نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٣

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-238-2
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٥٦

وإعراب الآيات وتخريجها ، وتصحيح الكتاب بدقّة حتّى ظهر بهذا الشكل اللائق ، فشكر الله سعيهم ووفّقهم للمزيد من البذل والعطاء وخدمة الإسلام.

والحمد لله رب العالمين

جعفر السبحاني

مؤسسة الإمام الصادق عليه‌السلام

قم المقدسة ـ إيران

٢٥ من صفر المظفر

١٤٢٧ ه

٢١
٢٢

الفصل الثالث :

في المنسوخ

وفيه مباحث :

[المبحث] الأوّل : في النسخ قبل الفعل

نسخ الشيء قبل فعله ضربان :

الأوّل : نسخه بعد انقضاء وقته ، ولا خلاف في جوازه ، لأنّ مثل الفعل يجوز أن يصير مفسدة في المستقبل ، ومصلحة في الحال ، فيأمر بفعله في الحال ، ثمّ ينهى عنه في المستقبل.

ولا فرق بين المطيع والعاصي في حسن توجّه الأمر والنهي معا إليهما ، فإنّه قد يحسن أن يأمر بالفعل من يعصيه ، كما يحسن أن يأمر من يطيعه.

وإذا كان لو أمره فأطاع ، لجاز النسخ إجماعا ، فكذا إذا أمره فعصى ، لأنّ بالطّاعة والمعصية لا يتغيّر حسن النسخ التابع لتعريف المصالح في المستقبل.

٢٣

وأيضا ، فقد بيّنا أنّ الكفّار مخاطبون بالشرائع ، فالنسخ قد يتناولهم وإن عصوا بالترك ، وإذا جاز ذلك فيهم ، جاز في غيرهم.

الثاني : نسخه قبل حضور وقته ، أو نقضه ، وقد اختلف الناس في ذلك : فمنعه المعتزلة وبعض أصحاب أبي حنيفة ، وأبو بكر الصيرفي من الشافعية.

وذهب الأشاعرة وأكثر الشافعية إلى جوازه.

والحق الأوّل لوجوه :

الأوّل : لو جاز ذلك لزم كون الشخص الواحد مأمورا به ، منهيّا عنه عن فعل واحد في وقت واحد على وجه واحد ، والتالي محال ، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية : أنّ المسألة مفروضة فيه ، فإنّه لمّا أمره غدوة بصلاة ركعتين عند الغروب ، ثمّ نهاه وقت الظهر عن صلاة ركعتين عند الغروب ، فقد تعلّق الأمر والنهي بشيء واحد في وقت واحد من وجه واحد (١) ومكلّف واحد ومكلّف واحد ، حتّى لو اختلّ شرط منها لم تكن صورة النزاع.

ولأنّ قوله : صلّ عند الغروب ركعتين ، موضوع للأمر بالصلاة في ذلك الوقت لا غير ، لغة وشرعا ، وقوله : لا تصلّ عند الغروب ركعتين ، موضوع للنهي عنها في ذلك الوقت لغة وشرعا.

ولأنّ النّهي لو تعلّق بغير ما تعلّق به الأمر ، فإن كان المنهيّ عنه أمرا ،

__________________

(١) في «ب» و «ج» : من جهة واحدة.

٢٤

يلزم من الانتهاء عنه وقوع الخلل في متعلّق الأمر ، فيكون المتأخّر رافعا للمتقدّم استلزاما ، فيتوارد الأمر والنهي على شيء واحد في وقت واحد من وجه واحد.

وإن لم يلزم ، لم يكن صورة النزاع.

ولأنّا أجمعنا على أنّ الأمر بالشيء يجامع النّهي عن غيره ، إذا لم يلزم من الانتهاء عنه الإخلال بالمأمور به.

وبيان بطلان التالي : أنّ متعلّق الأمر إن كان حسنا ، استلزم النهي عنه القبيح أو الجهل ، أو الحاجة ، وإن كان قبيحا ، استلزم الأمر به أحدها ، واللوازم ممتنعة في حقّه تعالى.

