حاشية فرائد الأصول - ج ١

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-015-2
الصفحات: ٦٩٤

وهو المتواتر ، لا لأنّ آحادها صدق بل بالعادة ، انتهى.

أقول : وليت شعري كيف يحصل العلم بثبوت الملكتين من مجموع الأخبار التي لم يعلم بصدقها أجمع بل علم بصدق بعضها ، مع أنّ الملكتين ليستا لازمتين لذلك البعض بل للمجموع ، وإلى ذلك أشار في الفصول بقوله : فما ذكره بعض المعاصرين من أنّ التواتر قد يتحقق بالنسبة إلى اللازم الذي هو لازم لمجموع الأخبار وإن لم يكن لازما لآحادها مع عدم العلم بصدق شيء منها فغير واضح ، انتهى.

لكن لا يخفى ما فيه من سوء التعبير في قوله مع عدم العلم بصدق شيء منها ، والمناسب أن يقول مع عدم العلم بصدق مجموعها فتدبّر.

هذه نبذة من مباحث الخبر المتواتر على سبيل الإجمال.

فلنرجع إلى مقصود المتن بالنسبة إلى خبر الواحد ، والمراد منه هو الخبر غير المعلوم الصدور بالقرائن القطعية.

وبعبارة أخرى الخبر المحتمل الصدور وعدمه ، فيخرج الخبر المقطوع بعدم صدوره أيضا كما هو واضح وإن كان مضمونه حقا ، ومحلّ النزاع مختصّ بغير الأخبار الواردة فيما يطلب فيه العلم كأصول الدين ، وإن كان فيه كلام في الجملة ولعله تأتي الإشارة إليه في مقام يتعرض له المصنف.

واعلم أنّه ينقسم الخبر باصطلاح المتقدمين إلى صحيح وغير صحيح ، فالصحيح عندهم ما كان معتضدا بأمارات توجب الوثوق والاعتماد عليه ، وغير الصحيح ما كان بخلافه ، والمتأخرون لما طال تباعدهم عن زمان الأئمة (عليهم‌السلام) واختفى عليهم أكثر الأمارات المعاضدة ولم يبق في الأغلب سوى الاعتماد على وثاقة الراوي قسّموا الأخبار بهذا الاعتبار إلى صحيح وهو ما

٤٢١

كانت رواته في جميع الطبقات عدلا إماميا ظابطا مع اتصال السند ، وموثّق وهو ما كان جميع رواته أو بعضها غير إمامي موثوق به ، وحسن وهو ما كان جميع رواته أو بعضها إماميا ممدوحا ، وضعيف وهو ما لم يكن بأحد الأوصاف الثلاثة المذكورة ، وهناك أقسام أخر كثيرة ترجع إليها كالمرسل والقوي والموقوف وغيرها ، يطلب باستقصائها من علم الدراية.

قوله : اعلم أنّ إثبات الحكم الشرعي بالأخبار المروية عن الحجج (عليهم‌السلام) موقوف على مقدمات ثلاث (١).

(١) وكذا إثبات الموضوعات الكلية التي يترتب عليها أحكام شرعية واقعية كانت أو مجعولة كالوقت والقبلة والعدالة وأمثالها وكالصوم والصلاة والحج وأضرابها.

ثم إنّ عقد الباب لغير الأخبار الآحاد المقطوعة الصدور بسبب القرائن الخارجية أو الداخلية أو هما معا ، فإنّ حجيتها من باب حجية مطلق القطع مسلّمة ، وإنكار بعض أوائل العامة حصول القطع من خبر الواحد بانضمام القرائن مطلقا أو خصوص القرائن الداخلية مما لا يلتفت إليه لأنّه تكذيب للوجدان.

ومنه يظهر أنّ ما أشار إليه المصنف من توقّف إثبات الحكم الشرعي بالأخبار على المقدمات الثلاث بل الأربع مستدرك ، بل ما يبحث عنه في هذا الباب خصوص المقدمة الأولى ، والثلاثة الباقية ليس التكلّم فيها مخصوصا بخبر الواحد غير العلمي بل يجري في الخبر المتواتر لفظا والمحفوف بالقرائن العلمية ، بل يجري في الكتاب العزيز أيضا بالنسبة إلى غير التقية فإنّها غير محتملة فيه.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٣٧.

٤٢٢

قوله : إذا لم يكن محفوفا باماراته (١).

(١) وأما إذا كان محفوفا بأماراته فليس بناء العقلاء ولا إجماع العلماء على أنّ صدور الخبر لبيان الحكم ، كما أنّا لو علمنا متكلّما خاصّا أنه لا يريد ظاهر كلامه في كثير من الأوقات لخوف أو تقية أو لمجرّد الألغاز في الكلام أو نحو ذلك ، فلا دليل على حمل كلامه على إرادة إفادة الحكم ، وعلى هذا يشكل الأمر في أخبارنا المروية عن أهل البيت (عليهم‌السلام) لأنّا نعلم بكثرة صدور الأخبار بجهة التقية عنهم (عليهم‌السلام) (٢).

قوله : ومن هنا يتّضح دخولها في مسائل أصول الفقه الباحثة عن أحوال الأدلة (٣).

