نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٣

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-238-2
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٥٦

الأوّل :

في ماهيته وأركانه

وفيه مباحث :

الأوّل : في الماهية

القياس لغة : التقدير ، يقال : قست الأرض بالقصبة وقست الثوب بالذراع : أي قدّرته بذلك ، وهو من الأمور النسبية فيستدعي أمرين يضاف أحدهما إلى الآخر بالمساواة.

وأمّا في الاصطلاح الجاري بين الفقهاء فيقال لمعنيين :

الأوّل : قياس العكس ، وهو عبارة عن تحصيل نقيض حكم معلوم في غيره لافتراقهما في علّة الحكم ؛ كما يقال : لو لم يكن الصوم شرطا في الاعتكاف لم يكن شرطا له عند نذره أن يعتكف صائما كالصلاة فإنّها لمّا لم تكن شرطا في الاعتكاف لم تكن شرطا له إذا نذر أن يعتكف مصلّيا ، والأصل الصلاة والفرع الصوم ، وحكم الصلاة أنّها ليست شرطا في الاعتكاف والثابت في الصوم نقيضه وهو أنّه شرط ، وقد افترقا في العلّة الّتي

٥٠١

لأجلها لم تكن الصلاة شرطا في الاعتكاف انّها لم تكن شرطا فيه حالة النذر ، وهذه العلّة غير موجودة في الصوم ، لأنّه شرط في الاعتكاف حالة النذر إجماعا.

الثاني : قياس الطرد ، وقد اختلف في حدّه (١) فقال بعضهم : إنّه إصابة الحق. ويبطل بإصابة الحق بالكتاب والسنّة والإجماع ، ولأنّ إصابة الحق نتيجة القياس لا نفسه.

وقال آخرون : إنّه بذل الجهد في استخراج الحق. ويبطل بما تقدّم.

وقيل : إنّه عبارة عن التشبيه ، ويلزم منه أن يكون تشبيه أحد الشيئين بالآخر في المقدار وفي بعض صفات الكيفيات كاللون والطعم قياسا شرعيا.

وقيل : إنّه الدليل الموصل الى الحق ويبطل بالأدلّة كلّها.

وقال أبو هاشم : إنّه عبارة عن حمل الشيء على غيره ، وإجراء حكمه عليه.

وليس بجامع لخروج القياس الّذي فرعه معدوم ممتنع لذاته ، فأنّه ليس بشيء ؛ ولأنّ حمل الشيء على غيره وإجراء حكمه عليه قد يكون من غير جامع ، فلا يكون قياسا.

وقال القاضي عبد الجبار : إنّه حمل الشيء على الشيء في بعض أحكامه بضرب من التشبيه ، وهو باطل بما تقدّم.

وقال أبو الحسين البصري (٢) : إنّه تحصيل حكم الأصل في الفرع

__________________

(١) للاطّلاع على الأقوال ، راجع الإحكام : ٣ / ٢٠٢ ـ ٢٠٥.

(٢) المعتمد في أصول الفقه : ٢ / ١٩٥.

٥٠٢

لاشتباههما في علّة الحكم عند المجتهد. وقصد بذلك حدّ مطلق القياس.

ثمّ اعترض على نفسه بأنّ الفقهاء يسمّون قياس العكس قياسا؟ وليس هو تحصيل حكم الأصل في الفرع لاشتباههما في علة الحكم ، بل هو تحصيل نقيض حكم الشيء في غيره لافتراقهما في علّة الحكم.

وأجاب بأنّ تسمية قياس العكس قياسا من باب المجاز لفوات خاصية القياس فيه ، وهو إلحاق الفرع بالأصل في حكمه لما بينهما من المشابهة.

وأورد على حدّه : أنّ الحاصل في الفرع ليس نفس حكم الأصل بل مثله ، ولأنّ تحصيل حكم الأصل في الفرع هو حكم الفرع ، ونتيجة القياس ونتيجة الشيء لا تكون هي نفسه.

وفيه نظر ، فإنّ حكم الأصل لمّا كان مساويا لحكم الفرع في النوع صحّ إطلاق الوحدة عليهما ، وقد يعرف الشيء بغايته ، كما يقال : الكوز آلة يشرب بها الماء ، والكرسي ما يجلس عليه.

