّة ودليلا ، وكذا يشمل ما إذا اعتبر ما لا يكون ناظرا إلى الواقع أصلا ، إلّا أنّه يعتبره بعنوان الطريقية ، كأن يقول : إذا شككت بين الثلاث والأربع فإنّك صلّيت أربعا فسلّم وانصرف.

فإن قيل : إذا لم يكن الشيء في نفسه طريقا إلى الواقع كيف يعقل جعله طريقا ، فإنّ الطريقية وعدمها من الأمور النفس الأمريّة التي لا تتغيّر عمّا هي عليها واقعا ، والذي يعقل جعله في المورد ترتيب آثار الواقع على مورد الجعل ، وهذا مفاد الأصل لا الدليل كما لا يخفى.

قلنا : هذا مبنيّ على ثبوت الأحكام الوضعيّة على ما سيأتي تصويرها في محلّه ، فما هو الجواب هناك هو الجواب هنا ، فإنّ الطريقيّة أيضا من أحكام الوضع ، فلا نطيل الكلام هنا.

__________________

(١) أقول : نحن لا نتعقّل اعتبار نفس الظنّ النوعيّ ، فإنّه أمر معدوم توهّمه الخاطر باعتبار أنّ شأن السبب الكذائي أن يحدث الظنّ الفعليّ عقيبه غالبا ، وحينئذ فإن اعتبره الشارع ظاهرا نحمله على اعتبار ذلك السبب ، فسقط هذا القسم.

٩

وقد ظهر ممّا ذكرنا وجه كون ما ذكرنا من التقسيم أنسب ممّا ذكره المصنف ، مضافا إلى سلامته عمّا يرد على كلامه ، وهو من وجوه :

الأوّل : أنّ اعتبار التكليف في المقسم في قوله : اعلم أنّ المكلّف ... لغو ، فإنّه لا مدخليّة له في الأقسام ، فالواجب أن يقول : اعلم أنّ الإنسان ... ، اللهم إلّا أن يقال إنّه لإخراج المجنون والصبيّ بناء على عدم الاعتداد باستنباط الصبيّ حتى في حقّ عمل نفسه.

الثاني : أنّ جعل المقسم مطلق المكلّف ممّا لا يصحّ ، لشمولاه المقلّد ، ومعلوم أنّه ليس من أهل الاستنباط حتى يرجع إلى الأدلّة والأصول ، فلا بدّ من تقييده بالمجتهد.

وقد أجيب عن ذلك بأنّ المقلّد أيضا مكلّف بمؤدّى الأدلّة وإجراء الأصول كالمجتهد ، لكن لمّا عجز عن تشخيص ذلك قام المجتهد مقامه فكان نائبا عنه ، وحينئذ لا يحتاج إلى التقييد بالمجتهد ، بل هو مخلّ بالمقصود.

وفيه أوّلا : أنّه يلزم أن يكون المجتهد مستنبطا لحكم ظنّ المقلّد وشكّه ، ولا ريب في فساد ذلك ، إذ المناط ظنّ المجتهد وشكّه قطعا ولا اعتبار بظنّ المقلّد وشكّه ، فلو كان المجتهد ظانّا والمقلّد شاكّا فالحكم بمقتضى الظنّ الحاصل للمجتهد ، اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ المجتهد نائب عن المقلّد حتى في كونه ظانّا أو شاكّا ، لكن مرجع ذلك أيضا إلى التقييد بالمجتهد كما لا يخفى ، والحاصل أنّ المقلّد ليس محلّا للأقسام بوجه ، بل وظيفة المقلّد الرجوع إلى ما يفتي به المجتهد في حكم عمله بمقتضى الدليل أو الأصول التي يعملها المجتهد في مواردها.

ومن هنا يعلم أنّ الأقوى في التخيير الثابت في الخبرين المتعارضين

١٠

تخيير المجتهد ، بأن يختار أحدهما ويفتي به معيّنا ، لا الفتوى بالتخيير حتّى يكون المقلّد مختارا في أخذ مؤدّى أحد الخبرين ، لأنّ ذلك ليس من وظيفته.