(٢) قد يقال بل قيل : إنّ المسألة من المسائل الكلامية وعليه تحرّر المسألة هكذا : هل يكون أخبار الآحاد في زمان الغيبة أو مطلقا مما جعله الله حجة على الناس أم لا ، من غير ملاحظة أنّها مما يستنبط منها الأحكام الفرعية ، لكن الظاهر بل المتعيّن أنّ بحثهم عن المسألة من حيث كونها وسيلة إلى استنباط الأحكام الفرعية لا من حيث كونها من الأمور الواقعية ، فالقول المذكور ضعيف كضعف احتمال كونها من المسائل الفقهية ويحرّر هكذا : هل يجب ما دلّ الخبر الواحد على وجوبه ويحرم ما دل الخبر على حرمته ويندب ويكره ويباح ما

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٣٨.

(٢) أقول : ويمكن الاستدلال على إلغاء احتمال التقية في أخبارهم بالأخبار الواردة في علاج التعارض ، فإنّها بأجمعها تدل على حجية الأخبار المتعارضة التي يكون أحد المتعارضين فيها صادرا على وجه التقية ، ولذا جعل مخالفة العامة من المرجّحات في بعض مراتب الترجيح.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٢٣٩.

٤٢٣

دل الخبر عليه أم لا ، وهذا أبعد الاحتمالات.

وعلى ما اخترناه من أنّ البحث عنها من حيث جهة الاستنباط ، فإن جعل موضوع علم الأصول ذوات الأدلة فلا ريب في أنّه تندرج المسألة في الأصول ، إذ البحث عن دليليتها بحث عن عوارض الموضوع ، وإن جعل موضوعه الأدلة بوصف كونها أدلة ، فإن جعل فيما نحن فيه نفس قول الحجة أو فعله أو تقريره دليلا وخبر الواحد كاشفا عنها ومثبتا لها كما في المتن فكذلك تندرج في الأصول ، لأنّ ثبوت قول الحجة بخبر الواحد من أحوال الدليل بذلك المعنى وعوارضه ، وإن جعل نفس الخبر دليلا فالبحث عن دليليته يرجع إلى البحث عن التصديق بوجود الموضوع هاهنا ، ويكون هذا المطلب من المبادئ التصديقية لعلم الأصول يجب درجه في العلم إذ لم يعلم ذلك في غير هذا العلم من العلوم.

وأظهر الوجوه الثلاثة هو الوجه الأول ثم الثاني ، واختاره المصنف في المتن وأشار إلى الأول مشعرا بضعفه بقوله : ولا حاجة إلى تجشّم دعوى أنّ البحث عن دليلية الدليل بحث عن أحوال الدليل.

قوله : ثم اعلم أنّ أصل وجوب العمل بالأخبار المدوّنة في الكتب المعروفة (١).

(١) مثل الكتب الأربعة المتقدمة أي الكافي ومن لا يحضره الفقيه والتهذيب والاستبصار ، والثلاثة المتأخرة أي الوسائل والبحار والوافي ، والكتب التي أخذ أصحاب السبعة عنها رواياتهم ، لكن الإجماع وضرورة المذهب على العمل بها في الجملة لا الجميع كما لا يخفى.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٣٩.

٤٢٤

وأما القول بوجوب العمل بأخبار الآحاد مطلقا حتى من غير الكتب المعروفة ومن غير اعتبار عدالة الراوي أو عمل الأصحاب مثلا فلا نعرفه لأحد من الإمامية ، نعم هو محكي عن الحشوية.

فإن قلت : إنّ إنكار السيد وأتباعه للعمل بأخبار الآحاد مطلقا ينافي ما ذكر من دعوى الإجماع وضرورة المذهب على العمل بالأخبار المدوّنة في الكتب المعروفة.

قلت : إنّ السيد وأتباعه أيضا يعملون بالأخبار المذكورة لكن بدعوى احتفاف جملة منها بالقرائن الموجبة للقطع وإن كنا لم نجد تلك القرائن أو نخطّئهم فيها ، لكن لا كلام في عملهم بها فلا منافاة.

قوله : فقد ذهب شرذمة من متأخري الأخباريين فيما نسب إليهم إلى كونها قطعية الصدور (١).

(١) تمسّكوا فيما ذهبوا إليه بوجوه كثيرة متقاربة : أقواها أنّه قد ثبت عندنا أنّ أصحاب الأئمة (عليهم‌السلام) قد بالغوا أشدّ المبالغة في أخذ الأحاديث من مأخذها وتدوينها مخافة طروّ النسيان ولو في بعض خصوصياتها ، وربما كانوا يكتبونها في مجلس الإمام (عليه‌السلام) لذلك حتى إذا اجتمعت عند أحدهم أحاديث كثيرة جعله كتابا سماه أصلا ، ومن ذلك الأصول الأربعمائة المعتبرة المعروفة ، وهكذا كان حال من يأخذ الأخبار من هذه الأصول قد بذلوا وسعهم في نسخها ومقابلتها وحفظها وهكذا إلى أن آل الأمر إلى أصحاب الكتب الأربعة وأضرابهم ، فإنّهم أخذوا من تلك الأصول حتى أنّ الصدوق ادّعى أنّه كان عنده بعض تلك الأصول بخط مؤلفه ، وكان بعض الأصول المزبورة قد عرض على

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٣٩.