وقال القاضي أبو بكر واختاره جمهور الأشاعرة (١) : إنّه حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما ، أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من حكم أو صفة أو نفيهما عنه.

ذكر المعلوم ليتناول الموجود والمعدوم ، والقياس يجري فيهما ، ولم

__________________

(١) نقله عنه الرازي في المحصول : ٢ / ٢٣٦.

٥٠٣

يذكر الشيء لاختصاصه بالموجود ، ولو ذكر الفرع أوهم اختصاصه بالموجود.

وأيضا فلا بدّ من معلوم ثان يكون أصلا ، لأنّ القياس التسوية ، وإنّما يتحقّق بين أمرين ، ولأنّه لو لا الأصل كان إثبات الحكم في الفرع بمجرّد الحكم. وأيضا الحكم قد يكون نفيا وقد يكون إثباتا ، وأيضا الجامع قد يكون حقيقيا وقد يكون حكما شرعيا ، وكلّ منهما قد يكون نفيا وقد يكون إثباتا ، والحد منطبق على الجميع.

واعترض عليه من وجوه (١) :

الأوّل : إن أردت بحمل أحدهما على الآخر إثبات مثل حكم أحدهما للآخر كان قوله : «في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما» تكرارا من غير فائدة ، وإن أردت غيره فبيّنه ، والتكرار والخفاء محذّر عنهما في الحد.

وبتقدير أن يكون المراد منه شيئا آخر ، لا يجوز ذكره في تعريف القياس ، لتمام ماهية القياس من دونه ، فيكون زائدا لا يجوز ذكره في الحد.

الثاني : قوله : «في إثبات حكم لهما» يشعر باستناد الحكم في الأصل والفرع إلى القياس ، وهو باطل ؛ فإنّ القياس فرع ثبوت الحكم في الأصل ، فلو كان ثبوته في الأصل فرعا عليه دار.

الثالث : الثابت بالقياس أعمّ من أن يكون حكما أو صفة ، كقولنا : الله تعالى عالم ، فله علم قياسا على الشاهد ، فالصفة إن اندرجت في الحكم لزم

__________________

(١) المعترض هو الرازي في المحصول : ٢ / ٢٣٧ ـ ٢٣٨.

٥٠٤

التكرير في قوله من حكم أو صفة ، لأنّ الصفة أحد أقسام الحكم ؛ وإن لم يندرج كان التعريف ناقصا ، لأنّه ذكر ثبوت الحكم وعدمه ولم يذكر ثبوت الصفة وعدمها ، فلا يخلو عن الزيادة أو النقصان.

الرابع : المعتبر في ماهية القياس إثبات مثل حكم معلوم لمعلوم آخر بجامع مطلقا ولا يتعرض في الحد لجزئيات الجامع من كونه حكما أو صفة ونفيا للحكم أو الصفة لوجود ماهية القياس منفكة عن كلّ واحد من تلك الجزئيات وإن كان لا بدّ له من قسم ما ، وما ينفك عنه الماهية لا يعتبر في تحقّق الماهية.

ولأنّ الجزئيات لو وجب ذكرها في الحد لوجب ذكر جميع الجزئيات. والجامع كما ينقسم إلى الحكم والصفة ونفيهما فكذا ينقسم إلى الوجوب والحظر وغيرهما ، والوجوب ينقسم إلى الموسع والمضيق والمخير والمعين وغير ذلك.

الخامس : كلمة أو للإبهام ، وماهية كلّ شيء معينة ، والإبهام ينافي التعيين فلا يجوز ذكره في الحد.

لا يقال : كونه بحيث يلزمه أحد هذه الأمور حكم معيّن.

لأنّا نقول : فالمعتبر في الماهية ملزوم هذه الأمور ، وهو كونه جامعا من حيث إنّه جامع فيكون ذكر الزوائد لغوا.

السادس : القياس الفاسد نوع من مطلق القياس ، لأنّه قابل للتقسيم إليهما ؛ ولأنّه قياس مع كيفية فيكون قياسا ، وهو خارج عن التعريف ، لأنّ

٥٠٥

قوله : «بأمر جامع» يختص بالقياس الصحيح ، فيجب أن يقال : «بأمر جامع في ظن المجتهد» فإنّ القياس الفاسد حصل فيه الجامع في ظنّ المجتهد ، وإن لم يحصل في نفس الأمر.

