نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٣

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-238-2
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٥٦

المبحث الثامن : في استحالة نسخ الإجماع (١)

ذهب أكثر الناس إلى ذلك ، وجوّزه الأقلّ.

لنا : أنّ الإجماع إنّما ينعقد بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّه ما دام حيّا لا ينعقد (٢) الإجماع من دونه ، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيّد المؤمنين ، وإذا وجد قوله لم يعتبر قول غيره ، فالإجماع إنّما ينعقد بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويستحيل حينئذ نسخه بالكتاب والسنّة ، لاستحالة حدوثهما بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا إجماع ، وبعده يستلزم حكم جميع الأمّة على خلاف الكتاب والسنّة ، فيكون باطلا.

وبالإجماع (٣) لأنّ الثاني ، إن لم يكن عن دليل ، كان خطأ ، وإن كان عن دليل ، فإن كان موجودا حال انعقاد الإجماع الأوّل ، لزم كون الأوّل خطأ ، وهو محال ، وإن لم يكن موجودا ، استحال تجدّده.

لا يقال : ينتقض بإجماع الأمّة على تسويغ العاميّ بأخذ أحد قولهما ،

__________________

(١) قد ذكر المصنّف لنسخ الإجماع في ثنايا كلامه صورا ، وهي :

١. نسخ الإجماع بالكتاب.

٢. نسخ الإجماع بالسنّة.

٣. نسخ الإجماع بالإجماع.

٤. نسخ الإجماع بالقياس.

ثمّ أخذ في تحقيقها ، فلاحظ.

(٢) في «أ» : لم ينعقد.

(٣) أي ويستحيل نسخ الإجماع بالإجماع.

٦١

ثمّ على تحريمه لو اتّفقت على أحدهما ، فالثاني (١) ناسخ للأوّل.

لأنّا نقول : أنّما سوّغت [الأمّة] للعاميّ الأخذ بأيّ القولين شاء ، بشرط أن لا يحصل الإجماع على أحد القولين ، فكان الإجماع الأوّل مشروطا بهذا الشرط ، فإذا اتّفقت زال شرط [الإجماع] الأوّل ، فانتفى ، لانتفاء شرطه من غير نسخ.

وبالقياس (٢) ، لأنّ شرط صحّته ، عدم الإجماع ، فإذا وجد لم يكن القياس صحيحا ، فلا يجوز نسخه به.

ولأنّ القياس لا بدّ له من أصل ، والحكم في ذلك الأصل إمّا أن يكون بدليل متجدّد بعد الإجماع الأوّل ، أو سابق عليه ، فإن كان بمتجدّد ، فهو إمّا إجماع أو قياس ، لاستحالة تجدّد النصّ ، فإن كان إجماعا ، فلا بدّ له من دليل ، وإن كان قياسا على أصل آخر ، تسلسل أو انتهى إلى أصل ثابت بالنصّ.

والتسلسل محال ، والنصّ يجب أن يكون سابقا على الإجماع الأوّل ، وحينئذ صحّة القياس عليه مشروط بعدم الإجماع الأوّل على مناقضته ، ونسخ الإجماع الأوّل متوقّف على صحّته ، وهو دور ممتنع.

وإن كان نصّا ، لزم سبقه ، فيكون الإجماع على خلافه خطأ ، وإن كان

__________________

(١) أي الإجماع الثاني.

(٢) أي يستحيل نسخ الإجماع بالقياس.

٦٢

سابقا ، فعدول أهل الإجماع عنه ، دليل على عدم صحّة القياس عليه ، وإلّا كان إجماعهم خطأ ، وهو محال.

وعلى رأي الإماميّة الإجماع إنّما يتحقّق بقول المعصوم ، لأنّه سيّد المؤمنين ، فالعبرة بقوله ، ولا يجوز نسخه ، لعدم تجدّد دليل من كتاب أو سنّة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والقياس لا عبرة به مع قول المعصوم.

قال المرتضى : إنّ الإجماع مستقرّ قبل انقطاع الوحي وبعده على ما يأتي.