٤٢٥

الإمام (عليه‌السلام) وحكم بصحّتها وأمر الناس بالرجوع إليه ، فإذا كان الحال هذه مع ذلك الاهتمام الشديد من المحدّثين ، يحصل القطع بأنّ هذه الأخبار المودعة في الكتب المعروفة المزبورة صادرة عن الإمام (عليه‌السلام) هذا.

والانصاف أنه مع ذلك كلّه لا يحصل القطع بصدور جميع ما في الكتب مع علمنا بدسّ الدساسين في الجملة في كتبهم ، وتبيّن فسق بعض هذه الرواة في آخر أمره بل فساد معتقده أيضا.

نعم لو استشهد بهذا الوجه وسائر الوجوه التي أنهاها في آخر الوسائل في الفائدة الثامنة إلى اثنين وعشرين على كون هذه الأخبار قطعي الاعتبار لم يكن بعيدا مؤيدا ، بشهادة أصحاب الكتب الأربعة بأنّهم لم يودعوا في كتبهم إلّا ما كان حجة بينهم وبين ربهم ، فلو كان خبر العادل المزكّى بتزكية الكشي أو النجاشي حجة ، ليس مطلق أخبار الكتب الأربعة قاصرا عن هذه المرتبة قطعا بعد أن حكم أصحابها بصحّتها.

قوله : وإلّا فمدعي القطع لا يلزم بذكر ضعف مبنى قطعه (١).

(١) ليس كذلك ، فكثيرا ما نرى القاطع يرجع عن قطعه لو دلّ على ضعف مبنى قطعه ولو بالشبهات القوية في الظاهر غير الصحيحة في الواقع ، وكذا لو عورض بما يخالف مقطوعه فإنّه يرتدع عما قطعه أوّلا.

قوله : أو غير ذلك من التفصيلات (٢).

(٢) كالقول باعتباره على تقدير حصول الظن بمضمونه أو بشرط عدم الظن على الخلاف أو بشرط عدم إعراض الأصحاب عن مضمونه أو إذا لم يكن له

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٣٩.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٢٤١.

٤٢٦

معارض إلى غير ذلك.

قوله : والتعليل المذكور في آية النبأ على ما ذكره أمين الإسلام (١).

(١) بتقريب أنّه يستفاد منها أنّ علة وجوب التبيّن في خبر الفاسق كونه مما لا يؤمن أن يكون مخالفا للواقع فيكون العمل به مورثا للندم ، فكلّ ما لا يؤمن أن يكون مخالفا للواقع ومنه خبر العادل لا يجوز العمل به.

قوله : وجه الاستدلال بها أنّ من الواضحات (٢).

(٢) توضيحه : أنّ الاستدلال بهذه الأخبار على مدّعى السيد إنما يتم بمقدمتين :

إحداهما : أنّ المراد بمخالفة الخبر للكتاب أن يكون مخالفا لظواهر الكتاب كما هو كذلك في الأخبار الموجودة بأيدينا ، لا المخالفة على وجه التباين حتى يقال إنّ القائل بالحجية أيضا لا يقول بحجيته حتى يلزم بهذه الأخبار ، لأنّ الصادر عن الكذّابين ليس إلّا ما يشابه أخبار الأئمة (عليهم‌السلام) في مخالفة ظواهر الكتاب لكي يقبل منهم ذلك.

وثانيتهما : أنّ وجه مخالفة الخبر للكتاب كونه كذبا غير صادر عن الإمام (عليه‌السلام) فيجب طرح سنده ، فلا يقال إنّ هذه الأخبار لا تدل على أزيد من وجوب تقديم الكتاب على الخبر المخالف بحسب الدلالة ووجوب طرح دلالة الخبر على ما يخالف ظواهر الكتاب ، ولا تدل على عدم حجّيتها بحسب السند ، وذلك لأنّ صحيحة هشام صريحة في أنّ وجه طرح الأخبار المخالفة احتمال عدم صدورها لأجل دسّ المغيرة في أحاديث أصحاب أبي

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٤٢.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٢٤٥.

٤٢٧

جعفر (عليه‌السلام) ، وكذا قوله «لم أقله» في النبوي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) و «لا يصدق علينا» في حديث أبي جعفر (عليه‌السلام) وأبي عبد الله (عليه‌السلام) يدل على ذلك.

قوله : والجواب أمّا عن الآيات فبأنّها بعد تسليم دلالتها مخصّصة بما سيجيء من الأدلة (١).

(١) يعني لا نسلّم دلالتها أوّلا : إما بأنها واردة في أصول الدين أو بأنّها ناظرة إلى الظنون التي ليس بناء العقلاء على متابعتها كالظنون الحاصلة من مجرد الخرص والتخمين ، لا مثل الظن الحاصل من خبر العادل الذي بناء العقلاء على متابعته ، ولذا عيّر الله تعالى الكفار وذمّهم على متابعة الظن بقوله : (إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)(٢) وقوله : (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا)(٣) مشيرا إلى أنّهم يخالفون ما هو مقتضى حكم العقل وطريقة العقلاء ، ولو سلّم دلالتها على عدم جواز متابعة الظن مطلقا يجاب بتخصيصها بغير خبر العادل.