وأجيب عن الأوّل (١) : أنّ المراد من الحمل التشريك بينهما في حكم أحدهما مطلقا ، وقولنا : «في إثبات حكم أو نفيه» إشارة إلى ذكر تفاصيل ذلك الحكم وأقسامه ، وذكرها بيانا لا يكون تكرارا.

وفيه نظر ، فإنّ التشريك والحمل واحد.

وعن الثاني : أنّ القياس مركّب من أصل وفرع وجامع ، وحكم الأصل لا يستند في ثبوته ونفيه إلى مجموع هذه الأمور لعدم توقّفه على نفسه ولا على الفرع ، بل يتوقّف على الوصف الجامع وهو العلة حيث إنّ الشرع لم يثبت الحكم في الأصل إلّا بناء عليه ولهذا قيل في الحد : «في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع» والوصف الجامع ركن في القياس ، وليس هو نفس القياس ، فلا يكون ثبوت الحكم في الأصل ولا نفيه بالقياس ، بل بالعلّة وليست هي نفس القياس ، والثابت والمنفي بالقياس إنّما هو حكم الفرع لا غير.

وفيه نظر ، لأنّا منعنا من استناد حكم الأصل إلى القياس ، فلهذا اعترضنا على الحدّ بأنّه يشعر بنقيض ذلك.

وعن الثالث : أنّ الحد إنّما هو للقياس الشرعي ، وليست الصفة حكما شرعيا.

__________________

(١) وهي أجوبة الآمدي في الإحكام : ٣ / ٢٠٨.

٥٠٦

وعن الرابع : أنّ ذكر أقسام الجامع وإن لم يكن شيء منها داخلا في ماهية القياس ، لكنّه ليس لتوقّف مفهوم القياس عليه ، بل للمبالغة في الكشف والإيضاح بذكر الأقسام.

وفيه نظر ، لأنّ الجزئيات أخفى من الكلّي ، ولأنّ ما ليس جزء لا يجوز ذكره في الحد ، ولأنّ الجزء أظهر من كلّ شيء.

وعن الخامس : أنّ التحديد والتعريف قد تمّ بقولنا : «حمل معلوم على معلوم بأمر جامع بينهما» وما وقع فيه الترديد بحرف أو ذكر لزيادة البيان.

وعن السادس : أنّ المراد تحديد الصحيح ثمّ اعترض على الحد بأنّ الحكم في الفرع نفيا وإثباتا فرع على القياس إجماعا وليس ركنا في القياس ، لأنّ نتيجة الدليل لا تكون ركنا فيه وإلّا لزم الدور ، فيلزم من أخذ إثبات الحكم في الفرع ونفيه عنه في حد القياس أن يكون ركنا فيه وهو ممتنع ، وقد أخذه حيث قال : «في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما» وهو إشارة إلى الفرع والأصل.

ثمّ جعلوا الحد أنّ القياس استواء بين الفرع والأصل في العلّة المستنبطة وحكم الأصل. (١) ويبطل بما ذكره فإنّ الاستواء في حكم الأصل عبارة عن ثبوت الحكم في الفرع ، فإن ورد عليه الدور ورد على حدّه ، ثمّ يخرج منه القياس المنصوص على علّته.

__________________

(١) العبارة في الإحكام : ٣ / ٢٠٩ كما يلي : والمختار في حد القياس أن يقال : إنّه عبارة عن الاستواء بين الفرع والأصل في العلّة المستنبطة من حكم الأصل.

٥٠٧

وقيل (١) : إنّه عبارة عن إثبات مثل حكم معلوم لمعلوم آخر لأجل اشتباههما في علّة الحكم عند المثبت.

فالإثبات يراد به القدر المشترك بين العلم والاعتقاد والظن ، سواء تعلّقت هذه الثلاثة بثبوت الحكم أو بعدمه ، وقد يطلق الإثبات ويراد به الخبر باللسان ، لدلالته على الحكم الذهني.

وأمّا تصوّر المثل فبديهي ، لعلم كلّ أحد بمماثله الحار للحار ومخالفته للبارد ، ولو لم يحصل تصور ماهية التماثل والاختلاف إلّا بالاكتساب ، لكان الخالي عن ذلك الاكتساب خاليا عن ذلك التصور ، فيكون خاليا عن هذا التصديق.