وثانيا : أنّه يلزم على هذا التبعيض في مبادئ الأدلة ، بيان ذلك : أنّه لمّا كان وجه رجوع المقلّد إلى المجتهد عجزه عن تحصيل مؤدّى الأدلّة والأصول لزم أن نقتصر على مقدار عجزه ، فإذا قدر المكلّف على استنباط بعض مقدّماتها وعلم به استغنى عن المجتهد بالنسبة إلى هذه المقدّمة ويأخذ بما يستنبطه المجتهد في باقي المقدّمات ويعمل على ما يحصل من مجموعها ، وربّما يكون مخالفا لفتوى المجتهد ، مثلا لو أفتى المجتهد بوجوب التيمّم على التراب لقوله تعالى : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً)(١) لاختياره كون الصعيد هو التراب ، ولكن المقلّد يقطع بأنّ الصعيد مطلق وجه الأرض ، فيأخذ عن المجتهد جميع ما هو عاجز عن فهمه من مقدّمات المسألة مثل أنّ ظاهر الكتاب حجّة ، والأمر للوجوب ، وأنّ المراد ب (لَمْ تَجِدُوا) لم تتمكّنوا من الاستعمال وغير ذلك ، ويبني على جواز التيمّم على مطلق وجه الأرض ، وهذا ممّا لا يلتزم به أحد حتّى أنّ المصنف صرّح في رسالة التعادل والتراجيح بذلك ، حيث جزم بأنّه إذا كان الخبران المتعارضان متعادلين بنظر المجتهد وكان أحدهما راجحا بنظر المقلّد فالعبرة بنظر المجتهد ، وليس للمقلّد الأخذ بما هو الراجح عنده.

وثالثا : أنّ كون المقلّد بل المجتهد مكلّفا بمؤدّى الأدلّة وإجراء الأصول ممنوع ، بل الحقّ المحقّق في محلّه أنّ التكليف منحصر في الأحكام الواقعية ، وليس مؤدّى الأدلّة وإجراء الأصول أحكاما مجعولة في مقابلة الأحكام الواقعيّة ، بل إنّما هي أحكام عذريّة بمعنى أنّ المكلّف معذور بعد الأخذ بها على

__________________

(١) النساء ٤ : ٤٣.

١١

تقدير التخلّف عن الواقع ، وتظهر الثمرة فيما إذا ترك المقلّد واجبا واقعيا قد أفتى مجتهده بعدم وجوبه وكان تركه مستندا إلى ترك التقليد لا إلى فتوى المجتهد ، فإنّه يكون آثما معاقبا على ترك الواجب على المختار ، لأنّه لم يأت بالواجب الواقعي ولا بالعذر ، وأمّا بناء على كون مؤدّيات الأدلّة أحكاما مجعولة فقد وافق فعله حكما شرعيا ثانويّا ولا يعاقب على ترك الواجب الواقعي.

الثالث : أنّ قوله : إذا التفت إلى حكم ... قيد زائد في الكلام ، إذ الأقسام لا تنفكّ عن الالتفات جزما ، ولعلّ القيد توضيحي ، ولو قال إنّ المكلف إمّا قاطع أو ظانّ أو شاكّ كفى في مقصوده.

وقد يقال : إنّ قيد الالتفات لإخراج الغافل وحكمه الشرعي بأنّه معاقب إن كان مقصّرا ، ويجاب بأنّ العقاب وعدم العقاب في حق الغافل ليس من الأحكام التي يكون استنباطها وظيفة للمكلّف ، ولا يثمر ثمرة ، هذا.

ولا يخفى أنّ التوجيه وجوابه غير ملائم للمقام ، لأنّ المصنّف بصدد بيان الأقسام المذكورة لا غيرها مثل الغافل وحكمه.

قوله : وهي منحصرة في الأربعة (١).

(١) ظاهر التعليل أنّ الحصر عقليّ لترديده بين الإثبات والنفي ، لكنّه فاسد لأنّه إن أراد حصر نفس الأصول في أربعة على ما هو صريح كلامه هنا وظاهر عبارته في أوّل رسالة أصل البراءة عقلا ، ففيه أنّه يمكن للشارع جعل أصول أخر أيضا لموارد الشكوك قطعا لا محذور فيه أصلا ، غاية ما في الباب أنّه لم يقع ، فليحمل الكلام على إرادة الحصر الاستقرائي وإن كان خلاف الظاهر من

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٥.