وبمثل ذلك يجاب عن الاستدلال بتعليل آية النبأ فإنّ المراد من إصابة قوم بجهالة إصابتهم بغير الطريق العقلائي وهو الذي يوجب الندم ، وإلّا فالخطأ عن الواقع بعد سلوك روية العقلاء ليس بجهالة توجب الندم ، ولو سلّم دلالته يخصص بأدلة حجية خبر الواحد.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٤٦.

(٢) البقرة ٢ : ٧٨.

(٣) يونس ١٠ : ٣٦.

٤٢٨

قوله : فعن الرواية الأولى فبأنّها خبر واحد لا يجوز الاستدلال بها على المنع عن الخبر الواحد (١).

(١) يعني أنّه تمسك بما ليس حجة عند المستدل ، نعم يصح الاستدلال بالرواية إلزاما على الخصم وحينئذ فيجاب عنه :

أولا : بأنّ الخبر ضعيف لا حجية فيه عندنا.

وثانيا : على فرض كونه معتبرا لا يقاوم الأخبار الدالة على حجية خبر الواحد كما سيجيء.

وثالثا : أنّه عام يجب تخصيصه بغير خبر العادل في الفروع.

ورابعا : أنّ الأخذ بهذا الخبر مناف للأخذ بسائر الأخبار وبالعكس ، فيدور الأمر بالنسبة إلى عموم أدلة حجية الخبر الواحد بين أن يؤخذ بهذا الخبر ويطرح سائر الأخبار عملا بمدلول هذا الخبر أو يؤخذ بسائر الأخبار ويطرح هذا الخبر لأجل المنافاة ، ولا ريب أنّ الثاني أولى ، إذ اللازم على الأول أنّ الشارع أراد بيان عدم حجية الخبر الواحد لكن بهذا النحو أنه نصب الدليل على حجية الخبر لكي يؤخذ بهذا الخبر الذي يكون مدلوله عدم حجية الخبر ، وهذا أشبه شيء بالأكل من القفا ، بل لا يصدر مثل هذا الكلام عن عاقل فضلا عن الشارع.

وخامسا : أنّ نفس هذا الخبر أيضا في عرض سائر الأخبار ليس من المعلومات ، فبمقتضى مدلوله ليس بحجة ، فهو ينفي نفسه ويبقى دليل حجية الخبر بالنسبة إلى سائر الأخبار سليما.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٤٦.

٤٢٩

وفيه : أنّ هذا الخبر كما ينفي نفسه ينفي غيره من الأخبار في عرض واحد بلسان واحد ، فإذا لم يمكن الأخذ به من حيث إنّه يستلزم عدم الأخذ به وما يستلزم وجوده عدمه منفي يطرح بمقدار ما يلزم هذا المحال وهو شمولاه لنفسه ، وأما شمولاه لغيره من الأخبار فلا محذور فيه فيؤخذ به ، ويلزم منه عدم حجية سائر الأخبار ، وقد مرّ نظيره غير مرّة في مسألة حجية ظواهر الكتاب وفي مسألة حجية الشهرة.

قوله : وكثير من عمومات السنّة القطعية (١).

(١) بالجرّ عطف على المجرور باللام لا على الأخبار المخصصة ، يعني فالأخبار المخصصة للعمومات المزبورة والمخصّصة لكثير من عمومات السنّة القطعية مخالفة للكتاب ، بناء على أنّ المراد بمخالفة الكتاب أعمّ من مخالفة الكتاب والسنة ، فتأمّل جدا.

قوله : وكيف يرتكب التخصيص في قوله (عليه‌السلام) : «كل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف» إلى آخره (٢).

(٢) لا يخفى أن الخبرين الأولين داخلان في الطائفة الثانية وهو الآن بصدد الجواب عن الطائفة الأولى فتدبّر.

قوله : فإنّ حملها على طرح ما يباين الكتاب كلية حمل على فرد نادر بل معدوم (٣).

(٣) لا يبعد الحمل على ذلك ، وكون مثل هذا الخبر نادرا بل معدوما في

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٤٧.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٢٤٨.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٢٥١.

٤٣٠

الأخبار التي بأيدينا في هذا الزمان لا يدل على عدم وجوده في ذلك الزمان ، بل لعل هذه الأخبار صارت سببا لطرحهم الأخبار المخالفة بهذا الوجه وتهذيب الأصول عنها ، وما ذكر في تقريب الاستدلال بأخبار طرح ما خالف الكتاب بأنّ الكذّابين لا يضعون إلّا ما كان مشابها للأخبار الصادرة عن الأئمة (عليهم‌السلام) المخالفة لظواهر الكتاب ، فيه أنّ وضع الأخبار المباينة بالكلية ودسّها في كتب أصحاب الأئمة (عليهم‌السلام) أنسب بغرضهم الفاسد من إظهار فساد الطريقة الحقّة وتفضيحها بوجود الأخبار المباينة في كتب الفرقة ، وهو أقرب إلى ما أرادوا من ردع الناس عن متابعة أئمة الحق.

