نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٣

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-238-2
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٥٦

حكمي على الجماعة» ، (١) أو أنّه قياس معلوم ، فإنّ كون الزنا بشرط الإحصان علّة في الرجم معلوم لا مظنون. (٢)

السادس عشر : قد تعبّدنا الله تعالى بالاستدلال بالأمارات على جهة القبلة مع الاشتباه ، وأن نصلي إلى الجهة الّتي ظننا أنّ القبلة فيها ، وهذا تعبّد بالاستدلال بالأمارات وبالعمل بحسبها.

والاعتراض : من الناس من منع من الاجتهاد في القبلة وأوجب الصلاة إلى أربع جهات ، ومنهم من سوّغه ، وفرق بأنّ أمارات القبلة عقلية لا سمعية ، ولا مانع من التعبّد بالأمارة في القبلة دون الأمارات المظنونة الشرعية ، ولا يلزم من التعبّد بالأمارة في موضع التعبّد بها في كلّ موضع إلّا لجامع.

لا يقال : إذا جاز التعبّد بالأمارة في موضع جاز في كل موضع ، لأنّ المسوغ واحد وكذا المانع ، ولأنّ التعبّد في القبلة إنّما كان لأنّه لمّا لم يحصل العلم بها بالمعاينة لم يبق إلّا التعبّد بالأمارة. وكذا مع فقد النص على الحوادث لا يبقى إلّا التعبّد بالأمارة.

لأنا نقول : الأوّل يدلّ على جواز التعبّد بالأمارة في الحوادث الشرعية وليس ذلك مسألتنا.

وجاز في الثاني التعبّد بوجوه أخر ، كحكم العقل فيبقى في الحوادث

__________________

(١) المغني : ٢ / ٤٠٦ ؛ المستصفى : ٢٣٥ ؛ عوالي اللآلي : ١ / ٤٥٦ ح ١٩٧ وج ٢ / ٩٨ ح ٢٧٠ ؛ بحار الأنوار : ٢ / ٢٧٢ ح ٤ وج ٧٧ / ١٩٩.

(٢) المعتمد في أصول الفقه : ٢ / ٢٢٧ ؛ الإحكام : ٤ / ٣١.

٦٠١

على مقتضى العقل. ولا يلزم عند اشتباه القبلة الصلاة إلى جهة من الجهات ، ويمكن التعبّد إلى جميع الجهات ، أو إلى أي جهة اخترنا (١).

السابع عشر : كلّ حادثة لا بدّ فيها من حكم ، ولا بدّ وأن يكون إليه طريق. وكثير من الحوادث لا نصّ فيها ، ولا إجماع ، وليس بعدهما إلّا القياس ، ولو لم يكن حجّة خلت أكثر الحوادث من أن يكون إلى حكمها طريق.

والاعتراض : لا نسلم الخلو على تقدير عدم القول بالقياس لاشتمال النصوص على جميع الحوادث إمّا شمولا ظاهرا أو خفيّا ، ولا يبعد ذلك وإن كثرت الحوادث إذا كانت النصوص عامّة ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فيما سقت السماء العشر» (٢) فإنه شامل لجميع ما سقت السماء وإن كثر عدده ، وأيضا إن أراد المستدل أنّه لا بدّ في كلّ حادثة من حكم ، أي من قضية إمّا نفيا أو إثباتا ، فصحيح لكن لا يلزم أن يكون طريق ذلك الشرع ، بل قد يجوز أن يكون الطريق شرعيا وعقليا ، وإن أراد بالحكم حكما شرعيا منعناه بجواز خلو كثير من الحوادث منه. (٣)

الثامن عشر : روى أبو هريرة أنّ رجلا من فزارة قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ امرأتي ولدت غلاما أسود ـ معرّضا بزناها ـ فلم يجعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاذفا (٤) ، ولكن قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له : «ألك إبل؟» ، قال : نعم ، قال : «ما ألوانها» ، قال :

__________________

(١) المعتمد في أصول الفقه : ٢ / ٢٢٧ ؛ الإحكام : ٤ / ٣١ ـ ٣٢.

(٢) صحيح البخاري : ٢ / ١٣٣ ، باب العشر فيما يسقى ؛ سنن أبي داود : ١ / ٣٥٣ برقم ١٥٧٢ ؛ سنن النسائي : ٥ / ٤٢ ؛ مسند أحمد : ٥ / ٢٣٣ ؛ عوالي اللآلي : ٢ / ٢٣١ ح ١٦ و ١٧ ؛ وسائل الشيعة : ٩ / ٦٢ برقم ١١٥٢٢ ، كتاب الزكاة.