١٢

العبارة ، ولا بأس به لتصحيح الكلام ، إلّا أنّه لا يتمّ أيضا لأنّا وجدنا بالاستقراء أصولا أخر مجعولة في الشرع مثل قاعدة الطهارة وقاعدة التسامح في أدلّة السنن بناء على أنّه من الأصول المجعولة لبيان حكم الشكّ كما هو الأظهر ، وقاعدة أصالة الحرمة في اللّحوم حتى بالنسبة إلى الشبهة الحكميّة على مختار جمع ، وأصالة التوقف وغير ذلك مما يظفر بها المتتبّع. والاعتذار بأنّ مراد المصنّف حصر الأصول العامّة الجارية في سائر أبواب الفقه في الأربعة ، وغيرها مما ذكر لا يجري إلّا في بعض الأبواب ، مندفع بأنّه لا وجه لهذا التخصيص ، إذ المجتهد باحث عن جميع الأبواب وبصدد استنباط حكم جميع الوقائع كما لا يخفى.

وإن أراد حصر موارد الأصول ومجاريها في هذه الأربعة عقلا كما هو محتمل عبارته في رسالة أصل البراءة ، ففيه منع الحصر أيضا عقلا في هذه الأربعة ، لأنّ قوله وعلى الأوّل إمّا أن يكون الشك في التكليف أو في المكلّف به ، يقال له هنا وسائط.

منها : الشك في الأحكام الوضعية. فإن قلت : إنّ المصنّف منكر لها رأسا فلا نقض بها عليه. قلنا : هي داخلة في مجاري الاستصحاب عند المصنّف ، فإنّه يجري الاستصحاب في الأحكام الوضعية في الفقه لترتيب آثارها الشرعية فلا يظهر وجه لإخراجها في غير مجرى الاستصحاب ، اللهمّ إلّا أن يقال : إنّه أخطأ في إجراء الاستصحاب في ذلك المقام على مذاقه.

ومنها : الشك في الأحكام غير الالزاميّة كالشكّ في استحباب شيء أو كراهته أو إباحته ، إذ المراد بالشكّ في التكليف على ما صرّح به في رسالة أصل البراءة هو الشكّ في الحكم الإلزاميّ ، وإن أراد بالتكليف هنا مطلق الحكم

١٣

التكليفي الشامل للأحكام الخمسة في مقابل الأحكام الوضعيّة ويلزمه تعميم أصالة البراءة للبراءة من الوجوب في الواجبات المشكوكة ومن الندب في المندوبات المشكوكة وكذا تعميم الاحتياط للوجوبي والندبي ، ففيه أنّه يلزم تداخل موارد أصالة البراءة والاحتياط ، مثلا لو شكّ في وجوب شيء أو ندبه فإنّه مورد لأصالة البراءة بالنسبة إلى الوجوب ومورد للاحتياط الندبي أيضا ، اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ المنفصلة ليست حقيقية حتى يمنع اجتماع القسمين بل مانعة الخلو ، وفيه ما لا يخفى.

ومنها : الشكّ في كيفية التكليف كالشكّ في كون الواجب عينيّا أو كفائيّا ، تعيينيا أو تخييريا ، نفسيّا أو غيريّا.

ومنها : الشكّ في شدّة اهتمام الشارع في بعض التكاليف بالنسبة إلى بعض آخر ، مثل أنّه نهى عن الصلاة في جلد الميتة وفي جلد غير مأكول اللحم وفي النجس وفي المغصوب وفي الحرير ، فلو اضطرّ إلى لبس أحد المذكورات وشكّ في أنّ أيّها أهمّ في نظر الشارع حتى يراعي جانبه فهذا خارج عن الشكّ في التكليف والمكلّف به جميعا.

ومنها : الشكّ في كون شيء معيّن واجبا أو حراما ، فليس هذا شكّا في التكليف لأنّ الإلزام معلوم ، ولا في المكلّف به لكونه معيّنا بالفرض.

فإن قلت : مراده بالشكّ في التكليف هو الشكّ في نوع الإلزام من الوجوب أو الحرمة لا في جنسه كمطلق الإلزام ، ولذا جعل المصنف في رسالة أصل البراءة الشكّ بين كون أحد الشيئين واجبا والآخر حراما من أقسام الشكّ في التكليف.