قوله : فيمكن حملها على ما ذكر ، إلى آخره (١).

(١) ويمكن أيضا حملها على الأخبار الصادرة تقية وعلى الأخبار المباينة بالكلية للكتاب كما مرّ ، وأقرب المحامل حملها على صورة التعارض بشاهد الأخبار الواردة في علاج التعارض التي تشبه هذا النمط.

قوله : وأما الجواب عن الإجماع الذي ادّعاه السيد والطبرسي (٢)

(٢) ويمكن أن يجاب أيضا بأنّ القدر المتيقّن من مورد إجماع السيد فيما إذا أمكن الوصول إلى الأحكام بطريق العلم ، وبعبارة أخرى في زمان انفتاح باب العلم كما يدّعيه السيد من أنّ أكثر الأحكام يعلم بالأخبار المتواترة أو المحفوفة بالقرائن القطعية ويرجع في الباقي إلى إجماع الأصحاب وأصالة البراءة القطعية ، وأما في أمثال زماننا الذي انسدّ فيها باب العلم فهو خارج عن مورد إجماعه.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٥١.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٢٥٢.

٤٣١

وكيف كان لم يبق للسيد ومن يقول بمقالته سوى الأصل المؤصّل في صدر المسألة ، فإن لم يقم دليل على حجية الخبر مطلقا فهو المتّبع ، وإلّا تثبت حجيته بحسب ما يقوم به الدليل عموما وخصوصا وستأتي الأدلة عليها.

قوله : والمحكي في وجه الاستدلال بها وجهان (١).

(١) بل وجوه ثلاثة :

الأول : الاستدلال بها بمقتضى مفهوم الشرط.

الثاني : الاستدلال بمقتضى مفهوم الوصف ، وهما مذكوران في المتن.

الثالث : الاستدلال بها بمقتضى مفهوم التعليل كما يستشعر من كلام المصنف في خلال بعض الإيرادات الآتية ، وتقريبه أنه علل وجوب التثبّت في خبر الفاسق بإصابة قوم بجهالة يعني بالسفاهة الباعثة للندم على الفعل ، فبمقتضى دوران الحكم مدار العلة وجودا وعدما كأنه قال : كل خبر يكون الاتكال عليه جهالة وسفاهة يجب فيه التبيّن كي يخرج عن الجهالة ، وكل خبر لا يكون الاتكال عليه جهالة وسفاهة بل عقلائيا لا يجب فيه التبيّن ، ويجوز الاتكال عليه بدون التبيّن (٢).

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٥٤.

(٢) أقول : وقد يستفاد من كلام المصنف في ذيل الإيراد الثاني على الاستدلال بالآية وجه رابع : وهو أنّ الظاهر من الأمر بالتثبّت في خبر الفاسق أنّه يجب التثبت لتحصيل الوثوق بخبره ، ويستفاد من ذلك جواز الاتكال على كل خبر يوثق به ، منها خبر الفاسق بعد التثبّت ، ومنها خبر العادل الموثوق به مطلقا.

٤٣٢

قوله : مبنيّ على ما يتراءى من ظهور الأمر بالتبيّن في الوجوب النفسي (١).

(١) فيه نظر بيّن ، إذ على تقدير كون تثبّت خبر الفاسق واجبا نفسيا يكون الردّ والقبول أجنبيا عن المقام ، وهو نظير أن يقول : إن جاءكم فاسق بنبإ فصلّوا ركعتين ومفهومه عدم وجوب الصلاة عند مجيء غير الفاسق بالنبإ ، وأين هذا من الردّ والقبول.

والتحقيق أنّ المستدلّ أراد الوجوب الشرطي ، لكن يمكن تقريب الاستدلال بوجه لا يلزم منه استدراك المقدمة الأخيرة بل تكون محتاجة إليها.

بيان ذلك : أنّ كون التبيّن واجبا شرطيا يتصوّر على وجهين :

أحدهما : أن يكون معنى الآية إن أردتم قبول خبر الفاسق والعمل به يشترط فيه التبيّن ، ومفهومه عدم شرطية التبيّن في خبر غير الفاسق لو أريد العمل به ، وهذا الوجه مراد المتن ، ولازمه عدم الحاجة إلى المقدمة المزبورة كما ذكره.

ثانيهما : أن يكون المعنى يجب العمل بخبر الفاسق بشرط التبيّن للعمل نظير قوله : إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة يعني بعد دخول الوقت يجب الصلاة بشرط الوضوء للصلاة ، ومفهومه حينئذ عدم شرطية التبيّن للعمل في خبر غير الفاسق.

وبعبارة أخرى : عدم وجوب العمل في خبر غير الفاسق مشروطا بالتبيّن ، ويحتاج حينئذ أن ينضمّ إليه إذا لم يجب العمل بخبر غير الفاسق بشرط التبيّن ،

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٥٥.