ولأنّه تعالى أمر باتّباع المؤمنين قبل الوحي وبعده ، والنسخ لا يتناول الأدلّة ، بل الأحكام ، فجاز أن يثبت حكم دليل بالإجماع قبل انقطاع الوحي ، ثمّ ينسخ بآية تنزل. (١)

المبحث التاسع : في نسخ القياس

منع قاضي القضاة من نسخ القياس (٢) وتبعه الحنابلة ، لأنّ القياس تبع للأصول ، فلم يجز رفعه مع ثبوتها ، إذ لا يتصوّر رفع حكمه مع بقاء أصله.

ولأنّه إنّما يثبت بعد انقطاع الوحي وقال : إنّ القياس إن كان معلوم العلّة ، جاز نسخه ، لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو نصّ على أنّ علّة تحريم الربا في البرّ

__________________

(١) الذريعة إلى أصول الشريعة : ١ / ٤٥٧.

(٢) نقله عنه أبو الحسين البصري في المعتمد : ١ / ٤٠٢.

٦٣

هي الكيل ، وأمر بالقياس ، لكان ذلك كالنصّ في تحريم الربا في الأرز ، فكما جاز أن يحرّم الربا في الأرز ثمّ ينسخه ، جاز أن ينسخ عنّا تحريم الأرز المستفاد بهذه العلّة المنصوص عليها ، ويمنع من قياسه على البرّ.

ومنعت الإماميّة منه ، لأنّه ليس دليلا عندهم.

وقال أبو الحسين : إن كان القياس موجودا في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بأن يكون قد نصّ على أصل كتحريم بيع البرّ بالبرّ متفاضلا ، وتعبّد النّاس بقياس غير البرّ على البرّ (١) بواسطة الكيل مثلا ، بأمارة تدلّ عليه ، فإذا قضى بتحريم بيع الأرزّ بناء على القياس على البرّ ، أمكن نسخه بالنصّ على إباحة بيع الأرزّ ، وبالقياس على ما نصّ على إباحته من المأكولات وتعبّد بالقياس عليه بواسطة كونه مأكولا بأمارة هي أقوى من أمارة التحريم.

وإن كان بعده ، (٢) بأن يؤدّي اجتهاد مجتهد بعد البحث عن الأدلّة إلى تحريم شيء ، ثمّ يطّلع على نصّ أو قياس أرجح أو إجماع متقدّم ، أو تختلف الأمّة على قولين قياسا ثم تجتمع على أحدهما ، فإنّ إجماعهم الثاني رافع لحكم القياس الّذي اقتضاه القول الآخر ، لزم رفع حكم قياسه الأوّل ، وإن كان ذلك لا يسمّى نسخا.

وهذا كلّه انّما يتمّ على القول بإصابة كلّ مجتهد ، حيث إنّه تعبّد بالقياس الأوّل ، ثمّ رفع ، ومن منعه ، لم يكن القياس الأوّل متعبّدا به. (٣)

__________________

(١) في «أ» : بقياس غير البرّ بالبرّ.

(٢) أي وإن كان القياس موجودا بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٣) لاحظ المعتمد : ١ / ٤٠٢ ـ ٤٠٣.

٦٤

وقيل (١) : علّة القياس إن كانت منصوصة ، فهي في معنى النصّ ، فيمكن نسخ حكمه بنصّ أو بقياس في معناه.

ولو ذهب إليه ذاهب بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لعدم اطّلاعه على ناسخه بعد البحث عنه ، فإنّه وإن كان متعبّدا باتّباع ما أوجبه ظنّه ، فرفع حكمه في حقّه بعد اطّلاعه على الناسخ لا يكون نسخا متجدّدا ، بل ظهر أنّه كان منسوخا ، وبين الأمرين فرق.

وإن كانت [العلّة] مستنبطة بنظر المجتهد ، فحكمها في حقّه غير ثابت بالخطاب ، فرفعه في حقّه عند الظفر بدليل يعارضه ، ويترجّح عليه لا يكون نسخا على قول أنّ النسخ رفع حكم خطاب ، وإن شارك النسخ في رفع الحكم وقطع استمراره ، سواء قلنا إنّ كلّ مجتهد مصيب أو لا.