الثاني : إذا أمر بالفعل في وقت معيّن ، ثمّ نهى عنه ، فقد بان أنّه لم يرد إيقاعه ، ويكون قد أمر بما لم يرده ، ولو جاز ذلك ، لم يبق لنا وثوق بأقوال الشارع ، لجواز أن يكون المراد بذلك القول ضدّ ما هو دالّ على إرادته ، وهو محال.

الثالث : أنّه يفضي إلى أن يكون الفعل الواحد مأمورا به منهيّا عنه ، والأمر والنهي عند المجوّزين كلامه تعالى ، وكلامه صفة واحدة ، فيكون الكلام الواحد أمرا ونهيا بشيء واحد في وقت واحد ، وهو محال.

اعترضوا (١) على الأوّل : بأنّه مبنيّ على الحسن والقبح العقليّين ، وهو ممنوع.

__________________

(١) من المعترضين الآمدي في الإحكام : ٣ / ٩١ ، والرازي في محصوله : ١ / ٥٤٤ ـ ٥٤٥.

٢٥

لا يقال : إن لم يكن حسنا ولا قبيحا ، فإمّا أن يكون مشتملا على مصلحة أو مفسدة ، ويلزم الأمر بالمفسدة ، والنهي عن المصلحة.

لأنّا نقول : إنّه مبنيّ على رعاية الحكمة ، في أفعاله تعالى ، ونحن لا نقول به ، بل يجوز أن يكون الأمر والنهي لا لمصلحة ولا لمفسدة وإن سلّم عدم خلوّه من المصلحة والمفسدة ، لكن لا نسلّم أنّه يلزم منه الأمر بالمفسدة والنهي عن المصلحة ، بل جاز أن يقال : إنّه مشتمل على المصلحة حالة الأمر ، ومشتمل على المفسدة حالة النّهي ، ولا مفسدة حالة الأمر ، ولا مصلحة حالة النّهي.

وأيضا لو سلّم الحسن والقبح ، لكن كما يحسن الأمر والنهي لحكمة تنشأ من المأمور به والمنهيّ عنه ، فقد يحسنان أيضا لحكمة تتولّد من نفس الأمر والنهي ، فإنّ السيّد قد يقول لعبده : اذهب إلى القرية غدا راجلا ، وغرضه حصول الرّياضة في الحال ، وعزمه على أداء ذلك الفعل ، وتوطين النفس عليه ، مع علمه بأنّه يسقط عنه غدا.

والأمر بالفعل إنّما يحسن إذا كان كلّ من المأمور به ، والأمر منشأ المصلحة ، فلو كان المأمور به منشأ المصلحة دون الأمر أو بالعكس ، لم يكن الأمر به حسنا ، فالآمر لما أمر كان كلّ منهما (١) منشأ المصلحة ، فحسن منه الأمر.

__________________

(١) الضمير يرجع إلى المأمور به ونفس الأمر.

٢٦

وفي الوقت الثاني بقي المأمور به على حالة منشأ المصلحة ، ولم يبق الأمر ، فحسن النهي عنه.

لا يقال : لمّا بقي الفعل منشأ المصلحة كما كان ، فالنهي عنه يكون منعا عن منشأ المصلحة ، وهو غير جائز.

لأنّا نقول : يكفي في المنع من الشيء اشتماله على جهة واحدة من جهات المفسدة ، وهذا المأمور به وإن بقي منشأ المصلحة ، لكنّ الأمر به لمّا صار منشأ المفسدة ، كان الأمر به قبيحا ، نظرا إلى نفس الأمر ، وإن كان حسنا ، نظرا إلى المأمور به ، وذلك كاف في قبحه.

وأيضا ، نمنع اتّحاد متعلّق الأمر والنهي ، فإنّه جائز أن يتناول النهي مثل الفعل الّذي تناوله الأمر الأوّل ، أو أنّ الأمر تناول اعتقاد وجوب الفعل أو العزم عليه ، والنهي تناول الفعل أو أنّ لهذه الصلاة في هذا الوقت المخصوص وجهين ، يقع على كلّ منهما ، فإذا وقعت على أحدهما كانت واجبة ، وإذا وقعت على الآخر ، كانت قبيحة ، فالأمر تناولها على وجه الحسن ، والنهي تناولها على وجه القبح.