(٣) المعتمد في أصول الفقه : ٢ / ٢٢٨.

(٤) في «ب» : كاذبا.

٦٠٢

حمر ، قال : «فهل فيها أسود» قال : نعم ، قال : «فأنى ذلك؟» ، قال : لعل عرقا نزعه ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وهذا لعلّ عرقا نزعه». (١)

والاعتراض : ليس في ذلك قياس ، بل هو تنبيه على أمارة عقلية في حكم عقلي. (٢)

البحث الرابع : في القياس المنصوص على علّته

اختلف الناس في النصّ على علّة الحكم هل هو تعبّد بالقياس بها أم لا بدّ من تعبّد زائد؟

فقال أبو الحسين : قال الجعفران وبعض أهل الظاهر : ليس النصّ على العلّة تعبّدا بالقياس بها.

وقال أبو إسحاق النظّام والفقهاء وبعض الظاهرية : إنّ النصّ عليها يكفي في التعبّد بالقياس بها.

وقال أبو هاشم : يجب القياس بها ، ولم يذكر ورود التعبّد بالقياس.

وقال أبو عبد الله البصري : إن كانت العلّة المنصوصة علّة في التحريم ، كان النص عليها تعبّدا بالقياس بها ؛ وإن كانت علّة في إيجاب الفعل أو كونه ندبا ، لم يكن النص عليها تعبّدا بالقياس بها. (٣)

__________________

(١) سنن ابن ماجة : ١ / ٦٤٥ برقم ٢٠٠٢ ؛ سنن الترمذي : ٣ / ٢٩٨ برقم ٢٢١١ ؛ بحار الأنوار : ٦٢ / ٨٢.

(٢) المعتمد في أصول الفقه : ٢ / ٢٢٦.

(٣) المعتمد في أصول الفقه : ٢ / ٢٣٥.

٦٠٣

والوجه عندي قول النظّام.

لنا وجوه :

الأوّل : الأحكام الشرعية تابعة للمصالح الخفيّة والشرع كاشف عنها ، فإذا نصّ على العلّة عرفنا أنّها الباعثة والموجبة لذلك الحكم ، فأين وجدت العلّة وجب وجود المعلول.

الثاني : قوله : حرّمت الخمر لكونه مسكرا ، ينزل منزلة ؛ حرمت كلّ مسكر ، إذا لم يكن للخصوصية مدخل في العلّة.

الثالث : قوله : حرّمت الخمر لكونه مسكرا ، يقتضي إضافة الحرمة إلى الإسكار ، وهو يدلّ على أنّ العلة هي الإسكار ، فوجب أن يترتّب الحكم عليه أينما وجد.

الرابع : إذا قال : حرّمت الخمر لكونه مسكرا ، فإمّا أن تكون العلّة هي مطلق الإسكار ، أو الإسكار المختصّ بالخمر. فإن كان الأوّل لزم وجود التحريم أين وجد ، إذ يلزم من وجود العلّة التامّة وجود معلولها.

وإن كان الثاني لم تكن العلّة هي نفس كونه مسكرا ، لأنّه قدر مشترك بين الخمر وغيره لتغاير الخصوصيات الّتي بها يمتاز بعض الأنواع عن بعض ، والحكم إنّما إذا أضيف إلى كونه مسكرا وهو القدر المشترك ، فلا يكون للخصوصية أثر العلّيّة.

احتجّ المانعون (١) مطلقا بأنّ قوله : حرّمت الخمر لكونها مسكرة

__________________

(١) منهم الرازي في المحصول : ٢ / ٢٩٩.

٦٠٤

يحتمل أن تكون العلّة هي الإسكار ، وأن تكون هي إسكار الخمر ، بحيث يكون قيد كونه مضافا إلى الخمر معتبرا في العلّة ، وإذا احتمل الأمران لم يجز القياس إلّا عند أمر مستأنف بالقياس.

والجواب : لا نسلم أنّ قيد كون الإسكار في ذلك المحل يحتمل أن يكون جزءا من العلّة ، فإنّ تجويز ذلك يستلزم تجويز مثله في العقليات ، حتى يقال : الحركة إنّما اقتضت المتحرّكيّة لقيامها بمحلّ خاص ، وهو محلّها ، فالحركة القائمة بغيره لا تكون علّة للمتحرّكية.