٤٣٣

فإمّا أن يجب العمل به بدون الشرط وهو المدّعى ، وإمّا أن يجب ردّه ويلزمه أن يكون أسوأ حالا من الفاسق ويتمّ الاستدلال بصورته المنقولة عنهم ، وهذا المعنى مراد المستدل جزما فلا استدراك ، لكن ظاهر الآية يساعد الوجه الأول الموافق للمتن ، إذ لا دلالة فيها على وجوب العمل بوجه حتى يكون التبيّن مأمورا به لأجله وشرطا للعمل الواجب ، فالمقدّمة مستدركة بحسب ظاهر المراد من الآية وإن فهم منها المستدل غيره.

قوله : بل مستلزم لمزيّة كاملة للعادل على الفاسق فتأمل (١).

(١) لأنّه لم يؤذن في تفتيش خبر العادل لئلّا يتبيّن حاله لو كان كاذبا ويفتضح بذلك ، وأمر بتفتيش خبر الفاسق وتفضيحه لو كان كاذبا ، وقوله فتأمّل لعله إشارة إلى أنّ إرادة تفتيش خبر الفاسق من الآية واستعلام كذبه وتفضيحه به من غير أن يكون ذلك مقدّمة للاعتماد على خبره والعمل به بعيد في الغاية ، بل الستر عليه وعدم التعرّض حينئذ أولى من هتكه على ما هو معلوم من مذاق الشرع.

قوله : ففيه : أنّ المحقّق في محلّه عدم اعتبار المفهوم في الوصف (٢).

(٢) الانصاف أنّ مفهوم الوصف لا يقصر عن مفهوم الشرط لو لم تظهر للقيد فائدة أخرى خصوصا في الوصف المعتمد على الموصوف ، لأنّ التعليق على الوصف كالشرط يدلّ على أنّه موضوع الحكم وعلّة له ، لكن لا يفهم منه انحصار العلّة في المقامين فلا يثبت بذلك التعليق مفهوم يعارض دليل ثبوت علّة أخرى ، إلّا أنّه يفهم منه انتفاء الحكم عند انتفاء هذا القيد في الجملة ، مثلا لو قال : أكرم

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٥٦.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٢٥٦.

٤٣٤

زيدا إن جاءك أو قال أكرم رجلا عالما يفهم منه عدم وجوب الإكرام عند انتفاء المجيء في الأول والعلم في الثاني في الجملة ، لكن لا ينافي ذلك أن يقوم سبب آخر مقامه ويكون الإكرام واجبا أيضا ، وتمام الكلام موكول إلى محلّه.

فنقول في المقام : إنّه يستفاد من مفهوم الوصف في الآية عدم وجوب التثبّت عند مجيء غير الفاسق بالنبإ في الجملة ، ولا ينافي ذلك ـ لو ثبت بدليل ـ وجوب تثبّت خبر العادل غير الضابط أيضا.

والحاصل : أنّ أصل المفهوم ثابت وعمومه ممنوع ، وهذا المقدار من ثبوت المفهوم لا ينفع في الأغلب شيئا لكنّه ينفعنا فيما نحن فيه البتّة ، إذ نحن بصدد إثبات حجية خبر العادل في الجملة في مقابل قول السيد بالسلب الكلّي ، وسيأتي الكلام في تعيين مقدار الحجة من قول العادل ، هذا.

وقد يورد على الاستدلال بالآية بمقتضى مفهوم الوصف بل مفهوم الشرط أيضا بأنّ مورد ثبوت المفهوم على القول به فيما إذا لم يظنّ فائدة للقيد ، ولا يبعد أن تكون فائدة القيد في الآية التنبيه على فسق الوليد أو إظهار مزيّة للفاسق في وجوب التثبّت بخبره وأنّه أولى بالتثبّت ، إذ لا رادع له في تعمّد الكذب.

وفيه : ما مرّ من أنّه يبعد أن يكون بصدد هتك الوليد محضا مع أنّه ستّار العيوب غفّار الذنوب ، ولا نرى حكمة لإظهار مزيّة الفاسق في وجوب تثبّت خبره مع كون وجوب التثبّت عامّا ثابتا في مطلق المخبر ، بل كان الأولى حينئذ تعليق الحكم على مطلق الخبر حتى لا يوهم خلاف المقصود.

والحاصل : أنّ احتمال وجود فائدة أخرى للقيد مدفوع بالأصل حتى يعلم خلافه.

٤٣٥

قوله : فالجملة الشرطية هنا مسوقة لبيان تحقّق الموضوع (١).

(١) التحقيق أن يقال إنّ مثل هذه القضية الشرطية يستعمل في مقامين :

الأول : أن يكون المتكلّم بصدد بيان حال الفاسق وأنّه يجب تأديبه ويجوز غيبته والوقيعة فيه ويجب تثبّت خبره إلى غير ذلك ، ففي مثل هذا المقام لو قال : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)(٢) فهو كما ذكره المصنف من أنّ ذكر هذا الشرط لبيان تحقق الموضوع ، ومفهومه السالبة المنتفية الموضوع لا غير لعدم قابليته لغير ذلك ، بل يمكن أن يقال : لا مفهوم لهذه القضية أصلا.