ثمّ اختلفوا في كيفيّة اختلاف الوجهين ، فقال قوم : هو مأمور بشرط بقاء الأمر ، منهيّ عنه عند زواله ، وهما حالتان مختلفتان.

وقال آخرون : إنّه مأمور بالفعل بشرط أن يختاره ، ويعزم عليه ، وينهى عنه إذا علم عدم اختياره ، وجعلوا حصول ذلك في علم الله تعالى بشرط هذا النسخ.

٢٧

وقال آخرون : يأمر بشرط كونه مصلحة ، وإنّما يكون مصلحة مع دوام الأمر ، أمّا بعد النهي فيخرج عنها.

وقال قوم : إنّما يأمر في وقت يكون الأمر مصلحة ، ثمّ يتغيّر الحال ، فيصير النهي مصلحة ، وإنّما يأمر الله تعالى به مع علمه بأنّ الحال ستتغيّر ليعزم المكلّف على فعله إن بقيت المصلحة في الفعل ، والكلّ متقارب.

وعلى الثاني : بأنّ الأمر ليس من شرطه إرادة المأمور به وعدم الوثوق بأقوال الشارع إن أرادوا به أنّه إذا خاطب بما يحتمل التأويل أنّا لا نقطع بإرادته لما هو الظاهر من كلامه ، فمسلّم ، ولكن نمنع امتناعه ، فإنّه أوّل المسألة.

وإن أرادوا به أنّه لا يمكن الاعتماد على ظاهره ، مع احتمال إرادة غيره من الاحتمالات البعيدة ، فغير مسلّم ، وغير ذلك ، ليس بمتصوّر.

وعلى الثالث : أنّه يلزم كون الفعل الواحد في وقت واحد مأمورا منهيّا معا ، أو لا معا ، الأوّل ممنوع والثاني مسلّم.

ونمنع وحدة كلامه [تعالى] على مذهب عبد الله بن سعيد. وعلى مذهب أبي الحسن الأشعري نمنع إحالته.

قولهم : يلزم [منه] أن تكون الصفة الواحدة أمرا نهيا.

قلنا : إنّما تسمّى الصفة الواحدة بهذه الأسماء بسبب اختلاف تعلّقاتها ومتعلّقاتها ، فإن تعلّقت بالفعل سمّيت أمرا ، وإن تعلّقت بالنّهي سمّيت نهيا ، وذلك إنّما يمتنع إذا اتّحد زمان التعلّق بالفعل والترك ، أمّا مع اختلافه فلا ،

٢٨

والمأمور والمنهيّ وإن كان زمانه متّحدا ، لكنّ زمان تعلّق الأمر به غير زمان تعلّق النهي به ، ومع التغاير فلا امتناع.

والجواب : قد تقدّم إثبات الحسن والقبح العقليّين ، وحكمته تعالى قد أثبتناها في كتبنا الكلاميّة ، ولو لا هذان المقامان انتفت الشرائع بالكلّية ، وبقاء الأمر وانتفاء النهي لا يكونان وجها في قبح الفعل ولا حسنه ، ولا يؤثّران في وقوعه على وجه يقتضي مصلحة أو مفسدة ، فإنّ الفعل لا يحسن بالأمر ولا يقبح بالنهي ، ولا تأثير لهما في الوجوه الّتي يقع عليها.

قوله : قد يكون المأمور به منشأ المصلحة دون الأمر ، فيحسن النهي بعد الأمر عند كونهما معا منشأ المصلحة.

قلنا : قد بيّنا أنّ الأمر والنهي لا مدخل لهما في وجوه الأفعال من حسن وقبح ، ولا تأثير لهما في الوجوه الّتي يقع عليها.