سلّمنا ، إمكان كونه معتبرا في الجملة لكنّ العرف يسقط هذا القيد عن درجة الاعتبار ، فإنّ الأب لو قال لابنه : لا تأكل هذه الحشيشة لأنّها سمّ ، يقتضي منعه عن أكل كلّ حشيشة تكون سمّا ، فيكون في الشرع كذلك لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن». (١)

سلّمنا أنّه غير ساقط عرفا إلّا أنّ الظنّ قاض بسقوطه ، لأنّ علّة الحكم وجب أن تكون منشأ الحكمة ، ولا مفسدة في كون الإسكار قائما بهذا المحل أو بذاك ، بل منشأ المفسدة كونه مسكرا فقط ، فإذا غلب على ظنّنا ذلك ، وجب الحكم به احترازا عن الضرر المظنون.

سلّمنا أنّ إلغاء هذا القيد غير ظاهر ، لكنّ دليلكم إنّما يتمشّى فيما إذا

__________________

(١) تفسير الرازي : ١ / ٢٠٠ و ٢٠٤ وج ٢ / ٢٢٦ وج ٣ / ١٩٨ وج ٤ / ١٥١ وج ١١ / ١٧٦ ؛ تفسير الآلوسي : ٢٩ / ١١٣ ؛ شرح نهج البلاغة : ١٢ / ٨٦ ؛ المستصفى : ١٧٢ ؛ المحصول : ٢ / ٣٠٠.

٦٠٥

قال الشرع : حرّمت الخمر لكونه مسكرا ؛ أمّا لو قال : علّة حرمة الخمر هي الإسكار ، انتفى ذلك الاحتمال.

اعترض (١) : بأنّ الحركة إن عنى بها معنى يقتضي المتحرّكيّة فهذا المعنى يمتنع فرضه بدون المتحرّكيّة ، وإن عنيت شيئا آخر بحيث يبقى فيه ذلك الاحتمال ، فهناك نسلّم أنّه لا بدّ في إبطال ذلك الاحتمال من دليل منفصل.

قوله : العرف يقتضي إلغاء هذا القيد.

قلنا : ذاك عرف بالقرينة ، وهي شفقة الأب المانعة من تناول المضر ، فلم قلت : إنّه في العلّة المنصوصة كذلك؟

قوله : الغالب على الظنّ إلغاء هذا القيد.

قلنا : هب أنّ الأمر كذلك ، ولكن إنّما يلحق الفرع بالأصل ، لأنّه لمّا غلب على ظنّنا كونه في معناه ، ثمّ دلّ الدليل على وجوب الاحتراز من الضرر المظنون ، فحينئذ يجب الحكم في الفرع بمثل حكم الأصل ، لكن هذا هو الدليل الّذي دلّ على كون القياس حجّة ، فالتنصيص على علّة الحكم لا يقتضي إثبات مثله في الفرع إلّا مع الدليل الدالّ على وجوب العمل بالقياس.

قوله : لو صرّح بأنّ العلّة هي الإسكار لا يبقى فيه هذا الاحتمال.

قلنا : في هذه الصورة يستلزم الإسكار الحرمة أين وجد ، لكنّه ليس

__________________

(١) المعترض هو الرازي في المحصول : ٢ / ٣٠٠.

٦٠٦

بقياس ، لأنّ العلم بأنّ الإسكار من حيث هو إسكار يقتضي الحرمة يوجب العمل بثبوت هذا الحكم في كلّ محالّه. ولم يكن العلم بحكم بعض تلك المحال متأخّرا عن العلم بالبعض ، فلم يكن جعل البعض فرعا ، والآخر أصلا أولى من العكس ، فلا يكون هذا قياسا ، بل يكون قياسا لو قال : حرّمت الخمر لكونه مسكرا ، فحينئذ يكون العلم بثبوت هذا الحكم في الخمر أصلا للحكم به في النبيذ ، ومتى قال على هذا الوجه انقدح الاحتمال المذكور.

واعلم أنّ التحقيق في هذا الباب أن يقال : النزاع هنا لفظي ، لأنّ المانع إنّما منع من التعدية ، لأنّ قوله : «حرّمت الخمر لكونه مسكرا» فيحتمل أن يكون في تقدير التعليل بالإسكار المختص بالخمر فلا يعمّ ، وأن يكون في تقدير التعليل بمطلق الإسكار فيعمّ ، والمثبت يسلّم أنّ التعليل بالإسكار المختص بالخمر غير عام ، وأنّ التعليل بالمطلق يعمّ. فظهر أنّهم متّفقون على ذلك.