الثاني : أن يكون بصدد بيان حال الخبر وأنّه يجب قبوله مطلقا أو ردّه مطلقا أو تثبّته علما أو ظنّا ثم قبوله إلى غير ذلك ، ففي هذا المقام لو قال : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) يراد منه أنّ النبأ لو جاء به الفاسق يجب تبيّنه ، ومفهومه أنّ النبأ لو جاء به غير الفاسق لا يجب تبيّنه ، وهو مفهوم صحيح وقضيّة سالبة منتفية المحمول.

وما أشار إليه في المتن من أنّ التبيّن المأمور به في منطوق الآية متعلّق بخبر الفاسق وكأنّه قال فتبيّنوا خبر الفاسق ، والمفهوم بحسب الدلالة العرفية والعقلية عدم وجوب تبيّن خبر الفاسق لقضيّة انتفاء نفس الحكم المذكور في المنطوق في المفهوم ، فلا يحتمل السالبة إلّا المنتفية الموضوع ، إذ لا معنى لأن يقال لو لم يجئ الفاسق بالنبإ بل جاء به العادل فلا يجب تبيّن خبر الفاسق.

مدفوع بأنّ تعلّق وجوب التبيّن في المنطوق بخبر الفاسق لأجل أنّه مورد حكم المنطوق لا أنّ النبأ مقيّد بكونه عن الفاسق وإلّا جاز لقائل أن يقول في

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٥٧.

(٢) الحجرات ٤٩ : ٦.

٤٣٦

قوله إن جاءك زيد فأكرمه ، المراد وجوب إكرام زيد الجائي ، ولا يحتمل في مفهومه سوى السالبة المنتفية الموضوع ، إذ لا معنى لعدم وجوب إكرام زيد الجائي على تقدير عدم مجيئه إلّا بانتفاء الموضوع ، والسرّ أنّ أجزاء الكلام ليس بعضها قيدا لبعض بل مجرّدة تنسب بعضها إلى بعض ، ومفهوم القضية المذكورة عدم وجوب إكرام زيد على تقدير عدم مجيئه.

إذا تمهّد ذلك فنقول : إنّ ظاهر القضية الشرطية في الآية هو المعنى الثاني بقرينة مورد نزولها ، وأنّ جماعة اعتمدوا على خبر الوليد الفاسق بارتداد القوم وتهيئوا لقتالهم فنزلت الآية ردعا لهم عن الاعتماد على خبر الفاسق ، مع أنّ التعليل المذكور في الآية أقوى شاهد على أنّ المقصود بيان شأن خبر الفاسق وأنّ الاعتماد عليه موجب لإصابة قوم بجهالة هذه المفسدة العظمى فتوجب الإصباح بالندم الدائم ، فإذن وقع الاستدلال بالآية باعتبار مفهوم الشرط في محلّه هذا ، والحمد لله الذي مكّننا عن الذبّ عن هذا الإيراد.

نعم يبقى الكلام في عموم المفهوم وفهم العلّية المنحصرة كما مرّت الإشارة إليه في الحاشية السابقة فتدبّر.

قوله : بل الخبر المفيد للعلم خارج عن المنطوق والمفهوم معا (١).

(١) وذلك لأنّ موضوع حكم وجوب التبيّن هو الخبر غير العلمي ، لأنّه الذي يمكن أن يحتاج إلى التبيّن ويحصل العلم بصحّته ، وإلّا فالخبر العلمي متبيّن بنفسه ، هذا.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ هذا التعليل وإن أوجب اختصاص حكم

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٥٩.

٤٣٧

المنطوق بوجوب التبيّن بالخبر غير العلمي ، إلّا أنّه لا يقتضي الاختصاص به في المفهوم ، فيجوز أن يكون المفهوم عدم وجوب التبيّن في خبر العادل مطلقا علميا كان أو ظنّيا ، وذلك لأنّ الموضوع في المنطوق هو مطلق النبأ لا خصوص النبأ غير العلمي ، غاية الأمر اختصاص حكم وجوب التبيّن ببعض أفراد الموضوع بقرينة عقلية وهي عدم قابلية بعضها الآخر لهذا الحكم ، وذلك لا يقتضي تقييد الموضوع بحسب لسان الدليل وإن أفاد تقيده بحسب نفس الأمر ، وحينئذ يكون موضوع حكم المفهوم عامّا إذ لا قرينة عقلية هنا توجب اختصاص الحكم ببعض أفراد الموضوع ، لأنّه يصحّ أن يقال إن جاءكم عادل بنبإ مطلقا علميا كان أو ظنيا لا يجب تبيّنه ، وعلى هذا ترجع النسبة بين المفهوم والتعليل إلى العموم من وجه كما ذكره أوّلا وسقط.

قوله : لأنّا نقول ما ذكره أخيرا من أنّ المفهوم أخصّ مطلقا من عموم التعليل مسلّم (١).

(١) والظاهر خروج الخبر العلمي عن المفهوم أيضا بعين القرينة المذكورة ، إذ لا معنى لأن يقال لا يجب التبيّن وتحصيل العلم بصحة خبر العادل العلمي كما لا يخفى.