المبحث العاشر : في حكم الفرع هل يبقى مع نسخ حكم أصله؟

اختلف الناس في نسخ حكم أصل القياس هل يبقى معه حكم الفرع أم لا؟

فذهبت الحنفيّة إلى بقائه ، خلافا للباقين.

والوجه ، الأخير.

لنا : أنّ ثبوت الحكم في الفرع تابع لاعتبار العلّة في نظر الشرع بإثبات

__________________

(١) القائل هو الآمدي في الإحكام : ٣ / ١١١.

٦٥

حكم الأصل ، فإذا نسخ حكم الأصل خرجت العلّة المستنبطة عن الاعتبار ، فبطل تابع الاعتبار.

قالوا : يلزم ممّا ذكرتم نسخ حكم الفرع بالقياس على حكم الأصل ، حيث حكمتم بتبعيّة رفع حكم الفرع لرفع حكم الأصل ، والنسخ بالقياس باطل.

سلّمنا ، لكن إنّما يلزم من انتفاء المتبوع انتفاء التابع لو افتقر الحكم في دوامه إلى دوام سببه ، وهو ممنوع.

سلّمنا ، لكن ينتقض بالأب ، فإنّ ولده الصغير تابع له في الإسلام والكفر ، ولا يلزم من زوال إسلام الأب زوال إسلامه.

والجواب : ليس رفع حكم الفرع بالقياس على رفع حكم الأصل ، وإلّا لافتقر إلى علّة جامعة ، بل رفعه لانتفاء علّته.

والحكم إن افتقر في دوامه إلى دوام علّته فالمطلوب ، وإلّا فالإجماع على أنّه لا بدّ من دوام احتمال الحكمة ، حتّى أنّه لو انتهت حكمة الحكم قطعا ، امتنع بقاؤه بعدها ، وإذا وجب دوام احتمال الحكمة ، وجب اعتبارها ، لاستحالة بقاء الحكم لحكمة غير معتبرة ، وإذا انتسخ حكم الأصل زال اعتبارها.

وليس إسلام الأب علّة لإسلام الولد ، ولا دوام إسلام الأب معتبرا في دوام إسلام الابن ، حتّى يلزم من الانتفاء الانتفاء ، لأنّ المرتدّ بحكم المسلم.

٦٦

المبحث الحادي عشر : في نسخ الفحوى

اتّفق النّاس كافّة على جواز النسخ بفحوى الخطاب ، كدلالة تحريم التأفيف على تحريم الضرب ، لأنّه إن دلّ على تحريم الضرب لغة ، فاللفظ المفيد للشيء من جهة اللّغة يجوز أن يقع النسخ به ، وإن كان يدلّ من جهة الأولى فهو آكد من اللّفظ ، فجاز النسخ به أيضا.

واتّفقوا على جواز نسخهما معا.

وإنّما اختلفوا في جواز نسخ الأصل دون الفحوى ، وبالعكس ، وأطبق الأكثر على أنّ نسخ الأصل يفيد نسخ الفحوى ، لأنّ الفحوى تابع فلا يتصوّر بقاؤه مع ارتفاع متبوعه.

وأمّا نسخ الفحوى دون الأصل فقد تردّد فيه القاضي عبد الجبار فجوّزه تارة ، لأنّه جار مجرى التنصيص على تحريم التأفيف والضرب ، فكأنّه حرّمهما ، فرفع حكم أحدهما لا يفيد رفع حكم الآخر ، ومنع أخرى ، وهو اختيار أبي الحسين (١) لئلا ينتقض الغرض ، فإنّ الغرض من تحريم التأفيف الإعظام [للوالدين] ، فلو سوّغ الضرب نقض غرضه.