نعم النزاع وقع في أنّ قوله : «حرّمت الخمر لكونه مسكرا» هل هو بمنزلة انّ علّة التحريم الإسكار أو لا؟ وهذا غير البحث الّذي وقع نزاعهم فيه ، فنحن نقول : إن كان قوله : «حرّمت الخمر لكونه مسكرا» مختصّا بإسكار الخمر لم يكن مطلق الإسكار علّة ، بل العلّة الّتي نصّ الشارع عليها إسكار الخمر وتكون قاصرة ، فلا يثبت الحكم في غير المنصوص ؛ وإن كان قوله : «حرّمت الخمر لكونه مسكرا» في قوة علّة التحريم الإسكار وجب التعميم ، فيجب أن يجعل البحث هل قوله : «حرّمت الخمر لإسكاره» بمنزلة علّة

٦٠٧

التحريم الإسكار أو لا؟ لا أنّ النصّ على العلّة هل يقتضي ثبوت الحكم في جميع مواردها فإنّ ذلك متّفق عليه.

احتجّ البصري (١) بأنّ من ترك أكل رمّانة لحموضتها وجب أن يترك أكل كلّ رمانة حامضة ، أمّا من أكل رمّانة لحموضتها لا يجب عليه أن يأكل كلّ رمّانة حامضة.

واعترض بمنع وجوب ترك الكلّ ، لاحتمال أن يكون الداعي إلى الترك حموضة هذه الرمّانة لا مطلق حموضة الرمّان ، وحموضة هذه الرمّانة غير حاصلة في سائر الرمّانات.

سلّمناه ، لكن لا فرق في ذلك بين الفعل والترك.

قوله : من أكل رمانة لحموضتها لا يجب أن يأكل كلّ رمّانة حامضة.

قلنا : الموجب لذلك أنّه لم يأكل لمجرد الحموضة ، بل مع قيام الشهوة وخلاء المعدة عن الرمّان ، وعلمه بعدم تضرره بها ، وهذه القيود لم توجد في أكل الرمّانة الثانية.

وفي الأوّل نظر ، لما قلنا من أنّ التنصيص إن كان على الحموضة المقيّدة بهذه المحل صارت العلّة قاصرة ، وامتنع التعميم إجماعا.

__________________

(١) المعتمد في أصول الفقه : ٢ / ٢٣٥.

٦٠٨

البحث الخامس : في تعدية التحريم من التأفيف إلى باقي أنواع الأذى

اختلف الناس في إلحاق تحريم الضرب بتحريم التأفيف ، فقيل : إنّه قياس وسمّوه جليا ، وقيل : إنّه ليس بقياس بل العرف نقله عن موضوعه اللغوي إلى المنع من أنواع الأذى.

احتجّ الأوّلون (١) بأنّه لو دلّ تحريم التأفيف على تحريم أنواع الأذى فإمّا بحسب اللغة ، وهو باطل بالضرورة ، لأنّ التأفيف غير الضرب ، فالمنع من التأفيف لا يكون منعا من الضرب.

وإمّا بحسب العرف ، وهو باطل ، لأنّه على خلاف الأصل.

ولأنّه لو ثبت هذا النقل في العرف ، لما حسن من الملك إذا استولى على عدوه أن ينهى الجلّاد عن الاستخفاف به ، وإن كان يأمره بقتله. وإذا بطلت دلالة اللفظ عليه ، علمنا أنّ تحريم الضرب مستفاد من القياس.

وفيه نظر ، لأنّ هذا النقل وإن كان على خلاف الأصل إلّا أنّه مشهور متعارف حتى صار أصلا يقاس عليه ، ولأنّ التعدية أيضا على خلاف الأصل فلم كان أحدهما أولى من الآخر ، وحسن نهي الجلاد عن الاستخفاف لما فيه من الرذالة.

__________________

(١) ذكره الرازي في المحصول : ٢ / ٣٠٢.

٦٠٩

واحتجّ الآخرون بوجوه (١) :

الأوّل : لو كان ذلك بالقياس لما قال به المانع منه.

الثاني : لو منع الله تعالى من التعبّد بالقياس الشرعي لم يعلم العاقل حرمة الضرب عند تحريم التأفيف.

الثالث : أجمعنا على أنّ قولنا : «فلان لا يملك حبّة» يفيد أنّه لا يملك شيئا البتّة وإن كان أقل من حبّة ، وكذا إذا قلنا : «فلان مؤتمن على قنطار» فإنّه يفيد في العرف أنّه مؤتمن مطلقا ، والفهم يسارع إلى هذه المعاني العرفية عند إطلاق هذه الألفاظ فكانت منقولة بالعرف ، فيكون تحريم التأفيف موضوعا بحسب العرف للمنع من الإيذاء ، لمسارعة الفهم إليه.