ولمّا علمنا أنّ قبل كلّ اكتساب نعلم بالضرورة هذا التصديق المتوقّف على ذلك التصوّر ، علمنا أنّ حصول ذلك التصور غنيّ عن الاكتساب.

والحكم قد مر تعريفه.

ولا نعني بالمعلوم متعلّق العلم فقط ، بل والاعتقاد والظن لإطلاق الفقهاء العلم على هذه الأمور.

وسيأتي تعريف العلّة. وقولنا (٢) : «عند المثبت» ليشتمل [على] الصحيح والفاسد.

لا يقال : ينتقض بقياس العكس وقياس التلازم كقولنا : إن كان هذا

__________________

(١) القائل هو الرازي في المحصول : ٢ / ٢٣٩.

(٢) أي قول الرازي المذكور آنفا.

٥٠٨

إنسانا فهو حيوان ثمّ يستثني العين للعين أو النقيض للنقيض ، وبالمقدّمتين ، والنتيجة مثل كلّ جسم مؤلّف وكلّ مؤلّف محدث.

فإن منعتم اسم القياس في التلازم والمقدمتين ، لأنّه عبارة عن التسوية ولا تحصل إلّا عند تشبيه صورة بأخرى ، وهو منفي عن التلازم والمقدّمتين مع النتيجة.

قلنا : التسوية حاصلة ، لأنّ الحكم في كلّ من المقدّمتين معلوم ، وفي النتيجة مجهول ، فاستلزام المطلق من المقدّمتين يوجب صيرورة الحكم المطلوب مساويا للحكم في المقدّمتين في صفة المعلومية.

لأنّا نقول : قياس العكس في الحقيقة تمسّك بنظم التلازم ، وإثبات لإحدى مقدّمتي التلازم بالقياس ، فإنّا نقول لو لم يكن الصوم شرطا للاعتكاف لم يصر شرطا له بالنذر ، لكنّه يصير شرطا له بالنذر ، فهو شرط له مطلقا فهو تمسك بنظم التلازم ، واستثناء لنقيض اللازم لانتاج نقيض الملزوم ثمّ يثبت الشرطية بالقياس ، لأنّ ما لا يكون شرطا للشيء في نفسه لم يصر شرطا له بالنذر كما في الصلاة ، وهو قياس طردي. ويمنع في التلازم وفي المقدمتين مع النتيجة القياسية.

ولو كفى هذا الوجه في إطلاق اسم القياس لوجب أن يسمّى كلّ دليل به ، فإنّ المتمسّك بالنص يجعل مطلوبه به مساويا للنص في المعلومية ، ولو صحّ ذلك لامتنع أن يقال ثبت الحكم في محل النصّ بالنص ، بل بالقياس.

ولو أريد تعريف القياس ، قيل : إنّه قول مؤلّف من أقوال إذا سلّمت لزم عنها لذاتها قول آخر.

٥٠٩

البحث الثاني : في أركانه

قد عرفت أنّ القياس هو تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع بعلّة متّحدة فيهما ، فلا تتحقّق ماهيته إلّا بهذه الأمور الأربعة ، لأنّه نسبة بين شيئين هي التساوي لا من كلّ وجه ، بل في الحكم الشرعي لا مجازا ، بل لجامع صالح للتعليل فالأمور الأربعة ضرورية :

أ. الأصل ، ب. الفرع ، ج. العلّة ، د. الحكم. فإذا قسنا النبيذ على الخمر في التحريم فأصل القياس إمّا أن يكون هو الحكم الثابت في الخمر ، أو علّة ذلك الحكم ، أعني : الباعث عليه وهو الإسكار المناسب له ، أو النصّ الدال على ثبوت ذلك الحكم.

فالفقهاء جعلوا الأصل اسما لمحلّ الحكم المنصوص عليه ، وهو الخمر ؛ والمتكلّمون جعلوه اسما للنصّ الدال على ثبوت ذلك الحكم.

ويضعف قول الفقهاء (١) بأنّ أصل الشيء ما تفرع عليه غيره ، والحكم المطلوب إثباته في النبيذ ليس متفرعا عن الخمر ، لأنّ الخمر لو لم يوجد فيه ذلك الحكم وهو التحريم لم يمكن تفريع التحريم في النبيذ عليه ؛ ولو وجد ذلك الحكم في صورة أخرى ولم يوجد في الخمر أمكن تحريم النبيذ عليه ، فالحكم المطلوب إثباته غير متفرّع على الخمر ، بل على الحكم الحاصل فيه.