__________________

(١) قال في المعتمد : ١ / ٤٠٤ : فامّا نسخ الفحوى مع ثبات الأصل ، فقد أجازه قاضي القضاة في «كتاب العمد» ، وقال في «شرحه» : يجوز ذلك إلّا أن يكون فيه نقض الغرض. ومنع منه في «الدرس» ، وهو الصحيح.

٦٧

وقال المرتضى : لا يحسن أن يقال : «لا تقل لهما أفّ واضربهما» لكن يحسن (أن يقول) (١) «لا تضربهما وإن قلت لهما أفّ» فيجوز نسخ الأكبر وتبقية الأصغر ، ولا يجوز عكسه ، ثمّ قال :

وغير ممتنع أن يقال : إنّ الحال فيما بيّنّا يخالف المصالح الدّينية ، لامتناع أن يمنع من التأفيف في الشاهد إلّا لأجل الترفيه والتنزيه عن الاضرار به ، فلا يجوز أن يجامع إرادة الاضرار الأكبر ، ومصالح الدّين غير ممتنع أن تختصّ تارة بالأكبر والأخرى بالأصغر ، فالأولى جواز نسخ كلّ منهما مع تبقية صاحبه (٢).

وفيه نظر ، لأنّ البحث في المفهوم ، وهو الّذي عرف الغرض وثبوته في محلّ السكوت ، وأولويّة ثبوته فيه ، فحينئذ يمتنع نسخ الأصغر مع بقاء الأكبر.

وقيل (٣) : إثبات تحريم الضرب في محلّ السّكوت ، إن ثبت بالقياس كان نسخ حكم الأصل موجبا لرفع حكم الفرع ، لاستحالة بقاء الفرع دون أصله ، وإن لم يسمّ ذلك نسخا ، وإنّ رفع حكم الفرع لا يوجب رفع حكم الأصل ، فإنّ رفع التابع لا يوجب رفع متبوعه.

__________________

(١) ما بين القوسين يوجد في المصدر.

(٢) الذريعة إلى أصول الشريعة : ١ / ٤٥٨ ـ ٤٥٩.

(٣) القائل هو الآمدي في الإحكام : ٣ / ١١٣.

٦٨

وإن ثبت باللّفظ لغة ، فدلالة اللفظ على تحريم التأفيف بجهة صريح اللّفظ ، وعلى تحريم الضرب بجهة الفحوى ، وهما دلالتان مختلفتان ، غير أنّ دلالة الفحوى تابعة لدلالة المنطوق ، فأمكن أن يقال : رفع حكم إحداهما لا يستلزم رفع حكم الأخرى.

لا يقال : إذا كانت دلالة الفحوى تابعة لدلالة المنطوق ، امتنع بقاء الفرع مع رفع الأصل.

ولأنّ الغرض إعظام الأبوين ، فرفع حكم الفحوى مخلّ بالغرض من دلالة المنطوق ، فيمتنع معه بقاء حكم المنطوق.

لأنّا نقول : دلالة الفحوى وإن كانت تابعة ، لكن نسخ حكم المنطوق ليس نسخا لدلالته ، بل لحكمه ، ودلالة الفحوى تابعة لدلالة المنطوق على حكمه ، لا أنّها تابعة لحكمه ، ودلالته باقية بعد نسخ حكمه ، كما كانت قبل نسخه ، فما هو أصل لدلالة الفحوى غير مرتفع ، وما هو مرتفع ليس أصلا للفحوى.

وأمّا الثاني ، فغاية ما يلزم من نسخ حكم الفحوى إبطال الغرض من أصل إثبات الحكم فيه ، ولا يخفى أنّ غرض إثبات التحريم للتأفيف ، مغاير لغرض تخصيصه بالذكر ، تنبيها بالأدنى على الأعلى ، ولا يلزم من إبطال أحد الغرضين إبطال الآخر. (١)

__________________

(١) الاستدلال للآمدي في الإحكام : ٣ / ١١٢ ـ ١١٣.

٦٩

وفيه نظر ، فإنّ تحريم الضرب إنّما استفيد من تحريم التأفيف ، فرفعه يقتضي البقاء على ما كان الحكم عليه قبل التنصيص ، ونسخ الفحوى يستلزم إبطال الأصل ، لأنّ الفحوى هي الغاية ، فإبطالها يستلزم إبطال ذي الغاية.