واعترض (٢) على الأوّل ؛ أنّ من القياس يقيني ، كمن علم علّة الحكم في الأصل ووجود مثلها في الفرع فإنّه لا بدّ وأن يعلم ثبوت الحكم في الفرع.

ومنه ظنّيّ ، وهو الّذي تكون إحدى مقدّمتيه أو كلتاهما ظنّية ، والقياس في هذه المسألة من النوع الأوّل ، فلم يقدح الخلاف في القياس الظنّي فيه ، وهو الجواب عن الثاني.

وعن الثالث : أنّ قوله : «ليس عندي حبّة» يفيد نفي الأكثر من الحبّة ، لوجود الحبّة فيه لا ما نقص لعدم تعرّض كلامه له.

__________________

(١) ذكرها الرازي في المحصول : ٢ / ٣٠٣.

(٢) المعترض هو الرازي في المحصول : ٢ / ٣٠٣.

٦١٠

وقولهم : لا يملك نقيرا أو لا قطميرا يفيد أنّه ليس له شيء البتّة وإن كان النقير في اللغة عبارة عن : النقرة الّتي هي على ظهر النواة. والقطمير ما في شقّها وإنّما حكمنا فيه بالنقل العرفي للضرورة ، ولا ضرورة في مسألتنا.

وقولنا : «فلان مؤتمن على قنطار» يفيد كونه مؤتمنا على ما دونه لدخوله فيه ، أمّا ما فوقه فلا يدخل فيه.

وفيه نظر ، فإنّ من يخرج هذا النوع عن القياسيّة ويجعله دالّا على تحريم أنواع الأذى بالعرف الطارئ لا يجعل علّة الحكم هنا معلومة ، لأنّه لا عليّة هنا ولا قياس ، فكيف يكون يقينيا ولا ينسحب ما ذكره جوابا عن الثاني ، لأنّ العلم الضروري حاصل بتحريم الضرب من تحريم التأفيف وإن منع من القياس الشرعي وحرّمه ، فكيف يكون القياس يقينيا حينئذ إلّا أن يمنع تجويز المنع من التعبّد بالقياس الشرعي ، وذلك ممّا لم يقل به أحد.

وقوله : «إن ليس له عندي حبّة» يفيد نفي الأكثر منها لوجود الحبّة فيه ؛ ليس بجيد ، لأنّ ذلك يفيد نفي الأزيد وإن لم تكن الحبّة موجودة فيه إذا تغاير الجنس.

٦١١

البحث السادس : في التناسب بين حكم الأصل والفرع

ثبوت الحكم في الأصل إن كان يقينيا استحال أن يكون الحكم في الفرع أقوى منه ، لأنّه ليس فوق اليقين درجة ؛ وإن لم يكن فثبوته في الفرع قد يكون أقوى من ثبوته في الأصل ، كقياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف فإنّ تحريم الضرب وهو الفرع أقوى ثبوتا من تحريم التأفيف الّذي هو الأصل.

وفيه نظر ، فإنّ تحريم التأفيف يقيني ، فهو من قبيل الأول. نعم أنّ الحكم في الفرع أولى وهو مغاير للأقوى ، فلا يعدّ الثاني قسما (١) للأوّل ؛ وقد يكون مساويا ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يبولنّ أحدكم في الماء الراكد» (٢) فإنّه يقاس عليه البول في الكوز وصبّه في الراكد ، ولا تفاوت بين الحكم في الأصل والفرع ، وهذا يسمّى بالقياس في معنى الأصل ؛ وقد يكون دونه ، وذلك كجميع الأقيسة الّتي تمسّك بها الفقهاء في مناظراتهم وبحسب مراتب الظنون يحصل مراتب التفاوت ، وهي غير محصورة لعدم انحصار مراتب الظن.

__________________

(١) في «ب» : قسيما.

(٢) صحيح مسلم : ١ / ١٦٢ ، باب النهي عن البول في الماء الراكد ؛ سنن ابن ماجة : ١ / ١٢٤ ، باب النهي عن البول في الماء الراكد ؛ مسند أحمد : ٢ / ٢٢٨ و ٥٣٢ وج ٣ / ٣٥٠ ؛ من لا يحضره الفقيه : ٤ / ٤ ؛ أمالي الصدوق : ٥٠٩ ح ١ ، المجلس ٦٦ ؛ مكارم الأخلاق : ٤٢٤ ؛ بحار الأنوار : ٧٣ / ٣٢٩ ح ١ وج ٧٧ / ١٦٩ ح ٦.