__________________

(١) وهو قول الرازي في المحصول : ٢ / ٢٤١.

٥١٠

ويضعف قول المتكلّمين (١) من هذا الوجه ، لأنّا لو قدّرنا علمنا بحرمة الخمر بالضرورة أو بالعقل أمكننا تفريع حكم النبيذ عليه ، ولو قدّرنا أنّ النصّ لم يدل على الحرمة في صورة خاصة لم يمكن أن نفرّع عليه حكم النبيذ تفريعا قياسيا ، وان أمكن تفريعا نصّيّا. وإذا كان كذلك لم يكن النصّ أصلا للقياس ، بل لحكم محل الوفاق ، فبقي أن يكون هو الحكم الثابت في محل الوفاق ، أو علّة ذلك الحكم.

إذا عرفت هذا فنقول : الحكم أصل في محل الوفاق فرع في محل الخلاف ، والعلة فرع في محل الوفاق أصل في محل الخلاف. فإنّا ما لم نعلم ثبوت الحكم في محلّ الوفاق لا نطلب علّته ، وقد يعلم ذلك الحكم ولا يطلب علّته أصلا ، فلمّا توقّف إثبات علّة الحكم في الوفاق على إثبات ذلك الحكم ، ولم يتوقّف إثبات الحكم على إثبات علّته ، كانت العلّة فرعا على الحكم في محل الوفاق ، والحكم أصلا فيه.

وأمّا في محلّ الخلاف فما لم نعلم حصول العلّة فيه ، لا يمكننا إثبات الحكم فيه ولا ينعكس ، فكانت العلة أصلا في محلّ الخلاف والحكم فرعا فيه.

ولا يخلو قول الفريقين من وجه ، لأنّه ثبت أنّ الحكم الحاصل في محل الوفاق أصل ، وثبت أنّ النص أصل لذلك الحكم ، فالنص أصل أصل الحكم المطلوب ، وأصل الأصل أصل ، فجاز تسمية النص بالأصل. كما قال المتكلّمون.

__________________

(١) وهو قول الرازي في المحصول : ٢ / ٢٤٢.

٥١١

ولأنّ الحكم الذى هو الأصل محتاج إلى محلّه ، فكان محلّ الحكم أصلا للأصل ، فجاز أن يسمّى أصلا كما قال الفقهاء ، لكن تسمية العلّة في الفرع أصلا أولى من تسمية محل الحكم في الأصل الّذي هو محلّ الوفاق أصلا ، لأنّ العلّة مؤثّرة في الحكم ، والمحلّ غير مؤثّر في الحكم ، فجعل علّة الحكم أصلا له أولى من جعل محل الحكم أصلا له ، لأنّ التعلّق الأول أقوى من الثاني.

وفيه نظر ، فإنّ مطلق العلّة ليس هو المؤثّر ، بل العلّة المؤثّرة ومطلق العلّة شامل للمحل ، لأنّه علّة قابلة ، كما أنّ المؤثر علّة فاعلة.

واعلم أنّ الأصل ما يبنى عليه غيره ، كقولنا : معرفة الله تعالى أصل في معرفة الرسالة ، من حيث إنّ معرفة الرسول تبنى على معرفة المرسل.

ويقال أيضا : لمّا عرف بنفسه من غير افتقار إلى غيره ، كما نقول في تحريم الخمر أنّه أصل ، لأنّه لا يفتقر إلى غيره.

فحينئذ حصل الخلاف في الأصل ما هو؟ هل هو النصّ ، أو الخمر ، أو الحكم الثابت في الخمر وهو التحريم مع الاتّفاق على أنّ العلة في الخمر وهي الشدّة المطربة ليست هي الأصل؟ (١).

فعند المتكلّمين أنّه النّص الدالّ على تحريم الخمر كما تقدّم ، لأنّه الّذي يبنى التحريم عليه.

وعند الفقهاء : الخمر ، لأنّ الأصل ما كان حكم الفرع مردودا إليه

__________________

(١) راجع الإحكام : ٣ / ٢١٠.

٥١٢

ومقتبسا منه ، وهو إنّما يتحقّق في الخمر.