٧٠

الفصل الرابع :

في الناسخ

وفيه مباحث :

[المبحث] الأوّل : في حدّه

يطلق الناسخ على الناصب للدلالة الناسخة ، فيقال إنّه تعالى ناسخ للتوجّه إلى بيت المقدس ، قال تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها)(١) وقال : (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ)(٢).

وعلى الحكم ، فيقال : «وجوب صوم رمضان ناسخ وجوب صوم عاشوراء».

وعلى المعتقد لنسخ الحكم ، فيقال : «فلان نسخ الكتاب بالسنّة» أي يعتقد ذلك.

وعلى طريق النسخ ، فيقال : «القرآن ناسخ للسنّة» و «آية كذا نسخت آية

__________________

(١) البقرة : ١٠٦.

(٢) الحجّ : ٥٢.

٧١

كذا» ، وكذا خبر الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفعله وتقريره ، إلّا أنّ الإجماع وقع على أنّه مجاز في الحكم والمعتقد.

وإنّما الخلاف بين المعتزلة والأشاعرة في أنّه حقيقة في الله تعالى ، أو في الطّريق المعرّف ، لارتفاع الحكم.

فعند المعتزلة : أنّه حقيقة في الطريق فقالوا في حدّه : الناسخ قول صادر من الله تعالى ، أو رسوله ، أو فعل منقول عن رسوله يفيد إزالة مثل الحكم الثابت بنصّ صادر عنه تعالى ، أو عن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو فعل منقول عنه ، مع تراخيه عنه ، على وجه لو لاه لكان ثابتا.

وعند الأشاعرة : الناسخ في الحقيقة هو الله تعالى ، وأنّ خطابه الدالّ على ارتفاع الحكم هو النسخ ، ويسمّى ناسخا مجازا.

والتحقيق : أنّ النزاع هنا لفظيّ ، لأنّ الناسخ إن كان هو الفاعل ، فهو الله تعالى ، وإن كان هو الدّليل ، فهو الطريق ، ولكلّ أحد إطلاقه على ما يشاء.

وقد حدّ قاضي القضاة الطريق الناسخ بأنّه : «ما دلّ على أنّ مثل الحكم الثابت بالنصّ غير ثابت على وجه ، لو لاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه».

وغرضه بهذا الحدّ أن يتناول كلّ ما كان طريقا إلى النسخ ، سواء كان متواترا أو آحادا ، قاله أبو الحسين ، قال : ويخرج منه خبر الواحد ، لأنّه لا يوصف بأنّه دليل على الحقيقة ، وما دلّ على نسخ الحكم الثابت بالعقل ، ويلزم أن يكون العجز ناسخا ، لأنّه دلّ على أنّ مثل الحكم الثابت بالنصّ غير

٧٢

ثابت ، وأن تكون الأمّة إذا اختلفت على قولين فسوّغت للعاميّ الأخذ بأيّهما شاء ، ثمّ أجمعت على أحدهما أن يكون ذلك «ناسخا» ، لأنّها كانت نصّت على إباحة تقليد الطائفة الأخرى.

ثمّ حدّه هو بأنّه : «قول صادر عن الله تعالى ، أو منقول عن رسوله ، أو فعل منقول عن رسوله يفيد إزالة مثل الحكم الثابت بنصّ صادر عن الله تعالى أو بنصّ أو فعل منقولين عن رسوله ، مع تراخيه عنه ، على وجه لولاه لكان ثابتا» (١).

ويدخل فيه خبر الواحد ، لأنّه وإن كان أمارة ، لكنّه يوصف بأنّه يفيد إزالة مثل الحكم الثابت.

ويخرج منه اتّفاق الأمّة بعد الخلاف ، لأنّ قولها ليس صادرا عن الله تعالى وعن رسوله.