٦١٢

تذنيب

لمّا ظهر بطلان العمل بالقياس إلّا ما كان منصوصا على علّته ، وجب النظر في القياس وأركانه الأربعة ، وبيان شرائطها ، ومعرفة العلل المنصوص عليها ، وإبطال ما عداها من المستنبطات بالطرق الّتي بيّنها الخصم ، وقبح تلك الطرق وما يلحق بذلك ، ونحن نذكر جميعه بعون الله تعالى.

٦١٣

الفصل الثالث :

في طرق التعليل

وفيه مباحث :

الأوّل : في إمكانه

اعلم أنّ حاصل القياس يرجع إلى أصلين : كون الحكم في الأصل معلّلا بكذا ، وثبوت ذلك الوصف في الفرع. والأوّل أعظمهما.

وقد نازع في ذلك نفاة القياس فقالوا : إمّا أن يراد بالعلّة المؤثر في الحكم ، أو ما يكون داعيا للشرع إلى إثباته ، أو ما يكون معرّفا له ، أو معنى رابعا.

والأقسام [الثلاثة] الأول باطلة ، وكذا الرابع لعدم إفادة تصوّره.

إنّما قلنا : إنّه ليس المراد من العلّة المؤثر في الحكم والموجب له ، لأنّ حكمه تعالى عند الأشاعرة خطابه الّذي هو كلامه القديم ، والقديم يمتنع تعليله ، فضلا عن أن يعلّل بعلّة محدثة.

وعلى قول المعتزلة الأحكام أمور عارضة للأفعال ، معلّلة بوقوع تلك

٦١٤

الأفعال على جهات مخصوصة مبني على القبح والحسن العقليين ، وقد أنكرها الأشاعرة فلا يليق منهم تفسير العلّة بالموجب. (١)

وأيضا الواجب ما يستحق العقاب على تركه ، واستحقاق العقاب وصف ثبوتي ، لأنّه يقتضي (٢) الاستحقاق ، وتركه هو أن لا يفعله ، وهو عدميّ ، فلو كان ذلك الاستحقاق معلّلا بهذا الترك لكان معلّلا بالعدم ، وهو محال.

لا يقال : يجوز أن يقال : القادر لا ينفك عن فعل الشيء أو فعل ضده ، فإذا ترك الواجب فعل ضده ، فاستحقاق العقاب على فعل الضد وهو الثبوتي.

لأنّا نقول (٣) : هذا لا يستقيم على رأي أبي هاشم وأبي الحسين وأتباعهما ، بجواز خلوّ القادر من الفعل والترك عندهم ، ولأنّ فعل الضد لو لم يستلزم الإخلال بالواجب لم يستلزم استحقاق الذمّ والعقاب ، ولو فرض الإخلال بالواجب من غير فعل الضد استحقّ الذمّ والعقاب. فإذن المستلزم بالذات لهذا الاستحقاق هو أن لا يفعل الواجب ، لا فعل ضده.

وأيضا لو كانت العلل الشرعية مؤثّرة لم تجتمع العلل الكثيرة على الحكم الواحد ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية : أنّ المعلول يجب عند وجود علّته التامّة فيستغني عن

__________________

(١) راجع المحصول : ٢ / ٣٠٥ ـ ٣٠٦.

(٢) في «ب» : نقيض ، وفي المحصول : ٢ / ٣٠٦ : لأنّه مناقض لعدم الاستحقاق.

(٣) وهو قول الرازي في المحصول : ٢ / ٣٠٦.

٦١٥

غيرها ، فلو تعدّدت استغنى بكلّ منها عن الأخر ، فيكون محتاجا إلى كلّ (١) حالة استغنائه عنه ، وهو محال.

وبيان بطلان التالي : أنّه لو زنا وارتدّ ، أو بال وتغوّط ، كان كلّ منهما علّة مستقلة في الحكم ، وهو واحد لامتناع اجتماع المثلين.

وبتقدير وقوعه يلزم المحال من جهة أخرى ، وهو امتناع ترجيح إسناد أحد الحكمين إلى أحد العلّتين من غير مرجّح.

وأيضا كون القتل العمد العدوان قبيحا ، وموجبا لاستحقاق الذمّ والعقاب والقصاص لو كان معلّلا بكونه قتلا عمدا عدوانا مع أنّ العدوانية صفة عدمية ، لأنّ معناها أنّها غير مستحقّة ، كان العدم جزءا من علّة الأمر الوجودي ، وهو محال. (٢)

ولا يجوز أن يكون شرطا لصدور الأثر عن المؤثر ، لأنّ العلّيّة لم تكن حاصلة قبل حصول هذا الشرط ثمّ حدثت عند حصوله ، فوصف العلّية أمر حادث لا بدّ له من مؤثر وهو الشرط ، فلو جعلنا الشرط عدما لزم تعليل العلّيّة بالعدم ، وهو محال.