لا يقال : انّهما وان لم يقتضيا قبح فعل ولا حسنه ، ولم يؤثّرا في وجه يقع الفعل عليه ، لكنّهما دليلان على وجهي الحسن والقبح ، وإذا دلّا ، فلا بدّ من ثبوت وجه يقتضي أحدهما ، لأنّ الدلالة إنّما تدلّ على صحّته ، فلا استبعاد في أن يأمر الله تعالى بالصلاة وقت الغروب ، وتكون الصلاة واجبة في ذلك الوقت متى استمرّ حكم الأمر بها ، وان لم يرد نهي عنها ، وإن ورد النهي يغيّر حالها ، فإذا أمر بالصلاة اعتقد وجوبها عليه ، متى لم ينه عنها ، فإذا ورد النهي اعتقد قبحها ، ويكون الغرض في هذا التكليف مصلحة المكلّف ، كأنّا نقدّر أنّه تعالى علم أنّه إن كلّفه على هذا الوجه ، كان مصلحة له ، في واجب عليه يفعله أو قبيح يجتنبه.

٢٩

لأنّا نقول : هذه الصلاة المأمور بها ، إن كان فعلها في هذا الوقت مصلحة في الدين ، لم يتغيّر حالها بورود النهي ، ويجب قبح النهي المتناول لها ، وإن كانت مفسدة في نفسها ، لم يتغيّر حالها بتناول الأمر أو استمراره ، فيجب قبحها وقبح الأمر المتناول.

قوله : نمنع الاتّحاد لتعلّق النهي بمثل ما تعلّق بالأمر ، لا بعينه.

قلنا : إنّه باطل من وجوه :

الأوّل : غير محلّ النزاع ، إذ المسألة مفروضة في النسخ الّذي هو رفع ، وليس هنا رفع حينئذ.

الثاني : المكلّف لا يميّز بين فعله المثلين في وقت واحد ، فتكليف فعل أحدهما بعينه ، وتجنّب الآخر المنهيّ عنه بعينه ، مع أنّهما لا يتميّزان ، تكليف بما لا يطاق.

الثالث : يمتنع أن يكون أحدهما مصلحة والآخر مفسدة ، لتماثلهما ، واتّحاد وقتهما ومتعلّقهما.

قوله : الأمر يتعلّق بالاعتقاد أو العزم.

قلنا : هذا باطل من وجوه :

الأوّل : العزم والاعتقاد مغايران (١) للصلاة ، ولا يعبّر عنهما بها ، والأمر

__________________

(١) في «أ» : متغايران.

٣٠

ورد بالصّلاة ، فلا يتناولهما لغة ولا شرعا ، لا حقيقة ولا مجازا.

الثاني : لو كان اسم الصلاة عبارة عنهما شرعا ، لما تأخّر بيانه عن وقت الخطاب ، وذلك يخرج البحث عن مسألة النسخ إلى مسألة تأخير البيان.

الثالث : لا بدّ في الأمر بالاعتقاد أو العزم من فائدة ، ولا فائدة مع عدم وجوب الفعل الّذي تعلّقا به.

لا يقال : الفائدة اختبار المكلّف.

لأنّا نقول : حقيقة الاختبار إنّما تجوز على من لا يعرف العاقبة (١) دون من يعلمها. (٢)

وفيه نظر ، فإنّ العلم تابع.

الرابع : لا يحسن إيجاب العزم والاعتقاد على الإطلاق ، والفعل غير واجب ، لقبح اعتقاد وجوب ما ليس بواجب.

لا يقال : أمر [المكلّف] بالعزم على الفعل بشرط كونه واجبا.

لأنّا نقول : لا حاجة إلى هذا التمحّل (٣) فإنّه يمكنكم أن تقولوا : «أمر بالفعل بشرط كونه واجبا» ولا تضمروا العزم الّذي ليس بمذكور. (٤)

وفيه نظر ، للفرق بين : «أمرتك بالعزم بشرط كون الفعل واجبا» وبين :

__________________

(١) في «أ» : الغاية.

(٢) الاستدلال لأبي الحسين البصري في المعتمد : ١ / ٣٧٧.

(٣) في «أ» : التحمّل.

(٤) الاستدلال لأبي الحسين البصري في المعتمد : ١ / ٣٧٧.

٣١

«أوجبت عليك الفعل بشرط كونه واجبا».