ولا يكون الشرع ناسخا لحكم العقل ، لأنّ العقل ليس بقول ولا فعل منقول عن الرسول ، ولهذا لا يلزم عليه «العجز المزيل للحكم» ولا تقييد الحكم بغاية ، أو شرط ، أو صفة ، أو استثناء لعدم تراخيه.

ولا البداء ، لأنّه إزالة نفس الحكم ، ولا ما إذا أمرنا الله بفعل واحد ، ثمّ نهانا عن مثله ، لأنّه وإن أزال مثل الحكم ، إلّا أنّه لو لم يكن هذا النهي ، لم يكن مثل حكم الأمر ثابتا. (٢)

__________________

(١) المعتمد : ١ / ٢٦٦.

(٢) الاستدلال لأبي الحسين البصري في المعتمد : ١ / ٢٦٧.

٧٣

وفيه نظر ، لأنّ ذكر جزئيّات المحدود في الحدّ غلط.

والأولى أن يقال : الناسخ طريق شرعيّ يدلّ على أنّ ذلك الحكم الّذي كان ثابتا بطريق شرعيّ لا يوجد مثله بعد ذلك مع تراخيه عنه ، على وجه لولاه لكان ثابتا.

المبحث الثاني : في شرائط الناسخ على الإجمال

وهي أمور :

الأوّل : أن يكون خطابا ، فارتفاع الحكم بموت المكلّف ليس نسخا ، لأنّ ثبوت الحكم ما دام حيّا فلا يحتاج إلى الرفع.

الثاني : أن يكون متراخيا.

الثالث : وروده بعد الوقت لا قبله عند المعتزلة خاصّة.

الرابع : دخوله على خطاب يدخله التخصيص ، لاستحالة اتّحاد متعلّق الأمر والنهي.

ولا يشترط أن يكون رافعا للمثل بالمثل ، بل أن يكون رافعا فقط.

ولا في ناسخ القرآن أن يكون قرآنا ، ولا في ناسخ السنّة أن يكون سنّة ، بل يكفي أن يكون ممّا يصحّ النسخ به.

ولا أن يكونا نصّين قاطعين ، بل يجوز نسخ خبر الواحد بمثله وبالمتواتر ، وإن لم يجز نسخ المتواتر بخبر الواحد.

٧٤

ولا أن يكون الناسخ منقولا بمثل لفظ المنسوخ ، بل أن يكون ثابتا بأيّ طريق كان.

ولا أن يكون مقابلا للمنسوخ من كلّ وجه حتّى لا ينسخ الأمر إلّا بالنهي ، والنهي إلّا بالأمر ، بل يجوز نسخ كليهما بالإباحة ، وأن ينسخ الواجب المضيّق بالموسّع.

وإنّما يشترط أن يكون رافعا حكما من المنسوخ أيّ حكم كان.

ولا كونهما ثابتين بالنصّ ، بل يجوز أن يكون بلحن القول ، أو بفحواه وظاهره.

المبحث الثالث : في جواز نسخ الكتاب بمثله وبالسنّة المتواترة

اتّفق القائلون بجواز النسخ سمعا ، على جواز نسخ الكتاب بمثله ، لوقوعه في آية الاعتداد (١) ، والمناجاة مع تقديم الصدقة (٢) ، وثبات الواحد للعشرة (٣) ، وغير ذلك.

وأمّا نسخ الكتاب بالسنّة المتواترة ، فقال بجوازه ووقوعه أكثر العلماء ، وهو قول جمهور المتكلّمين من الأشاعرة ، والمعتزلة ، والإماميّة ، ومن الفقهاء مالك ، وأصحاب أبي حنيفة ، وابن سريج.

__________________

(١) إشارة إلى الآية ٢٣٤ و ٢٤٠ من سورة البقرة.

(٢) إشارة إلى الآية ١٢ و ١٣ من سورة المجادلة.

(٣) إشارة إلى الآية ٦٥ و ٦٦ من سورة الأنفال.

٧٥

وقطع الشافعي ، وأكثر الظاهريّة وأحمد بن حنبل في رواية إلى امتناع ذلك.