١٤

قلت : نعم ولكن يرد عليه ـ على هذا ـ إيراد آخر وهو عدم انحصار موارد الشك في التكليف في كونها مجرى للبراءة ، إذ ما مرّ من المثال من الشكّ في كون أحد الشيئين واجبا أو الآخر حراما مورد الاحتياط (١).

ومنها : الشكّ في التكليف والمكلّف به معا كالمثال المذكور آنفا ، وكالشك في كون أحد الشيئين واجبا فإنّه خارج عن القسمين ، لما مرّ من ظهور القضيّة المنفصلة في الحقيقيّة لا مانعة الخلوّ.

ثم اعلم أنّ ما ذكرنا من منع كون حصر موارد الأصول عقليا بالنقض بالموارد المذكورة إنّما يرد على عبارته المذكورة في المتن ، أمّا على ما كتبه في الهامش كما في بعض النسخ من قوله وبعبارة أخرى إلى آخره فلا يرد شيء منها ، لأنّه ردّد بين الإثبات والنفي في جميع الأقسام ، وكذا على ما ذكر في بيان الحصر في رسالة أصل البراءة مع تغاير في البيان لما هنا ، ولعلّه السرّ في إضافة ما في الحاشية على المتن ، مضافا إلى الأمور الآتية ، لكن يبقى الكلام في صحّة تعيين مجاري الأصول على ما في الحاشية مطابقا لمذهبه ، وفيه تأمّل فتأمّل.

قوله : لأنّ الشكّ إمّا أن يلاحظ فيه الحالة السابقة (٢)

(١) إن أريد ملاحظة المكلّف ـ بالفتح ـ فيه الحالة السابقة وعدمه ، ففيه أنّ تشخّص موارد الأصول وتعيّنه ليس باختيار المكلّف حتى يكون في صورة ملاحظته الحالة السابقة موردا للاستصحاب وفي صورة عدم ملاحظته مورد

__________________

(١) أقول : والأولى أن يورد عليه هكذا إنّ المثال المذكور هل يجعل من موارد البراءة لأجل الشكّ في نوع التكليف أو من موارد الاحتياط للشك في المكلّف به أيضا بالفرض أو يجعل موردا لهما ، والأوّلان ينافي حصر موارد البراءة والاحتياط في الشك في التكليف والمكلّف به ، والثالث يستلزم التناقض.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٢٥.

١٥

الأصول الثلاثة الأخر ، والظاهر بل المتعيّن أنّه ما أراد هذا ، وإن أريد ملاحظة المكلّف ـ بالكسر ـ وتوجيهه أنّ الشارع لاحظ الحالة السابقة مع جميع ما يعتبر في صحّة جريان الاستصحاب من بقاء الموضوع وكون الشكّ في الرافع لا في المقتضي وكون الحكم متيقّنا في السابق إلى غير ذلك ، وهذا مجرى الاستصحاب ، فهو صحيح لكن ما ذكره في رسالة أصل البراءة عقيب وجه الحصر من أنّ موارد الأصول قد تتداخل إلى آخره فاسد ، لأنّ موارد الاستصحاب على هذا التوجيه ممتازة عن موارد الأصول الثلاثة بكلّ وجه فأين مورد التداخل ، بل يظهر من المصنّف في مواضع عديدة من الكتاب أنّ الأصول الأربعة مختلفة المورد لا يجري اثنان منها في مورد واحد ، سواء كانا متوافقين في الحكم أم متخالفين ، فجريان أحد الأصول مانع عن جريان الباقي فكيف يتصوّر تداخل الموارد ، نعم على ما اخترناه في محلّه من صحّة إجراء الأصلين في مورد واحد إذا كانا متوافقين كما إذا شكّ في وجوب شيء وقد كان عدم وجوبه متيقنا في السابق يتداخل مورد الأصلين أصالة البراءة والاستصحاب ، ونحكم بجريانهما معا.

قوله : فالأوّل مجرى الاستصحاب (١).

(١) مقتضى ما ذكره من التقسيم والحصر كون مجرى الاستصحاب أوسع دائرة من الأصول الثلاثة الأخر ، يشمل ما لم يمكن الاحتياط فيه مما هو مورد التخيير في القسم الآتي كدوران حكم شيء بين الوجوب والحرمة مع كونه متيقّن الوجوب في السابق ، وكالشبهة المحصورة إذا كان أحد الطرفين معلوم الحرمة سابقا ، وكذا يشمل ما أمكن فيه الاحتياط وكان شكّا في التكليف

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٥.