وقال آخرون : إنّه الحكم الثابت في الخمر ، لأنّ الأصل ما يبنى عليه غيره وكان العلم به موصلا إلى العلم بغيره ، وهذه الخاصية موجودة في حكم الخمر لا النص ، لأنّه الطريق الموصل إلى العلم بالحكم ولا الخمر ، لأنّا قد نعلم الخمر ، ولا نعلم أنّ الحرمة ثابتة فيه ، ولا في الفرع ، بخلاف ما إذا علم الحكم ، وهذا النزاع لفظي.

وأمّا الفرع فعند الفقهاء عبارة عن محلّ الخلاف ، وعند الآخرين الحكم المطلوب إثباته ، لأنّ محل الخلاف غير متفرّع على الأصل ، بل الحكم المطلوب إثباته فيه هو المتفرّع عليه.

واعلم أنّ إطلاق لفظ الأصل على محلّ الوفاق أولى من إطلاق لفظ الفرع على محلّ الخلاف ، لأنّ محلّ الوفاق أصل أصل ، لأنّه أصل للحكم الحاصل فيه ، لأنّه محل والحكم فيه أصل للقياس ، فالمحل أصل أصل القياس.

وأمّا محلّ الخلاف فإنّه أصل فرع ، لأنّه أصل للحكم المطلوب إثباته فيه ، وذلك الحكم فرع للقياس فكان أصل فرع القياس ، وإطلاق اسم الأصل على أصل الأصل أولى من إطلاق اسم الفرع على أصل الفرع.

إذا عرفت هذا فالمباحث الآتية إنّما هي على مصطلحات الفقهاء في أنّ الأصل محلّ الوفاق ، والفرع محلّ الخلاف.

وأمّا العلّة فهي الوصف الجامع بين الأصل والفرع كالإسكار في

٥١٣

التحريم وجوهر الثمنية أو الكيل والوزن أو الطعم في تحريم الربا.

واعلم أنّ هذا الوصف الجامع بين الأصل والفرع قد يكون باعثا على الحكم ، وقد يكون أمارة عليه على ما سيأتي. وأمّا الحكم فهو المطلوب إثباته في الفرع من الأحكام الشرعية الخمسة الّتي هي الوجوب ومقابلاته أو الثابتة (١) بخطاب الوضع كالصحة والبطلان وغيرهما.

البحث الثالث : في تقسيم القياس

وهو على ستة أوجه (٢) :

الأوّل : قسمته بالنسبة إلى العلم والظن ، والقياس إمّا قطعي أو ظني.

أمّا القطعي ، فهو ما كانت مقدّماته قطعية ، ولا خلاف في وجوب العمل به. فإنّا إذا اعتقدنا اعتقادا يقينيا أنّ الحكم في محلّ الوفاق معلل بوصف ، ثمّ علمنا حصول ذلك الوصف بتمامه في محل النزاع حصل لنا اعتقاد يقيني بأنّ الحكم في محل النزاع كالحكم في محل الوفاق.

ولو كانت المقدّمتان ظنيتين أو إحداهما ، فالنتيجة ظنية ، فإن كان في الأمور الدنيوية كان حجّة عند الجميع ، وإن كان في الأحكام الشرعية فقد اختلفوا فيه على ما يأتي.

ومعنى قولنا : إنّه حجّة أنّه إذا حصل ظن تساوي الصورتين في الحكم

__________________

(١) في نسخة «ب» : السابقة.

(٢) ذكر الآمدي هذه الوجوه ما عدا الأوّل في الإحكام : ٤ / ٥ ـ ٨.

٥١٤

كان مكلّفا بالعمل به ومفتيا (١) غيره ، ومن نفى كونه حجّة منع منهما.

واعلم أنّ الجمع بين الأصل والفرع تارة يكون بإلغاء الفارق ، ويسمّى تنقيح المناط.

وتارة يكون باستخراج الجامع ، وهنا لا بدّ من بيان أنّ الحكم في الأصل معلّل بكذا ، ثمّ من بيان وجود ذلك المعنى في الفرع ، ويسمّى الأوّل : تخريج المناط ، والثاني : تحقيق المناط. (٢)

الثاني : قسمته بالنسبة إلى أولوية الحكم في الفرع وعدمها.

وتقريره : أنّ المعنى الجامع بين الأصل والفرع إمّا أن يكون اقتضاؤه للحكم في الفرع أولى منه في الأصل ، أو يكون مساويا ، أو أدنى.