الخامس : ليس القول بأنّه أمر بالعزم على الصلاة بشرط كونها واجبة ، ويتوصّل إلى ذلك بظاهر النهي ، بأولى من القول بأنّه نهى عن إرادة الفعل المأمور به بشرط كونه قبيحا ، لا يتجدّد به أمر آخر ، ويجوز ورود أمر آخر ويتوصّل (١) إلى ذلك بظاهر الأمر.

قوله : يجوز أن يكون للفعل وجهان ، يؤمر به باعتبار أحدهما ، وينهى عنه باعتبار الآخر.

قلنا : هذا باطل ، أمّا أوّلا فلأنّه غير محلّ النزاع ، إذ النّزاع في فعل اتّحد الوجه فيه ، والوقت وجميع الأمور المعتبرة فيه.

وأمّا ثانيا ، فلأنّه لا نسخ حينئذ ، إذ المأمور به والمنهيّ عنه باقيان على حدّ التكليف ، لم يرتفع أحدهما ، والتمحّلات (٢) الّتي ذكروها في وجه التغاير باطلة ، فإنّ الشرط ما يتصوّر أن يوجد وأن لا يوجد ، وما لا بدّ منه لا معنى لشرطيّته ، والمأمور به لا يقع مأمورا إلّا عند دوام الأمر ، وعدم النهي ، فكيف يحسن أن يقول : «آمرك بشرط أن لا أنهاك»؟ فكأنّه قال : آمرك بشرط أن آمرك ، وبشرط أن يتعلّق الأمر بالمأمور ، وبشرط كون الفعل المأمور به حادثا ، [أ] وعرضا ، وغير ذلك ممّا لا بدّ منه ، وهذا لا يصلح للشرطيّة.

ولأنّه تعالى يستحيل أن يأمر بشرط أن لا ينهى عنه ، لأنّه تعالى عالم

__________________

(١) في «أ» و «ج» : ويجوّزوا ورود أمر آخر ويتوصّلوا.

(٢) في «أ» : والمحتملات.

٣٢

بأنّ هذا الشرط لا يحصل ، فلا يأمر به ، والأمر بشرط إنّما يحصل ممّن لا يعرف العواقب.

قال الغزالي : والعجب من إنكار المعتزلة ثبوت الأمر بالشرط ، مع أنّهم جوّزوا الوعيد (١) منه تعالى بشرط ، فوعد على الطاعة [ثوابا] بشرط عدم ما يحبطها من الفسق والردة ، وعلى المعصية العقاب ، بشرط خلوّها عمّا يكفّرها من التوبة. (٢)

وفيه نظر ، للفرق بين «آمرك بشرط أن لا أنهاك» وهو عالم بالعاقبة ، وبين : «أثيبك إن أطعت وأعاقبك إن عصيت» لوقوع الثاني خبرا عن فعله ، بخلاف الأوّل.

ولأنّ النهي (٣) ليس بوجه يقع عليه الفعل.

احتجّ المجوّزون بوجوه :

الأوّل : أنّه تعالى أمر إبراهيم بذبح إسماعيل ، ثمّ نسخه قبل الفعل.

الثاني : قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ)(٤) دلّ على أنّه يمحو كلّ ما يشاء محوه ، على كلّ وجه ، فيدخل محو العبادة قبل دخول وقتها.

__________________

(١) في المصدر : الوعد.

(٢) المستصفى : ١ / ٢١٨.

(٣) في «ج» : عدم النهي.

(٤) الرعد : ٣٩.

٣٣

الثالث : أنّه تعالى أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة الإسراء بخمسين صلاة ، فأشار عليه موسى عليه‌السلام بالرجوع ، وقال له : «أمّتك ضعفاء لا يطيقون ذلك فاستنقص الله ينقصك» ، فسأل الله تعالى في ذلك فنسخ الخمسين على التدريج إلى أن بقي خمس صلوات (١) ، وذلك نسخ قبل الفعل وقبل وقته.

الرابع : يجوز أن يأمر الله تعالى زيدا بفعل في الغد ، ويمنعه منه بمانع عائق له منه قبل الغد ، فيكون مأمورا بالفعل في الغد بشرط انتفاء المانع ، وإذا جاز الأمر بشرط انتفاء المانع مع تعقّبه بالمنع ، جاز الأمر بالفعل بشرط انتفاء الناسخ مع تعقّبه بالنّسخ.