لنا : أن كلّ واحد منهما دليل يوجب العلم والعمل ، وكما جاز نسخ الكتاب بمثله ، جاز نسخه بالسنّة لمساواتها له.

وأمّا الوقوع ، (١) فلأنّ جلد الزاني ثابت بقوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا)(٢) وقد نسخ بالرّجم الثابت بالسنّة.

وهو ممنوع ، أمّا أوّلا فلما فيه من نسخ القرآن بخبر الواحد ، وأمّا ثانيا فلجواز نسخه بقرآن نسخت تلاوته ، كما روي عن عمر أنّه قال : كان فيما أنزل «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله ورسوله».

لا يقال : روي عن عمر أنّه قال : لو لا أنّني أخشى أن يقال : زاد عمر في القرآن ما ليس منه ، لكتبت «الشيخ والشيخة إذا زنيا» على حاشية المصحف ، وهو يدل على أنّه لم يكن قرآنا.

لأنّا نقول : يحتمل أنّه منسوخ التلاوة ، ولا يلزم أنّه لم يكن قرآنا.

لا يقال : «الشيخ والشيخة» لم يثبت بالتواتر ، بل بقول عمر ، ونسخ المتواتر بالآحاد ممتنع.

لأنّا نقول : والسنّة وهو رجم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما هو من باب الآحاد ،

__________________

(١) ما ذكره المصنّف حول الوقوع فإنّما هو خيرة الآمدي في الإحكام ، وأمّا مختاره قدس‌سره فسيأتي قوله : «والتحقيق ...».

(٢) النور : ٢.

٧٦

وغايته إجماع الأمّة على الرّجم ، والإجماع ليس بناسخ ، بل [هو] دليل على وجود الناسخ المتواتر ، وليس إحالته على سنّة متواترة لم تظهر لنا أولى من إحالته على قرآن متواتر لم يظهر [تواتره] بسبب نسخ تلاوته. (١)

والتحقيق : أنّ لفظ الزّانية والزاني إن كان عامّا كان رجم المحصن تخصيصا لا نسخا ، وإن كان مطلقا كان تقييدا ، فلا نسخ هنا (إلّا مع ثبوت المتأخر عن وقت العمل وهو ممنوع). (٢)

واحتجّوا على الوقوع أيضا : بأنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا وصيّة لوارث» (٣) ناسخ لآية الوصيّة.

وهو ضعيف ، لأنّه خبر واحد ، لأنّه لو كان متواترا لبقي الآن كذلك ، لتوفّر الدواعي على نقله ، من حيث إنّه في واقعة مهمّة ، وحيث لم يبق متواترا دلّ على أنّه لم يكن متواترا.

على أنّه قد منعه أكثر الناس مع اتّفاقهم على منع نسخ المتواتر بخبر الواحد.

احتجّ الشافعي بوجوه :

الأوّل : قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها)(٤) أخبر بأنّه يأتي بخير منه أو مثله ، فيجب أن يكون من جنسه ، كما

__________________

(١) الاستدلال للآمدي في الإحكام : ٣ / ١٠٤.

(٢) ما بين القوسين يوجد في «ج».

(٣) سنن ابن ماجة : ٢ / ٩٠٥ برقم ٢٧١٢ ؛ مسند أحمد بن حنبل : ٤ / ١٨٦ ، ١٨٧ ، ٢٣٨ ، ٢٣٩.

(٤) البقرة : ١٠٦.

٧٧

لو قال إنسان : ما آخذ منك من ثوب إلّا آتيك بخير منه ، فإنّه يفيد إتيانه بثوب خير منه ، وجنس القرآن قرآن.

وبأنّه المنفرد بالإتيان بذلك الخير ، وذلك هو القرآن الّذي هو كلامه ، دون السنّة الّتي يأتي بها الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولأنّ قوله : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) يفيد أنّ المأتيّ خير من الآية ، والسنّة ليست خيرا من القرآن.

ولأنّ قوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١) دلّ على أنّ الآتي بخير منها هو المختصّ بالقدرة على إنزاله ، وهو القرآن دون غيره.