فالأول كتحريم الضرب بالنسبة إلى تحريم التأفيف وما في معناه ، وسواء كان قطعيا أو ظنيا.

والثاني كما في إلحاق الأمة بالعبد في تقويم نصيب الشريك على المعتق.

والثالث مثل إلحاق النبيذ بالخمر في التحريم. وهذا الثالث قد وقع الإجماع على أنّه قياس ، واختلفوا في الأوّلين ، فقيل : إنّهما قياس ، وقيل : إنّهما ليسا بقياس.

الثالث : القياس إمّا جليّ ، أو خفيّ.

__________________

(١) في النسخ الّتي بأيدينا : نافيا ، وما أثبتناه من المحصول : ٢ / ٢٤٤.

(٢) راجع المحصول : ٢ / ٢٤٤.

٥١٥

فالجليّ ما كانت العلّة فيه منصوصة أو غير منصوصة ، إلّا أنّ الفارق بين المقيس والمقيس عليه مقطوع بنفي تأثيره ؛ فالأول كإلحاق تحريم ضرب الأبوين بتحريم التأفيف بعلّة كف الأذى عنهما ؛ والثاني كإلحاق الأمة بالعبد في تقويم النصيب حيث عرفنا أنّه لا فارق بينهما سوى الذكورة في الأصل والأنوثة في الفرع ، وعلمنا عدم التفات الشارع إلى هذا الفارق في أحكام العتق وإن التفت إليه في غيره.

وأمّا الخفيّ فهو ما كانت العلّة فيه مستنبطة من حكم الأصل كقياس القتل بالمثقل على القتل بالمحدد.

الرابع : القياس إمّا مؤثر أو ملائم. فالمؤثر يطلق باعتبارين :

الأوّل : ما كانت العلّة الجامعة فيه منصوصة بالصريح ، أو بالإيماء ، أو مجمعا عليها.

الثاني : ما أثر عين الوصف الجامع في عين الحكم ، أو عينه في جنس الحكم ، أو جنسه في عين الحكم.

وأمّا الملائم فما أثر جنسه في جنس الحكم ، ومنهم من جعل المؤثّر ما أثر عينه في عين الحكم خاصة ، والملائم باقي الأقسام.

الخامس : القياس ينقسم إلى قياس علّة ، وإلى قياس دلالة ، وإلى القياس في معنى الأصل لأنّ الوصف الجامع بين الأصل والفرع إن كان قد صرّح به ، فإن كان هو العلّة الباعثة على الحكم في الأصل ، فهو قياس العلة ، كالجمع

٥١٦

بين النبيذ والخمر في تحريم الشرب بجامع الشدة المطربة ، وسمّي قياس العلة للتصريح فيه بالعلّة.

وإن كان دليل العلّة لانفسها ، فهو قياس الدلالة ، كالجمع بين النبيذ والخمر بجامع الرائحة الفائحة الملازمة للشدة المطربة ، وكالجمع بين الأصل والفرع بأحد موجبي العلّة في الأصل استدلالا به على الموجب الآخر ، كالجمع بين قطع أيدي الجماعة ليد الواحد ، وقتل الجماعة للواحد ، في وجوب القصاص عليهم بواسطة الاشتراك في وجوب الدية عليهم بتقدير إيجابها.

وإن لم يصرّح بالوصف الجامع ، كما في إلحاق الأمة بالعبد في تقويم نصيب الشريك بواسطة نفي الفارق ، سمّي القياس في معنى الأصل.

السادس : القياس إن كان طريق إثبات العلّة المستنبطة فيه المناسبة سمّي قياس الإحالة.

وإن كان الشبه سمّي قياس الشبه.

وإن كان السبر والتقسيم سمّي قياس السبر.

وإن كان الطرد والعكس سمي قياس الطرد.

٥١٧

الفصل الثاني :

في أنّه هل يعتد بالقياس أم لا؟

وفيه مباحث :

الأوّل : في جوازه عقلا

اختلف الناس في ذلك فجوّزه أكثر الصحابة والتابعين وبعض الإمامية كالسيّد المرتضى (١) وغيره والشافعي وأبو حنيفة ومالك وأحمد وأكثر الفقهاء والمتكلّمين. (٢)

وقال بعض الشيعة والنظّام وجماعة من معتزلة بغداد ، كيحيى الاسكافي وجعفر بن مبشر (٣) وجعفر بن حرب (٤) : يستحيل ورود التعبد

__________________

(١) الذريعة إلى أصول الشريعة : ٢ / ٦٧٥.