اعتذر بعض الفقهاء بأنّ هذه الإشكالات إنّما تتوجّه على تقدير جعل الأوصاف مؤثّرات لذواتها في الأحكام ، ونحن نقول كونها عللا أمر ثبت لها بالشرع ، فهي لا توجب لذاتها الأحكام ، بل بجعل الشرع. وعليه عوّل

__________________

(١) في «أ» بزيادة : واحد منها.

(٢) المحصول : ٢ / ٣٠٧.

٦١٦

الغزالي (١) ، وهو باطل ، لأنّك إن أردت بجعل الزنا موجبا للرجم أنّ الشرع قال : مهما زنا إنسان فاعلموا أنّي أوجبت الرجم ، فمسلّم لكن يرجع حاصله إلى كون الزنا معرّفا ، وهو غير ما نحن فيه.

وإن أردت أنّه جعل الزنا مؤثّرا في الحكم فهو باطل [من وجهين] :

أمّا أوّلا : فلأنّه معترف بأنّ الحكم خطابه القديم ، فلا يمكن تعليله بالصفة المحدثة ، سواء كانت تلك الموجبة بالذات أو بالجعل.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الشارع إن لم يصدر عنه أمر البتّة عند جعله الزنا علّة فلا جعل ؛ وإن صدر فإمّا الحكم ، فالمؤثر فيه الشارع لا الوصف ، وقد فرض أنّ المؤثّر الوصف ، هذا خلف.

أو ما يؤثّر في الحكم ، فيكون تأثير الشارع في إيجاد ذلك المؤثر ، ثمّ بعد وجوده يؤثّر في الحكم لذاته فتكون موجبيّته لذاته لا بالشرع.

أو لا الحكم ولا ما يوجبه ويؤثر فيه ، لم يحصل الحكم حينئذ ، فلم يجعل الشرع ذلك الوصف موجبا له ، وقد فرض كذلك ، هذا خلف.

وأمّا الداعي فلأنّه في الحقيقة موجب ، لأنّ القادر لما صحّ منه فعل الشيء وضده لم تترجّح فاعليّته لأحدهما إلّا إذا علم أنّه مصلحة ، فيكون العلم هو الّذي لأجله صار فاعلا لأحدهما بدلا عن كونه فاعلا للآخر ، فالعلم هو الموجب لتلك الفاعليّة والمؤثر فيها ، وهو معنى قول القائل : أكلت للشبع.

__________________

(١) نقله عنه الرازي مع الرد عليه في المحصول : ٢ / ٣٠٧ ـ ٣٠٨.

٦١٧

وإذا ثبت هذا ، فهو محال في حقّه تعالى ، لأنّ كلّ فاعل لغرض مستكمل به ، لأنّ حصول ذلك الغرض ولا حصوله بالنسبة إليه في اعتقاده إن استويا استحال أن يكون غرضا ، وإن كان أحدهما أولى كان حصول تلك الأولوية معلّقا بفعل ذلك الغرض ، وكلّ معلّق على غيره ليس واجبا لذاته ، فحصول ذلك الكمال غير واجب لذاته فهو ممكن ، فلا يكون كماله تعالى صفة واجبة ، بل ممكنة الزوال ، وهو محال.

لا يقال : حصول ذلك الغرض وعدمه سواء بالنسبة إليه تعالى وليس سواء بالنسبة إلى الغير فيفعله تعالى لغرض عائد إلى الغير لا إليه.

لأنّا نقول : كونه فاعلا للفعل الّذي هو أولى بالعبد ، وكونه غير فاعل له ، إن تساويا بالنسبة إليه تعالى من كلّ الوجوه ، استحال أن يكون داعيا له إلى الفعل. ثمّ لا يصحّ من المعتزلة ، لقولهم : لو لم يفعل لاستحقّ الذم ولما كان مستحقا للمدح. وإن كان أحدهما أولى به عاد الإشكال.

وأيضا البديهة حاكمة بانحصار الغرض في جلب النفع ودفع المضرة ، والمنفعة هي اللّذة أو ما يكون وسيلة إليها ، والمضرّة الألم أو ما يكون وسيلة إليه ، والوسيلة إلى اللّذة مطلوبة بالعرض والمطلوب بالذات هو اللّذة.