الثاني : قوله تعالى : (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)(٢) فوصفه (٣) بأنّه مبيّن للقرآن ، ونسخ القرآن رفعه ، والرفع ضدّ البيان.

الثالث : قوله تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ)(٤) أخبر بأنّه المبدّل.

الرابع : حكى تعالى عن المشركين أنّهم قالوا عند تبديل الآية بالآية : (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ)(٥) ، ثمّ إنّه تعالى أزال هذا الإبهام (٦) بقوله : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ

__________________

(١) البقرة : ١٠٦.

(٢) النحل : ٤٤.

(٣) الضمير يرجع إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٤) النّحل : ١٠١.

(٥) النحل : ١٠١.

(٦) أي أزال الإبهام عن وجه تبديل الآية بآية أخرى ، وفي بعض النسخ «الإيهام» أي أزال الوهم عن وجه التبديل.

٧٨

الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ)(١) ، وهو يدلّ على أنّ ما لم ينزّله روح القدس من ربّك لا يكون مزيلا للإبهام.

الخامس : قوله تعالى : (قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ)(٢) يدلّ على أنّ القرآن لا تنسخه السنّة.

السادس : أنّه يوجب التهمة (والنفرة) (٣).

السابع : السنّة إنّما وجب اتّباعها بالقرآن ، وهو قوله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ)(٤) وقوله : (وَاتَّبِعُوهُ)(٥).

فهي فرع القرآن ، فلا ترجع عليه بالإبطال ، كما لا ينسخ القرآن والسنّة بالقياس المستنبط منهما.

الثامن : القرآن أقوى من السنّة ، لأنّ معاذا قدّمه في الحكم [على السنّة] وأقرّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (٦)

ولأنّ لفظه معجز.

ولوجوب الطهارة من الجنابة والحيض على تاليه ، ومطلقا على من مسّه ، فلا يرفع [الأقوى] بالأضعف.

__________________

(١) النحل : ١٠٢.

(٢) يونس : ١٥.

(٣) ما بين القوسين من المحصول : ١ / ٥٥٧.

(٤) الحشر : ٧.

(٥) الأعراف : ١٥٨.

(٦) تقدّم تخريج الحديث في الجزء الثاني : ص ٣٢٢.

٧٩

والجواب عن الأوّل من وجوه :

الأوّل : قال أبو هاشم قوله (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) ليس المراد منها أنّ ذلك الخير يكون ناسخا ، فجاز أن يكون مغايرا له ، يحصل بعد النسخ.

ويؤيّده أنّ الآية دلّت على ترتيب الإتيان بذلك الخير على نسخ الآية الأولى فلو كان نسخها مرتّبا على الإتيان بذلك الخير دار.

الثاني : قال أبو هاشم أيضا : المفهوم من نسخ الآية نسخ التلاوة دون الحكم فقط ، فإنّه لا يطلق النسخ على ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته ، ولهذا يقال : «ما نسخت الآية بل نسخت حكمها».

ومنعه أبو الحسين ، لأنّ الناس يطلقون النسخ على آية المناجاة ، وتلاوتها باقية (١).

الثالث : نمنع كون الخير من جنس الآية المنسوخة ، والمثال معارض بمثل : «من يلقني بحمد وثناء جميل ألقه بخير منه» ، فإنّه لا يقتضي أنّ الّذي يلقاه به من جنس الحمد والثناء ، بل من العطاء.

على أنّا نمنع بالجنسيّة بين الثوب وجزائه ، فإنّه لا بدّ من إضمار ، وليس إضمار «ثوب خير منه» أولى من إضمار «شيء خير منه».

والقرآن والسنّة متساويان في إسنادهما (٢) إليه تعالى ، فإنّ المراد بالإتيان شرع الحكم وإلزامه ، والسنّة كالقرآن في أنّ المثبت لهما هو الله تعالى.

__________________

(١) المعتمد : ١ / ٣٩٧.

(٢) في «ج» : استنادهما.

٨٠