(٢) ذكره الآمدي في الإحكام : ٤ / ٩.

(٣) هو جعفر بن مبشر الثقفي المتكلم ، أبو محمد البغدادي المعتزلي ، له تصانيف منها : الأشربة والسنن والاجتهاد والإجماع ما هو؟ توفّي سنة ٢٣٤ ه‍. سير أعلام النبلاء : ١٠ / ٥٤٩ برقم ١٨٠.

(٤) هو أبو الفضل جعفر بن حرب الهمذاني المعتزلي ، له تصانيف منها : متشابه القرآن ، والاستقصاء والأصول ، توفّي سنة ٢٣٦ ه‍. سير أعلام النبلاء : ١٠ / ٥٥٠ برقم ١٨١.

٥١٨

بالقياس ، وإن اختلفوا في المأخذ وهؤلاء اختلفوا ، فقال بعضهم : المنع يختصّ بشرعنا ، وبعضهم منع من التعبّد به في كلّ الشرائع.

وقال القفّال من الشافعية وأبو الحسين البصري : إنّ العقل موجب لورود التعبد بالقياس. والحقّ الجواز عقلا وإن امتنع سمعا. (١)

لنا وجوه :

الأوّل : لا استبعاد عند العقلاء كافّة في أن يقول الله تعالى : لا يقضي القاضي وهو غضبان ، لأنّ الغضب موجب لاضطراب الفهم ، وقيسوا عليه ما كان في معناه ، كالجوع والعطش وغيرهما ؛ وكذا : حرمة شرب الخمر ، ومتى غلب على ظنّكم أنّ علّة التحريم الإسكار المفضي إلى وقوع الفتن والعداوة ، فقيسوا عليه كلّما شاركه في ذلك وانّه يكون حسنا غير قبيح ، ولو كان ممتنعا عقلا لما حسن ذلك.

الثاني : القياس يفيد الظنّ وكما جاز التعبد بالظن في الفتوى والشهادة وخبر الواحد عند القائلين به والرجوع في التقويم إلى قول من لا يوجب قوله العلم ، فليجز التعبّد به في القياس ، لعدم الفرق بين الأمرين.

الثالث : التعبّد بالقياس فيه مصلحة لا تحصل بدونه ، وهي ثواب المجتهد على اجتهاده وإعمال فكره وبحثه في استخراج علّة الحكم المنصوص عليه لتعديته إلى محلّ آخر ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ثوابك على قدر نصبك. (٢)

__________________

(١) راجع الإحكام : ٤ / ٩.

(٢) الإحكام : ٤ / ١٠.

٥١٩

احتجّ المانعون بوجوه (١) :

الأوّل : قال النظّام : سبرنا أحكام الشرع وجدناها مبنية على استواء المختلفات واختلاف المتماثلات ، فحينئذ يمتنع القياس.

أمّا المقدمة الأولى فظاهرة ، فإنّ بعض الأزمنة والأمكنة أشرف من بعض مع استواء الجميع في الحقيقة ، قال تعالى : (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)(٢) ، وشرّف الكعبة على جميع البقاع.

وجعل التراب طهورا مع أنّه ليس صالحا للغسل ، بل يزيد في تشويه الخلقة.

وفرض الغسل من المني ، والرجيع أنتن منه وأولى بالتنظيف عنه.

ونهى عن إرسال السبع على مثله ، وأباح إرساله على البهيمة الضعيفة.

ونقّص الرباعية دون الثنائية والثلاثية.

وأسقط الصلاة والصوم عن الحائض ، وأوجب قضاء الصوم والصلاة أعظم قدرا منها.

وجعل الحرة القبيحة الشوهاء تحصن ، والمائة من الجواري الحسان لا يحصّن.

وحرّم النظر إلى شعر العجوز الشوهاء مع أنّها لا تفتن الشباب ، وأباح النظر إلى محاسن الأمة الحسناء مع أنّها تفتن الشيخ.

__________________

(١) ذكرها الرازي في المحصول : ٢ / ٢٩٣ وما بعدها ، والآمدي في الإحكام : ٤ / ١١ ـ ١٩.

(٢) القدر : ٣.

٥٢٠