١٦

وأمثلته كثيرة واضحة ، أو كان شكّا في المكلّف به كما إذا علم بوجوب أحد الأمرين وكانا معا في السابق مباحا مثلا.

وفيه إشكال إذ لو قيل بجريان كلا الاستصحابين إلّا أنّهما يتعارضان بواسطة العلم الإجمالي ويتساقطان ، ويراد بكون المورد مجرى الاستصحاب هذا المقدار وإن لم يكن حكم العمل فيه على مقتضى الاستصحاب ، ففيه أنّ نظير ذلك يأتي في البراءة أيضا فيلزم أن يكون مجراها أعمّ من مجرى الاحتياط مع أنّهما متقابلان في التقسيم ، كما لو فرض في المثال المذكور عدم العلم بالحالة السابقة في كلا الأمرين فإنّهما معا مجرى للبراءة ، غاية الأمر تعارضهما والتساقط بسبب العلم الإجمالي. ولو قيل بعدم جريان واحد من الاستصحابين بدعوى أنّ أدلّة حجيّة الاستصحاب قاصرة الشمول للاستصحابين المتعارضين كما قد يدّعى مثله في أدلة حجيّة خبر الواحد بالنسبة إلى الخبرين المتعارضين ، ويقال : إنّ مثال الاستصحاب في الشك في المكلّف به ليس ما ذكر ، بل المثال ما لو فرض في المثال المذكور كون أحد الأمرين مباحا في السابق دون الآخر فالأوّل مجرى الاستصحاب بلا معارض ، ففيه أنّ ذلك أيضا يستلزم أعميّة مجرى البراءة للشكّ في المكلّف به أيضا كما في المثال بعينه ، فإنّه فرض فيه أحد الأمرين غير معلوم الحكم في السابق فهو مورد مجرى البراءة ، هذا محصّل ما أفاده السيّد الأستاذ (زيد بركاته) (١).

__________________

(١) أقول : هذا الإشكال إنّما نشأ من انحصار مورد البراءة في الشك في التكليف ، مع أنّ المثال الأخير من موارد البراءة وأنّه شكّ في المكلّف به ، فالمناسب أن يورد هذا عليه هناك ويبقى المقام سالما عن الإشكال فتدبّر.

١٧

قوله : والثاني مجرى التخيير (١).

(١) الظاهر أنّه أخطأ في جعل الثاني مجرى للتخيير ، فإنّ مجرى التخيير على حسب ما ذكره من التقسيم يكون رابعا ، لأنّ أوّل القسمين من التقسيم الثاني قد قسمه إلى ما هو مجرى للاحتياط وما هو مجرى للبراءة ، وبقي الثاني منه الذي هو مجرى التخيير آخرا فهو الرابع لا محالة.

وكيف كان فما يفهم منه من حصر مورد التخيير فيما لا يمكن فيه الاحتياط لا يتمّ على مذاق المصنّف ، لأنّ حكم التخيير في الخبرين المتعارضين بعد التعادل من باب الأصل العملي عند المصنف ، مع ظهور أنّ مؤدّى الخبرين أعمّ ممّا أمكن فيه الاحتياط أو لا يمكن.

نعم يتمّ على ما اخترناه هناك من أنّ الحكم بالتخيير من جهة الدليل ، ولذا نحكم بأنّ المجتهد يأخذ بأحد الخبرين معيّنا ويفتي به ولا يكل التخيير إلى المقلّد في مقام العمل ، وتمام الكلام في محلّه إن شاء الله.

قوله : وبعبارة أخرى ، إلى آخره (٢).

(٢) هذه العبارة ممّا ألحقه المصنّف في بعض النسخ المتأخّرة ولذا لم يكتبوه في أكثر النسخ في المتن بل في الهامش ، ولعل سرّ الإلحاق ما يظهر من بيان الفرق بين العبارتين وهو من وجوه :

الأول : ما تقدّم من أنّ الحصر في العبارة الثانية عقلي دائر بين النفي والإثبات في جميع الأقسام بخلاف الاولى.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٥.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٢٦.