قوله : فإنّ الظاهر عند العرف أنّ المعلول يتبع العلّة في العموم والخصوص (٢).

(٢) هذه القضية مسلّمة في قول القائل لا تأكلوا الرمّان لأنّه حامض وشبهه مما يكون المعلول ساكتا عن حكم غير الرمّان ويكون منصرفا بحكم الغلبة إلى

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٥٩.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٢٦٠.

٤٣٨

الرمّان الحامض ، وأمّا إذا كان المعلول ناطقا بما ينافي عموم التعليل فلا نسلّم أولوية الأخذ بعموم التعليل وترجيحه على ظهور المعلل ، بل المدار في الترجيح على أظهرية أحدهما عن الآخر ، فربّما يكون ظهور المعلل أقوى فيؤخذ به ويخصّص به عموم التعليل ، مثلا لو قال القائل : لا تأكلوا الرمان الأبيض أو إذا كان أبيض لأنّه حامض ، بناء على القول بالمفهوم لا يبعد أن يكون ظهور المعلل أقوى من عموم التعليل ، فيقدّم ويحكم بأنّ المراد من التعليل أنّه حامض أبيض لشدة الحموضة فيه أو لغير ذلك ، وأيضا قد يكون ظهور المعلل بمثابة من القوّة بحيث يصرف التعليل من العلّة إلى الحكمة ولو بضميمة غلبة بيان الحكمة في العلل الشرعية الواردة في نظائر المقام.

فتحصّل : أنّ ترجيح ظهور التعليل مبني على كونه أظهر في العلية ، وعلى تقديره أظهر في العموم من ظاهر المعلل ، وفيما نحن فيه كلا الأمرين في محلّ المنع خصوصا الثاني منهما ، بل الأمر بالعكس فيصير التعليل بعد تقييده بمفهوم المعلل لئلّا تصيبوا قوما بجهالة بالعمل بخبر الفاسق فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ويبقى خبر العادل سليما عن المعارض. بل يمكن أن يقال إنّ التعليل خاصّ من وجه آخر وهو أنّ المراد من إصابة قوم بجهالة قتال القوم ونهبهم وسبي ذراريهم ، فيكون مفاده أنّ كلّ خبر يوجب العمل به مثل تلك المفسدة العظمى يجب تبيّنه لئلّا يقع في تلك المفسدة العظيمة ويوجب الندامة البالغة ، ويبقى الخبر الخالي عن مثل تلك المفسدة سليما عن المعارض ، وهذا المقدار يكفينا هاهنا في إثبات الإيجاب الجزئي في مقابل السلب الكلي الذي يقول به السيد وأتباعه.

وما ذكرنا من أنّ ترجيح عموم التعليل على ظهور المعلّل منوط بالأظهرية قد يستكشف من المصنف أيضا ، فإنّه في المقام رجّح عموم التعليل

٤٣٩

وبالغ فيه كما عرفت ، وكذا في مسألة قاعدة الفراغ من رسالة الاستصحاب لكن بضرب من التردّد في رواية إسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) : «قال : إن شكّ في الركوع بعد ما سجد فليمض ، وإن شكّ في السجود بعد ما قام فليمض ، كل شيء شكّ فيه وقد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه» (١) فإنّ ظاهر صدرها الدخول في الغير المعنون بعنوان خاص من عناوين الأجزاء كالركوع والسجود لا مطلق الغير كالهوي والنهوض ، وظاهر التعليل عموم الغير فحكّمه على الصدر ، لكنّه (رحمه‌الله) عكس الأمر في فقهه في رواية ابن أبي يعفور «إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء إنّما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه» (٢) فجعل الصدر حاكما على الذيل وأنّ المراد بالتجاوز هو الدخول في الغير كما يستفاد من الصدر فتدبّر.

قوله : ويمكن أن يقال إنّ المراد منه ما يعمّ الظهور العرفي الحاصل من الاطمئنان (٣).

(١) إن أريد من الظهور الحاصل من الاطمئنان الظنّ القوي الاطمئناني فلا ينافي مقتضى اشتقاقه لأنّه ملحق بالعلم عرفا وشرعا ، لكن خبر العادل لا يحصل منه هذا الاطمئنان غالبا البتّة فالإيراد بحاله ، وإن أريد مطلق الظهور الظني الذي يعتمد عليه العقلاء في أفعالهم فهو خلاف مقتضى اشتقاقه كما ذكره ، لأنّ بان بمعنى ظهر ووضح وانكشف فالحمل على الظنّ يحتاج إلى قرينة ، فإن حمل لفظ الجهالة في التعليل على السفاهة يكون ذلك قرينة على أنّ ما لا يجب فيه التبيّن كلّ ما لا يكون العمل به سفاهة وهو مطلق ما يفيد الظن ، وعليه تندفع

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٣١٧ ـ ٣١٨ / أبواب الركوع ب ١٣ ح ٤.

(٢) الوسائل ١ : ٤٦٩ ـ ٤٧٠ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ٢.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٢٦٠.

٤٤٠