الخامس : أنّه تعالى نسخ تقديم الصدقة بين يدي المناجاة قبل فعلها.

السادس : النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صالح قريشا يوم الحديبية على ردّ من هاجر إليه ، (٢) ثمّ نسخ ذلك قبل الردّ بقوله تعالى : (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ)(٣).

السابع : وافقنا الخصم على أنّه تعالى لو أمر بالمواصلة في الصوم سنة ، جاز أن ينسخه (٤) عنّا بعد شهر منها ، وذلك نسخ للصّوم فيما بقي من السّنة قبل حضور وقته.

__________________

(١) صحيح البخاري ، كتاب بدء الخلق باب ذكر الملائكة برقم ٣٢٠٧ ؛ صحيح مسلم : كتاب الإيمان ، باب الإسراء برسول الله برقم ١٦٢ ؛ جامع الأصول : ٥ / ٢٨٣ برقم ٣٢٣٧ ؛ بحار الأنوار : ١٨ / ٣٣٠.

(٢) أخرجه البخاري في صحيحه ، كتاب الصلح ، باب الصلح مع المشركين برقم ٢٧٠٠.

(٣) الممتحنة : ١٠.

(٤) في «أ» و «ج» : وأن ينسخه.

٣٤

الثامن : قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أحلّت لي مكّة ساعة من نهار». (١) ومع ذلك منع من القتال فيها ، وهو نسخ قبل وقت الفعل.

التاسع : التكليف قبل وقت الفعل ثابت ، فوجب جواز رفعه بالنسخ ، كما جاز رفعه بالموت ، لاشتراكهما في قطع تعلّق التكليف عن المكلّف.

العاشر : لو منع من النسخ قبل وقت الفعل لزم إبطال النسخ بالكلّية ، فإنّ كلّ نسخ إنّما هو رفع الحكم قبل وجود وقته ، لأنّ الفعل بعد الوقت ومعه يمتنع (٢) نسخه ، وإلّا لزم اجتماع النقيضين ، فلم يبق النسخ واردا إلّا على الفعل قبل حضور وقته ، وبالجملة فالنسخ إنّما يتحقّق فيما لم يفعل ، وما فعل كيف ينسخ؟

الحادي عشر : الطهارة انّما تجب لوجوب الصلاة ، ومع ذلك فقد يمنع المكلّف بالموت عن الصلاة ، وإن كان قد توضّأ ، فأيّ فرق بين منعه بالموت ومنعه بالنهي.

والجواب عن الأوّل من وجوه :

الأوّل : يمنع الأمر بالذبح ، بل بمقدّماته ، من الإضجاع ، وأخذ المدية ، مع الظنّ الغالب بالأمر بالذبح ، ولهذا قال : (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا)(٣).

__________________

(١) صحيح البخاري ، كتاب جزاء الصيد برقم ١٨٣٣ ؛ صحيح مسلم : ٤ / ١١٠ ، كتاب الحجّ برقم ١٣٥٥ ؛ سنن النسائي : ٥ / ٢١١ ؛ سنن البيهقي : ٥ / ١٧٧ و ١٩٥ ؛ مسند أحمد بن حنبل : ١ / ٢٥٣.

(٢) في «ج» : ممتنع.

(٣) الصافات : ١٠٥.

٣٥

ولو كان قد فعل بعض ما أمر به لقال : «قد صدّقت بعض الرؤيا».

لا يقال : قوله تعالى : (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ)(١) لا بدّ وأن يعود إلى شيء ، والمذكور الذبح ، فوجب صرفه إليه ، فكان مأمورا به.

ولأنّ قوله تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ)(٢) إشارة إلى الذبح ، لعدم وصف مقدّماته بأنّها بلاء مبين.

ولقوله تعالى : (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)(٣) ، ولو لا الأمر بالذّبح لما احتاج إلى الفداء.

لأنّا نقول : الرؤيا لا تدلّ على كونه مأمورا بذلك.

وقوله : (افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) يفيد [الأمر] في المستقبل ، فلا ينصرف إلى ما مضى من رؤياه في المنام.