١٨

الثاني : أنّه جمع في عبارة المتن جميع الأقسام الأربعة ثمّ عيّن بطريق اللّف والنشر مرتّبا مجاري الأصول الأربعة على ترتيب الأقسام ، وقد حصل فيه الخطأ كما مرّ في الحاشية السابقة ، وأما العبارة الثانية فقد ذكر بعد كلّ قسم أنّه مجرى لأيّ الأصول وسلم من ذلك الخطأ.

الثالث : أنّه قسّم في عبارة المتن القسم الثاني من قسمي التقسيم الأوّل إلى ما يمكن فيه الاحتياط وغيره ، وقسّم القسم الأوّل من قسمي التقسيم الثاني إلى الشكّ في التكليف والمكلّف به ، وفي العبارة الملحوقة عكس ذلك فجعل التقسيم الثاني في المتن ثالثا والثالث ثانيا ، ومن الواضح أنّ كلّ قسم جعل مقدّما في التقسيم يصير أوسع دائرة من المتأخّر ، فعلى عبارة المتن يكون مجرى التخيير أعمّ من الشك في التكليف والمكلّف به ، ومجرى البراءة مخصوصا بما يمكن فيه الاحتياط ، وعلى العبارة الملحوقة يكون مجرى التخيير مخصوصا بالشك في المكلّف به ومجرى البراءة أعمّ ممّا أمكن فيه الاحتياط وممّا لم يمكن ، ففيما دار الأمر بين الوجوب والحرمة في شيء فهو مجرى التخيير بمقتضى المتن ومجرى البراءة بمقتضى العبارة الملحوقة ، وهو أنسب بمذهب المصنف ، وكذا لو دار الأمر بين الوجوب والحرمة والإباحة.

ثم اعلم أن كون مرجع الشكّ مطلقا إلى الأصول أيضا محلّ المناقشة ، إذ ليس مرجع الشك في مورد الأصل المحكوم إلى أصل يجري في مورده ، بل جريان الأصل الحاكم مغن عن جريان الأصل المحكوم ، إلّا أن يقال : إن المرجع هنا أيضا بالاخرة إلى الأصل وإن لم يكن في مورده.

بقي الكلام في تحقيق ما سبق حكايته عن المصنف من تداخل مجاري الأصول بعضها مع بعض بعد ما عرفت أنّه لا يتم على مذاقه وستعرف أيضا فنقول :

١٩

إنّ صور اجتماع مجاري الأصول الأربعة بعضها مع بعض ثنائيا ستة : اجتماع مجرى الاستصحاب مع كل واحد من مجاري الأصول الثلاثة الباقية ، واجتماع مجرى التخيير مع كل من مجريي البراءة والاحتياط ، واجتماع مجرى البراءة والاحتياط ، ومرادنا بجواز اجتماع مجرى الأصلين جريانهما فعلا بحيث يترتب عليه حكم العمل ، لا مجرّد جريانهما وإن حصل التعارض ويقدّم أحدهما ويكون الحكم على طبقه فعلا ، فعلى هذا لا يمكن اجتماع مجرى الأصلين إذا كانا متخالفين في المؤدّى في جميع الصور الستّة ، وأما إذا فرض موافقة مؤدّاهما فمذهب المصنّف عدم جواز الاجتماع أيضا كما أشير إليه سابقا.

والحق جواز الاجتماع في ثلاث من الصور الستّة وعدم الجواز في ثلاث منها.

أما صور جواز الاجتماع :

أحدها : اجتماع الاستصحاب والبراءة كما لو شكّ في وجوب شيء ابتداء ، فقاعدة قبح العقاب بلا بيان المسمّاة بالبراءة الأصلية جارية مع استصحاب البراءة الثابتة قبل التكليف ، وما يدّعيه المصنف من الحكومة ممنوع ، وبيانه موكول إلى محلّه.

ثانيها : اجتماع مجرى الاستصحاب والاحتياط كما إذا علم بوجوب أحد الشيئين وكانا معا واجبين في السابق وارتفع وجوب أحدهما ، فإنّه يجب إتيانهما بمقتضى قاعدة الاحتياط وبمقتضى الاستصحاب أيضا. ودعوى عدم جريان استصحاب وجوب كلا الأمرين لمخالفته للعلم الإجمالي برفع وجوب أحدهما ، مدفوعة بما سيجيء من عدم تأثير مثل هذا العلم الإجمالي الذي لا

٢٠