وكذا وسيلة الألم مهروب عنها بالغرض ، والمهروب عنه بالذات الألم خاصّة ، فرجع حاصل الغرض إلى تحصيل اللّذة ، ورفع الألم ، والله تعالى قادر على تحصيل كلّ لذّة ودفع كلّ ألم من غير واسطة ، فيستحيل أن يكون فاعليّته لشيء لأجل تحصيل اللّذّة ودفع الألم ، لأنّ الشيء إنّما يعلّل بغيره لو لزم من عدم ما فرض علّة ، أو ما يقوم مقامها عدمه وإلّا انتفت العلّيّة ولهذا لم

٦١٨

يثبت علّيّة صرير الباب ونعيق الغراب للسماء والأرض.

وإذا ثبت هذا فنقول : لمّا لم تكن فاعليّته تعالى لتحصيل اللّذات ودفع الآلام متوقّفة على هذه الوسائط ، ولم تكن فاعليّته للوسائط متوقّفة على فاعليّته لتلك اللّذات والآلام ، استحال تعليل أحدهما بالآخر. وإذا بطل التعليل بطل كونها داعية لما بيّنّا أنّ الداعي علّة لعلّيّة العلّة الفاعلية.

وأمّا المعرّف فإنّه باطل أيضا ، لأنّا إذا قلنا : الحكم في الأصل معلّل بكذا لم يرد المعرّف وإلّا لصار معنى الكلام : الحكم في الأصل إنّما عرف ثبوته بواسطة الوصف الفلاني ، وهو باطل ، لأنّ علّيّة الوصف لذلك الحكم لا تعرف إلّا بعد معرفة ذلك الحكم ، فكيف يكون الوصف معرّفا؟

والجواب (١) : أمّا الأشاعرة فإنّهم يفسّرون العلّة بالمعرّف.

قوله : الحكم معرّف بالنص ، ولا يمكن كون الوصف معرّفا له.

قلنا : الحكم الثابت في محلّ الوفاق فرد من أفراد ذلك النوع من الحكم ثمّ بعد ذلك يجوز قيام الدلالة على كون ذلك الوصف معرّفا لفرد آخر من أفراد النوع من الحكم.

وعلى هذا التقدير لا يكون ذلك تعريفا للمعرّف. ثمّ إذا وجدنا ذلك الوصف في الفرع حكمنا بحصول ذلك الحكم ، كما أنّ الدليل لا ينفك عن المدلول.

__________________

(١) ذكره الرازي في المحصول : ٢ / ٣١٠ ـ ٣١١.

٦١٩

وأمّا المعتزلة فإنّهم يفسّرون العلّة الشرعيّة تارة بالموجب ، وأخرى بالداعي ، فيحتاجون إلى الجواب عن هذه الكلمات.

واعلم أنّ القياس والتعليل لا يتمشّى على قواعد الأشاعرة ، لأنّ الإسكار إن كان علّة في تحريم الخمر بمعنى الباعث ، بطل قولهم : إنّه لا يفعل لغرض ؛ وإن كان بمعنى الأمارة ، فأمّا في الخمر وهو باطل لثبوت الحكم فيه بالنص وكون المعرف هو النصّ لا غيره ، وأمّا في غيره ولا دليل على كونه علّة فيه ، إذ الموجب للتعليل هو الاقتران ولم يعلم بعد وفي صورة الاقتران وهو الأصل لا علّته.

وأمّا المعتزلة فإنّهم يسندون الأحكام إلى الحكم والمصالح ويجعلون الشرع كاشفا عنها لا أنّه جعل الوصف علّة وباعثا ، فإنّ الوصف علّة لذاته لا بجعل جاعل ، فيبطل ما أوردوه من الشّبه.

أمّا أ. فلما ثبت من الحسن والقبح العقليّين.

وأمّا ب. ففيه نظر ، إذ لا يصحّ الاستدلال بكون الاستحقاق عدميا على أنّ الاستحقاق ثبوتي ، لأنّ الظاهر عند العقل إنّما هو الأمور الثبوتية وبواسطتها نعرف العدميات ، ودخول حرف السلب لا يصحّ دليلا لوجوده في العدميات كما يوجد في الأمور الثبوتية ، وترك الواجب من القادر مستند إلى إرادة وداع فاستحق العقاب لهذه العلّة الوجودية ، على أنّا نمنع كون الاستحقاق ثبوتيا ، بل هو وصف اعتباري وإلّا لزم التسلسل.

وفي ج. نظر ، لمنع اتّحاد الحكمين وتماثلهما ، فإنّ استحقاقية القتل

٦٢٠