وإضجاع الابن ، وأخذ المدية مع غلبة الظنّ بأنّه مأمور بالذبح بلاء عظيم.

والفداء كان لما يتوقّعه من الذبح.

الثاني : يمنع أنّه نسخ عنه ، لما روي أنّه كان كلّما قطع موضعا من الحلق ، وتعدّى إلى غيره أوصل الله تعالى ما تقدّم قطعه.

__________________

(١) الصافات : ١٠٢.

(٢) الصافات : ١٠٦.

(٣) الصافات : ١٠٧.

٣٦

ويمنع اشتراط بطلان الحياة في حقيقة الذبح ، بل هو قطع في مكان مخصوص مطلقا ، فإنّه يقال : ذبح هذا الحيوان ولم يمت بعد.

وأيضا ، روي أنّ الله تعالى جعل على عنقه صفيحة من حديد ، فكان إذا أمرّ إبراهيم عليه‌السلام السّكّين لم يقطع شيئا من الحلق.

ولا يتمشّى على قواعد المعتزلة أنّه تكليف ما لا يطاق ، إلّا إذا كان مأمورا بالإضجاع وإمرار السكّين على الحلق لا بالذّبح ، فهو يرجع إلى الأوّل.

الثالث : قيل : إنّه منام لا أصل له ، فلا يثبت به الأمر. (١)

وهو خطأ ، فإنّ منام الأنبياء وحي معمول به ، وأكثر وحي الأنبياء كان بالمنام ، وقد نقل أنّ وحي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان بالمنام ستّة أشهر ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الرؤيا الصالحة جزء من ستّة وأربعين جزءا من النبوّة» (٢) ، وكانت نسبة ستّة أشهر من ثلاث وعشرين سنة من نبوّته كذلك.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما احتلم نبيّ قطّ». (٣) يعني ما تشكّل له الشيطان في المنام على الوجه الّذي يتشكّل لأهل الاحتلام.

ولأنّه لو كان خيالا لا وحيا ، لم يجر لإبراهيم عليه‌السلام العزم على الذبح المحرّم بمجرّد منام لا أصل له ، ولما سمّاه بلاء مبينا ، ولما احتاج إلى الفداء.

__________________

(١) لاحظ الإحكام : ٣ / ٨٧.

(٢) مجمع الزوائد : ٧ / ١٧٢ ، كتاب التعبير ، باب الرؤيا الصالحة ؛ مسند أحمد بن حنبل : ٢ / ٣١٤.

(٣) المعجم الكبير للطبراني : ١١ / ١٨٠ برقم ١١٥٦٤ ؛ مجمع الزوائد : ١ / ٢٦٧ ، باب الاحتلام.

٣٧

الرابع : لا نسلّم أنّه نسخ الذبح قبل التمكّن من الامتثال ، بل كان بعده ، والخلاف إنّما هو فيما قبل التمكّن لا بعده ، ولا سبيل إلى بيان أنّه نسخ قبل التمكّن من الامتثال إلّا بعد بيان أنّ مطلق الأمر يقتضي الوجوب على الفور ، أو أنّ وقت الأمر كان مضيّقا و (١) امتناع الصغائر على الأنبياء. (٢)

واعترض : بأنّ ذلك لا يمنع رفع تعلّق الوجوب بالمستقبل ، لأنّ الأمر باق عليه ، وهو المانع عندهم ، ولأنّه لو كان موسّعا ، لقضت العادة بتأخّره ، رجاء نسخه ، أو موته لكبر سنّه ، وعظم هذا الأمر.

وفيه نظر ، لأنّ الأنبياء عليهم‌السلام أسرع امتثالا من غيرهم إلى الأوامر ، والأمر وإن كان موسّعا ، إلّا أنّ تقديمه أولى ، ومنزلة النبوّة تمنع من الإخلال بالأولويّة (ويمنع كون المانع تعلّق الأمر مطلقا ، وإلّا امتنع النّسخ عند القائلين بالرّفع). (٣)

وعن الثاني بوجوه :

الأوّل : أنّها تدلّ على محو كلّ ما يشاء ، وليس فيها ما يدلّ على أنّه يشاء محو العبادة قبل دخول وقتها ، مع كونه ممتنعا ، فإن بيّن إمكان مشيئة ذلك بغير الآية ، ففيه ترك الاستدلال بالآية.

الثاني : حقيقة المحو هي محو الكتابة ، والمراد به محو ما يكتبه

__________________

(١) أي مع امتناع الصغائر.

(٢) الاستدلال للآمدي في الإحكام : ٣ / ٨٨.

(٣) ما بين القوسين يوجد في «ج».

٣٨

الملكان من المباحات ، وتبقية ما يشاء (١) من الطاعات والمعاصي.

الثالث : قيل : المراد به محو البلايا والنكبات بالصدقة ، على معنى أنّه لولاها لنزل ذلك.

الرابع : روي أنّه تعالى يمحو من اللوح المحفوظ ما يشاء ، ويثبت ما يشاء ، لما يتعلّق بذلك من صلاح الملائكة. (٢)

وعن الثالث بوجوه :

الأوّل : أنّه خبر واحد فلا يقبل فيما يجب أن يعلم.

الثاني : الخبر يتضمّن ما يدفعه العقل ، وفيه من الشّبه والأباطيل ما يدلّ على فساده ، لتضمّنه أنّ المصالح الدّينيّة تتعلّق بمشورة الخلق وإيثارهم.

الثالث : أنّه يقتضي نسخ شيء قبل وقته ، وقبل تمكّن المكلّف من العلم به ، وعلّة المخالف تقتضي منع ذلك ، لأنّه يجوّز هذا النسخ على أن يكون الغرض في التعبّد بالمنسوخ العزم على أدائه ، والاعتقاد لوجوبه ، وهذا لا يتمّ إلّا مع علم المكلّف بالتعبّد بالمنسوخ.

اعترض على الأوّل (٣) : بأنّ المسألة اجتهاديّة ، فجاز إثباتها بخبر الواحد.

__________________

(١) وفي النسخ الّتي بأيدينا : «ما أثبتنا» والصحيح ما أوردناه في المتن.

(٢) ذكره المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة : ١ / ٤٤٠ ، ولم نعثر عليه في غير هذا الموضع.

(٣) المعترض هو الآمدي في الإحكام : ٣ / ٩٠.

٣٩

وعلى الثاني والثالث : بأنّه قد نسخ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد علمه.

سلّمنا أنّه نسخ عن المكلّفين قبل علمهم به ، ولكن لم قالوا بامتناعه؟

وفائدة الثواب والعقاب باعتقاد الوجوب والعزم على فعله مبنيّ على رعاية الحكمة في أفعاله.

وفيه نظر ، لأنّها وإن كانت اجتهاديّة ، لكن قصّة المعراج من الأمور الشهيرة ، فكان يجب اشتهار روايته إلى أن يتاخم العلم.

والنسخ على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير مفيد في منع القبح من النسخ عن الأمّة قبل تمكّنهم من العلم بما كلّفوا فيه ، فلا معنى لذكره هنا.

وحكمته تعالى ثابتة في علم الكلام.

وعن الرابع : يمنع أن يأمره بفعل ثمّ يمنعه عنه ، لأنّه إمّا أن يأمره مطلقا ، أو بشرط زوال المنع ، فإن كان الأوّل ، فمنعه منه بعد ذلك يكون تكليفا بما لا يطاق ، وهو محال ، وإن كان الثاني فالأمر بالشرط لا يجوز وقوعه من العالم بعواقب الأمور ، على ما تقدّم.

ويخالف هذا ما إذا أمر جماعة أن يفعلوا الفعل في غد ، فإنّه يجوز أن يمنع بعضهم من الفعل ، لكنّا نستدلّ بهذا المنع على أنّ ذلك البعض غير مراد بالخطاب ، ولا مكلّف به ، ولا يجوز أن يمنع جميعهم.

وعن الخامس : أنّ النسخ بعد حضور وقت الفعل ، ولهذا ناجى عليّ عليه‌السلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن قدّم الصّدقة ، ولهذا عاتبهم الله تعالى بقوله : (أَأَشْفَقْتُمْ

٤٠